سيكننرع
بعد عشرة أعوام
كفاح أحمس
سيكننرع
بعد عشرة أعوام
كفاح أحمس
كفاح طيبة
كفاح طيبة
تأليف
نجيب محفوظ
سيكننرع
1
كانت السفينة تصعد في النهر المقدس، ويشق مقدمها المتوج بصورة اللوتس الأمواج الهادئة الجليلة، يحث بعضها بعضا منذ القدم كأنها حادثات الدهر في قافلة الزمان، بين شاطئين انتثرت على أديمهما القرى، وانطلق النخل جماعات ووحدانا، وترامت الخضرة شرقا وغربا، وكانت الشمس تعتلي كبد السماء ترسل أسلاكا من النور إذا غمر النبت رف رفيفا، وإذا مس الماء تلألأ لألاء، وقد خلا سطح الماء إلا من بعض زوارق صيد جعل أصحابها يوسعون للسفينة الكبيرة وهم يرمقون صورة اللوتس - رمز الشمال - بعين التساؤل والإنكار.
وكان يتصدر المقصورة رجل بدين قصير القامة، مستدير الوجه، طويل اللحية، أبيض البشرة، يرتدي معطفا فضفاضا ويقبض بيمناه على عصا غليظة ذات مقبض ذهبي، جلس بين يديه رجلان في مثل بدانته وزيه، تداني بينهم جميعا روح واحدة، وكان السيد يطيل النظر إلى الجنوب بعينين مظلمتين أضناهما الملل والتعب، ويلقي على من يصادفه من الصيادين نظرة شرزاء، وكأنه برم بالصمت فتحول إلى رجليه وتساءل قائلا: ترى هل ينفخ غدا في الصور فيتبدد هذا السلام الثقيل المخيم على ربوع الجنوب، وتفزع هذه الدور المطمئنة، ويحلق نسر الحرب في هذا الجو الآمن؟ .. آه .. ليت هؤلاء الرجال يعلمون أي نذير تحمل هذه السفينة لهم ولسيدهم!
فهز الرجلان رأسيهما موافقة على كلام السيد وقال أحدهما: لتكن حرب أيها الحاجب الأكبر، ما دام هذا الرجل الذي ارتضاه مولانا حاكما على الجنوب يأبى إلا أن يضع على رأسه تاجا كالملوك، ويبني القصور كالفراعين، ويسير في طيبة مرحا لا يبالي شيئا.
فجعل الحاجب يصرف بأنيابه، وعبث بعصاه فيما بين قدميه بحركة تدل على الحنق والغيظ وقال: لا يوجد حاكم مصري سوى حاكم إقليم طيبة هذا، فإذا تخلصنا منه خلص لنا حكم مصر إلى الأبد، وبات مولانا الملك على طمأنينة لا يخشى تمرد أحد عليه.
قال ثاني الرجلين بحماس، وكان لا ييئس أبدا من أن يصير يوما حاكما لمدينة عظيمة: إن هؤلاء المصريين يكرهوننا.
فأمن الحاجب الأكبر على رأيه وقال بلهجة عنيفة: نعم .. نعم .. وأهل منف أنفسهم عاصمة مملكة مولانا يظهرون الطاعة ويضمرون الكراهية .. لقد نفدت الحيل ولا حيلة الآن سوى السوط والسيف!
فابتسم الرجلان أول مرة، وقال ثانيهما أيضا: بورك رأيك أيها الحاجب الحكيم، فإن السوط وسيلة التفاهم التي لا تجدي سواها مع المصريين.
ولاذ الرجال الثلاثة بالصمت برهة، فما يسمع إلا وقع المجاديف على سطح الماء، ثم لاحت من أحدهم التفاتة إلى زورق صيد يقف في وسطه فتى مفتول الساعدين، عاري الجسد، إلا من وزرة تغطي وسطه، وقد لفحت الشمس بشرته، فقال بتعجب: كأن هؤلاء الجنوبيين مشتقون من صميم أرضهم!
فقال الحاجب بسخرية: لا تعجب؛ فإن من شعرائهم من يتغنى بسمرة اللون. - حقا .. إن لونهم ولوننا كالطين والشعاع السني.
قال الحاجب: حدثني بعض رجالنا عن هؤلاء الجنوبيين فقال: إنهم على لونهم وعريهم ذوو صلف وكبرياء، وإنهم يزعمون أنهم منحدرون من أصلاب الآلهة، وإن بلادهم منبت الفراعنة الحقيقيين .. رباه .. إني أعرف الدواء لكل هذا .. لا ينقص إلا أن تمتد ذراعنا إلى حدود بلادهم.
وما انتهى الحاجب من كلامه حتى سمع أحد رجليه يقول، وهو يشير بإصبعه إلى الشرق: انظر .. أترى طيبة؟ هذه طيبة!
فنظروا جميعا إلى حيث يشير الرجل، فرأوا مدينة كبيرة يحيط بها سور عظيم، بدت خلفه رءوس المسلات عالية كأنها عمد ترفع القبة السماوية، ورئيت في ناحيتها الشمالية جدران معبد آمون الشاهقة، رب الجنود المعبود، فما وقعت العين فيها إلا على مارد عظيم يتعالى إلى السماء، فأخذ الرجال، وقطب الحاجب الأكبر وتمتم قائلا: نعم .. هذه طيبة .. وقد أتيحت لي رؤيتها من قبل، وما أزداد على الأيام إلا رغبة في أن تعنو الهام لمولانا الملك، وأن أرى موكبه الظافر يشق شوارعها.
فقال أحد الرجلين: وأن يعبد بها ربنا «ست» المعبود!
وخففت السفينة من سرعتها، ومضت تدنو من الشاطئ رويدا رويدا مجتازة الحدائق الغن، التي تنحدر مدرجاتها المعشوشبة حتى تسقى من النهر المقدس، وقد لاحت وراءها قصور طيبة الشم، وأما غربي الشاطئ الآخر، فتجثم مدينة الأبدية، حيث يرقد الخالدون في الأهرام والمصاطب والمقابر، تغشاهم جميعا وحشة الموت.
وتوجهت السفينة إلى ميناء طيبة، تشق سبيلها بين زوارق الصيد والسفن التجارية، وتجذب نحوها الأنظار لضخامتها وجمالها، وصورة اللوتس التي تزين مقدمها، حتى حاذت الرصيف، فألقت كلابها الضخم، وقصد إليها بعض الحراس، وانتقل إليها ضابط يرتدي فوق وزرته سترة من الكتان الأبيض، وسأل أحد رجالها قائلا: من أين انحدرت هذه السفينة؟ .. وهل تحملون تجارة؟
فحياه الرجل، وقال «اتبعني». واصطحبه إلى المقصورة، حيث أدرك الضابط أنه ماثل بين يدي حاجب كبير من حجاب قصر الشمال، قصر ملك الرعاة كما يدعونه في الجنوب، فانحنى احتراما وأدى التحية العسكرية، ورفع الحاجب يده ليرد التحية في صلف ظاهر وقال بلهجة متعالية: أنا رسول فرعون، ملك الشمال والجنوب، وابن الرب ست، مولانا أبوفيس، إلى حاكم طيبة الأمير سيكننرع لأؤدي إليه ما حملته من البلاغ.
وأصغى الضابط إلى الرسول في انتباه ثم أدى التحية مرة أخرى ومضى.
2
ومضت ساعة من الزمان، ثم جاء السفينة رجل وقور، يميل إلى القصر، بادي النحافة، بارز الجبهة، فانحنى انحناءة وقور للرسول، وقال بصوت هادئ النبرات: إن الذي يتشرف باستقبالك حور رئيس حجاب قصر الجنوب.
فحنى الرجل رأسه الفخم وقال بصوته الغليظ: وأنا خيان كبير حجاب القصر الفرعوني.
فقال حور: يسر مولاي أن يستقبلك في الحال.
فأبدى الرسول حركة وقال: «هلم بنا». وتقدمه الحاجب حور وتبعه الرجل يسير في خطا وئيدة، متوكئا بجسمه البدين على عصاه وقد انحنى له الرجلان إجلالا، وشعر خيان بغضاضة وساءل نفسه بحنق: «أما كان ينبغي لسيكننرع أن يحضر بنفسه لاستقبال رسول أبوفيس ...؟» وضايقه جد المضايقة أن يسلك الرجل في استقباله سلوك الملوك. وغادرا السفينة بين صفين من الجند والضباط، ورأى خيان على الشاطئ ركبا ملكيا في انتظاره تتقدمه عجلات حربية، وتتأخر عنه عجلات أخرى، وأدى له الجند التحية، فردها بكبرياء، وركب عجلته وركب إلى جانبه حور، ثم تحرك الموكب الصغير في طريقه إلى قصر حاكم الجنوب ، وتحركت عينا خيان في محجريهما ذات اليمين وذات الشمال تشاهدان المعابد والمسلات والتماثيل والسبل والقصور والأسواق وتيارات القوم التي لا تنقطع من جميع الطبقات؛ فالعامة بأجسامهم شبه العارية، والضباط بمعاطفهم الأنيقة، والكهنة بأثوابهم الطويلة، والسراة بعباءاتهم الفضفاضة، والنساء بأزيائهن الجميلة، فكأن كل شيء يشهد لعظمة المدينة، وأنها تنافس منف نفسها عاصمة أبوفيس. وأدرك الرسول أول وهلة أن موكبه يلفت الأنظار بقوة، وأن الناس تتجمع على جوانب الطريق لمشاهدته ولكن في برود وجمود، وجعلت أعينهم السود تفحص وجهه الأبيض ولحيته الطويلة بغرابة وإنكار وامتعاض، فشعر بثورة باطنية وغضب شديد لذاك الاستقبال البارد الذي مني به أبوفيس العظيم في شخص رسوله، وساءه أن يبدو غريبا في طيبة بعد انقضاء مائتي عام على هبوط قومه أرض مصر وتربعهم على عرش ملكها، وغاظه وأحنقه أن يحكم قومه مائتي عام يحتفظ الجنوب خلالها بشخصيته وطابعه واستقلاله، فلا يبقى به رجل واحد من الهكسوس.
ثم بلغ الموكب ميدان القصر، وكان ميدانا فسيحا مترامي الأركان، تقام على جوانبه دور الحكومة والوزارات، ومقر القيادة العليا للجيش، ويبدو في مكانه الوسيط القصر الجليل يبهر الأنظار مشهده الرائع؛ كان قصرا عظيما كقصر منف نفسه، وكان جنود الحرس يعتلون أسواره، ويصطفون صفين لدى بابه الكبير، فلما اجتازه موكب الرسول صدحت الموسيقى بنشيد التحية، وفيما كان الموكب يقطع أرض الفناء كان خيان يسائل نفسه قائلا: هل يستقبلني سيكننرع وعلى رأسه التاج الأبيض؟
إنه يعيش عيشة الملوك ويتبع سلوكهم، ويتخذ لنفسه حكومة كحكوماتهم، فهل يلبس تاج الجنوب أمامي؟ هل يفعل ما أحجم عنه أجداده وما أحجم عنه أبوه نفسه سيكننرع؟
وترجل الرسول عند مدخل ممر الأعمدة الطويل، ووجد في استقباله حجاب القصر ورئيس الحرس الفرعوني وكبار الضباط، فأدوا له التحية جميعا، وساروا بين يديه إلى بهو الاستقبال الفرعوني، وكانت الردهة المؤدية إلى باب البهو مزينة الجانبين بتماثيل أبي الهول، وفي أركانها يقف ضباط عمالقة من رجال هابو الأشداء، وانحنى الرجال للرسول وأوسعوا له، فتقدمه الحاجب حور إلى داخل البهو وتبعه الرجل، ورأى في صدر المكان على مسافة غير قريبة من المدخل عرشا فرعونيا يجلس عليه رجل متوج بتاج الجنوب وبيده الصولجان والعصا المعقوفة، وإلى يمين عرشه يجلس رجلان، وإلى شماله رجلان، وبلغ حور العرش يتبعه الرسول فانحنى لمولاه بإجلال، وقال بصوته الرقيق: مولاي، أقدم لذاتكم العالية الحاجب الأكبر خيان رسول الملك أبوفيس.
وانحنى عند ذاك الرسول تحية، فرد الملك تحيته وأشار إليه فجلس على كرسي أمام العرش، أما حور فقد وقف إلى يمين العرش، وأراد الملك أن يقدم إلى الرسول رجال مملكته، فأومأ بصولجانه إلى الرجل الذي يلي يمينه وقال: «أوسر آمون رئيس الوزراء»، ثم أشار إلى الذي يليه وقال: «نوفر آمون الكاهن الأكبر لآمون»، ثم تحول إلى شماله وأومأ إلى من يليه قائلا: «كاف قائد الأسطول»، وأشار إلى من يليه قائلا: «بيبي قائد الجيش»، ولما تم التعارف وجه الملك بصره إلى الرسول وقال بصوت تدل نبراته على السمو والرفعة الطبيعيتين: نزلت منزلا يرحب بشخصك وبمن أولاك ثقته.
فقال الرسول: حفظك الرب أيها الحاكم الجليل، وإني سعيد باختياري لمهمة السفارة في بلادكم الجميلة ذات الشهرة التاريخية!
ولم يغب عن سمع الملك قوله: «الحاكم الجليل» ولا فاته مغزاها، ولكن لم يبد على وجهه أي أثر لما اضطرب في نفسه، وكان خيان في تلك اللحظة يلقي عليه نظرة سريعة فاحصة من عينيه الجاحظتين، فرأى الحاكم المصري رجلا مهيبا حقا، طويل القامة، مستطيل الوجه جميله، شديد السمرة، يميز ملامحه بروز في أسنانه العليا، وقد قدر له الحلقة الرابعة عمرا، وكان الملك يظن أن رسول أبوفيس جاء لما كانت تجيء به بعثات الشمال من أجله، أي طلب الأحجار والحبوب، وهو ما كان يعتبره ملوك الرعاة جزية، ورآه ملوك طيبة رشوة يكفون بها شر الغزاة، فقال الملك بهدوئه وجلاله: يسرني أن أستمع إليك يا رسول أبوفيس العظيم.
فاعتدل الرسول في جلسته كأنما يتوثب للنضال وقال بصوته الغليظ: منذ مائتي عام لا تنقطع رسل الشمال عن ارتياد الجنوب، وفي كل مرة تعود راضية.
فقال الملك: أرجو أن تدوم هذه السنة الجميلة.
فقال خيان: أيها الحاكم إني أحمل إليك ثلاث رغبات فرعونية: تتعلق الأولى بشخص مولاي فرعون، والثانية بربه المعبود ست، والثالثة بروابط المودة بين الشمال والجنوب.
فألقى إليه الملك بانتباهه وقد بدا على وجهه الاهتمام، فاستدرك الرجل قائلا: شكا مولاي الملك في الأيام الأخيرة آلاما مروعة تهز أعصابه في الليل، وأصواتا منكرة تصك أذنيه الكريمتين مما أوقعه فريسة للسهاد والضنى، وقد دعا إليه أطباءه وقص عليهم ما يلقى بليله فتفحصوه بعناية، ولكنهم عادوا جميعا من فحصه بالحيرة والجهل، وكان الملك في رأيهم جميعا سليما معافى، ولما يئس مولاي فرغ إلى نبي معبد ست، فأدرك الحكيم داءه، وقال له: إن مبعث آلامه جميعا أن خوار أفراس البحر الحبيسة بالجنوب يتسرب إلى قلبه، وأكد له ألا شفاء له إلا بقتلها.
وكان الرسول يعلم أن الأفراس الحبيسة في بركة طيبة مقدسة، فاختلس نظرة إلى وجه الحاكم ليبلو أثر كلامه، ولكنه وجده جامدا صلبا وإن تضرج بالاحمرار، وانتظر أن يعلق الرجل على كلامه، ولكنه لم ينبس بكلمة، وبدا عليه الإصغاء والانتظار، فقال الرسول: وفي أثناء مرض مولاي رأى فيما يرى النائم ربنا المعبود ست يزوره بجلاله ونورانيته، وعتب عليه قائلا: أيجوز أن يخلو الجنوب كله من معبد يذكر فيه اسمي؟ فأقسم مولاي أن يطلب إلى صديقه حاكم الجنوب أن يشيد في طيبة معبدا لست إلى جانب معبد آمون.
وسكت الرسول ولكن سيكننرع ثابر على الصمت، وبدا عليه هذه المرة أنه أخذ على غرة، وأنه فوجئ بما لم يدر له في خلد، ولم يكن خيان ليعنيه كدر الملك ولعله كان مدفوعا برغبة في إثارته، وأدرك الحاجب حور خطر المطالب، فانحنى على أذن مولاه وهمس قائلا: «الأفضل ألا يناقش مولاي الرسول الآن»، فهز الملك رأسه دلالة الموافقة وقد أدرك ما يرمي إليه حاجبه، وظن خيان أن الحاجب يفضي إلى مولاه بما يقوله فانتظر قليلا، ولكن الملك قال: أعندك بلاغ آخر تفضي به؟
فقال خيان: أيها الحاكم الجليل، لقد بلغ مولاي أنك تتوج رأسك بتاج مصر الأبيض، فراعه ذلك، ورأى أنه لا يتفق وما يربط الأسرة الفرعونية بأسرتك التليدة من أسباب المودة والصداقة التقليدية.
