فنسأل الله السلامة، ولا شك أن عنايتهم بعد تحصيل ما لا بد منه /11/ من العلم إنما كانت بالجهاد وافتقاد العامة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمحافظة على أورادهم في التهجد وقيام الليل ومناقشة النفوس وتهذيبها، وذلك أفضل مما كان عليه أكثر(1) المحدثين والفقهاء من الإخلال بكثير من هذه الفضائل الجليلة والنعوت الجميلة التي وردت نصوص الآيات القرآنية في وصف المؤمنين بذكرها، ولم يشتغل السلف الصالحون بغيرها، والذي كانوا عليه أولى من الإخلال به ، بسبب الاشتغال بجمع العلم الزائد على الكفاية، وقد نص الإمام المنصور بالله - عليه السلام - على مثل هذا الكلام في كتاب (المهذب)، واحتج بفعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعل السلف الصالح، ولله دره ما كان أحسن استخراجه للفوائد من أفعال السلف الصالح وأحوالهم - رضي الله عنهم -، ثم ساق السيد محمد في هذا المساق كلاما حسنا حتى قال: وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه ذكر أويسا القرني، وأخبر أنه يشفع في مثل ربيعة ومضر، وجاء في فضله مالم يحضرني الآن، مع أن بعض أهل الحديث من أهل الحفظ الواسع والاطلاع التام على معرفة الرجال، ذكر أنه لم يرو عن أويس حديث قط، ولقد كان السلف يقلون الرواية جدا، فعن أبي عمرو الشيباني، قال: كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا لا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإذا قال: قال رسول الله استقبلته الرعدة، وقال: هكذا أو نحو ذا أو وهذا، مع أن ابن مسعود كان من أوعية العلم وأعيان علماء الصحابة وأهل الأصحاب والتلامذة، فلم تزد مروياته على ثماني مائة حديث وثمانية وأربعين حديثا، وكذلك أضرابه من السابقين الأولين ونبلاء الأنصار والمهاجرين؛ هذا أبو ذر الغفاري الذي ((ما أظلت الخضراء أصدق لهجة منه)) (2) روى مائتي حديث وثمانين حديثا؛ وهذا سلمان الفارسي الذي قال فيه علي - عليه السلام -: (إنه أدرك العلم الأول والعلم الثاني)، روى ستين حديثا، وهذا أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة روى أربعة عشر حديثا، وأمثال هؤلاء السادة النجباء والأعلام العلماء الذين نص المصطفى عليه الصلاة(1) والسلام على أن غيرهم: (لو(2) أنفق مثل أحد(3) ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه)(4)، ولقد روى أبو أسامة عن سفيان الثوري أحد أقطاب الحديث التي تدور رحاه عليها أنه قال: ليس طلب الحديث من عدة الموت، لكنه علم يتشاغل به الرجل، قال بعض حفاظ الحديث: صدق والله سفيان، فإن طلب الحديث شيء غير الحديث؛ فطلب الحديث اسم عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث وكثير منها مراقي إلى العلم، وأكثرها /12/ أمور يستعف بها المحدث، من تحصيل النسخ المليحة، ويطلب المعالي وتكثير الشيوخ والفرح بالألقاب والثناء وتمني العمر الطويل ليروي، وحب التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا للأعمال الربانية، فإذا كان طلب الحديث النبوي محفوفا بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟ ومتى كان علم الآثار مدخولا؟ فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان، وتورث الشكوك والحيرة؟ انتهى قلت: والذي(1) اشتغل به أهل البيت - عليهم السلام - هو العلم النافع الذي روي فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: ((العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة)) (2) رواه أبو داود في سننه إلى آخر كلام هذا السيد الحافظ، وحاصل كلامه أن الأئمة اشتغلوا بالعمل، وكذلك أقوال(3) أتباعهم، فإنهم لا يجيزون التخلف عنهم، وطريقهم في الورع مشهورة حتى إن بعض المتكلمين في الرجال جعل الدليل على أن عقدة والد الحافظ أحمد بن عقدة - رحمه الله - زيدي المذهب بأنه ضاع له درهم أو قال دينار، فطلبه الحاضرون حتى وجدوه فلم يقبله، وقال: من أين لي أنه درهمي؟ أو قال: ديناري، قال: وهذا يدل على أنه زيدي المذهب، فإن هذه طريقة (علماء)(4) الزيدية، ومع هذا فلهم في العلم اليد المبسوطة.
هذا عبد السلام القزويني الزيدي ذكر ابن الدماميني الشافعي أنه جمع تفسيرا للقرآن لم يجمع في الإسلام مثله، فرغ منه في سبعمائة جزء، وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى -، وهذا الإمام يحيى بن حمزة تعمر نيفا على ثمانين سنة، قالوا: وعدت أيام عمره وكراريسه فأنافت الكراريس على عدتها، وفي ذلك يقول بعض العلماء:
مخ ۲۵