من المعلوم أن الكلاسيكية قد تعصبت لما يسمونه «الوحدات الثلاث»، أي وحدة الموضوع والزمان والمكان، بمعنى ألا تحتوي المسرحية إلا على موضوع واحد، وأن تجري أحداثها جميعا في مكان واحد، وفي زمن لا يتجاوز أربعا وعشرين ساعة، وبمراجعة مسرحيات شوقي نجد أنه لم يتقيد بهذه الوحدات؛ ففي «مصرع كليوباترة» حب آخر بين هيلانة وصيفتها وحابي أحد أتباعها، وفي «علي بك الكبير» نجد إلى جوار غدر محمد بك أبو الذهب بسيده، قصة ولع مراد بك بآمال، ثم اكتشافه أخوته لها، ونحن لا نذم الخروج على المعنى الضيق لوحدة الموضوع؛ فقد أثبت الأدب المسرحي الخالد، أنه لا ضير من الخروج على المعنى الضيق لهذه الوحدة، ولكن على شرط أن تكون الموضوعات الثانوية وثيقة الصلة بالموضوع الأصلي، موضحة لبعض الجوانب النفسية أو الأخلاقية لأبطال المسرحية، على نحو ما نجد عند شكسبير مثلا، حيث تندمج الموضوعات الجانبية في الموضوع الأصلي، وتكشف عن جوانب في الشخصيات لا يكشف عنها ذلك الموضوع الأصلي، وأما عن وحدتي الزمان والمكان، فمن البين أن شوقي لم يخضع لهما، ففي مسرحية واحدة ك «علي بك الكبير» تنتقل مشاهد الرواية من القاهرة إلى عكا إلى الصالحية، ومن البين أن مثل هذا الانتقال لا يمكن أن يتم في أربع وعشرين ساعة، ونحن لا نرى ضيرا في خروج شوقي على هاتين الوحدتين، اللتين نسبهما الكلاسيكيون إلى أرسطو تعسفا وبهتانا، وإنما يضير المؤلف المسرحي تفكك مسرحياته، بانعدام وحدة الموضوع وتوثق الارتباط بين أحداثه المختلفة، إذا تعددت تلك الأحداث. (2)
من المعلوم أيضا أن الاتجاه الأصيل في المسرح الكلاسيكي، بل وفي غيره، أن تنتهي التراجيديا بخاتمة محزنة، كما تنتهي الكوميديا بخاتمة مضحكة أو سارة على الأقل، وإن تكن هذه القاعدة غير مطلقة؛ ففي الكثير من كوميديات موليير تأتي الخاتمة محزنة، على نحو ما نشاهد في «عدو البشر» أو «دون جوان»، وإن يكن من النادر أن لا تنتهي التراجيديا بمأساة، ومع ذلك لم يأخذ شوقي بهذه القاعدة العامة على نحو مطرد، فإذا كانت كليوباترة تنتهي بعدة انتحارات، كما تنتهي مجنون ليلى بموت البطلين؛ قيس وليلى ، فإن عنترة تنتهي بزواجه من عبلة، بل وزواج صخر من ناجية أيضا، ونحن لا نلوم شوقي لعدم خضوعه لهذه القاعدة العامة، ولكننا نلومه لبلبلة إحساس القارئ أو المشاهد، بمحاولته دائما تخفيف قوة الانفعالات التي تنتهي بها مآسيه، ولا نستطيع أن ندرك حكمة لهذا الاتجاه الذي اتخذه؛ ففي «مصرع كليوباترة» مثلا كان من المفهوم، ومن دواعي الأدب المسرحي القوي، أن تنتهي تلك المأساة العاتية بانتحار البطلين، ولكن شوقي يأبى إلا أن يصحب تلك الخاتمة المؤثرة، بخاتمة أخرى هي زواج هيلانة من حابي، وانطلاقهما إلى طيبة ليعيشا سعيدين في الضيعة التي أوصت بها لهما الملكة المنتحرة، وفي «أميرة الأندلس» تختتم المأساة بانهيار دولة المعتمد بن عباد من إشبيلية، وسجن الملك الشاعر وأسرته في شمال إفريقية، عند ملك المرابطين يوسف بن تاشفين، ومع ذلك يأبى شوقي إلا أن ينعقد زواج بثينة ابنة هذا الملك العاثر، بخطيبها حسون في نفس ذلك السجن، وهو بذلك يضعف من قوة أثر مآسيه، ويجردها من إثارة عاطفتي الخوف والشفقة، اللتين ركز فيهما أرسطو وظيفة المسرح، وجعلهما وسيلة تطهير النفوس. (3)