فقال سيكننرع بدهشة: ولكن التاج الأبيض غطاء الرأس لحكام الجنوب.
فقال الرسول بيقين وإصرار: بل كان تاج الملوك منهم، ولذلك لم يفكر والدك المجيد في لبسه، لأنه يعلم أنه لا يوجد سوى ملك واحد في هذا الوادي يحق له التتويج، وأرجو أيها الحاكم الجليل ألا يغيب عنك ما تدل عليه ملاحظة مولاي من رغبة صادقة في توثيق الأواصر الطيبة بين أسرتي منف وطيبة.
وسكت خيان، فساد الصمت مرة أخرى، وكان سيكننرع غارقا في تأملات حزينة ينوء صدره بمطالب ملك الرعاة القاسية التي تهاجم مواطن الإيمان من قلبه وموضع العزة من نفسه، وبدا أثر ذلك في امتقاعه وما ظهر من جمود على وجوه من حوله من رجال مملكته، وكان يقدر نصيحة حور فلم يرتجل جوابا وقال بصوت احتفظ بالرغم من كل شيء بهدوئه: أيها الرسول إن رسالتك تنطوي على خطب خطير يمس عقيدتنا وتقاليدنا، لذلك أرى أن أكاشفك برأيي فيها غدا.
فقال خيان: خير الرأي ما سبقته المشورة.
فالتفت سيكننرع إلى الحاجب حور وقال: تقدم الرسول إلى الجناح المعد له.
فقام الرسول بجسمه القصير الضخم، وانحنى تحية، ثم ذهب يسير في خيلاء وعظمة.
3
وأرسل الملك في طلب ولي عهده الأمير كاموس، وجاء الأمير على عجل دل على رغبته في معرفة رسالة حاجب أبوفيس، وحيا الملك في إجلال، واتخذ مكانه إلى يمينه، والتفت إليه الملك وقال: لقد أرسلت في طلبك أيها الأمير لأطلعك على بلاغ رسول الشمال، لترى فيه معنا رأيك، وإن الأمر لجد خطير، فأصغ إلي!
ثم روى الملك لولي عهده ما قاله الرسول خيان بالتفصيل المبين، وأصغى الأمير لوالده باهتمام شديد بدا على محياه الحسن الذي يشبه أباه في لون بشرته وقسماته وبروز أسنانه العليا، ثم أدار الملك عينيه في الحاضرين، وقال: فها أنتم أولاء أيها السادة ترون أنه لكي نرضي أبوفيس ينبغي أن نخلع هذا التاج، ونذبح أفراس البحر المقدسة، ونشيد معبدا لست يعبد فيه إلى جانب معبد آمون، فأشيروا علي بما يجب عمله.
وكان الاستياء البادي على وجوههم جميعا يدل على ما يعتلج في صدورهم من الهم، وكان الحاجب حور أول المتكلمين، فقال: مولاي، إن الذي أنكره أكثر من هذه الرغبات نفسها هو الروح الذي أملاها، فهو روح سيد يملي على عبده، وملك يتجنى على شعبه، وما أراها إلا صورة متجددة لذلك النزاع القديم بين طيبة ومنف، هذه تسعى لاستعباد تلك، وتلك تتشبث باستقلالها ما وسعتها الحيلة، وما من شك في أنه يسوء الرعاة وملكهم أن تظل مملكة طيبة مغلقة الأبواب دون حكامهم، ولعلهم لا يقنعون بما يدعون من أن هذه المملكة ولاية مستقلة تابعة لتاجهم، فأرادوا أن يبطلوا مظاهر استقلالها، ويتحكموا في عقيدتها، فيسهل عليهم بعد ذلك تدميرها.
وكان حور في إلقائه قويا صريحا، فذكر الملك تاريخ تحرش ملوك الرعاة بحكام طيبة، وكيف كان هؤلاء يدفعون شرهم بالرد الجميل والهدايا والتظاهر بالخضوع لكي يحفظوا الجنوب من توغلهم وشرهم، وكان لأسرته في هذا السبيل فضل، وأي فضل، حتى استطاع والده سيكننرع أن يدرب قوات عظيمة سرا ليصون بها استقلال مملكته، إذا لم تنفع الحيلة والتظاهر بالولاء في صوته، ثم قال القائد كاف: مولاي .. أرى أنه لا يجوز التسليم بأي مطلب من هذه المطالب، كيف نرضى بأن يخلع مولانا تاجه من على رأسه؟ .. كيف نقتل الأفراس المقدسة إرضاء لعدو أذل قومنا؟ .. وكيف نشيد معبدا لرب الشر الذي يعبده أولئك الرعاة؟
وقال الكاهن الأكبر نوفر آمون: مولاي .. إن الرب آمون لا يرضى أن يشيد إلى جانب معبده معبد لإله الشر ست، ولا أن ترتوي أرضه الطاهرة بدماء الأفراس المقدسة، ولا أن ينزل حامي مملكته عن تاجه وهو أول حاكم للجنوب توج به رأسه بأمره .. كلا يا مولاي إن آمون لا يرضى بذلك أبدا، وإنه لينتظر من يخرج على رأس جيش من أبنائه لتحرير الشمال، وتحقيق وحدة الوطن، فيعود كما كان في عهود الملوك السالفين.
فجرى الحماس في عروق القائد بيبي مجرى الدماء ، ووقف بقامته الفارعة ومنكبيه العريضين، ثم قال بصوته الجهوري: مولاي؛ صدق رجالنا العظام فيما قالوا، وإني لعلى يقين من أنه لا يراد بهذه المطالب سوى عجم عودنا وترويضنا على الذل والخضوع، وهل من دليل وراء أن يطالب ذلك الهمجي الهابط وادينا من أقاصي الصحاري الماحلة إلى مليكنا أن يخلع تاجه ويعبد رب الشر ويذبح الأفراس المقدسة؟ .. لقد كان الرعاة فيما مضى يطلبون أموالا فلم نبخل عليهم بأموالنا، أما الآن فإنهم يطمعون في حريتنا وشرفنا، ودون ذلك يهون علينا الموت ويطيب، إن قومنا في الشمال عبيد يحرثون الأرض ويحترقون بألسنة السياط، ونحن نرجو أن نخلصهم يوما مما يعانون من عذاب، لا أن نمضي بإرادتنا إلى مثل مصيرهم التاعس.
لازم الملك الصمت، وكان يصغي باهتمام ويكتم عواطفه بالنظر إلى أسفل، وقد حاول الأمير «كاموس» استطلاع وجهه فلم يتمكن، وكانت ميوله مع القائد بيبي فقال بعنف: مولاي .. إن أبوفيس ينظر بجشع إلى عزتنا القومية، ويأبى إلا أن يذل الجنوب كما أذل الشمال، ولكن الجنوب الذي لم يرض المذلة وعدوه في أوج قوته لن يرضاها الآن .. فمن يقول إننا نفرط فيما اشتد أسلافنا في صونه ورعايته؟
وكان أوسر آمون رئيس الوزراء أدنى القوم إلى الاعتدال، وكانت سياسته موجهة دائما إلى تفادي غضب الرعاة أو التعرض لقواتهم الهمجية لكي يتفرغ إلى إنماء ثروة الجنوب واستثمار موارد النوبة والصحراء الشرقية وتدريب جيش قوي لا يغلب، وقد خشي مغبة اندفاع ولي العهد وقائد الجيش، فقال موجها كلامه إلى رجال المملكة: اذكروا يا سادة أن الرعاة قوم نهب وسلب، ولئن حكموا مصر مائتي عام فهم لا يزالون يخطف أبصارهم الذهب، ويستذل نفوسهم ويشغل هممهم عن شريف المقاصد.
فهز القائد بيبي رأسه ذا الخوذة اللامعة وقال: يا صاحب العظمة، لقد عاصرنا القوم عهدا كافيا لنعرف نفوسهم، فهم أناس إذا رغبوا في شيء طلبوه بلسان صريح دون التوسط إليه بالحيلة والمداراة، وقد كانوا يطلبون الذهب فيحمل إليهم، أما اليوم فهم يطلبون حريتنا.
فقال الوزير: ينبغي التريث الآن حتى يكمل جيشنا .
فقال القائد: إن جيشنا بحالته الراهنة قادر على صد العدو.
ونظر الأمير كاموس إلى أبيه فوجده ما يزال يطرق إلى أسفل فقال بحماس: ما جدوى الكلام؟ .. قد يعوز جيشنا بعض الرجال وبعض المعدات، ولكن أبوفيس لا ينتظر حتى نستكمل عدتنا، وهو يعرض علينا مطالب لو ارتضيناها حكمنا على أنفسنا بالانهيار والزوال، وليس في الجنوب رجل واحد يفضل التسليم على الموت، فلنرفض هذه المطالب بإباء ونرفع رءوسنا أمام أولئك الرعاة ذوي اللحى المسترسلة والبشرة البيضاء التي لن تطهرها الشمس!
وتأثر القوم بحماس الأمير الشاب، وبدا على وجوههم التحفز والغضب وكأنما سئموا الكلام ورغبوا في اتخاذ قرار حاسم، ورفع الملك رأسه ورنا إلى ولي عهده، وسأل بلهجته الجليلة السامية قائلا: أترى أن نرفض مطالب أبوفيس أيها الأمير؟
فقال كاموس بثقة وعنف: بكل حزم وإباء يا مولاي. - وإذا جر الرفض إلى الحرب؟
فقال كاموس: نحارب يا مولاي.
وقال القائد بيبي بحماس لا يقل عن حماس الأمير: نحارب حتى نصد العدو عن حدودنا، وإذا شاء مولانا حاربنا حتى نحرر الشمال ونجلي عن أرض النيل آخر رجل من الرعاة البيض ذوي اللحى الطويلة القذرة.
فالتفت الملك إلى الكاهن الأكبر نوفر آمون وسأله: وأنت يا صاحب القداسة ماذا ترى؟
فقال الشيخ الوقور: أرى يا مولاي أن من يحاول إطفاء هذه الجذوة المقدسة كافر!
فابتسم الملك سيكننرع راضيا وتحول إلى وزيره أوسر آمون قائلا: ولم يبق إلا أنت أيها الوزير.
فبادر الرجل يقول: مولاي، لم أنصح بالتريث كراهية في الحرب أو خوفا منها، ولكن لنستكمل الجيش الذي أرجو أن يحقق غاية أسرة مولاي المجيدة، وهي تحرير وادي النيل من قبضة الرعاة الحديدية، وأما إذا كان أبوفيس يطمع حقا في حريتنا فأنا أول من يدعو إلى الحرب.
فنظر سيكننرع في وجوه رجاله، وقال بصوت دل على العزم والقوة: يا رجال الجنوب إني أشرككم في عواطفكم، وأعتقد أن أبوفيس يتحرش بنا ويطمع في أن يحكمنا بالخوف أو بالحرب، ونحن قوم لا نذعن للخوف ونرحب بالحرب، إن الشمال فريسة الرعاة منذ مائتي عام، امتصوا خير أرضه وأذلوا رجاله، أما الجنوب فإنه يكافح منذ مائتي عام غير غافل عن غايته العليا وهي تحرير الوادي جميعه، فهل ينكص على عقبيه لأول تهديد، ويفرط في حقه، ويلقي بحريته وديعة بين يدي الطامع النهم؟ .. كلا يا رجال الجنوب، سأرفض مطالب أبوفيس المهينة، وأنتظر ما يرد به علينا، إن سلما فسلم وإن حربا فحرب!
وقام الملك واقفا، فقام الرجال قومة واحدة وانحنوا إجلالا، ثم غادر البهو على مهل يتبعه الأمير «كاموس» والحاجب الأكبر.
4
وتوجه الملك إلى جناح الملكة أحوتبي، وأدركت المرأة حين رأته يقبل عليها في لباسه الرسمي أن رسول الشمال جاء بأمر جلل، فارتسم الاهتمام على وجهها الأسمر الجميل، وقامت واقفة تلقاه بقامتها الطويلة الرشيقة، ورفعت إليه عينين متسائلتين، فقال لها بهدوء: أحوتبي .. يبدو لي أن الحرب تطبق علينا مع الأفق!
فقلقت عيناها السوداوان وتمتمت قائلة بدهشة: أتقول الحرب يا مولاي؟
فحنى رأسه دلالة الإيجاب، وقص عليها ما قال الرسول خيان، ورأي رجاله فيه، وما استقر عليه عزمه، وكان يحدثها وعيناه لا تتحولان عن وجهها، فقرأ في صفحته ما اضطرم في نفسها من الإشفاق والأمل والاستسلام.
وقالت له: لقد اخترت السبيل التي ينبغي لمثلك أن يختارها.
فابتسم وربت كتفها، ثم قال لها: هيا بنا إلى أمنا المقدسة.
ثم سارا معا جنبا إلى جنب إلى جناح الملكة الوالدة توتيشيري زوج الملك السابق سيكننرع، وكانت في حجرة خلوتها تطالع كعادتها.
كانت الملكة توتيشيري في الستين من عمرها تبدو على محياها آي النبل والمجد والمهابة، وكانت «حيويتها» دفاقة فغلب نشاطها الكبر، ولم يعترها من آثاره سوى شعيرات بيض تكلل فوديها، وذبول خفيف يعلو خديها، وظلت عيناها على صفائهما وجسمها على فتنته ورشاقته، وشاركت جميع أفراد أسرة طيبة في بروز أسنانها العليا، ذلك البروز الذي افتتن به أهل الجنوب وعبدوه كافة، وقد تخلت الملكة على أثر وفاة زوجها عن الحكم كما يقضي القانون، تاركة مقاليد طيبة لابنها وزوجه، ولكنها ظلت الرأي الذي يرجع إليه في الملمات، والقلب الذي يلهم الأمل والكفاح، وقد أقبلت في فراغها على القراءة، وكانت تديم المطالعة في كتب خوفو وقاقمنا وكتب الموتى وتاريخ العهود المجيدة التي خلدها أمثال مينا وخوفو وأمنمحيت، وكان للملكة الوالدة شهرة عظيمة في الجنوب جميعه، فما من رجل أو امرأة إلا يعرفها ويحبها ويقسم باسمها المحبوب، وذلك أنها بثت فيمن حولها وعلى رأسهم ابنها الملك سيكننرع وحفيدها كاموس حب مصر، جنوبها وشمالها، وكراهية الرعاة المغتصبين الذين ختموا العهود الجليلة أسوأ ختام، ولقنت الجميع أن غايتهم السامية التي يجب أن يعدوا أنفسهم لتحقيقها تحرير وادي النيل من قبضة الرعاة المستبدين، وأوصت الكهنة على اختلاف طبقاتهم من رجال المعابد ومدرسي المدارس أن يذكروا الناس دائما بالشمال المغتصب والعدو الغاصب، وما ارتكبه من آثام أذل بها القوم واستعبدهم وانتهب أرضهم واستأثر بخيراتها وهبط بهم إلى مستوى البهائم التي تعمل في الحقول، فإذا كان في الجنوب جذوة نار مقدسة تلهب القلوب وتحيي الآمال فالفضل في إذكائها لوطنيتها وحكمتها، ولذلك قدسها الجنوب جميعه ودعاها الناس الأم المقدسة توتيشيري، كما يدعو المؤمنون الربة إيزيس، وعاذوا باسمها من شر اليأس والهزيمة.
هذه هي الأم التي قصدها سيكننرع وأحوتبي، وكانت هي تتوقع تلك الزيارة بعد أن علمت بقدوم رسول ملك الرعاة، وذكرت الرسل الذين كان يبعث بهم ملوك الرعاة إلى زوجها الراحل في طلب الذهب والغلال والأحجار، وكانوا يطلبونها جزية يدفعها التابع للمتبوع .. وكان زوجها يبعث بالسفن محملة ليتقي قوة القوم الهمجية، ويضاعف نشاطه الخفي في تكوين الجيش الذي كان أعز ما أورثه سيكننرع ابنه وخلفه. ذكرت ذلك وهي تنتظر الملك، فلما جاء وزوجه بسطت لهما ذراعيها النحيلتين فقبلا يديها، وجلس الملك إلى يمينها والملكة إلى شمالها، فسألت ابنها وهي تبتسم ابتسامة رقيقة: ماذا يريد أبوفيس؟
فقال بلهجة تنطوي على الحنق: يريد يا أماه طيبة وما عليها جميعا، بل ما هو أجل من هذا؛ إنه يساومنا هذه المرة على شرفنا.
