202

ما بعد الايام

ما بعد الأيام

ژانرونه

في الطريق إلى إيطاليا أو فرنسا، تتوقف بعض السفن القادمة من مصر في بعض الرحلات عند جزيرة صقلية، وقد يطول توقفها ساعات تغري ركابها بزيارة الجزيرة وما فيها من آثار، وقد لا يتسع الوقت لهذه الزيارة فيكتفون بإطالة النظر إلى شواطئها التي تنتشر فيها أشجار البرتقال والكروم وإلى هضابها التي تكسوها أشجار اللوز والزيتون.

وقد توقفت عند الجزيرة السفينة التي كانت تقل طه حسين في رحلة من رحلات الصيف، فأخذ يستعيد ذكرى العهد الذي كانت الجزيرة فيه موطنا من مواطن حضارة العرب والمسلمين، يتحدث أهلها بالعربية في الأسواق وفي أحواض الميناء، يلبون دعوة المؤذنين للصلاة، ويسمعون القرآن يرتله المرتلون تحت ظلال النخيل.

لقد طال بقاء العرب في جزيرة صقلية أكثر من مئتين وخمسين عاما، كانت الكتب العربية أثناءها متداولة بين أهل الجزيرة ينسخونها ويقرءونها سواء في ذلك ما كان منها يسيرا مثل كتاب ألف ليلة وليلة، وما كان منها يحتاج إلى الدرس الجاد مثل مؤلفات أبي العلاء. وعندما انتهى حكم العرب للجزيرة ووصل فردريك الثاني، ملك صقلية وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، إلى حكمها لم يستنكر استقرار الثقافة العربية فيها، ولم يسخطه تغلب الحضارة العربية عليها، بل أخذ هو نفسه يقلد سلاطين العرب في أزيائهم، وفي هواياتهم ومن أهمها القنص بالصقور، وأحاط نفسه بحراس من العرب، وتزوج منهم مسيحية سورية اسمها يولندا، ولم يكترث في ذلك كله باعتراضات خصومه وناقديه وحاسديه الذين كانوا يعيبونه لتأثره بعادات وثقافة المسلمين، ويلقبونه لذلك بالزنديق الكبير.

1

والوقوف بجزيرة صقلية لا شك قد استدعى إلى ذاكرة طه حسين كذلك ابن حمديس الصقلي وشعره، وجوهر الصقلي ومولاه، منشئ مدينة القاهرة وباني الجامع الأزهر، كما استدعى إلى ذاكرته النهضة التي قامت بها جامعة بالرمو، وهي أقدم جامعات القارة الأوروبية، متأثرة بتراث اليونان وعلوم الإسلام. •••

وفي عام 1965 أهدت جامعة بالرمو درجة الدكتوراه الفخرية لطه حسين، وكانت صحة طه حسين قد ضعفت بعد الجراحة التي أجريت له عام 1961 فلم يعد قادرا على تحمل مشقات السفر إلى بالرمو لتلقي الدرجة الفخرية من الجامعة، ولحضور الاحتفالات التقليدية التي تقام في مناسبة منحها، ولذلك كلفت الجامعة سفير إيطاليا في القاهرة «السنيور سورو» بأن يحمل درجة الدكتوراه الفخرية إلى طه حسين في مسكنه في رامتان، وقد حمل السفير معه - وهو يقوم بهذه الزيارة - ترجمة إيطالية للجزأين الأول والثاني من كتاب الأيام.

في رامتان قام السفير بتقديم درجة الدكتوراه إلى طه حسين، وتحدث عن مدينة بالرمو وكيف كانت تعرف في القرن الثالث عشر بمدينة اللغات الثلاث: اللغة اليونانية واللغة اللاتينية واللغة العربية، وكانت تفخر بأنها وارثة أعظم حضارتين من حضارات البحر الأبيض المتوسط وهما حضارة الإغريق، وحضارة العرب.

وقد قال طه حسين للسفير إن العرب المعاصرين مقصرون في دراسة تلك الفترة من فترات التاريخ، وكذلك إيطاليا مقصرة، وهو يرجو أن تعنى جامعاتنا بتقوية روابطها بجامعة صقلية، وأن يبذل الطرفان مزيدا من العناية بدراسة عهود الحضارة العربية والإسلامية في بلاد وجزر البحر الأبيض المتوسط، وأشار إلى أن مصر قد خطت خطوة في هذه السبيل عندما أنشأت معهد مدريد في إسبانيا، وإنها جديرة أن تضيف إلى هذه الخطوة خطوات مثلها وأكبر منها في المستقبل.

وينتقل الحديث إلى كتاب الأيام، الذي حمل السفير ترجمته الإيطالية، فيقول طه حسين إنه حقيقة لم يعد يعرف عدد اللغات التي ترجم إليها الكتاب في بلاد غرب أوروبا وفي شرقها وفي بلاد آسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية.

ويقول السفير: «لقد سمعت أن الكتاب قد طبع أيضا بطريقة بريل للمكفوفين في كثير من اللغات»، فيقول طه حسين إنه قد طبع بهذه الطريقة في اللغة العربية أيضا منذ أكثر من عشر سنوات، وإنه قد أملى لهذه الطبعة مقدمة خاصة بها أعطاها لأحد تلاميذه وهو الدكتور عبد الحميد يونس، يتذكر أنه قال فيها: «إن المهم هو أن يلقى الإنسان حياته باسما لا عابسا، وجادا يحمل نصيبه من أثقالها، ويؤدي نصيبه من واجباتها، ويحب للناس مثلما يحب لنفسه، ويؤثر الناس بما يؤثر به نفسه من الخير، ولا عليه بعد ذلك أن تثقل الحياة أو تخف وأن يرضى الناس أو أن يسخطوا.»

ناپیژندل شوی مخ