فاحتدم الغيظ في قلب الأميرة واندفع الدم إلى وجهها، وقالت باحتقار: أنا أعلم أن أجدادي هبطوا مصر من الصحراء الشمالية، ولكن كيف غاب عنك أنهم كانوا سادة الصحراء قبل أن يصيروا بقوتهم سادة هذا الوادي؟ .. كانوا وما يزالون سادة ذوي كبرياء ونخوة، لا يعرفون سوى السيف سبيلا إلى هدفهم، لا يتخفون في ثياب التجار كي يطعنوا اليوم من سجدوا له بالأمس القريب.
فحدجها بنظرة قاسية متفحصة، فرآها ذات كبرياء وخيلاء وقسوة لا تلين ولا تخاف، وتتمثل فيها صفات قومها الفظة المتعالية، فاشتد به الحنق، وأحس رغبة حارة إلى إخضاعها وإذلالها ولا سيما بعد أن أذلت عواطفه بكبريائها وصلفها، فقال بصوت هادئ متعال: لا أرى سببا يدعوني إلى الاستمرار في مجادلتك، ولا يجوز أن أنسى أني ملك وأنك أسيرة. - أسيرة كما تشاء، ولكني لن أذل أبدا. - بل إنك تحتمين برحمتي فتؤاتيك هذه الشجاعة. - لم تفارقني شجاعتي قط .. سل رجالك الذين خطفوني غدرا ينبئونك عن شجاعتي واحتقاري لهم في أحرج الأوقات وأشدها خطرا علي.
فهز كتفيه العريضين استهانة، وتحول إلى الخوان فأخذ خوذته ووضعها على رأسه، وقبل أن يخطو خطوة أخرى سمعها تقول: لقد قلت حقا إني أسيرة، وليست سفينتك المكان الذي يصلح للأسرى، فألحقني بأسرى قومي.
فنظر إليها مغيظا محنقا وقال يغيظها ويخيفها: ليس الأمر كما تتصورين، فالعادة أن الأسرى الرجال يسخرون عبيدا، أما النساء فيلحقن بحريم الملك الظافر.
فقالت وقد اتسعت حدقتاها: ولكني أميرة! - كنت أميرة .. ولست الآن سوى أسيرة. - كلما ذكرت أني أنقذت حياتك يوما يجن جنوني!
فقال بهدوء: فلتحيي هذه الذكرى .. فبفضلها أنقذت حياتك من أيدي الثائرين الذين يتمنون أن يرسلوا رأسك إلى أبوفيس.
وأدار لها ظهره وغادر المخدع غاضبا حانقا، وحياه الحراس فأمرهم بالإبحار إلى شمال طيبة، وسار إلى مقدمة السفينة بخطى ثقيلة متباطئة مالئا صدره بهواء الليل الرطيب، وما لبثت السفينة أن انحدرت مع تيار النيل المتدفقة منذ الأزل تشق الظلماء إلى شمال طيبة. فأرسل الملك بناظريه إلى المدينة فارا إليها من هموم نفسه، وكان النور يشع من سفن الأسطول الراسية إلى شاطئ المدينة، أما القصور الشاهقة فكانت غارقة في الظلمة بعد أن هجرها أصحابها الفارون، ولاحت على البعد من بين القصور والحدائق أضواء المشاعل التي يحملها الساهرون الفرحون، وحمل النسيم صدى أصواتهم المتصاعدة بالهتاف والأناشيد، فجرت على فمه العريض ابتسامة، وأدرك أن طيبة تستقبل جيش الخلاص كما تعودت أن تستقبل جيوشها المظفرة وأعيادها الخالدة.
ومضت السفينة تدنو من القصر الفرعوني حتى حاذته في مسيرها، ورأى الملك القصر مضاء يشع النور من نوافذه وحديقته، فعلم أن حور يشرف على تهيئته وتطهيره، وأنه عاد حقا إلى أداء وظيفته الأولى في قصر سيكننرع وشاهد أحمس ميناء حديقة القصر فعاودته الذكرى الأليمة، ليلة حملت السفينة الفرعونية أسرته إلى أقاصي الجنوب والدماء تتفجر من ورائها.
وعاود الملك السير جيئة وذهابا على مقدم السفينة، واتجه بصره مرات إلى مخدع الأميرة المغلق ثم تساءل متبرما ساخطا: لماذا جاءوني بها؟ .. لماذا جاءوني بها؟
16
ناپیژندل شوی مخ