فرددت رأسها بين الملكين وقد روعت، وقالت بصوت احتفظ بهدوئه على الرغم من كل شيء: كان أسلافه على جشعهم يقنعون بالجرانيت والذهب!
فقالت الملكة أحوتبي: أما هو يا أماه فإنه يريد منا أن نقتل أفراس البحر التي يقلق صوتها رقاده، وأن نشيد معبدا لربه ست إلى جانب معبد آمون، وأن يخلع مولانا التاج الأبيض.
ووافق سيكننرع على قول أحوتبي، وقص على أمه نبأ الرسول ورسالته، فبدا الإنكار على وجهها الجليل، ودل التواء شفتيها على الامتعاض والسخط، وسألت الملك قائلة: وبماذا أجبته يا بني؟ - لم أبلغه جوابي بعد. - وهل انتهيت إلى رأي؟ - نعم .. أن أنبذ مطالبه جميعا! - إن من يطلب هذه المطالب لا يسكت على رفضها! - ومن يقدر على رفضها جميعا لا يخشى عواقب رفضه! - فإذا شهر عليك حربا؟ - شننت عليه حربا بحرب.
ورنت الحرب في أذنيها رنينا عجيبا أيقظ بقلبها ذكريات قديمة، وذكرت أياما مثل هذه حين كان زوجها يضيق صدره ويشكو إليها بثه وهمه ويتمنى لو كان يملك جيشا قويا يدفع به طمع عدوه، أما ابنها فيتكلم عن الحرب بشجاعة وعزيمة وثقة، فقد تغير الزمن وتجدد الأمل، واختلست من وجه الملكة نظرة فوجدته شاحبا، فأدركت أنها تكابد حيرة، وأن أمل الملكة وإشفاق الزوجة يتقاذفانها بغير رحمة .. وهي نفسها ملكة وأم، ولكنها لا تستطيع أن تقول إلا ما ينبغي لمعلمة القوم وأمهم المقدسة أن تقوله، وقد سألته: وهل تقدر على الحرب يا مولاي؟
فقال بثبات: نعم يا أماه .. لدي جيش باسل. - هل يستطيع هذا الجيش أن يخلص مصر من الأغلال؟ - يستطيع على الأقل أن يصد عن مملكة الجنوب عدوان الرعاة.
ثم هز منكبيه استهانة وقال بحنق وغيظ: أماه .. طالما دارينا أولئك الرعاة عاما بعد عام فلم تفلح المداراة في إسكات جشعهم، وما برحوا يرمقون مملكتنا بعين الطمع والجشع، وقد حم القضاء وأرى أن الشجاعة أولى بنا من المطاولة والمداراة، سأخطو هذه الخطوة وأنظر ما بعدها.
فابتسمت توتيشيري وقالت بفخار: فليبارك آمون هذه النفس الأبية العالية. - فماذا تقولين يا أماه؟ - أقول يا بني: سر في طريقك يرعاك الرب وتباركك دعواتي، هذه غايتنا وهذا ما ينبغي للفتى الذي اختاره آمون ليحقق آمال طيبة الخالدة.
وابتهج سيكننرع وتألق بالنور وجهه، وهوى على رأس توتيشيري يقبل جبينها، وقبلت خده الأيسر، وقبلت خد أحوتبي الأيمن وباركتهما معا، فعادا من لدنها سعيدين مغتبطين.
5
وأعلن الرسول خيان أن سيكننرع سيستقبله غداة غد، وفي الموعد المحدد ذهب الملك إلى بهو الاستقبال يتبعه كبير حجابه، وهناك وجد في انتظاره حول عرشه رئيس الوزراء والكاهن الأكبر وقائدي الجيش والأسطول، فقاموا لاستقباله وانحنوا بين يديه، وجلس على العرش وأذن لهم في الجلوس، ثم صاح حاجب الباب معلنا وصول الرسول خيان، ودخل الرجل بجسمه البدين القصير ولحيته الطويلة يمشي مشية الخيلاء، وكان يسائل نفسه: ترى ماذا وراء الشورى؟ أسلام أم حرب؟ .. ثم بلغ العرش فانحنى تحية للجالس عليه، ورد عليه الملك التحية وأذن له في الجلوس وهو يقول: عسى أن تكون قضيت ليلة سعيدة. - كانت ليلة سعيدة، شكرا لضيافتك الكريمة.
ولاحت منه التفاتة إلى رأس الملك فرأى تاج مصر الأبيض يعلوه، فانقبض صدره واحتدم الغيظ في قلبه، وكبر عليه أن يتحداه كذلك حاكم الجنوب، وكان الملك لا يحرص من جهته على مجاملة الرسول لأنه كان لا يجهل ما يعنيه رفضه للمطالب، فأراد أن يقول رأيه صريحا حازما قاسيا فقال: أيها الرسول خيان: لقد درست المطالب التي تحملها إلينا بعناية، وشاورت فيها رجال مملكتي، فاتفق رأينا جميعا على رفضها.
ولم يكن خيان يتوقع هذا الرفض الصريح الحاسم، فأخذ واستولى عليه الذهول، ونظر إلى سيكننرع باستغراب وإنكار وقد صار وجهه كالجمان، واستدرك الملك قائلا: لقد وجدت هذه المطالب تمس عقيدتنا وشرفنا، ونحن لا نسمح لأي إنسان أن يمس العقيدة والشرف منا.
وأفاق خيان من دهشته فقال بهدوء وكبرياء وكأنه لم يسمع ما قال الملك: إذا سألني مولاي: لماذا يرفض حاكم الجنوب أن يشيد معبدا لست، فماذا أقول له؟ - قل له إن أهل الجنوب يعبدون آمون وحده. - وإذا سألني، لماذا لا يقتلون أفراس البحر التي تقض مضجعي؟ - قل له إن أهل الجنوب يقدسونها. - يا عجبا .. أليس فرعون أعظم قداسة من أفراس البحر؟
فأطرق سيكننرع مليا كأنه يفكر في الجواب، ثم قال بلهجة حازمة: إن أبوفيس مقدس لديكم، وهذه الأفراس مقدسة لدينا.
وسرت موجة ارتياح في نفوس رجال الملك لهذا الجواب العنيف، أما خيان فقد اشتد به الغضب ولكنه لم يستسلم لسلطانه، وكبح جماح نفسه وقال بهدوء: أيها الحاكم الجليل، كان أبوك حاكما على الجنوب ولم يكن يلبس هذا التاج، فهل ترى لنفسك حقا غير ما كان يرى أبوك لنفسه؟ - لقد ورثت عنه الجنوب وهذا تاجه منذ القدم، ومن حقي أن أتوج به رأسي. - ولكن في منف رجل آخر يتوج رأسه بتاج مصر المزدوج، ويسمي نفسه فرعون مصر، فماذا ترى فيما يدعيه لنفسه؟ - أرى أنه اغتصب وأسلافه المملكة!
ونفد صبر خيان فقال بحنق واحتقار: أيها الحاكم، لا تظن أن لبسك التاج يرفعك إلى مصاف الملوك، فالملك من بعد ومن قبل قوة وسلطان، ولست أرى في أقوالك إلا استهانة بالوشائج الطيبة التي ربطت آباءك وأجدادك بملوكنا، ونزوعا إلى التحدي لا تؤمن عواقبه.
فتبدى الغضب على وجوه الحاشية، ولكن الملك حافظ على هدوئه وقال مسترسلا: أيها الرسول نحن لا نعجل بالشر، ولكن إذا تحرش بشرفنا متحرش؛ لا ننكص على أعقابنا ولا نؤثر السلامة، ومن فضائلنا ألا نغالي في تقدير قوتنا فلا تنتظر أن تسمع مني مباهاة وفخرا. ولكن اعلم أن آبائي وأجدادي حافظوا ما وسعهم الجهد على استقلال هذه المملكة، ولن أفرط أنا فيما عاهدوا الرب والناس على المحافظة عليه.
فعلت شفتي خيان الحادتين ابتسامة ساخرة تخفي حقدا مرا، وقال بلهجة ذات مغزى: كما تشاء أيها الحاكم، وما علي إلا البلاغ، وستحمل تبعة أقوالك.
فحنى الملك رأسه ولم يتكلم، ثم قام واقفا مؤذنا بانتهاء المجلس، فوقف الجميع إجلالا حتى غيبه الباب عن أنظارهم.
6
وكان الملك يقدر خطر الحال، فأراد أن يزور معبد آمون، ليدعو الرب المعبود ويعلن الكفاح في الفناء المقدس، وأعلن إرادته لوزيره ورجاله، فقصدت جموعهم من وزراء وقواد وحجاب وكبار موظفين إلى معبد آمون لتكون في استقبال الملك، وتنبهت طيبة الغافلة إلى ما يدور وراء جدران قصورها الشم، وتهامس كثيرون بأن رسول الشمال جاء متعاليا وآب غاضبا، وذاع بين الطيبيين أن سيكننرع سيزور معبد آمون ليستلهمه الرأي ويسأله المعونة، فذهبت جموع غفيرة من الرجال والنساء إلى المعبد، وانضم إليهم خلق كثيرون أحاطوا بالمعبد، وتدافعوا إلى السبل المؤدية إليه، وكان يبدو على وجوههم الجد والاهتمام والتطلع، فدار بينهم التساؤل وجرى على ألسنتهم الحديث، كل يفسر الأمر على ما يرى، وجاء الركب الفرعوني تتقدمه كوكبة من الحرس تتبعها عجلة الملك وعربات أخرى تحمل الملكة والأمراء والأميرات من البيت الملكي، فسرت في نفوس القوم موجة من الحماس والفرح، ولوحوا لمليكهم بأيديهم وهللوا له وكبروا، فابتسم سيكننرع إليهم ولوح لهم بصولجانه، ولم يغب عن أحد أن الملك يرتدي لباس الحرب ذا الدرع اللامعة، فاشتد تشوق الناس إلى سماع الأخبار، ودخل الملك فناء المعبد يسير وراءه آله، نساء ورجالا، فاستقبلهم كهنة المعبد والوزراء والقواد بالسجود، وهتف نوفر آمون بصوت مرتفع قائلا: أدام الرب حياة الملك وحفظ مملكة طيبة، وردد القوم هتافه بحماس وأعادوا ترديده، فحياه الملك برفع يده إلى رأسه وابتسامة من فمه العريض، ثم تقدم الجمع بأسره إلى بهو المذبح، وقدم الجنود ثورا ذبيحا للرب، ثم طافوا جميعا بالمذبح وبهو الأعمدة، هناك وقفوا صفين، وأعطى الملك صولجانه لولي عهده الأمير كاموس وسار إلى السلم المقدس فارتقاه إلى قدس الأقداس، واجتاز العتبة المقدسة بخطى خاشعة، وأغلق وراءه الباب فكأنما أدركه الغسق، وحنى رأسه وخلع تاجه إجلالا للمكان المطهر، وتقدم نحو المحراب الثاوي فيه الرب المعبود بساقين متخاذلتين من الهيبة، ثم سجد عند قدميه ولثمهما وسكن لحظة ريثما تهدأ أنفاسه المضطربة وقال بصوت خافت كأنه النجوى: أيها الرب المعبود، رب طيبة المجيدة، ورب أرباب النيل، هبني من لدنك رحمة وقوة، فإني اليوم أتعرض لتبعة خطيرة إن لم تشدد فيها أزري عييت دونها. هي الدفاع عن طيبة وقتال عدوك وعدونا الذي سقط علينا من صحراء الشمال في جموع همجية خربت ديارنا وأذلت أعناق قومنا وأغلقت أبواب معابدك واغتصبت عرشنا، هبني معونتك أصد جيوشهم وأطارد فلولهم وأطهر الوادي من قوتهم الغاشمة فلا يحكمه إلا أبناؤك السمر ولا يذكر فيه إلا اسمك.
وسكت الملك، وانتظر برهة، ثم استغرق مرة أخرى في صلاة طويلة حارة مسندا جبينه إلى قدمي التمثال، ثم رفع رأسه في وجل حتى بصر بالوجه النبيل المعبود يكتنفه الجلال والصمت كأنه ستار الغد يخبئ وراءه أحداث القضاء. •••
وطلع الملك على قومه وقد وضع التاج الأبيض على جبينه المتفصد بالعرق فسجدوا له جميعا، وتقدم منه الأمير كاموس بصولجانه فأخذه بيمناه وقال بصوت جهوري: يا رجال طيبة المجيدة، لعل عدونا في هذه الساعة التي أحدثكم فيها يحشد جيشه على حدود مملكتنا ليقتحم علينا ديارنا، فهلموا جميعا إلى الكفاح، وليكن شعار كل واحد منكم أن يبذل قصارى جهده في عمله، كي يقوى جيشنا على الثبات والقتال، ولقد صليت للرب وسألته العون، وليس الرب بناس وطنه وأبناءه!
فصاح الجميع بصوت اهتزت له جدران المعبد: «أيد الرب مليكنا سيكننرع ...» وهم الملك بالمسير فدنا منه كاهن آمون وقال: هل لمولاي أن ينتظر قليلا لأقدم إليه هدية مقدسة؟
فقال الملك مبتسما: كما تشاء يا صاحب القداسة!
وأشار الكاهن إلى كاهنين إشارة خاصة؛ فمضيا إلى حجرة المخلفات، وعادا يحملان صندوقا صغيرا من الذهب تطلعت إليه الأبصار جميعا، واقترب منهما نوفر آمون وفتح الصندوق في أناة ورفق، فرأت الأعين بداخله تاجا فرعونيا، تاج مصر المزدوج، فاتسعت الأعين دهشة وتبودلت النظرات، وحنى نوفر آمون هامته لمولاه وقال بصوت متهدج: مولاي هذا تاج الملك تيمايوس.
فتصايح القوم قائلين: «تاج الملك تيمايوس ...» فقال نوفر آمون بحماس وقوة: نعم يا مولاي، هذا تاج تيمايوس آخر فرعون حكم مصر المتحدة وبلاد النوبة قبل غزو الرعاة لوطننا، وقد شاءت حكمة الرب أن تحل نقمته ببلادنا في عهده، فسقط هذا التاج الكريم عن رأسه بعد أن أبلى في الدفاع أشد البلاء، ففقد العرش وصاحبه واحتفظ بشرفه، لذلك رفعه أسلافنا إلى هذا المعبد ليأخذ مكانه بين المخلفات المقدسة، ولقد مات صاحبه بطلا شهيدا فهو جدير برأسك الكبير: وإني أتوجك به أيها الملك سيكننرع، يا ابن توتيشيري الأم المقدسة، وأنادي بك ملكا على مصر العليا والسفلى وبلاد النوبة، وأدعوك باسم الرب آمون وذكرى تيمايوس وأهل الجنوب أن تنفر إلى قتال عدوك وتحرير وادي النيل الطاهر المحبوب!
ودنا الكاهن الأكبر من الملك وخلع عن رأسه تاج مصر الأبيض وسلمه إلى أحد رجال الكهنوت، ثم رفع تاج مصر المزدوج بين التهليل والتكبير ووضعه على رأسه المجعد، ثم صاح هاتفا: «ليحيى سيكننرع فرعون مصر». فردد القوم هتافه، وهرع كاهن إلى خارج المعبد وهتف لفرعون مصر سيكننرع، فردد الطيبيون الهتاف في حماسة مستعرة، ثم هتف بقتال الرعاة وأجابه القوم بأصوات كالرعد، وقد أيقنوا بما كانوا منه في شك.
وحيا فرعون الكهنة، ثم اتجه نحو باب المعبد تتبعه أسرته ورجال قصره ووجوه المملكة الجنوبية.
7
وعلى أثر وصول فرعون إلى قصره دعا إلى الاجتماع به رئيس وزرائه وكبير الكهنة ورئيس حجاب القصر وقائدي الجيش والأسطول وقال لهم: إن سفينة خيان تسبح به نحو الشمال سريعا، وسنتعرض للغزو على أثر اجتيازه حدود الجنوب، فينبغي ألا نضيع ساعة من وقتنا.
والتفت إلى قائد الأسطول كاف وقال: أرجو أن تجد مهمتك يسيرة على سطح الماء، فالرعاة تلاميذنا في القتال في السفن، هيئ سفنك للحرب وأبحر بها نحو الشمال!
فأدى القائد كاف التحية لمولاه وفارق المكان على عجل، وتحول الملك إلى القائد بيبي، وقال: أيها القائد بيبي، إن قوة جيشنا الأساسية معسكرة في طيبة، فسر بها إلى الشمال، وسألحق بك على رأس قوة من حرسي الأشداء، وإني أدعو الرب أن يثبت جنودي أنهم جديرون بالمهمة الملقاة على عاتقهم، ولا تنس أيها القائد أن تبعث برسول إلى بانوبوليس على حدودنا الشمالية لينبه الحامية إلى الخطر المحدق بها حتى لا تؤخذ على غرة.
