ونظرت الأم إلى ابنها في فرحة غير مصدقة، ثم قالت والفرح يكاد يعقد لسانها وقلبها شديد الخفق عالي الوجيب: هل أنت جاد يا عباس؟
وقبل أن تسمع جوابه اندفعت في الليل البهيم زغرودة مجلجلة، أطلقت فيها زكية فرحها الذي ظل يملأ قلبها طوال اليوم، محاذرا أن يعبر عن نفسه في غير الابتسامة المتوارية عن عين الشيخ سلطان.
الفصل الثامن عشر
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
ظلت هذه الكلمة تلح على ذهن إيفون أياما كثيرة، تحاول أن تنساها فتعجز.
إنها كلمة المسيح، وقد كفرت بالأديان جميعها فما لهذه الكلمة تأبى أن تفارق نفسي؟ ما لي وللأديان؟ وما لي وما يقول المسيح؟ ولكن هذه ليست وعظا دينيا ولا هي تشريع، إنما هي حق.
حق أحسته بعد فترة من عملها بوظيفتها الجديدة. إنها تأكل وتحيا وتعمل، ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. كانت تريد قلبا. كانت تريد أباها وأمها. كانت تريد أقاربها ولكن، كيف السبيل إليهم؟
ما أعظم الفراغ في هذه الحياة إذا ما أصبح الإنسان في حياته فردا بلا قلوب حوله تجعل كيانه ينسجم في نسيج البشرية، فيصبح قطعة من قماشها لا يتسم بسمة الوحدة الكريهة!
وطال الصراع في نفس إيفون أياما وشهورا، ثم عزمت أمرها وراحت تزور أقاربها. يا لها من نفسها ومما صنعت! وجوه تلتوي عن ازدراء، واستقبال إن رق فهو العطف البغيض، وإن ظهر على طبيعته فهو تحية تعلن إلى إيفون ألا تعود. ولم تكن تعود. أبواب مقفلة في وجهها، وإن فتحت مصاريعها. وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. بيت واحد استقبلها لم يضق بها هو بيت منى، فيه لقيت ما كانت تشتهي أن تجد. وفرحت إيفون بهذا القلب الجديد القديم، وإن شابت فرحتها غصة جاهدت أن تغضي العين عنها. لم يكن ميشيل زوج منى يلقاها بهذا الترحاب، كان يمشي ويترك البيت، أو يمشي ويترك الغرفة، ولكن ما لها وما له؟ إنها تريد مني ولا تريد ميشيل.
وكانت منى تنقل إليها أنباء أبويها، وكانت تستمع إلى هذه الأنباء في حسرة أليمة. أبوها لا يخرج من البيت منذ يعود من الديوان، وأمها لا تقابل أحدا ولا تحتفي بزائر. وقل الزائرون فلم يعد من يذهب إلى البيت إلا شفيق. ويحاول شفيق أن يسلي أخاه فيشتري نردا ليلاعبه فلا تفيد التسلية، ويحاول أن يحادثه فلا يجد لحديثه مجيبا. وتمضي الأيام بأبيها وأمها كئيبة الخطى ثقيلة، يحسان الخزي والألم والعار، ولا يجدان لدفعها سبيلا.
ناپیژندل شوی مخ