أقول: وإنما عدها غيره من المنسوخات باعتبار أسباب نزولها، وباعتبار المراد منها، فإنه إذا أريد بالعفو والإعراض والصفح عن المشركين ترك قتالهم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بعد ذلك بقتالهم، فالآيات بهذا الاعتبار منسوخة بآية السيف، وهذا المعنى هو الذي اعتبره القائلون بنسخها. وأما باعتبار المعنى الظاهر فإن الشرع قد أقر العفو والصفح واللين في مواضع موافقة للشرع، فإن حملت الآيات على هذا المعنى فليست بمنسوخة كما قال القطب - متعنا الله بحياته - ولكل واحد من الجهتين اعتبار قوي، واعتبار القائلين بالنسخ أنسب للسير، وأوفق لأسباب النزول، والله أعلم.
المسألة الثانية: [فيما روي من نزول عيسى - عليه السلام - ]
اعلم أن نبينا - عليه السلام - لا نبي معه ولا بعده، فما رواه قومنا من نزول عيسى - عليه السلام - لم يصح عند أصحابنا رحمهم الله تعالى وعلى تقدير صحته، فإنه قد مضى زمان إرساله ولم يجعله الله نبيا في زمان النبي أو بعده فقط، بل جعله نبيا مرسلا قبل ذلك، وكذلك الخضر وإلياس إذا قيل: إنهما حيان إلى اليوم فإنهما إن كانا كذلك فهما بمنزلة الملائكة عليهم السلام ، فإن كانا قد تعبدا بشرعنا فذلك ظاهر، وإن كانا قد تعبدا بشرع في خاصة أنفسهما فحكمهما لا يتعداهما، /22/ وليس ذلك بأغرب حالا من أحوال الملائكة عليهم السلام ، وبالجملة فجميع ذلك لم يثبت عند أصحابنا، وإنما ذكرناه على تقدير صحته عن قومنا، والله أعلم.
مخ ۴۳