فأدى القائد التحية لمولاه ومضى، وجعل الملك يقلب وجهه في وجوه رئيس الوزراء وكبير الكهنة ورئيس الحجاب ثم قال لهم: سيلقى على كواهلكم أيها السادة واجب الدفاع عن مؤخرة جيشنا، فليقم كل منكم بواجبه بما أعهده فيكم من الكفاية والإخلاص.
فقالوا في صوت واحد: كلنا فداء للملك ولطيبة.
فقال سيكننرع: يا نوفر آمون ابعث رجالك إلى القرى والبلدان يحثون قومي على الجهاد، وأنت يا أوسر آمون ادع حكام الأقاليم وأوصهم أن يجندوا الأشداء والقادرين من شعبي، أما أنت يا حور فإني أعهد إليك بآل بيتي ولتكن لابني كاموس كما كنت لي.
وحيا الملك رجاله وغادر المكان قاصدا إلى جناحه الخاص ليودع أسرته قبل الرحيل، وأرسل في طلبهم جميعا فجاءت الملكة أحوتبي والملكة توتيشيري والأمير كاموس وزوجه الأميرة ستكيموس وابنها الصغير أحمس وابنتهما الصغيرة الأميرة نيفرتاري، فاستقبلهم استقبالا وديا وأجلسهم حوله وقد شعر بالحنان يتدفق من بين أضلعه، ومضى يقلب عينيه في أحب الوجوه إلى قلبه وكأنه يرى وجها واحدا يتكرر لا يفرق بينها سوى العمر، فتوتيشيري في الستين، وأحوتبي مثل زوجها في الأربعين، أما كاموس وستكيموس ففي الخامسة والعشرين، وأما أحمس فلم يجاوز العاشرة، وأخته نيفرتاري دون ذلك بعامين، ولكن ما من وجه فيهم إلا وتتألق فيه هاتان العينان السوداوان وذلك الفم الذي يميل إلى البروز أعلاه، وتلك السمرة الخمرية التي تضفي عليه صحة وحسنا، وارتسمت على فم الملك العريض ابتسامة وقال: تعالوا نجلس معا ساعة قبيل الرحيل!
فقالت توتيشيري: إني أدعو الرب يا بني أن يكون ذهابا إلى النصر المبين.
فقال سيكننرع: إني كبير الأمل في النصر يا أماه!
ورأى الملك ولي العهد في لباس الحرب فأدرك أنه يظن نفسه خارجا معه فسأله متجاهلا: لماذا ترتدي هذا اللباس؟
فبدت الدهشة على وجه الشاب كأنه لم يكن يتوقع هذا السؤال، وقال باستغراب: للسبب الذي من أجله ترتديه أنت يا مولاي. - هل جاءك أمري بذلك؟ - ظننت المسألة لا تحتاج إلى أمر يا مولاي. - أخطأت يا كاموس.
فبدا الفزع على وجه الشاب وقال: هل أحرم شرف خوض معركة طيبة يا مولاي؟ - إن ميادين القتال لا تستأثر بالشرف دون الميادين الأخرى، وستبقى على عرشي يا كاموس لتسهر على سعادة مملكتنا وتمد جيشنا بالرجال والمئونة.
فامتقع وجه الشاب، وحنى رأسه كأنما أثقله أمر الملك، وأرادت توتيشيري أن تخفف عنه فقالت برقة: كاموس ... إن القيام بأعباء الحكم ليس بالعمل الهين الذي يخزي إنسانا وهو عمل جدير بمثلك.
وهنا وضع الملك يده على منكب ولي عهده وقال: أصغ إلي يا كاموس إننا مقبلون على حرب ضروس نرجو أن نفوز فيها بعون الرب، ونحرر بلادنا المحبوبة مما تقيد به من الأغلال، على أنه من الحكمة أن نقدر جميع العواقب، وقد قال حكيمنا قاقمنا: «لا تضع كل أسهمك في جعبة واحدة.»
وسكت الملك عن الكلام، فساد الصمت ولم ينبس أحد بكلمة حتى استأنف الملك قائلا: فإذا شاءت حكمة الرب أن يبوء جهادنا بخذلان فما ينبغي أن ينقطع جهادنا قط .. أصغوا إلي جميعا، إذا سقط سيكننرع فلا تيئسوا، فسيخلف كاموس أباه، وإذا سقط كاموس خلفه أحمس الصغير، وإذا فني جيشنا هذا فمصر ملأى بالرجال، وإن تساقط بطلمايس فلتحارب كبتوس، وإن تقتحم طيبة فلتثب أمبوس وسيين وبيجة، أو يقع الجنوب في أيدي الرعاة فهنالك النوبة لنا فيها رجال أشداء مخلصون، وستتولى توتيشيري الأبناء بما تولت به الآباء والأجداد، فلا أحذركم إلا من عدو واحد هو اليأس!
وكان لكلام الملك وقع شديد في نفوس الجميع حتى أحمس الصغير ونيفرتاري وجما وعلاهما الارتباك، وعجبا كيف يحدثهما جدهما بهذه اللهجة الجدية أول مرة، واغرورقت عينا الملكة أحوتبي بالدموع، فتكدر سيكننرع وقال بلهجة لم تخل من عتاب: أتبكين يا أحوتبي .. انظري إلى شجاعة أمنا توتيشيري.
ثم نظر إلى أحمس وكان يكلف به كلفا عظيما، وكان الغلام صورة صادقة من جده، فجذبه إليه وسأله مبتسما: من العدو الذي يجب أن نحذره يا أحمس؟
فقال الغلام وهو لا يفقه معنى ما يقول: اليأس.
فتضاحك الملك وقبله مرة أخرى: ثم قام واقفا وقال برقة: هلموا نتعانق!
ثم عانقهم جميعا مبتدئا بتوتيشيري وزوجه أحوتبي وستكيموس زوج ابنه، ثم أحمس ونيفرتاري: ثم انعطف نحو كاموس، وكان واقفا في جمود واستسلام، فمد له يده فشد عليها بقوة، ثم انحنى عليها فقبلها وقال بصوت خافت: فلتصحبك السلامة يا أبتاه !
ولوح لهم الملك بيده وبرح المكان بقدمين ثابتتين وقد تجلى على وجهه العزم والبأس. •••
وخرج الملك في رأس قوة من حرسه والتقى في ميدان القصر بجموع شعب طيبة المتحمس، فخال أهل طيبة جميعا رجالا ونساء وأطفالا قد انتقلوا إلى ميدان القصر يحيون مليكهم ويهتفون لمن خرج باغيا تحرير الوادي، وشق سيكننرع طريقه بين موجهم المتلاطم قاصدا باب طيبة الشمالي، وهناك وجد الكهنة والوزراء والحجاب والأعيان وكبار الموظفين في توديعه، فسجدوا لموكبه وهتفوا باسمه طويلا، وكان آخر صوت سمعه الملك صوت نوفر وهو يقول له: سأستقبلك يا مولاي بعد حين ورأسك مكلل بالغار .. اللهم استجب.
واجتاز الملك باب طيبة العظيم في طريقه إلى الشمال تاركا وراءه أسوار المدينة العظيمة، وكان عظيم التأثر لما رأى ولما سمع، وقد شعر بخطر العمل الكبير المقبل عليه، وكيف أنه ينطوي على إسعاد شعبه أو إشقائه إلى أمد طويل، لقد وضع مصير القوم في قبضة يده وواجه المخاطر المروعة التي وقف منها أبوه موقف المتمهل المتريث، ولم يكن سيكننرع من الحكام المترفين ولكن كان خلقه ينطوي على الصلابة والبسالة والتقشف والتدين، وكان عظيم الأمل قوي الثقة بقومه، وقد لحق جيشه بالمعسكر في بلدة شنهور شمال طيبة قبل المساء واستقبله القائد بيبي على رأس قواد الفرق، وكان مضعضع الحواس لما أصابه من إرهاق ووصب، ولم تغب حالته عن عيني الملك، فقال له: أراك متعبا أيها القائد.
فسر القائد بملاحظة مولاه وقال: استطعنا يا مولاي أن نجمع هنا حاميات هرمنسيس وهابو وطيبة، فكونت جيشا يربو عدده على عشرين ألف مقاتل.
وسار الملك بعجلته بين خيام الجنود فسرت في نفوسهم موجة فرح وحماس، وتردد الهتاف له في المعسكر شمال بلدة شنهور، ثم كر راجعا إلى الخيمة الملكية وفي صحبته القائد بيبي، وكان الملك مطمئنا إلى جيشه الذي بذل أجمل عهود شبابه في تدريبه فقال: جيشنا باسل .. فكيف ترى شعور القواد؟ - كلهم متفائلون يا مولاي ومتحمسون للحرب، وما من واحد منهم إلا يبدي عظيم إعجابه بفرقة القسي ذات الشهرة التاريخية .
فقال الملك: إني أشارككم هذا الإعجاب، والآن أصغ إلي، لا يجوز أن نضيع من الوقت إلا ما تستلزمه ضرورة إراحة هذا العدد من الجنود، فإنه ينبغي أن نلقى عدونا - إذا هاجمنا حقا - في الوادي المنحدر ما بين بانوبوليس وبطلوس، فهو واد شديد الوعورة ضيق المسالك، والميزة الحربية فيه لمن يسيطر على عاليه، ومجرى النيل فيه ضيق فيمكن أن نساعد أسطولنا في أثناء اشتباكه مع العدو! - سنشرع في المسير يا مولاي قبيل الفجر.
فأومأ برأسه دلالة على الموافقة وقال: ينبغي أن نبلغ بانوبوليس ونعسكر في واديها قبل أن يعود خيان إلى منف.
ثم دعا الملك قواده إلى الاجتماع به.
8
وتحرك الجيش قبيل الفجر يسبقه إلى أهدافه قوة الكشافة، وتتقدمه فرقة العجلات المكونة من مائتي عجلة على رأسها فرعون، وتتبعها فرقة الرماح، ثم فرقة القسي والنبال، ثم فرقة الأسلحة الصغيرة، وعربات المؤن والسلاح والخيام، وأبحر الأسطول في الوقت نفسه إلى الشمال، وكان الظلام شديدا لا يخفف من سواده سوى شعاع النجوم الساهرة وأضواء المشاعل، فبلغوا مدينة قسي فهبت جميعا لاستقبال فرعون وجيشه، وهرع الفلاحون من أقصى الحقول يحملون سعف النخل والرياحين ودنان الجعة، وساروا مع الجيش يهتفون له ويهدون إلى الجنود الأزهار وأكواب الجعة الشهية، ولم يتركوه حتى أوغل في المسير، وبهتت ظلمة الليل وانسكب في الأفق الشرقي نور الفجر الأزرق الهادئ يتقدم بشائر النور، ثم أسفر الصبح وغمر الضوء الدنيا والجيش يجد في السير حتى بلغ كتوت قبيل العصر، فاستراح فيها وقتا بين المستقبلين من أهلها المتحمسين، ورأى الملك أن يكون مبيت الجيوش في تنثيرا، فأصدر أمره باستئناف المسير، وجد الجيش حتى بلغ تنثيرا عند سدول الظلام وهنالك استسلم للنوم العميق.
وكان يستيقظ قبل الفجر ويضرب في الأرض حتى حلول الظلام يوما بعد يوم حتى عسكر في أبيدوس، وكانت الكشافة تجول شمال المدينة، فرأى ضباط من رجالها عن بعد سحيق أقواما تضرب في الأرض، فعدا على رأس ثلة من رجاله نحو القادمين، وكان كلما هبط الوادي تبين له الأمر فرأى خطوطا متعرجة من الفلاحين يسيرون جماعات يحملون ما خف من متاعهم، ومنهم من يسوق غنما أو ثيرانا يدل منظرهم على البؤس والتشرد، فعجب الرجل واعترض سبيل المتقدمين منهم وهم بسؤالهم، ولكن رجلا منهم صاح به: الغوث أيها الجندي .. أدركونا فقد هلكنا!
فصاح الضابط منزعجا: تطلبون الغوث؟ .. ماذا يفزعكم؟
فأجاب كثيرون منهم في نفس واحد: الرعاة ... الرعاة!
وقال الرجل الأول: نحن أهالي بانوبوليس وبطلمايس، جاءنا جندي من جنود الحدود وقال لنا: إن جيش الرعاة يهاجم الحدود بقوات عظيمة لن تلبث أن تتدفق إلى بلدتنا ونصحنا بالهجرة إلى الشمال، فساد الفزع البلد والحقول وهرعنا جميعا إلى ديارنا ننادي النساء والأطفال ونحمل ما يخف حمله، ثم تركنا البلاد وراءنا فارين، فما ذقنا الراحة منذ صباح الأمس!
وكان يبدو على وجوههم الإعياء والخور فقال لهم الضابط: استريحوا قليلا ثم جدوا في السير، فعما قليل ينقلب هذا الوادي الساكن ميدانا للقتال.
ولوى الرجل عنان فرسه وانطلق به إلى خيمة القائد في أبيدوس، وأبلغه الخبر، وقام بيبي من فوره إلى الملك وقص عليه الخبر، فتلقاه بدهشة وانزعاج وصاح: كيف وقع هذا .. هل بلغ خيان منف في هذا الزمن اليسير؟
فقال بيبي بحنق: لا شك يا مولاي في أن عدونا حشد جيشه على حدودنا قبل أن يبعث إلينا برسوله، فهو كان يتربص بنا، وما عرض علينا مطالبه إلا وهو يرجو أن نرفضها، فلما اجتاز خيان حدودنا عائدا أصدر أمره للجيوش المحتشدة بالهجوم، هذا هو التفسير المعقول لذلك الهجوم السريع العنيف!
فاصفر وجه الملك سيكننرع غضبا وحنقا وقال: إذن سقطت بانوبوليس وبطلمايس. - نعم وا أسفاه يا مولاي، ولا يجدي في الدفاع عنهما بسالة حاميتنا قليلة العدد.
فهز الملك رأسه أسفا وقال: خسرنا أوفق ميدان قتال لنا. - لن يؤثر هذا في شجاعة جنودنا الفائقة!
وفكر الملك مليا ثم قال لقائد جيوشه: ينبغي أن نخلي أبيدوس وتنثيرا إخلاء تاما.
فبدا التساؤل على وجه بيبي فقال الملك: لن ندافع عن هذه المدن.
فأدرك بيبي ما يعنيه مولاه. - أيريد مولاي أن يلقى العدو في وادي كبتوس؟ - هذا ما أريده، فهنالك تمكن مهاجمة العدو من عدة جهات، وتوجد في أنحاء الوادي حصون طبيعية، وسأترك له في المدن التي نخليها عصابات تكر عليه دون أن تشتبك معه في قتال فتعطل تقدمه حتى نقوي مراكزنا، هيا يا بيبي ابعث برسلك إلى المدن ليخلوها، ومر القواد بالتقهقر في الحال، ولا تضع وقتا فإن حبل الأرجوحة التي يترجح فيها مصير قومنا أمسى أحد طرفيه في يد أبوفيس.
9
وصاح المنادي في أهالي أبيدوس وبرفا وتنثيرا أن احملوا متاعكم وأموالكم وسيروا إلى الجنوب، فقد أمست دياركم ميدان قتال لا يعرف الرحمة، وكان القوم يعرفون من الرعاة وما أعمالهم، فتولاهم الخوف وبادروا إلى أموالهم وأمتعتهم يكدسون بها العربات تجرها الثيران، وإلى البقر والأغنام يسوقونها سوق المتعجل، ولموا شعثهم وهرعوا نحو الجنوب تاركين أراضيهم وديارهم، وكأنما تقطع أوصالهم من الحزن والأسف، وكان كلما تقدم بهم المسير ألقوا بأبصارهم المظلمة إلى الوراء تنازعهم قلوبهم إلى أوطانهم، ثم تفزعهم المخاوف فيجدون سراعا إلى المجاهل التي تنتظرهم، ومروا في طريقهم ببعض فرق الجيش فخفقت قلوبهم في صدورهم وداعب أحلامهم الأليمة أمل، وافترت ثغورهم عن ابتسامة فرح التمعت في جو أحزانهم كما تضيء أشعة الشمس خلل ثغرة بين السحب انقشعت عنها لحظة في يوم أدكن السماء، ولوحوا بأيديهم وصاح الكثيرون: «أراضينا وديعة مسلوبة .. ردوها إلينا أيها البواسل!»
كان فرعون في تلك الأثناء يشرف على توزيع قواته في وادي كبتوس ويرمق بعينين أسيفتين جموع المهاجرين الذين لا ينقطع تيارهم المتدفق، وكان يشاركهم آلامهم كأنه واحد منهم، ويضاعف في ألمه ما يحمله الهواء إلى أذنيه من هتافهم باسمه ودعائهم له.