والكلاسيكية جعلت من أصولها مبدأ فصل الأنواع، بمعنى أن التراجيديا يجب أن تكون أحداثها مأساة متتابعة الحلقات، لا يتخللها أي مشهد مضحك، ولا أية فكاهة، كما أن الكوميديا يجب أن تكون مهزلة خالصة، لا تجري المأساة في أي عرق من عروقها، ولكن الرومانسية سخرت من هذه القاعدة، مستشهدة بمآسي شكسبير الخالدة، التي لا تخلو من مناظر ساخرة ضاحكة، ومن شخصيات هزلية رائعة، والظاهر أن شوقي لم يؤمن بما نادت به الكلاسيكية في هذا السبيل؛ ففي الكثير من مآسيه نجد ألوانا من الفكاهة، بل وشخصيات مضحكة، مثل أنشو في «مصرع كليوباترة»، ومقلاص في «أميرة الأندلس»، بل وبشر في مطلع «مجنون ليلى»، وقد كانت فلسفة شكسبير والرومانتيكيين في هذا الخلط، تقوم على أن المسرح عرض للحياة، وما دامت الحياة لا تتورع عن أن تجمع بين المضحك والمبكي، فليس هناك ما يدعو المسرح إلى ذلك التورع، والحجة سليمة، ولكن هناك فرق كبير بين مضحكات شكسبير مثلا ومضحكات شوقي، فالمهرج أوفولستاف عند شكسبير فيلسوف لاذع تقطر ابتساماته وسخريته أسى، وتكشف عن أعمق الجوانب في مآسيه، وأما عند شوقي ففكاهته لفظية سطحية، وإن كان من الحق أن نعترف بأن مقلاص في «أميرة الأندلس»، يرتفع أحيانا إلى مستوى رفيع من الحكمة الإنسانية المرة، يقذف بها في صراحة دامية، وأكبر الظن أن شوقي لم يمد في مآسيه هذه الخيوط الضاحكة، إلا مجاراة للروح المصرية المولعة بالنكتة اللفظية والمرح الخفيف. (4)
إنه وإن تكن الكلاسيكية قد قامت على محاكاة المسرح الإغريقي والروماني القديمين، إلا أنها حققت للفن المسرحي استقلاله ومقوماته الذاتية؛ فقد كان المسرح القديم يجمع بين الحوار والغناء والرقص والموسيقى، بل والنحت والتصوير، فجاء الكلاسيكيون وقاموا بضرورة فصل الفن التمثيلي عن غيره من الفنون، لينهض بذاته وبمقوماته الخاصة، فحذفوا الجوقة بغنائها وموسيقاها ورقصها، كما حذفوا الفنون الأخرى، حتى يتركز انتباه المشاهدين على حركة الشخصيات والحوار ومتابعة تيار العقل والإحساس، الذي يجري في المسرحية، ولكن شوقي الشاعر الغنائي لم يستطع أن يجاري المسرح الغربي في هذا الاتجاه؛ وذلك لأن المصريين بل والعرب بوجه عام، شعب طروب بفطرته محب للغناء، وكان شوقي طموحا إلى إرضاء جمهوره، وقد لمس بخبرته إلى أي حد بلغ نجاح المسرح الغنائي في مصر، عند سلامة حجازي وأولاد عكاشة وسيد درويش، كما أن تراث العرب الشعري كله لم يكن غنائيا بخصائصه الفنية فحسب، بل كان يتغنى به فعلا على ضروب وأنغام الموسيقى المختلفة، ولم يكن هذا الغناء الموسيقي قاصرا على قصائد أو مقطوعات بعينها، بل الظاهر أنه كان يتناول جميع الشعر العربي على اختلاف أوزانه وموضوعاته، وفي كتاب «الأغاني» موسوعة الشعر العربي الكبرى أوضح دليل، كما سبق القول، على هذه الحقيقة، حيث يذكر المؤلف النغم الخاص بكل قصيدة يوردها وضربها، ولم يكن شوقي يستطيع التحلل من طبيعته الغنائية، أو من تراث قومه، أو يهمل عاملا قويا في نجاح مسرحياته، أو يغضي عن مزاج قومه، ويا ليت شوقي قد أتيح له من الموسيقيين من يستطيعون تلحين مسرحياته الشعرية تلحينا كاملا، على نحو ما فعل ماسنيه الموسيقي الكبير، عندما لحن في سنة 1919 مأساة غنائية عن كليوباترة، وفي الأجزاء التي لحنها وغناها محمد عبد الوهاب من «كليوباترة» و«مجنون ليلى»، والنجاح العظيم الذي لاقته تلك الأجزاء، ما يقطع بأن بعض مسرحيات شوقي مثل «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى» و«عنترة»، لو أنها لحنت كاملة ومثلت كأوبرا لنجحت أكبر النجاح، وأصبحت غذاء فنيا رائعا، يعوض ما يفتقده فيها النقاد القساة من حقائق نفسية أو تاريخية أو وطنية، ونحن لا نلوم شوقي لتضمينه مسرحياته بعض المقطوعات الغنائية، وكنا نود أن لو مثلت، كما قلنا، بعض تلك المسرحيات كأوبرا، وعندئذ كان لا بد أن يختفي ما لاحظه بعض النقاد أو معظمهم، من أن هذه المقطوعات الغنائية قد جاءت أحيانا دخيلة على بناء المسرحية، معوقة لسير أحداثها وتطورها نحو خاتمتها، غير مجدية في سير الأحداث، أو الكشف عن الحقائق النفسية للشخصيات.
