ويقول طه حسين وهو يودع السفير ويشكره: «سنسافر هذا الصيف إلى إيطاليا كعادتنا الآن، ولعل الباخرة أن تتوقف عند صقلية هذه المرة، مع أنها نادرا ما تفعل ذلك، فيتاح لي أن أشكر رجال الجامعة شخصيا على هذا التكريم العظيم.» •••
وتقيم مصر عيد العلم في سنة 1965 فيفاجئ الرئيس جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية، الحاضرين بإعلانه منح قلادة النيل لطه حسين.
وقلادة النيل هي أعلى أوسمة مصر شأنا، يهديها رئيس الدولة لزملائه من رؤساء الدول، لم يسبق أن أهديت لمن هو دونهم في مراتب المراسم، فلم تهد لرئيس وزراء ولا لوزير، لا في مصر ولا في خارج مصر، ولكن رئيس الجمهورية يهديها الآن لرجل من عامة الشعب «أنفق حياته جادا لا لاعبا، وتحمل نصيبه من أثقال الحياة، وأدى نصيبه من واجباتها، وأحب للناس ما أحب لنفسه، وآثر الناس بما يؤثر به نفسه من الخير، ولم يبال بعد ذلك أن تثقل الحياة أو تخف وأن يرضى الناس أو أن يسخطوا.»
ولم يتمكن طه حسين من حضور هذا الاحتفال لمرضه، فلم يتمكن الرئيس لذلك من تسليمه هذه القلادة بنفسه، وأوفد كبير الأمناء إلى «رامتان» فقدمها إليه، في حضور زوجته وابنته وزوجها، وحضور الدكتور محمد عوض محمد الذي تصادف وجوده زائرا في ذلك الوقت. •••
وفي إبريل 1966 يجري الأستاذ سامح كريم حديثا لمجلة الإذاعة مع طه حسين، وهو الآن على أبواب السابعة والسبعين، وفي إجاباته يؤكد طه حسين آراءه السابقة، يقول إن ما يذكره محدثه من وجود أزمة في الفكر علاجه العناية بالقراءة وبالكتاب الذي لا يغني عنه التليفزيون ولا الراديو ولا السينما. ويقول: «إن الثقافة لازمة للشعب لزوم العلوم التطبيقية، فلا ينبغي أن نهمل كليات الجامعة النظرية ونركز عنايتنا بالكليات العملية.» ويقول: «إن الترجمة عن اللغات القديمة والحية ضرورة لحياتنا الثقافية على أنها ينبغي ألا تتم خطفا على عجل وبقصد الربح فقط.» وهو يشير إلى منهج مجلس الفنون والآداب والعلوم، ويضرب به المثل على ما ينبغي للترجمة من العناية. ويجيب عن سؤال أخير عن التبادل الثقافي بين الشرق والغرب، فيقول: «إنه هام ومرغوب فيه، وقد سبق للغرب أن استفاد من ثمار ثقافة الشرق، ولا بأس لذلك على الشرق من أن يستفيد من ثمار الحضارة الحديثة في الغرب.» •••
ويقبل صيف عام 1967، ويغادر طه حسين وزوجته الإسكندرية فترافقهما ابنتهما وحدها إلى الميناء لأن زوجها مشغول في وزارة الخارجية بعمل هام. أجواء مصر السياسية ملبدة بالغيوم، علاقات بعض الدول العربية ببعضها الآخر قد صارت إلى درجة مزعجة من السوء، وحرب الدعايات لا تسمم الأجواء العربية فحسب، بل تسمم النفوس العربية كذلك. إن الدعاية التي كان طه حسين يتحدث منذ عشرين عاما في لبنان عن خطرها الكبير، قد ضاعفت من أهميتها أجهزة الإذاعة القوية الحديثة وخاصة الإذاعة المسموعة والمرئية، وإنها لتصيب أصحابها بأضرار ليست أقل مما تصيب بها الخصوم إذا أصبحت أداة تضليل بدلا من أن تكون أداة للتنوير. •••
ويعود طه حسين إلى مصر، بعد كارثة يونيه 1967، فينصرف إلى القراءة في كتب اللغة والأدب، ويولي لجنة المعجم الكبير في المجمع اهتمامه الشديد، «وإن كانت الشكوك قد بدأت تساوره في كفاية الجهد المبذول في تأليف هذا المعجم، وفي مدى الزمن اللازم للانتهاء من إعداده بكامل أجزائه»، وهو يواصل اهتمامه في اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية بتجميع وتصوير كل ما يمكن جمعه وتصويره من المخطوطات المتفرقة في أنحاء العالم، وهو لا يتخلف عن حضور جلسات لجان المجلس الأعلى للثقافة التي يرأسها والتي أصبحت الآن تعقد غالبا في مسكنه. •••
وفي عام 1968 يستجيب لطلب إحدى طالبات الجامعة اسمها الآنسة «وحيدة الدمرداش»، طلبت أن تتحدث إليه باسم مجلة القاهرة، التي كان اتحاد طلبة جامعة القاهرة يصدرها في ذلك الوقت، فيلقاها ويرد في رفق وود على أسئلتها؛ عن دور القصة التاريخية في مصر، وعن مدارس الأدب فيها، وعن رأيه في الشعر الحديث، وعن أدباء منهم الأستاذ يحيى حقي، فيقول إن كتابه «قنديل أم هاشم» رائع جدا، والأستاذ إحسان عبد القدوس فيقول إن كتابه «في بيتنا رجل» قد أعجبه. ثم تختتم وحيدة الدمرداش حديثها بأنها سألت طه حسين عن متاعب حياته، فقال: «لقد عانيت كثيرا، كان إخوتي يلعبون فلا أستطيع مجاراتهم، وفي الأزهر عانيت، وفي الجامعة أيضا قال لي سكرتيرها مرة: «ربنا ابتلاك بالعمى، فما لزوم أن تتعلم في الجامعة؟» ... أحداث كثيرة آلمتني وحزت في نفسي؛ خلافي مع صدقي باشا وطردي من الجامعة وقطع المعاش وتقديمي للمحاكمة مرات ومرات.»
وسألته الآنسة وحيدة عن الذين يهاجمونه، فقال في بساطة: «لا أرد ولا أسأل عما يكتب ضدي شخصيا، إن كثيرا من النقد اللاذع قد وجه إلي، بل لقد صدرت كتب كاملة ضدي، ولكني لم أهتم بأي كتاب منها.» •••
ويطلب سفير إسبانيا في القاهرة مقابلته، إنه يحمل إليه لا درجة واحدة من درجات الدكتوراه الفخرية، بل درجتين؛ واحدة من جامعة مدريد والثانية من جامعة غرناطة.
ناپیژندل شوی مخ