وكان القائد بيبي على اتصال دائم برجال الكشافة فيتلقى الأخبار منهم ثم يرفعها إلى مولاه، فبلغه هجوم العدو على أبيدوس ومقاومة حاميتها الصغيرة مقاومة عنيدة أتت على آخر رجل منهم، وغداة اليوم التالي حمل الرسول نبأ هجوم الهكسوس على مدينة برفا وما احتال بها الرجال المدافعون عنها من فنون الدفاع والمشاكسة لكي يعطلوا زحف العدو ما وسعتهم الحيلة ، أما تنثيرا فقد ثبتت حاميتها للعدو الزاحف ساعات طوالا حتى اضطر أن يهاجمها بقوات كثيرة كأنما يهاجم جيشا كامل العدد والعدة، ثم قرر الكشافة وبعض الضباط الذين نجوا من حاميات المدن المغزوة أن قوات العدو يترجح عددها بين خمسين ألفا وسبعين، أما فرقة العجلات فلا تقل عن ألف عجلة، وقد تلقى الملك النبأ الأخير بغرابة وجزع؛ لأنه لم يكن هو - ولا أحد من جيشه - يتوقع أن يملك جيش أبوفيس هذا العدد الضخم من العجلات، وقال لقائده: كيف تقاوم فرقة عجلاتنا هذا العدد الهائل من العجلات؟
وكان بيبي في حيرة من أمره، وكان يلقي على نفسه هذا السؤال فقال لمولاه: ستنهض فرقة القسي بواجبها يا مولاي.
فهز الملك رأسه دهشة وقال: لم تكن العجلات من آلات الحرب لدى الرعاة، فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟ - والمؤلم يا مولاي أن تكون الأيدي التي صنعتها مصرية! - حقا إنه لمؤلم .. ولكن هل تنفع القسي في مقاومة سيل من العجلات؟ - إن جنودنا يا مولاي لا يخطئون أهدافهم، وسيرى أبوفيس غدا أن الغلبة لسواعدهم على كثرة عجلاته!
وفي ذلك المساء خلا فرعون إلى نفسه وكان يشعر بضيق وانقباض، وصلى للرب صلاة حارة طويلة ضارعا إليه أن يشرح صدره، ويثبت قلبه، ويكتب له ولجيشه النصر.
وأحس الجميع دنو العدو، فضاعفوا من يقظتهم، وناموا ليلتهم جزعين يرجون أن يطلع الصبح ليلقوا بأنفسهم في معركة الموت.
10
واستيقظ الجيش قبل بزوغ الفجر بزمن غير يسير، وأخذ الرجال الأشداء من حملة القسي أماكنهم الحصينة في الميدان، يؤيد كل جماعة منهم قوة صغيرة من العجلات، ووقف سيكننرع أمام خيمته مع قائده بيبي وسط هالة من رجال حرسه الأشداء، وكان يقول لهم: «ليس من الحكمة أن نقذف بفرقة العجلات لمواجهة قوات لا قبل لها بها، ولكن هذه العجلات المبعثرة ستعاون رماتنا المحصنين على إصابة فرسان العدو وجياده، وليس من شك في أن أبوفيس سيبدأ هجومه بالعجلات، لأن فرق الجيش الأخرى لا تلتقي حتى يفصل في معركة العجلات، فليكن همنا موجها إلى إصابة عجلات الرعاة بالعجز، حتى نمكن لفرق جيشنا التي لا تقاوم بخوض المعركة والقضاء على عدونا.»
وكانت فكرة القضاء على عجلات العدو حلمه الذي يهيم به، وكان يدعو ربه آمون في صدق ورجاء قائلا: أيها الرب المعبود، اقض لنا بالغلبة على هذه العقبة ... وانصر أبناءك المؤمنين، فلئن تخذلهم اليوم لن يذكر اسمك في مثواك المكرم، وتغلق أبواب معبدك المطهر!
وركب الملك عجلته، وفعل القائد بيبي مثله، وأحاط بهما الحرس الفرعوني، ووقف خلفهما مائة عجلة حربية، ثم تقدمت فرقة الرماح ورصت صفوفها إلى يمين الملك وإلى شماله، وكان الجميع ينتظر أن يدعى إلى القتال بعد أن تقوم قوات الرماة والعجلات التي تؤيدها بواجبها الأول.
وحين أخذت تبدو بشائر النور، جاء رجل من الكشافة وأبلغ الملك أن الأسطول المصري اشتبك مع أسطول الرعاة في معركة حامية شمال كبتوس، فقال الملك لقائد جيشه:
جنود وراء مواقعنا.
فقال القائد بيبي: إن الرعاة يا مولاي لا يتقنون فن القتال على سطوح السفن، وسيبتلع النيل المقدس جثث جنودهم، ويبتلع أمل أبوفيس في حصارنا.
كانت ثقة سيكننرع في رجال أسطول طيبة عظيمة، ولكنه أوصى قائد الكشافة أن يكون على اتصال دائم بميدان المعركة البحرية، وجعل الظلام ينقشع والصبح يسفر، والميدان يتجلى للأعين الفاحصة، فرأى سيكننرع جنوده الرماة والقسي في أيديهم، والعجلات المعدودة تتحفز إلى جانبهم للقتال، ورأى في الناحية الأخرى جيش الرعاة ينتشر انتشار الغبار الثائر، وكان العدو ينتظر سفور الصبح، فما عتمت أن تحركت قوات العجلات استعدادا للمعركة، ثم انقضت قوات منها على بعض الأماكن المحصنة الأمامية فتطايرت السهام وصهلت الخيل وصرخ المتقاتلون، وتدافعت قوات أخرى، فاشتبكت مع الرماة المصريين وبعض العجلات المصرية في قتال عنيف، فصاح سيكننرع: الآن تبدأ معركة طيبة.
فقال بيبي بصوت قوي النبرات: نعم يا مولاي، وقد بدأ جنودنا بدءا حسنا.
وصوبت الأبصار جميعا إلى الميدان تشاهد سير المعركة، فرأوا عجلات الرعاة تهاجم صفا ثم تتفرق جماعات شتى، وتهجم على الرماة بعنف وسرعة، وتنقض على ما يعترض لها من العجلات المصرية، وكان القتلى يسقطون من الجانبين سراعا في استبسال وشجاعة، وبدت قوة الرماة وشدة بأسهم، فكانوا يثبتون للهاجمين ويصيدون فرسانهم وجيادهم ويفتكون بهم فتكا ذريعا، حتى صاح بيبي قائلا: لو دام القتال على هذا النحو، فسنتفوق على فرقة العجلات في أيام قلائل.
على أن قوات الرعاة كانت تهجم وتقاتل، ثم ترتد إلى معسكرها وتنقض غيرها كي لا تنهك قواها، على حين كان المصريون يدافعون دون سكوت أو راحة وهم ثابتون في مراكزهم، وكان سيكننرع كلما رأى فارسا من فرسانه يسقط أو عجلة من عجلاته تتعطل يصيح غاضبا: وا أسفاه، ويدرك أتم إدراك ما ينزل بجيشه من الخسارة، وأخذ عدد الوحدات التي يهجم بها الرعاة يتضاعف، كانوا يهجمون ثلاثا ثلاثا، ثم هجموا ستا ستا، ثم عشرا عشرا، واشتد القتال وحمي وطيسه، واطرد عدد عجلات الهكسوس في الزيادة، حتى ساور سيكننرع القلق، وقال لبيبي: لا بد من مواجهة زيادة قوات العدو بما يعيد إلى الميدان اتزانه. - ولكن يا مولاي ينبغي الاحتفاظ بعجلاتنا الاحتياطية حتى آخر الموقعة. - ألا ترى أن العدو يكر علينا كل فترة يسيرة بقوات جديدة متحفزة للقتال؟ - إني أدرك الخطة يا مولاي، ولكننا لا يمكن أن نجاريه فيها لوفرة عجلاته الاحتياطية وقلة عجلاتنا!
فصر الملك بأسنانه وقال: لم نكن نتوقع قط أن تكون له هذه الغلبة في العجلات، ومهما يكن فلا يمكنني أن أترك الرماة بلا نجدة، فليس في جيشي رماة سواهم.
وأمر الملك بهجوم عشرين عجلة في خمس وحدات، فانقضت كالنسور الكواسر، وبعثت في الميدان حياة جديدة، ولكن أبوفيس أراد أن يرد على حملة سيكننرع الجديدة ردا قاسيا، فأرسل إلى الميدان عشرين وحدة، قوام كل وحدة خمس عجلات، فزلزلت الأرض بصلصلتها، وملأت الفراغ بجبال من غبار ثائر، واستطارت المعركة وجرت الدماء كالنهر، وتقدم الوقت وهي لا تهدأ أو تخف وطأتها حتى توسطت الشمس كبد السماء، وجاء بعد ذلك رجال الكشافة وآذنوا الملك بارتداد أسطول الرعاة بعد أن فقد في الأسر سفينتين، وغرقت له سفينة أخرى، فجاء نبأ النصر في وقته ليشد من عزيمة المصريين ويثبت قلوبهم، وأذاعه الضباط في الفرق المقاتلة والتي تنتظر أن يجيء دورها في الكفاح، فكان له صدى فرح في الصدور، وفورة حماس في القلوب، ولكن صك ذاك الخبر آذان أبوفيس كذلك، فاستولى عليه الغضب، وغير خطته البطيئة في الحال، وأصدر أمره إلى قوة العجلات بالهجوم والانتقام، ورأى سيكننرع سيلا عرمرما من العجلات ينقض على رماته البواسل من كل مكان، وينشب فيهم أظافره الحادة، وارتاع الملك أيما ارتياع، وصاح قائلا بغضب شديد: إن قواتنا التي نهكها النضال الدائم، لا يمكن أن تثبت وحدها لهذا السيل من العجلات!
ثم التفت إلى قائد جيشه، وقال بعزم وإصرار: سنخوض معركة فاصلة بالقوات التي بين أيدينا، فمر ضباطنا البواسل بالهجوم بفرقهم، وبلغهم رجائي أن يقوم كل بواجبه جنديا من جنود طيبة الخالدة!
وكان سيكننرع يدرك الهول الذي ينتظره وجيشه، ولكنه كان رجلا باسلا عظيم الإيمان، فلم يتردد لحظة ونظر إلى السماء وقال بصوت صافي النبرات: «أيها الرب آمون لا تنس أبناءك المخلصين»، ثم أصدر أمره إلى قوة العجلات المحيطة به بالهجوم، واندفع أمامها ليلقى عدوه.
وبدأت معركة من أشد المعارك هولا، علا فيها الصراخ والصهيل وتطايرت الخوذ، وتساقطت الرءوس، وجرت الدماء ولكن لم تجد بسالة المصريين شيئا في مقاومة العجلات السريعة المدرعة، ففتكت بهم فتكا ذريعا، وحصدتهم حصدا كالهشيم، وقاتل سيكننرع قتالا مجيدا غير يائس ولا متخاذل، وبدا ساعة كأنه رب الموت يختار له من يشاء من عدوه. واستمرت المعركة حتى الأصيل، وهناك بدت الغلبة في صف الرعاة، فتحفزوا ليضربوا الضربة القاضية، وهجمت عجلة كبيرة تحرسها قوة عظيمة يقودها فارس شديد البأس طويل اللحية ناصع البياض على عجلة سيكننرع، وشقت إليه الصفوف ببسالة خارقة، وأدرك الملك غرض الفارس الجسور، فهرع نحوه حتى تواجها، ثم تبادلا ضربتين هائلتين برمحيهما، فتلقى كل منهما الضربة الموجهة إليه بترسه وتحفز للقتال، ورأى سيكننرع غريمه يسل سيفه، فعلم أنه لم يقنع بتجربة حظه، فسل سيفه واندفع نحوه، وفي تلك اللحظة الرهيبة استقر سهم في ساعده، فارتعشت يده وسقط منها السيف، وصاح كثير من حرس الملك: «حذار يا مولاي .. حذار» ولكن الغريم كان أسرع إليه من الحذر، فوجه إلى عنقه ضربة هائلة بأقصى قوته، فأصابت هدفها، وارتسم على الوجه الأسمر أبلغ الألم، وتوقف مقهورا عن المقاومة، فقبض عدوه بيمناه على رمح ورشقه بقوة، فاستقر في جانب الملك الأيسر، وترنح على أثره ذاهلا وسقط على الأرض، وتعالى الصياح من كل جانب، فقال المصريون: «رباه .. لقد سقط الملك .. دافعوا عن مليككم!» وصاح قائد العدو وهو يبتسم ابتسامة الظافر: «أجهزوا على المتمرد العاصي، ولا تبقوا على أحد من رجاله»، فاشتد القتال حول جسد الملك الملقى، وانقض عليه فارس حقود، ورفع بلطة حادة، وهوى بها على رأسه فأطاح عنه تاج مصر المزدوج، وتفجر منه الدم كالينبوع، وثنى بضربة أخرى فوق العين اليمنى، فحطمت العظام وتناثر المخ في حالة بشعة، وأراد كثيرون أن يصيبوا من تلك المأدبة الدموية ما يشفون به غلهم، فتكالبوا على الجثة ووجهوا إليها طعنات مجنونة قاسية، أصابت العينين والفم والأنف والخدين والصدر، فمزقت الجثة وأغرقتها في بحر من الدماء!
وكان بيبي يقاتل على رأس من بقي من جنوده، مدافعا قوات العدو المتدفقة على البقعة التي سقط فيها مولاه، واستيأس القوم في القتال، وهانت عليهم الحياة، وعزموا جميعا على الاستشهاد في المكان الذي ارتوى بدماء مليكهم الباسل، فما زالوا يسقطون رجلا إثر رجل حتى أدركهم المساء، ولبس الكون الحداد، فكف الفريقان عن القتال، وقد نهكهم التعب وأثخنتهم الجراح.
11
وخرج الجنود بالمشاعل يبحثون عن قتلاهم وجرحاهم، وكان القائد بيبي واقفا إلى جوار عجلته بعد أن نال الإعياء منه كل منال، يتجه قلبه إلى الجثة التي خضبت دماؤها الزكية الميدان، فسمع صوت قائد يقول: يا للعجب .. كيف انتهت الموقعة العظيمة بمثل هذه السرعة؟! من يصدق أننا فقدنا جل قواتنا في نهار واحد؟! كيف أمكن التغلب على جنود طيبة الأشداء؟!
فقال له صوت آخر كان من الإعياء كالحشرجة : إنها العجلات التي لا تقاوم، لقد حطمت آمال طيبة جميعا.
فناداهم القائد بيبي قائلا: أيها الجنود .. هل أديتم ما عليكم نحو جثة سيكننرع؟ .. هلموا نبحث عنها بين الجثث!
فسرت قشعريرة في نفوسهم المتهالكة .. وأخذ كل منهم مشعلا وتبعوا بيبي صامتين، يعقد ألسنتهم حزن عميق، وتفرقوا في البقعة التي سقط فيها الملك، تصك آذانهم أنات الجرحى وهذيان المحمومين، وكان بيبي لا يكاد يرى ما بين يديه من الحزن والألم، ولا يكاد يصدق أنه يبحث حقا عن جثة سيكننرع، ويكبر عليه أن يسلم بأن موقعة طيبة قد انتهت هذه النهاية الأسيفة، وكان يقول والدموع تطفر من عينيه: «اشهدي يا أرض كبتوس واعجبي ... إننا نبحث عن جثة سيكننرع بين كثبانك .. ألا رفقا بها، ولتكوني فراشا وثيرا لأضلعها المصابة، ألم تسقط فداء لك ولأرض طيبة! .. واها يا سيدي .. من لطيبة بعدك؟ .. من لنا غيرك؟ ...» وظل في حيرته قليلا ثم سمع صوتا يصيح قائلا: «أيها الرفاق تعالوا .. هاكم جثة مولانا»، فجرى صوبه والمشعل في يده، فزعت عيناه من الهول الذي ستراه، ولما بلغ مكان الجثة فرت من فمه صرخة مدوية، امتزج فيها الألم بالغضب، رأى ملك طيبة كتلة مشوهة من لحم ممزق وعظام بارزة ودم مسفوح والتاج ملقى إلى جانبه، فصاح غاضبا: «يا للغربان الدنية .. لقد فعلوا ما قد تفعل الذئاب بجثة الأسد الهصور، ولن يضيرك أن يمزقوا جسدك الطاهر، فقد حييت كما ينبغي لملك من ملوك طيبة أن يحيا، ومت ميتة البطل الباسل ...» وصاح فيمن حوله ممن أذهلهم الحزن: «أحضروا الهودج الملكي، هيا يا نيام» وأتى بعض الضباط بالهودج، واشتركوا جميعا في رفع الجثة ووضعوها عليه، ورفع بيبي تاج مصر المزدوج ووضعه إلى جانب رأس الملك، ثم سجى الجثة، وحملوا الهودج في صمت أليم، وساروا به نحو المعسكر المهيض الجناح، ووضعوه في الخيمة التي فقدت حاميها وسيدها إلى الأبد .. وكان جميع القواد والضباط الذين نجوا من الموت يقفون حول الهودج منكسي الأذقان، ترهقهم كآبة، ويغشى أبصارهم حزن عميق، فالتفت إليهم بيبي بصوت قوي النبرات : أفيقوا أيها الرفاق ولا تستسلموا للحزن، فليس الحزن بمعيد سيكننرع إلينا، ولعله ينسينا واجبنا نحو جثته ونحو أسرته ونحو وطننا الذي قتل من أجله، لقد وقعت الواقعة، ولكن المأساة لم تتم فصولها، فينبغي أن نثبت في مراكزنا حتى نؤدي واجبنا كاملا.
