معاویه بن ابی سفیان

عباس محمود العقاد d. 1383 AH
101

معاویه بن ابی سفیان

معاوية بن أبي سفيان

ژانرونه

ولا نحذرن شيئا كما ينبغي أن نحذر الإشاعات التي نسميها بالإشاعات التاريخية، ومن قبيلها إشاعة الضعف عن عثمان بن عفان - رضوان الله عليه - فقد جنت هذه الإشاعة على النقد التاريخي، حتى خيل إلى الناس أنه لم يعمل عملا قط اتسم بالقوة أو خلا من الضعف، وهو إسراف في الرأي كإسراف جميع الإشاعات من قبيلها؛ لأن سياسة عثمان البحرية كانت أقوى السياسات، وكان فيها قدوة لمن بعده، ولم يكن مقتديا بأحد قبله، ونحسبه عرف خطر الشواطئ والموانئ من عمله في التجارة، فأصلح ميناء جدة في الحجاز، ولم يغفل لحظة عن الشواطئ المفتوحة في إفريقية ومصر والشام، ولا يقال عن حملة واحدة من حملات البحر: أنه كان مسوقا إليها برأي غيره، فإنه - على ما هو معلوم من سبق معاوية إلى الاستئذان في فتح قبرص أيام الفاروق - لم يأت العزم الأكبر في هذه الحملة إلا من جانب عثمان؛ إذ كتب إلى معاوية يستوثق من جده في فتح هذه الجزيرة وتأمين الملاحة حولها، فأمره - كما جاء في البلاذري - بأن يركب البحر إليها ومعه امرأته «فإن ركبت البحر ومعك امرأتك، فاركبه مأذونا لك وإلا فلا.»

كانت هذه حال الشام يوم تولى معاوية إقليما منها على عهد الفاروق، ثم تولاها جميعا على عهد عثمان.

وبخلاف ذلك، كانت حالة العراق من جميع الوجوه، فلم تكن فيها معاهدات ذمية تدين الرعية، ولم تكن حدودها الشرقية والشمالية آمنة كل الأمان في زمن من الأزمان، فكانت - من البصرة، إلى أرمينية، إلى خراسان - عرضة للحملات والفتن في كل آونة، وكانت الدول الإسلامية لا تفرغ لها كل قوتها كما أفرغتها للدفاع عن الشام أمام الدولة البيزنطية؛ لأن دولة فارس ذهبت بذهاب ملكها، فلم يحسب لها المسلمون حساب القوة المتجمعة، وسلكوا فيها مسلك التأهب للمفاجآت الطارئة من هنا وهناك، وليس فيها ما يشغل بال دولة في مواجهة دولة أخرى. •••

وعلى هذا، كان العراق - أو كانت الجزيرة كلها - أطرافا مهملة في أيام الدولة الفارسية، فلم يكن لها نظام من نظم الإدارة المتناسقة يسير عليه الحكم كما سارت الحكومة الإدارية في الشام، ولم تتضح علاقات الحاكمين بالمحكومين في أنحائها، كما اتضحت مع المعاهدين الذميين.

وأعضل من ذلك كله بين مشكلاتها أن الفتح الإسلامي قد جاءها بمجتمع مختلف منقول إليها بحذافيره من سادته وقادته إلى سوقته ومواليه.

فقد انتقل إليها رهط من القادة وذوي الرئاسة ليقيموا فيها، ويزرعوا الأرض، ويتجروا بين أنحائها، وعاش إلى جانبهم ألوف من الجند المقيمين والجند العاملين ، وكلهم لهم أعطية من بيت المال، يعطاها من عمل في الفتوح الأولى ومن يعمل في الغزوات التالية، وكان تقسيم الأعطية مشكلة من مشكلات هذا المجتمع المنقول، فمن بقي عاملا في الغزوات يحسب له حقا يستكثره على سابقيه من المجاهدين المقيمين، وأعطية بيت المال تأتي كلها من المدينة، أو تصرف كلها بتقديرها، ويلام الولاة في نظر الجند؛ لأنهم لا يفرقون في الإحصاء والتقدير بين الفريقين، ويلامون لأنهم يعيشون بين أقربائهم وعشيرتهم ويتعرضون لشبهات المحاباة بالحق أو بالباطل، ولا تنقطع الشكاية من الولاية، إلا ريثما يعزل واحد منهم ويتلوه خلف له أخذ في العمل، فيأخذه القوم كرة أخرى بالتهم والشبهات.

وقد ثقلت أعباء هذه الشكايات على كاهل الفاروق وهو في هيبته وعزمه، واقتداره على فض المنازعات، فلم يكن يرى في جوانب المسجد مغموما إلا علم أصحابه أنه مشغول بشكاية من شكايات الرعية أو الجند في العراق. •••

وبدأ معاوية أعماله العامة في الشام وهي بتلك الحالة من الاستقرار بالقياس إلى جميع الولايات الإسلامية الأخرى، وجاء عمله فيها تدريجيا من معاونته لأخيه يزيد إلى قيامه على ناحية من الشام خلفا له إلى قيامه على الشام كلها في أيام عثمان، فكان كل عمل من هذه الأعمال بمثابة «فترة تمرين» للعمل الذي يليه ويزيد عليه في السعة والتكليف، وكانت الأعمال «الحربية» أو أعمال التحصين يتولاها من حوله رجال من صناديد الحرب كعبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن خالد، فلم يقم قط بقيادة حربية مستقلة وصل بها إلى نتيجة حاسمة أو ناجحة.

ثم نشبت الفتنة الوبيلة في خلافة عثمان وهو بمعزل عنها، وقتل عثمان فاتخذ من مقتله ذريعة للخروج على الإمام علي وإنكار بيعته، وأسرف كل الإسراف في التذرع بهذه الذريعة قبل استقلاله بالخلافة، فما كان له من مسوغ يتعلل به غير مقتل عثمان يردده في كل حديث، وفي كل خطاب وفي كل جواب، وينكر عليه بعض صحبه أن يمنع عليا وأصحابه الماء في وقعة صفين، فيجد المعذرة له في صنيعه أنه يمنعهم الماء؛ لأنهم منعوا عثمان الماء وهو محصور.

واستند إلى آية من القرآن الكريم فسرها برأيه؛ ليقنع أنصاره بأنه على حق وأنه منصور، وهي قوله تعالى:

ناپیژندل شوی مخ