وهكذا يتضح كيف أن شوقي لم يتقيد بتيار خاص، ولا بمذهب معين، بل جمع بين الشرق والغرب، وبين مذاهب الأدب المختلفة، والظاهر أنه لم يتعمق دراسة فلسفة الأدب، ولم يكون لنفسه حصيلة نظرية من تلك الفلسفة، وإنما كان يستهدي ذوقه الخاص وتفكيره القريب المنال، والواقع أن الفلسفات الأدبية والمذاهب لا ترتجل ولا تصطنع، وإنما تولدها تيارات فكرية وعاطفة خاصة، أو حالات نفسية واجتماعية بعينها، وكان شوقي رائدا في مجال المسرح الشعري، ولم يكن في الميدان غيره حتى تتشعب المذاهب وتتنوع الفلسفات، ولا ينبغي أن نأخذه بالأصول التي سار عليها هذا المذهب أو ذاك في الأدب الغربي؛ فالكثير من تلك الأصول نسبي لم يتحرج الغربيون من الخروج عليها، حتى ولو كانت مما نظنه بديهيا، مثل ضرورة انتهاء المسرحية إلى خاتمة ما، فالمذهب الحديث المسمى بالسريالزم، أو ما فوق الواقع، صدرت عنه عدة مسرحيات تصور جوانب من المعركة التي تدور عليها المسرحية، ولكنها لا تخبرنا عمن كان له النصر في طرفي المعركة، وإنما تترك للقارئ أو المشاهد استنتاج ذلك أو تخيله حسبما يشاء ، وربما قصدت إلى ترك الباب مفتوحا؛ ليستمر القارئ أو المشاهد في التفكير والحدس والموازنة وإعمال الخيال، ومع ذلك لاقت بعض تلك المسرحيات الجيدة نجاحا عظيما، من حيث إنها تشق الحجب عن عالم العقل الباطن العميق، وتتركنا نغوص في حناياه، ونكتشف الدور الخطير الذي يلعبه من خلف الستار في حياتنا الواعية.
ومع ذلك فمما لا ريب فيه أن هناك أصولا عامة كلية لا يستطيع الأدب المسرحي أن يفلت منها، وعلى ضوئها يكتب لهذا الأدب الخلود أو الفناء، والنجاح أو الفشل.
فالأدب المسرحي ككل فن، يتناول مادة أولية يصوغها بأسلوب خاص، وعلى جودة تلك المادة، وبراعة هذا الأسلوب، تتوقف قيمة ذلك الأدب، ولننظر الآن في هذين العنصرين.
شوقي والمادة الأولية
لقد استقى شوقي مادته الأولية كغيره من الأدباء، إما من التاريخ، وإما من الحياة المعاصرة، ولكن التاريخ كان معينه الأول؛ إذ استمد منه مآسيه الستة، بينما لم يستمد من الحياة غير الملهاة الوحيدة التي كتبها وهي «الست هدى».
فأما التاريخ الذي اختاره شوقي، فقد كان إما تاريخ مصر، وإما تاريخ العرب، وبالرغم من النزعة الوطنية المسيطرة على روحه الأدبية، فإننا نلاحظ أنه قد اختار لمآسيه فترات ضعف وانحلال وهزيمة، في تاريخ مصر أو تاريخ العرب، ف «مصرع كليوباترة» تصور فترة انتهاء استقلال مصر ووقوعها تحت سيطرة الرومان، و«قمبيز» تصور سقوطها في يد الفرس، و«علي بك الكبير» تصور الانحلال الأخلاقي، وتأجج الشهوات بين المماليك خلال الحكم العثماني الفاسد، و«أميرة الأندلس» تصور انهيار حكم الطوائف في إسبانيا، وأما «مجنون ليلى» و«عنترة» فقد اختارهما الشاعر لشهرتهما الشعبية، ولجريان حوادثهما حول شاعرين كبيرين يلائمان مزاجه كشاعر غنائي.
ناپیژندل شوی مخ