فرفع الرجال رءوسهم، وأصروا بأسنانهم صرير العزم والقوة، ونظروا إلى قائدهم نظرة كأنما يعاهدونه بها على الموت، فقال بيبي: إن الشجاع الحق من لا تنسيه الكوارث واجبه، وقد يكون من الحق أن نقر بأننا خسرنا موقعة طيبة، ولكن واجبنا لم ينته بعد، وعلينا أن نثبت أننا أهل للميتة الشريفة، كما كنا للحياة الشريفة.
فصاحوا جميعا قائلين: لقد ضرب لنا مليكنا المثل الأعلى، وسوف نتبع أثره.
فتهلل وجه بيبي وقال بسرور: حييتم من جنود بواسل، والآن أصغوا إلي؛ لم يبق من جيشنا إلا أقله، ولكننا سنخوض المعركة غدا على رءوسهم حتى آخر رجل، وسيكون من جراء قتالنا أن نعوق تقدم أبوفيس حتى تتهيأ فرص النجاة لأسرة سيكننرع، فما دام أفراد هذه الأسرة على قيد الحياة، فالحرب بيننا وبين الرعاة لن تنتهي، وإن سكنت في الميادين إلى حين، سأفارقكم بعض يوم لأؤدي واجبي نحو هذه الجثة ونحو ذريتها الباسلة، ثم أعود إليكم قبل مطلع الفجر، لنموت معا في ميدان القتال.
طلب منهم أن يصلوا جميعا أمام جثة سيكننرع، فجثوا وجثا، واستغرقوا في صلاة حارة، وختم بيبي صلاته قائلا: أيها الرب الرحيم، تغمد مليكنا الباسل برحمتك في جوار أوزوريس، واكتب لنا ميتة سعيدة كميتته، كي نلقاه في العالم الغربي بوجوه لا يخزيها لقاؤه.
ثم نادى بعض الجنود وأمرهم بحمل الهودج إلى السفينة الفرعونية، والتفت نحو رفاقه وقال: أستودعكم الرب وإلى اللقاء القريب.
سار خلف الهودج حتى وضعوه في المقصورة، ثم قال لهم: حين تبلغ بكم السفينة طيبة، سيروا به إلى معبد آمون، وضعوه في البهو المقدس، ولا تجيبوا من يسألكم عنه حتى أوافيكم.
وعاد القائد إلى عجلته، وأمر السائق بالمسير إلى طيبة، فانطلقت بهما تنهب الأرض نهبا. •••
وكانت طيبة تسلم جفونها للنوم ، تحت ستار الظلام الذي يغشى معابدها ومسلاتها وقصورها، في غفلة عما يقع خارج أسوارها من الأحداث الجسام، فاتخذ سبيله رأسا إلى القصر الفرعوني، وأعلن الحرس حضوره، فجاء رئيس الحجاب على عجل، ورد تحيته، وسأله بقلق: ماذا وراءك أيها القائد؟
فقال بيبي بلهجة دلت على الجزع: ستعلم كل شيء في حينه أيها الحاجب الأكبر، والآن استأذن لي في المثول بين يدي ولي العهد!
فغادر الحاجب الحجرة غير مرتاح البال، ثم عاد بعد زمن قصير وهو يقول: «إن صاحب السمو ينتظرك في جناحه الخاص»، فمضى القائد إلى جناح ولي العهد وأدخل عليه في بهو الاستقبال. وسجد بين يديه، وقد أدهشت الزيارة غير المتوقعة الأمير، فلما رفع بيبي رأسه ورأى الأمير وجهه الشاحب، وعينيه الذابلتين، وشفتيه الممتقعتين، ساوره القلق، وسأل كما سأل حاجبه من قبل قائلا: ماذا وراءك أيها القائد بيبي؟ .. فلا بد من أمر جلل دعاك إلى مفارقة الميدان في هذا الوقت؟
فقال القائد بصوت دلت لهجته على الحزن والكآبة: مولاي، ما تزال الآلهة - لأمر تخفى علي حكمته - غاضبة على مصر وأهلها!
فوقع هذا الكلام من نفس الأمير موقع اليد القابضة من العنق، وأدرك ما يدل عليه من الأخبار المحزنة فتساءل في قلق وجزع: هل أصيب جيشنا بكارثة؟ .. هل يطلب والدي مددا؟
فأطرق بيبي وقال بصوت خافت: وا أسفاه يا مولاي، لقد فقدت مصر راعيها مساء هذا اليوم الكئيب.
ففزع الأمير كاموس قائما، وصاح به: هل أصيب والدي حقا؟
فقال بيبي بصوته الثقيل الحزين: سقط مليكنا سيكننرع وهو يقاتل على رأس جنوده قتال الأبطال الجبابرة.
وانطوت تلك الصفحة النبيلة الخالدة من سجل أسرتكم العظيمة.
فقال كاموس وهو يرفع رأسه: رباه .. كيف تمكن لعدوك من ابنك المخلص؟ رباه ما هذه الكارثة التي تنزل بمصر؟ ولكن ما جدوى التشكي؟ ليس هذا وقت البكاء، لقد سقط والدي فينبغي أن أحل محله .. صبرا أيها القائد بيبي حتى أعود إليك في لباسي الحربي.
ولكن القائد بيبي قال بسرعة: لم أجئ إلى هنا يا مولاي لأدعوك إلى القتال ، لقد قضي الأمر وا أسفاه .. فحدجه بنظرة حادة قاسية، وسأله: ماذا تعني؟ - لا فائدة ترجى من القتال! - هل قضي على جشينا الباسل؟
فأطرق بيبي وقال بحزن شديد: خسرنا المعركة الفاصلة التي كنا نرجو أن نحرر بها مصر، وتحطمت قوة جيشنا الأساسية، ولن ترجى فائدة حقة من القتال، ولن نقاتل إلا لكي نفسح لأسرة مليكنا الشهيد وقتا للنجاة. - أتريد أن تقاتل حتى نفر فرار الجبناء، تاركين جنودنا وبلادنا فريسة للعدو؟ - بل فرار الحكماء الذين يقدرون العواقب وينظرون إلى المستقبل البعيد، ويسلمون بالهزيمة إذا وقعت، ثم ينسحبون من الميدان إلى حين، ثم لا يلبثون أن يجمعوا قواهم المبعثرة ويحملوا على عدوهم عودا على بدء .. مولاي تفضل وادع ملكات مصر، وليكن الأمر شورى!
ودعا الأمير كاموس حاجبا، وأرسله في طلب الملكات، ومضى يتمشى جيئة وذهابا يتناوبه الحزن والغضب، والقائد واقف بين يديه لا ينبس بكلمة، وجاءت الملكات: توتيشيري وأحوتبي فستكيموس مسرعات، وحين وقعت أبصارهن على القائد بيبي وقد انحنى لهن تحية، ورأين الكدر مرتسما على وجه كاموس بالرغم من تظاهره بالهدوء، شعرن بخوف واضطراب، وزاغت أبصارهن، وكان كاموس جزعا فدعاهن إلى الجلوس، وقال: سيداتي .. دعوتكن لأقص عليكن أنباء أسيفة!
وتريث لحظة كي لا يفاجئهن، ولكنهن فزعن، وقالت توتيشيري بقلق: ماذا وراءك أيها القائد بيبي؟ .. كيف حال مولانا سيكننرع؟
فقال كاموس بصوت متهدج: جدتاه .. إن قلبك لذكي الشعور، صادق الحدس .. فليثبت الله قلوبكن، ويعنكن على تحمل الخبر الفاجع .. لقد قتل أبي سيكننرع في الميدان، وخسرنا المعركة!
وعطف رأسه عنهن حتى لا يرى آلامهن، وقال وكأنه يحادث نفسه المكلومة: قتل أبي وهزمت جيوشنا، وقضي على قومنا أن يعانوا الآلام جميعا، من أدنى الجنوب إلى أقصى الشمال.
ولم تتمالك توتيشيري فزفرت زفرة حرى كأنما مجت بها فتات كبدها، ووضعت يدها على قلبها وهي تقول: ما أشد جرح هذا القلب العجوز!
أما أحوتبي وستكيموس فقد ثقل رأساهما، ووكفت أعينهما دمعا ساخنا، ولولا وجود القائد بينهما لانتحبتا انتحابا عاليا.
ووقف بيبي وسط ذاك الحزن الشامل صامتا، مجروح الصدر ، مضعضع الحواس جميعا، وكان يحزنه أن يضيع الوقت سدى، وخشي أن تفلت من أسرة مولاه فرصة الهرب فقال: يا ملكات أسرة مولاي كاموس، تجلدن وتصبرن، فإنه وإن كان الخطب أكبر من العزاء، فإن الساعة أولى بالحكمة وعدم الاستسلام للحزن، وأستحلفكن بذكرى مولاي الشهيد أن تكفكفن دموعكن، بالصبر، وتحزمن أمتعتكن، فليست طيبة بالمثوى الأمين غدا!
فسألته توتيشيري قائلة: وجثة سيكننرع؟ - فلتطمئن نفسك يا مولاتي، سأؤدي واجبي نحوها كاملا.
فسألته مرة أخرى: وإلى أين تريد أن نذهب؟ - مولاتي، ستقع مملكة طيبة بين يد الغزاة إلى حين، ولكن لنا وطن آخر أمين في بلاد النوبة، ولن يطمع الرعاة في النوبة لأن الحياة فيها جهاد يشق على نفوسهم المترفة، فلتكن لكم مهجرا آمنا، لكم فيه أنصار من قومنا وأتباع من جيراننا، وهنالك يعاودكم التفكير في هدوء، فترعون أمل المستقبل الجديد، وتتعهدونه بالصبر والبسالة، حتى يأذن الرب فيشق سنا النور البهيج ظلمات هذا الليل الدامس!
وكان كاموس يصغي إليه في هدوء وسكينة، فقال له: فلتهاجر الأسرة إلى بلاد النوبة، أما أنا فأوثر أن أسير على رأس جيشي أقاسمه حظه في الحياة أو الموت.
فساور القلق القائد، ونظر إلى مولاه بعين رجاء وتوسل، وقال: مولاي، لن أستطيع أن أثنيك عن إرادة تريدها، فلأكل الأمر إلى حكمتك، ولا أسألك إلا أن تصغي إلي قليلا.
مولاي، إن القتال اليوم عبث ضائع، ومعناه الهلاك المبين، ومصر لن تنتفع بموتك، ولا موتك بمخفف عنها بعض آلامها، ولكنها بغير شك تخسر بفقدان حياتك خسارة لا تعوض، إن كل أمل في النجاة منوط بحياتك، فلا تحرم مصر الأمل بعد أن حرمت السعادة .. فاجعلوا «نباتا» هدفكم، وشدوا إليها الرحال، وهناك يتسع لكم المجال للتفكير والتدبير وإعداد وسائل الدفاع والكفاح، لن تنتهي هذه الحرب كما يتمنى أبوفيس، فلا يتسنى لشعب كشعبنا عاش سيدا كريما، أن يطرق على الذل طويلا، ولسوف تحرر طيبة يا مولاي في تاريخ قريب، ولن تقف بك الحماسة عند حد، فتطارد الرعاة القذرين حتى تطردهم من وطنك .. إن سنا ذاك اليوم الأغر يتخايل لعيني في ظلمات الحاضر الكئيب، فلا تتردد واعزم عزمة الحكمة، والآن وقد بينت لك نهج الحق، فاقض بما أنت قاض!
وكف بيبي عن الكلام، وما كفت عيناه عن التوسل والرجاء، وتحولت توتيشيري إلى «كاموس»، وقالت بصوت خافت: لقد نطق القائد بالحق فاتبع قوله.
فأحس القائد البائس بندى الأمل، وانتعش فؤاده بالفرح، ووجم كاموس ولم ينبس بكلمة، فقال بيبي وكان يكذب أول مرة في حياته: أما أنا يا مولاي فسألحق بكم بعد حين .. فأمامي واجبان مقدسان: أن أعنى بجثة مولاي، وأن أشرف على تحصين أسوار طيبة، لعلها بالمقاومة الناجحة تساوم على التسليم بأحسن الشروط.
ولم تتمالك الملكات فأجهشن بالبكاء، وغلب التأثر بيبي فقال: ينبغي أن نواجه محنتنا بشجاعة، وليكن لنا في سيكننرع أسوة حسنة، ولنتذكر دائما يا مولاي أن العجلات الحربية هي سبب هزيمتنا، فإن كررت يوما على العدو، فلتكن العجلات عتادك، والآن سأذهب لأدعو العبيد إلى حمل الثمين الغالي من ذهب القصر وسلاحه، مما لا غنى عنه!
نطق القائد بيبي بهذه الكلمات، ثم ذهب.
12
وانبعثت في القصر حركة نشاط شاملة، وأضيئت حجراته جميعا، ومضى العبيد يحملون الثياب والسلاح وصناديق الذهب والفضة، ويذهبون بها إلى السفينة الفرعونية في سكون محزن، تحت رقابة رئيس الحجاب، وكانت الأسرة الفرعونية في أثناء ذلك تنتظر في حجرة الملك كاموس، تشملها الكآبة والصمت، ينكس أفرادها النبلاء رءوسهم، مظلمة أعينهم من اليأس والحزن، ولبثوا على حالهم ما لبثوا، حتى دخل عليهم الحاجب حور، وقال بصوت خافت: انتهى كل شيء يا مولاي.
ووقعت كلمة الحاجب من آذانهم موقع السهم من العنق، فخفقت قلوبهم، ورفعوا وجوههم ذاهلين، وتبادلوا نظرات القنوط والكمد، أحقا انتهى كل شيء .. وهل أزفت ساعة الوداع؟ .. أهذا آخر العهد بالقصر الفرعوني، وطيبة المجيدة، ومصر الخالدة؟ .. وهل يحرم عليهم غدا أن يروا مسلة أمنمحعت، ومعبد آمون، والسور ذا الأبواب المائة؟ .. أتضيق بهم طيبة اليوم، وتفتح أبوابها غدا لأبوفيس يعتلي عرشها ويتحكم في الرقاب؟! كيف يغدو الهداة ضالين، والسادة فارين، وأصحاب الدار مهاجرين؟
ورآهم كاموس لا يتحركون، فقام في تثاقل وتمتم قائلا بصوت خافت: «هلموا نودع حجرة أبي»، فقاموا قومته، وسارت الأسرة في خطى ثقيلة متخاذلة إلى حجرة الملك الراحل، ووقفوا أمام بابها المغلق متهيبين لا يدرون كيف يقتحمونه دون إذن، ولا كيف يلقونها مهجورة. وتقدم حور خطوة وفتح الباب، فدخلوا تسبقهم أنفاسهم المترددة وزفراتهم الحارة، وعلقت أبصارهم في رفق وحنان بالديوان العظيم، والمقاعد الوثيرة، والمناضد الأنيقة، وهامت أرواحهم حول مصلى الملك، والمحراب الجميل وقد نحتت عليه صورته جاثيا أمام الرب «آمون»، فخالوه جميعا جالسا على ديوانه، متكئا على وسادته، يبتسم إليهم ابتسامته الحلوة، ويدعوهم إلى الجلوس، وأحسوا جميعا روحه تغمرهم وتطوف بهم، فحلقت أرواحهم الحزينة في سماء الذكريات، ذكريات الأمومة والزوجية والبنوة، اختلطت آثارها بتنهدهم العميق ودمعهم المسيل!
ثم تنبه كاموس إلى القلوب المنصهرة من حوله، فدنا من صورة أبيه وانحنى لها بإجلال، ولثم جبينها، وتنحى جانبا، فتقدمت توتيشيري ومالت على الصورة الحبيبة، وقبلتها قبلة أودعتها آلام قلبها الثاكل المحزون، وودعت الأسرة جميعا صورة ربها المفقود، ثم مضوا إلى الخارج في صمت حزين كما دخلوا.
