معاویه بن ابی سفیان
معاوية بن أبي سفيان
ژانرونه
ومثل هذا الحكم لا يغتفر ولو كان من معاذيره «ضبط» الأمور وتأمين الناس؛ لأنه يؤمنهم بخوف أشد عليهم من خوف العدوان، ولكنه على هذا لم يصلح للضبط والتأمين إلا فترة لم تطل - ولا يزال - سواء منها على الأمة أن تنقضي في عدوان أهل البغي، أو في نكال السلطان بمثل هذا النكال، ثم انقضت هذه الفترة، فنجمت نواجم الشر ولم تنشب في تلك الأنحاء ناشبة من الفتنة، إلا كان لها جرثومة من تلك السياسة التي تفسد الأمور في زمانها وفيما بعد زمانها.
وكان الناس من حين إلى حين يهربون من هذه الشدة، ويتحرمون بجوار العاصمة فيجيرهم معاوية، ولا يكف يد واليه عن غيرهم، وكتب إليه زياد مرة: إن هذا فساد لعملي؛ كلما طلبت رجلا لجأ إليك وتحرم بك.
فكتب إليه معاوية: «إنه لا ينبغي أن نسوس الناس بسياسة واحدة، فيكون مقامنا مقام رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة فيستريح الناس بيننا ...»
على أن زيادا تحرج أشد الحرج في قضية حجر بن عدي، وأرسله إلى معاوية فلم يتحرج معاوية من قتله، ولم يذكر الناس لزياد من جرائر قسوته في حكمه ما ذكروه من جرائر هذه السقطة لمعاوية.
وساءت العقبى من سياسة التفرقة كما ساءت العقبى من سياسة القسوة، فلم تنجم في الدولة ناجمة فتنة إلا كانت جرثومتها في هذه السياسة، وكان حزم معاوية وكانت قدرته في كل هذه الفتن حزما لا بد له من تعقيب، وكانت قدرته في أعماله جميعا قدرة لا بد لها من تقدير.
وجماع الصدق في هذا التقدير أنها كانت قدرة على الشوط القصير والأمد القريب، ولم تكن قط قدرة على الشوط الطويل والأمد البعيد، واستقر الملك لمعاوية على قلق دخيل إلى أن أدركته الوفاة سنة ستين للهجرة، وبطل نصفه قبل وفاته كأنه ضرب من الشلل، وأصابته لوقة، وسقطت أسنانه جميعا، كأنها من أدواء التخمة التي تعجل إلى الكبد والأسنان، ويبدو أثرها في مرض الجلد واللثة، وكان يخلط في وفاته أحيانا، ولكنه كان يصحو ساعة بعد ساعة حاضر الذهن صحيح اللسان، فدعا بصاحب شرطته الضحاك بن قيس الفهري، وبمسلم بن عقبة صاحب الأفاعيل المشهورة في حرب أهل المدينة، وقال لهما في أشهر الأسانيد: «بلغا يزيد وصيتي: انظر أهل الحجاز فإنهم أهلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعاهد من غاب عنك، وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا لسانك وعيبتك،
13
فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر.»
ويقال إنه ألقى هذه الوصية إلى يزيد، فقال: «يا بني، إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد قذفته العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به، فاصفح عنه؛ فإن له رحما ماسة وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم، ليس همه إلا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير.»
وشبيه أن تكون هذه الوصية في معناها آخر ما قاله ، وخلاصة ما خرج به من تجارب دنياه، فإنها سياسته التي كان يعيدها كما بدأها لو أنه عاد ليبتدئ بها من جديد في أيام يزيد ... معرفة بالرجال وقدرة على التدبير في الشوط القصير، وإحكام العقدة بآلتها في حينها، وبغير نظر إلى آلتها بعد ذلك الحين، ومن ذلك اختياره لإبلاغ الوصية أسوأ من يعين عليها مع الزمن: مسلم بن عقبة والضحاك بن قيس ... ومع ذاك مدافعته الفتن بالمجاراة والمداراة، فيوصي خليفته بعزل وال في كل يوم ولا يوصيه بالنظر فيما وراء ذلك من سخط على الحاكم، وعجز عن إرضاء المحكوم ... وصية رجل قدير، قدير غاية القدرة في الشوط القصير.
ناپیژندل شوی مخ