ويستقبل طه حسين هو وأسرته السفير الكريم في داره «رامتان»، ويقوم السفير فيها بالمراسم المطلوبة لتقديم الدرجتين الجامعيتين الكبيرتين واحدة بعد أخرى.
لقد زار طه حسين إسبانيا مرتين وأحبها كثيرا، ولاحظ أن أصحاب الدراسات العربية في مصر قد أهملوا الأدب العربي الإسباني، فدعا إلى دراسته، بل إنه قد أخذ نفسه بقراءة كل ما يستطيع من كتب الأدب الأندلسي في المطبوعات والمخطوطات التي كانت دار الكتب المصرية تيسر له الاطلاع عليها، وهو يتمنى أن تبدي كل من إسبانيا والدول العربية مزيدا من الاهتمام بدراسة الحضارة الأندلسية، وهي الحضارة التي بقيت آثارها زمنا طويلا بعد أن انتهت الحروب والمعارك وانمحت آثار النصر والهزيمة. •••
وفي خريف سنة 1969 تضطر أمينة إلى السفر مع زوجها وأسرتها إلى نيويورك مقر الأمم المتحدة، التي عين زوجها مندوبا دائما لمصر لديها، وطه حسين شديد الأسف لهذا السفر، فإن ولده مؤنس متغيب مع زوجته وابنته في عمله في المنظمة الدولية للتعليم والعلم والثقافة في باريس، وهذه ابنته تترك مصر هي وزوجها إلى مقر عمله الجديد في الأمم المتحدة في نيويورك.
ويقول طه حسين لابنته: «تعلمين أنني سأبلغ الثمانين في آخر هذا العام وأنت بعيدة عني.» ثم يدرك أنها قد تألمت فيقول لها: «لا عليك، لقد افترقنا من قبل والتقينا بعد الفراق في أحسن الأحوال، ألم أكتب عنك منذ سنوات هذه السطور:
ألمت فحيت، ثم قامت فودعت، فلما همت أن تنصرف ألقت في يدي شيئا صغيرا، وتولت وهي تقول: اجعل هذا وقاء لك من شر من تحسن إليه. ونظرت فإذا هو مصحف دقيق.
لك العهد يا ابنتي ألا يفارقني مصحفك هذا الدقيق حيا وميتا، ولك العهد ألا أتخذه وقاء من أحد، ولا وقاء من شيء، وإنما أحمله لأن حمله محبب إلي.»
ويخرج طه حسين من أحد جيوبه مصحف «أمينة» الصغير يريه لها، ثم يبارك لها في سفرها، ويقول لها إنه ينتظر لها إقامة سعيدة، وعودة سريعة، ويعرف أن زوجها سيخدم مصر والعرب، وسيبذل في ذلك أقصى ما يستطيع من الجهد، وهو شيء عظيم. •••
وفي عام 1970 يخرج المجمع الجزء الأول من «المعجم الكبير» الذي كان طه حسين قد بدأ يخشى ألا يصدر في حياته، وهو الآن يرجو أن يتيح الله للمجمع ورجاله القدرة على مواصلة الجهود - بل والجهاد - لإتمام تأليفه وإصداره.
وفي عام 1970 أيضا يكتب طه حسين إلى عبد الخالق حسونة باشا، الأمين العام للجامعة العربية، يطلب منه أن يسمي غيره لرياسة اللجنة الثقافية، ولكن مجلس الجامعة يقرر في شهر مارس 1970 بالإجماع تمسكه برياسة طه حسين للجنة: «لأن العمل الثقافي العربي بحاجة إلى علمه وخبرته وإرشاداته، ولأن مكانته العلمية ومقدرته وخدماته الثقافية لا يمكن أن يغني عنها غيرها.» •••
ويقبل عام 1971، وطه حسين وزوجته وحدهما في رامتان، وهو حريص - مع مرضه - على أن يحضر جلسات المجمع اللغوي لا يتخلف عنها مهما عانى من المشقة، وهو لا يزال يقرأ كثيرا، ولكنه لا يملي كثيرا، يستقبل العدد القليل من الأصدقاء والزملاء والتلاميذ الذين يحضرون لزيارته مع ما يجدون من صعوبة المواصلات في القاهرة؛ يوسف السباعي وثروت أباظة وعبد المجيد حسين زوار منتظمون، وكمال الملاخ لا ينسى أعياد ميلاد العميد، وطه حسين يعتب لأن كثيرا من الكتاب المصريين لم يعودوا يرسلون إليه كتبهم، يعلن ذلك في بعض أحاديثه، فيتلقى خطابات اعتذار عن هذا التقصير، ويقرأ خطابا منها أكثر من مرة لأن صاحبه الكاتب الأستاذ إحسان عبد القدوس يقول له فيه إنه لا يرسل إليه كتبه لأنه بعد سنين طويلة من التأليف قد أخذ يشك في قيمة ما يكتب، ويعتقد أنه لا يستحق أن يقرأه طه حسين. يقول طه حسين: «إن هذا الإحساس هو دليل على أن صاحبه أديب حقيقي.»
ناپیژندل شوی مخ