ورأى كاموس الحاجب حور في انتظارهم، فسأله قائلا: وأنت يا حور؟ - إن واجبي يا مولاي أن أتبعكم كالكلب الأمين!
فوضع الملك يده على كتفه شاكرا، وتقدموا جميعا في الردهات ذات الأعمدة، يسير بين أيديهم القائد بيبي، ويمشي كاموس في طليعة أسرته، يتبعه الأميران الصغيران أحمس ونيفرتاري، فتوتيشيري، فالملكة أحوتبي، ثم الملكة ستكيموس، ويتبع الجميع الحاجب حور، وهبطوا الأدراج إلى ممر الأعمدة، وانتهوا إلى الحديقة، فسايرهم على الجانبين عبيد يحملون المشاعل ويضيئون لهم السبيل، فبلغوا السفينة، وانتقلوا إليها واحدا إثر واحد حتى شملتهم جميعا، وحم الفراق، فألقوا نظرة الوداع، تاهت أعينهم في الظلام المخيم على طيبة كأنه يلفها في ثوب حداد، فتقطعت قلوبهم، وتصدعت صدورهم وعصر ألم الحنين قلوبهم الكسيرة وشمله الصمت فكأنهم ذابوا في الظلام ووقف بيبي بين أيديهم لا ينبس بكلمة، ولا يجرؤ على خرق هذا الصمت الحزين، حتى تنبه الملك لوجوده، فتنهد وقال له: أزفت ساعة الوداع.
فقال بيبي بصوت متهدج حزين، وهو يغالب عواطفه مغالبة شديدة: مولاي، وددت لو أدركني الموت قبل أن أقف موقفي هذا، فليكن عزائي أنكم تسيرون في سبيل الرب آمون وطيبة المجيدة، وأرى أن ساعة الوداع قد أزفت حقا كما تقول يا مولاي، فسيروا يحفظكم الرب برحمته، ويكلأكم بعين رعايته، وإني أرجو أن يمتد بي العمر حتى أشهد يوم عودتكم كما شهدت يوم هجرتكم، كي يسعد قلبي برؤية طيبة العزيزة مرة أخرى .. الوداع يا مولاي .. الوداع يا مولاي! - بل قل إلى الملتقى. - نعم إلى الملتقى يا مولاي.
واقترب من مولاه وقبل يده، وكان ما يزال يغالب عواطفه كي لا يبل يدا كريمة بدمعه، وقبل يد توتيشيري، والملكة أحوتبي، والملكة ستكيموس، وولي العهد أحمس، وشقيقته الأميرة نيفرتاري، ثم شد على يد الحاجب حور بمودة، وحنى رأسه للجميع، وغادر السفينة في سكون وذهول.
وعلى أدراج الحديقة وقف يشاهد بدء تحركها وقد ضربت المجاديف في الماء، وأخذت تبتعد عن الشاطئ على مهل وتؤدة كأنها تحس وطأة حزن من عليها، وقد تجمعوا على حائطها، تودع أرواحهم الخافقة طيبة ... وأفلت منه زمام نفسه فبكى .. واستسلم للبكاء حتى انتفض جسمه، وما زال يتبع السفينة العزيزة وهي تغوص في الظلمة حتى ابتلعها الليل .. ثم تنهد من أعماق صدره، ولبث على حاله لا يدري كيف يبرح الشاطئ، وقد أحس وحشة كأنه هوى حيا إلى قبر عميق، ثم تحول عن موقفه ببطء وعاد إلى القصر بخطى بطيئة متثاقلة، وكان يتمتم قائلا: مولاي .. مولاي .. أين أنت؟ أين أنتم يا سادتي؟ يا أهل طيبة، كيف تهجعون والموت يحلق فوق رقابكم؟ هبوا .. لقد قتل سيكننرع وهاجرت أسرته إلى أقصى الأرض وأنتم نيام .. هبوا .. لقد خلا القصر من سادته .. وودع طيبة ملوكها .. وسيعتلي عرشكم غدا عدو لكم، كيف تنامون؟ هبوا .. إن الذل وراء الأسوار!
ثم أخذ القائد مشعلا، وسار في ردهات القصر حزينا واجما يتنقل من جناح إلى جناح، فوجد نفسه أمام بهو العرش، واتجه نحوه واجتاز عتبته وهو يقول: «معذرة يا مولاي عن دخولي دون إذن» وتقدم بخطى متخاذلة على ضوء مشعله بين صفي المقاعد التي كانت تعقد عليها الأمور وتبرم، إلى أن انتهى إلى عرش طيبة، وجثا على ركبته، ثم سجد وقبل الأرض بين يديه، ثم وقف أمامه حزينا، وضوء المشعل ينعكس على وجهه أحمر مرتعشا، وقال بصوت جهير: حقا لقد انطوت صفحة جميلة خالدة، وسنكون نحن الموتى غدا أسعد أهل هذا الوادي الذي لم يعرف الليل أبدا، أيها العرش .. يحزنني أن أبلغك أن صاحبك لن يعود إليك، وأن وريثك مضى إلى بلد بعيد، وأما أنا فلن أسمح بأن تكون منزل وحي الكلمات التي تشقي مصر غدا، فلن يجلس عليك أبوفيس، ولتطو كما انطوى سيدك!
وكان بيبي قد اعتزم أن يدعو جنودا من حرس القصر، ليحملوا العرش إلى حيث يريد.
13
وحمل الجنود العرش كما أمروا، ووضعوه على عربة كبيرة، وتقدمهم القائد إلى معبد آمون وهناك حملوا العرش مرة أخرى، وساروا وراء قائدهم تسبقهم بعض الكهنة إلى البهو المقدس. وفي المثوى المقدس، قريبا من قدس الأقداس، رأوا الهودج الفرعوني محاطا بالجنود والكهنة، فوضعوا العرش إلى جانبه، وقد علت الدهشة وجوه الكهنة الذين لم يعرفوا من الأمر شيئا، وأمر بيبي الجنود بالانصراف، وطلب حضور الكاهن الأكبر، وغاب الكاهن زمنا يسيرا، ثم عاد يتبع كاهن آمون الذي قدر خطر الزيارة الليلية فأتى مسرعا ومد يده للقائد وهو يقول بصوته الهادئ: طاب مساؤك أيها القائد.
فقال بيبي بلهجة دلت على الاهتمام والجزع: وطالت لياليك يا صاحب القداسة .. هل تأذن لي بالانفراد بقداستك؟ وسمع الكهنة قوله فانسحبوا سريعا على تطلعهم وقلقهم حتى خلا المكان، وتنبه الكاهن الأكبر للهودج، فبدا الانزعاج على وجهه، وقال للقائد: ما الذي أتى بالعربة إلى هنا؟ .. وما هذا الهودج؟ .. وكيف تركت الميدان في هذه الساعة من الليل؟
فقال بيبي: أصغ إلي يا صاحب القداسة، فما من فائدة ترجى من التأني، أو من تهوين شأن ما نحن فيه، ولكن ينبغي الإصغاء إلي حتى النهاية لأفضي إلى قداستكم بما عندي، وأمضي إلى واجبي: لقد وقعت واقعة ستذكر إلى الأبد، مصحوبة بالألم والفخار معا، ولا عجب فقد خسرنا موقعة مصر، وقتل مليكنا وهو يدافع عن وطنه، ومزقت الأيدي الغادرة جثته الطاهرة، واضطرت أسرتنا الملكية إلى هجر طيبة، وسيصحو أهل طيبة فلا يجدون أثرا لملوكهم ولا لمجدهم.
مهلا يا صاحب القداسة مهلا .. لقد انتصف الليل أو كاد، وواجبي يهيب بي أن أعجل، إن هذا الهودج يحمل جثة مليكنا سيكننرع وتاجه، وإليك عرشه، هذا تراثنا القومي أعهد به إليك يا كاهن آمون؛ لكي تحفظ الجثة وتودعها مكانا أمينا، وتحفظ هذه المخلفات في مستقر حريز ... والآن أستودعك الرب يا كاهن طيبة، التي لن تموت وإن أثخنتها الجراح.
وكان الكاهن قد هم أن يقاطع القائد من فرط انزعاجه، ولكن القائد لم يمكنه، فصمت صمتا ثقيلا، وجمد جمودا مطلقا، فكأنه فقد حواسه جميعا، وأدرك بيبي ما يعانيه الرجل من الذهول والألم، فقال: إني أستودعك الرب يا صاحب القداسة، مطمئنا إلى أنك ستقوم بواجبك كاملا نحو المخلفات العزيزة المقدسة.
وتحول القائد عنه إلى الهودج، وانحنى إجلالا حتى لثم غطاءه وأدى له التحية العسكرية، ثم تقهقر إلى الوراء وقد حجبت مدامعه الهودج عن عينيه، حتى بلغ السلم المؤدي إلى بهو الأعمدة، فأدار ظهره وسار مسرعا لا يلوي على شيء إلى خارج المعبد، وشعر بأنه قد آن له أن يلحق بضباطه وجنوده، ليهجم معهم الهجوم الأخير كما عاهدهم.
على أن استغراقه في واجباته لم ينسه أمرا ما تخايل لذاكرته حتى أحس له غمزا على قلبه لا يسكن، ذكر أسرته، إبانا زوجه وابنه الصغير أحمس، وأهله جميعا الذين تضمهم مزرعته في ضواحي طيبة، ما أطول السفر! إنه لا يستطيع قطع الطريق إلى مزرعته في الليل، ولو فعل ما استطاع أن يفي بعهده لجنوده ولظنوه هاربا، فسيلقى حتفه دون أن يلقي نظرة وداع على وجه إبانا وأحمس .. وكان هنالك ما هو أثقل على قلبه من هذا، وكان يتساءل محزونا: هل يترك الرعاة صاحب أرض في أرضه، أو صاحب مال لماله؟ سيشرد السادة غدا أو يقتلون في ديارهم، وستغدو إبانا وأحمس بلا نصير .. وضاق الرجل، ونازعه قلبه طويلا إلى بيته وآله، ولكن قلبه كان في سبيل، وإرادته الحديدية في سبيل سواه .. وتنهد آسفا وهو يقول: «فلأكتب لها كتابا ...» وبسط على عجلته ورقة وكتب إلى السيدة إبانا يقرئها السلام ويستودعها الرب، ويدعو لابنه بالخلاص والسعادة، ثم قص عليها ما وقع من أحداث، وما صار إليه الجيش ومليكه، وأخبرها بهجرة الأسرة المالكة إلى مكان مجهول - ولم يذكر النوبة لحكمة يريدها - ونصح لها أن تجمع ما تستطيع من ماله، وتفر وابنها ومن يتبعها من الأهل والجيران إلى خارج طيبة، أو إلى الأحياء الفقيرة، حيث يختلطون بعامة الشعب ويشاركونهم مصائرهم، ثم باركها وبارك ابنه، وختم كتابه بقوله: «سنلتقي حتما يا إبانا هنا أو في العالم السفلي» وأعطى الكتاب سائقه، وكلفه أن يذهب به إلى قصره الريفي ويسلمه إلى زوجه، ثم قفز إلى عجلته وألقى نظرة أخيرة على معبد آمون والمدينة الهاجعة في الغارقة في الظلام، وهتف من صميم قلبه: «رباه .. احفظ بلدك .. الوداع يا طيبة!»
ثم أرخى العنان لجواديه، فانطلقا به يعدوان في طريق الشمال.
14
وبلغ القائد المعسكر بعد منتصف الليل، وكان الجيش الجريح نائما، فمضى إلى خيمته وارتمى على سريره في إعياء وهو يقول: «فلنستجم قليلا لنموت ميتة تليق بقائد قوات سيكننرع»، وأغمض جفنيه، ولكن بعض أخيلة قامت غشاء كثيفا بين رأسه وبين النوم، فتخايلت له أشباح الأهوال التي ابتلي بها في نهاره وليله، فرأى الرماة وهم يلقون العجلات المنصبة عليهم كالسيل، ومولاه سيكننرع يسقط صريعا والرمح في جانبه، وكاموس يثور غاضبا، ثم يسلم محزونا، وتوتيشيري تئن من جرح قلبها العجوز، ووداع إبانا وأحمس الصغير، وتلك السحب المتلبدة التي تتجمع في أفق الجنوب .. ثم اختلطت الأخيلة فيما يشبه الموج، ورقت وتهافتت بغير شعور منه، فانساب النوم إلى جفونه.
واستيقظ حين الفجر على صوت النفير، فقام يحس نشاطا غريبا لا يتفق وما لاقاه من إرهاق ونصب ونوم خفيف، وبرح خيمته إلى الخارج، فسمع في سكون الفجر حركة تنتفض في أنحاء المعسكر، ورأى أشباح رجال تقبل نحوه عرف من أصواتهم ضباطه البواسل المخلصين، فاستقبلهم استقبالا حارا، وكانوا قد قاموا في أثناء غيبته بعمل عظيم، فقال رجل منهم: أرسلنا الجرحى في قوارب إلى طيبة، وكذلك المصابين إصابات خفيفة، لكي ينضموا إلى قوات الدفاع عن أسوار طيبة، وما من شك في أن طيبة ستحسن الدفاع عن نفسها حتى تنال أحسن الشروط.
وقال له ضابط آخر شديد الحماسة: إننا - معشر أهل الجنوب - تهون علينا الحياة في أوقات المحن، فما من رجل منا إلا نفد صبره في انتظار المعركة الأخيرة.
وقال ثالث: ما أشهى الاستشهاد إلى نفوسنا في هذه البقعة المقدسة، التي ارتوت بدماء مليكنا الزكية!
فأثنى بيبي عليهم جميل الثناء، وقص عليهم ما وقع في طيبة من هجرة الأسرة الفرعونية، ولكنه لم يذكر لأحد المكان الذي قصدت إليه، وقد بلغ التأثر بالضباط مبلغا عظيما، وهتفوا لكاموس الملك، وأحمس ولي عهده، والأم المقدسة توتيشيري.
وولت ظلال الظلام، وانعكس الضياء الوضاح على سماء الأفق، فانتظمت صفوف الجنود تأهبا لمعركة الموت، وكان ملك الرعاة يدرك ما حل بجيش المصريين بعد مقتل مليكهم، فأراد أن يصعقهم بقوات تشل فيهم كل مقاومة فتأهب على رأس قواته من العجلات والرماة، ليقضي بضربة واحدة على الجيش الصغير الذي يعترض سبيله .. وحين تراءى الجمعان، بدأ القتال واتصل البحر المتلاطم بالجدول الصافي، وأطبق جيش أبوفيس على الجيش المصري، ودارت عجلة الموت، وبذل المصريون كل ما في طاقته البشرية من بسالة وبطولة، لكنهم تساقطوا سريعا بطلا في إثر بطل، وداستهم أرجل الخيل بقساوة، وبدا لعيني بيبي أن المعركة تنتهي سريعا، ولا سيما لما شاهده من مصارع كثير من القواد والضباط، ورأى جناحه الأيمن يفنى فناء عاجلا، والعدو يوشك أن يحيط بهم، فأراد أن يختم حياته أكرم الختام، وجال بنظره في جيش عدوه، فثبت على قلبه حيث يرفرف علم الهكسوس على أبوفيس وكبار قواده - وبينهم قاتل سيكننرع بغير شك - فجعله هدفه، وأمر حرسه أن يتبعه ليدافع عن ظهره، ثم أمر سائقه بالاندفاع، وكانت حركة مفاجئة لم يتوقعها العدو الحذر نفسه، وتفادت عجلته مما تعرض لها من عجلات، وأرسلت سهامها إلى قلوب الرماة، ومضت تدنو من أبوفيس حتى فطن الأكثرون إلى غرضها، فتصايحوا غضبا وخوفا، وقاتل بيبي ومن معه قتال من جن بحب الموت، فتدلل عليهم الموت طويلا حتى شقوا الصفوف إلى جبهة أبوفيس وقواده، وهنالك وجد بيبي نفسه محاطا بفرسان العدو من كل جانب، ورأى مئات من الرجال يحولون بين عجلته وبين الملك، فقاتل قتالا عنيفا والدماء تسيل من وجهه وعنقه وساقيه، حتى ظن عدوه أنه شيء لا يموت، وتكالبت عليه السهام والرماح، والسيوف والخناجر، فسقط كما سقط سيكننرع لاحقا بحرسه البواسل، وقد ضج الجيش من هجمته الهائلة، وكان القتال - في الميدان - في نهايته، والمصريون يلفظون آخر أنفاسهم، فأمر أبوفيس بالابتعاد عن جثة الرجل الذي انقض عليه خلال صفوفه المتراصة! ونزل من عجلته وترجل دانيا منه، حتى وقف على رأس الجثة، وجعل يتأمل السهام المنغرسة في كل قطعة منه كشعر القنفذ؛ ثم هز رأسه الكبير ضاحكا؛ وقال لمن حوله: لقد مات ميتة جديرة بأشجع رجالنا!
15
واستيقظت طيبة كعادتها لا تدري عما سطر لها في لوح الأقدار شيئا، وإذا بالقرويين يحملون الجرحى آتين من الميدان، فتجمع الناس حولهم، وتكاثروا بالأسئلة عليهم، وروى لهم هؤلاء الأنباء على حقيقتها فقالوا لهم إن الجيش هزم وفرعون قتل، وهاجرت أسرته إلى مكان مجهول، وذهل الناس وتبادلوا نظرات الإنكار والانزعاج، وذاع الخبر في المدينة فأشاع فيها الاضطراب والتقلقل، ففارق الناس ديارهم، وهرعوا إلى الطرق والأسواق، وتجمعوا في دور الحكومة ومعبد آمون ليأنسوا بالجماعة ويستمعوا إلى زعمائهم، أما أصحاب الضياع والقصور من النبلاء والأغنياء فقد هجروا ضياعهم وقصورهم مذعورين، وفروا جماعات إلى الجنوب أو اختفوا في ثنايا الأحياء الفقيرة.
وجاءت أخبار أسيفة أخرى عن سقوط قسي وشنهور، وأن جيوش الرعاة تتقدم نحو طيبة لضرب الحصار حولها وإجبارها على التسليم، فاجتمع الوزراء والكهنة والقضاة الثلاثون في بهو الأعمدة بمعبد آمون، وتشاوروا في الأمر، وكانوا جميعا يدركون خطر الحال ويحسون دنو النهاية وعبث المقاومة، ولكنهم لم يميلوا إلى التسليم دون شرط أو قيد، ورأوا أن يقوموا خلف أسوارهم المنيعة، حتى ينالوا وعدا بحقن دماء الأهالي، إلا أوسر آمون فكان شديد الحماسة فائر الغضب، فقال لهم: لا تسلموا طيبة أبدا، ولنقاوم حتى نموت كمليكنا سيكننرع، إن أسوار طيبة لا تقتحم، وإذا هددت حقا فلنخرب المدينة ونشعل فيها النيران، ولا نترك لأبوفيس شيئا منها ينتفع به.
وكان أوسر آمون يهدر غاضبا، ويلوح بيديه كأنه يخطب، ولكن الرجال لم يتحمسوا لفكرته، وقال نوفر آمون: نحن مسئولون عن حياة أهل طيبة، وتدميرها يعرض الآلاف منهم للتشرد والجوع والبؤس، فليكن هدفنا وقد خسرنا الموقعة أن نخفف الآلام ونحصر الدمار.
وفي أثناء ذلك كان الرعاة يهاجمون السور الشمالي بغير هوادة، والحراس يقاتلون عنه بثبات وبسالة، والقتلى تسقط من الجانبين، وتفقد الوزراء الأسوار فاطمأنوا إلى المقاومة، ولكن أسطول العدو هجم على الأسطول المصري بعد أن جاءه مدد جديد، ودارت معركة حامية انتهت بتحطيم الأسطول المصري، وحاصر أسطول الرعاة غرب طيبة، وأنزل جنودا كثيرين في جنوبها، فضرب حصاره الكامل حول المدينة، وهجم عليها من الشمال والجنوب والشرق هجوما عنيفا، وجاءت هزيمة الأسطول ضربة قاضية على كل أمل في إطالة المقاومة، وهددت المدينة العظيمة بالمجاعة والظمأ، فلم ير الزعماء بدا من التسليم تفاديا من الكارثة العظمى، وأوفدوا ضابطا يعلن وقف القتال، ويستأذن في قدوم رسول عن المدينة للتحدث في شروط التسليم النهائية، وعاد الضابط بالموافقة، فوقف القتال في جميع الأسوار، واختار الزعماء نوفر آمون كاهن آمون ليكون رسولا.
وقبل الكاهن على غضاضة، وركب عربته فسارت به نحو معسكر الرعاة مثقل الرأي كسير الفؤاد، ومر في طريقه بالفرق المختلفة متراصة الصفوف في قوة وصلف وزهو، تخفق عليها الأعلام من كل لون، ثم وقفت العربة فترجل في سكون، ووجد في استقباله بعض الضباط يتقدمهم رجل قصير القامة بدين كثيف اللحية، عرفه من النظرة الأولى، فهو الرسول خيان نذير الشؤم الذي حل بحلوله الدمار بمملكة طيبة، ولم يغب عنه ما في استقباله من الشماتة المقصودة، وبدا الرجل صلفا متعجرفا مزهوا، فنظر إلى نوفر آمون بمؤخر عينه، وقال دون تحية: أرأيت أيها الكاهن إلى أي مصير انتهى بكم رأي أميركم؟ .. إنكم تتحمسون كثيرا وتحسنون الكلام، ولكن لا قبل لكم بالقتال .. ولقد قضي على مملكتكم بالزوال إلى الأبد ...
ولم ينتظر الحاجب كلاما فسار أمامه نحو خيمة الملك، ورأى نوفر آمون الخيمة كالسرادق مسدلة عليها الستائر، يقف أمامها الحراس البيض الغلاظ ذوو اللحى الطويلة .. ثم أذن له فدخل، ورأى في الصدر الملك أبوفيس في زي الفراعين وعلى رأسه تاج مصر المزدوج، وكان مهيب الطلعة حاد البصر أبيض مشربا بحمرة، مسترسل اللحية جميلها، وسط هالة من قواده وحجابه ومستشاريه، فانحنى له الكاهن في إجلال، ووقف صامتا ينتظر أمره، فقال الملك بلهجة ساخرة: أهلا بكاهن آمون الذي لن يعبد بعد اليوم بأرض مصر.
فأغضى الكاهن ولم ينبس بكلمة، فضحك الملك ضحكة عالية وسأله بتهكم: أجئت تملي علينا شروطا؟
فقال نوفر آمون: بل جئت أيها الملك لأستمع إلى شروطك، كما ينبغي لزعيم قوم خسروا معركتهم وفقدوا مليكهم، وليس لي سوى رجاء واحد أن تحقنوا دماء شعب ما شهر سلاحه إلا ذودا عن كيانه.
فهز الملك رأسه الكبير وقال: يحسن بك أيها الكاهن أن تصغي إلي، إن قانون الهكسوس لا يتغير على مدى الأيام والأجيال، وهو سنة الحرب والقوة إلى الأبد، نحن بيض وأنتم سمر، ونحن سادة وأنتم فلاحون، فالعرش والحكومة والإمارة لنا، فقل لقومك: من يعمل في أرضنا عبدا فله أجره، ومن تأب عليه نفسه فليول نفسه وجهة يرضاها في غير هذه الأرض، وقل لهم: إني أهدر دم بلد كامل إذا امتدت يد بسوء إلى أحد من رجالي، وإذا أردت أن أحقن دماء الناس - فيما عدا أسرة سيكننرع - فليأت إلي سادتكم بمفاتيح طيبة سجدا ... أما أنتم أيها الكهنة فعودوا إلى معبدكم وأغلقوا عليكم أبوابه إلى الأبد!
ولم يرد أبوفيس أن تمتد المقابلة إلى أكثر من هذا، فقام واقفا إيذانا بانتهائها، فانحنى الكاهن مرة أخرى وفارق المكان.
وشربت طيبة الكأس حتى ثمالتها، فحمل الوزراء والقضاة مفاتيحها وذهبوا إلى أبوفيس وسجدوا له .. وفتحت طيبة أبوابها ودخلها أبوفيس على رأس جيوشه الغازية الظافرة.
وفي ذلك اليوم أهدر الملك دماء أسرة حاكم طيبة، وأمر بإغلاق الحدود بين مصر والنوبة، ثم احتفل بالنصر احتفالا عظيما اشتركت فيه الجيوش جميعا، وقسم الأرض والأموال بين رجاله، فصار الجنوب ملك يده أرضا ورجالا.
بعد عشرة أعوام
1
انقشعت سحب الظلام عن زرقة الفجر الناعسة، فتبدت صفحة النيل تتنفس نسائم الغسق،
قائداها - اللذان جلسا بمقصورة السفينة المتقدمة - فكانا مصريين كما يدل لون بشرتهما الأسمر، وقسماتهما الواضحة، وكان أولهما شابا لا يكاد يبلغ العشرين من عمره، حبته الطبيعة طولا فارعا، وقدا نحيلا دقيقا، وصدرا عريضا متينا، ينطق وجهه المستطيل بالنضارة والجمال الفائق، وعيناه السوداوان بالصفاء والحسن، وأنفه المستقيم الأشم بالقوة والتناسق، فهو من الوجوه التي أودعتها الطبيعة جلالها وجمالها معا، يرتدي لباس التجار الأثرياء، ويلف جسمه الرشيق في عباءة ثمينة، قدت على صورة جسمه، وكان صاحبه شيخا في الستين، يميل إلى النحافة والقصر، بارز الجبهة في استواء وارتفاع، تدل جلسته على الهدوء الذي يلازم الشيخوخة غالبا، وأما نظرة عينيه فتنفذ إلى الأعماق .. وكان يبدو أن همه منصرف إلى العناية بالشاب، أكثر مما هو منصرف إلى التجارة التي تحملها السفن، فلما دنت القافلة من منطقة الحدود، برحا المقصورة ومضيا إلى مقدمة السفينة، يتطلعان بعينين مشوقتين جرى فيهما الحنين، ثم سأل الشاب بحماس وجزع: هل ترى تطأ أقدامنا أرض مصر؟ قل ماذا نحن فاعلون الآن؟
فقال الشيخ: نرسي القافلة على هذا الشاطئ، ونبعث في قارب رسولا إلى الحدود، يبتغي لنفسه سبيلا يمهده بقطع الذهب. - إن اعتمادنا كله على ما عرف به القوم من طاعة الرشوة وتلبية نداء الذهب .. أما لو خاب ظننا ...
وسكت الشاب عن الكلام وقد لاح في عينيه القلق، فقال الشيخ: ما دام الظن سوءا فإنه لا يخيب مع هؤلاء القوم!
وعدلت السفينة إلى الشاطئ، فتبعتها القافلة وألقت مرساتها، واختار الشاب أن يكون هو مبعوث القافلة إلى الحدود، وكان عظيم الحماسة قوي التصميم، فلم يعترض الشيخ سبيله؛ وانتقل إلى قارب وجدف بساعديه المفتولين مفارقا القافلة نحو الحدود، وتبعه الشيخ بعينيه وهو يقول برجاء مؤثر: «أيها الرب المعبود آمون .. هذا ابنك الصغير يسعى إلى وطنه وراء غرض نبيل؛ أن يعز سلطانك، ويرفع ذكرك، ويحرر أبناءك، فأيده يا رب وانصره واحفظه ...»
ومضى الشاب يجدف في قوة، وظهره إلى هدفه، يستدير لينظر وراءه كل هنيهة وقد اضطرم صدره بالحنين، وأحس لهواء الوطن وهو يدنو من جوه لذة جديدة، خفق لها قلبه أيما خفقان، ثم رأى في إحدى التفاتاته سفينة حربية صغيرة تصعد نحوه معترضة سبيله، فأيقن أن حراس الحدود تنبهوا له، وجاءوا يتحققون من أمره، ودنا بقاربه من السفينة حتى سمع صوت الضابط الواقف في مقدمها يصيح به: «كيف تدنو يا هذا من المنطقة الحرام؟»
فصمت الشاب حتى شارف القارب السفينة، ثم حيا الضابط ذا اللحية تحية إجلال وتعظيم، وقال متبالها: باركك الرب ست أيها الضابط الباسط، إني قاصد وطنكم المجيد بتجارة ثمينة.
فقطب الضابط جبينه وقال بفظاظة: خسئت أيها الأحمق، ألا تدري أن هذا الطريق مغلق منذ عشرة أعوام؟ .. فأبدى الشاب الجميل دهشة، وقال: وماذا يصنع إنسان مثلي جمع متاعا ثمينا ليتقرب به من فرعون مصر المعبود ورجال مملكته؟ .. هلا أذنت لي بمقابلة حاكم جزيرة بيجة النبيل؟
فقال الضابط بوحشية: بل ستعود من حيث أتيت حيا، إن لم ترغب في أن تدفن حيث تثرثر .. فأخرج الشاب من صدره حافظة من الجلد ملأى بقطع الذهب، ورمى بها تحت قدمي الضابط قائلا: نحن في بلادنا نحيي آلهتنا بتقديم الهدايا، فاقبل تحيتي ورجائي.
فتناول الضابط الحافظة وفتحها، وعبثت أنامله بقطع الذهب، فاختلجت أجفانه، وردد بصره بينها وبين الشاب بذهول، ثم هز رأسه كأنه لا يخفي حنقه على الفتى الذي ثناه عن رأيه قسرا، وقال بصوت هادئ: إن دخول مصر ممنوع، ولكن قد تستحق رغبتك الشريفة استثناءك من أمر المنع، فاتبعني إلى حاكم الجزيرة.
وابتهج الشاب، واتخذ مجلسه مرة أخرى في القارب، وشد على المجداف بقوة ونشاط، وانحدر متتبعا السفينة صوب شاطئ بيجة، ورست السفينة ثم القارب، ووضع الشاب قدميه على الأرض في حذر وإشفاق، كأنما يدوس شيئا طاهرا مقدسا، وقال له الضابط مرة أخرى: «اتبعني». فتبعه على الأثر، وبالرغم من تشدده في التسلط على أعصابه، أفلت زمامه وتمشت في حواسه نشوة، وعصر قلبه حنين سماوي، فخفق قلبه خفقانا شديدا متواليا، وجع من شدة اضطرام عواطفه يذهل سريعا، إنه في أرض مصر، مصر التي يحفظ لها أجمل الذكريات، وأفتن الصور وأبهج الآثار، إنه يود لو يترك وحيدا فيملأ صدره من نسيمها العليل، ويمرغ خديه بثراها .. إنه في أرض مصر.
واستيقظ من حلمه على صوت الضابط الغريب وهو يقول له ثالث مرة «اتبعني». فنظر فرأى قصرا جميلا يقف أمامه رجال مسلحون، فأدرك أنه أمام قصر حاكم الجزيرة، ودخل الضابط، فتبعه غير مبال لنظرات القوم الحادة التي تصوب نحوه من كل جانب.
2
وأذن له بالدخول إلى بهو الاستقبال بعد أن سبقه الضابط إليه، كان الحاكم يستقبل فيه من لا يحتاج النظر في مظالمهم لغير الذهب، وألقى الشاب نظرة على الحاكم وهو يمضي، فلفتت نظره لحيته الطويلة الكثة، وعيناه اللوزيتان الحادتان، وأنفه البارز الأقنى كأنه شراع قارب، وكان الرجل يرمق الداخل بعين فاحصة، ونظرة تدل على الحذر والريبة، فانحنى الشاب بين يديه بإجلال عظيم، وقال بأدب بالغ: ندى الرب صباحك أيها الحاكم الجليل.
وكان الضابط حدثه عن القادم الغريب الذي يرمي في غير مبالاة بحافظة ملأى بقطع الذهب الوهاج، ويسوق قافلة محملة بالهدايا ليتقرب بها من سادة مصر، فرد تحيته بإشارة من يده، وسأله بصوت غليظ أجوف: من أنت ومن أي البلاد؟ - أدعى يا مولاي إسفينيس، من بلدة نباتا من بلاد النوبة.
فهز الرجل رأسه بارتياب وقال: ولكني أرى أنك لست نوبيا، وإن صدق نظري فأنت فلاح!
فخفق قلب إسفينيس لهذا الوصف الذي نطق به الحاكم بلهجة لم تخل من الاحتقار، وقال: صدقت فراسة مولاي، فأنا حقا .. فلاح، من أسرة مصرية هاجرت إلى بلاد النوبة منذ أجيال، واشتغلت بالتجارة عهدا طويلا حتى أغلقت الحدود بين مصر والنوبة، فانقطع رزقها. - وماذا تريد؟ - لدي قافلة محملة بخيرات البلاد التي قدمت منها، أرجو بها التقرب والزلفى من سادة مصر.
فعبث الحاكم بلحيته، وحدجه بنظراته المرتابة، وقال: أتعني أنك تجشمت مشاق السفر، لمحض التقرب والزلفى من سادة مصر؟! - سيدي الحاكم الجليل، نحن نعيش في بلاد ملأى بالوحوش والكنوز، الحياة فيها جد قاسية، والجوع والجدب ينشبان أظفارهما في الرقاب، نجيد صياغة الذهب، ونضنى في الحصول على قدح من الحبوب، فإذا تقبل ساداتي هداياي، وأذنوا لي بالمسير بالتجارة بين الجنوب والشمال، ملأت أسواقكم بالنفيس من الجواهر والحيوان، وبدلت بؤس قومي أنعما!
فضحك الحاكم ضحكة عالية، وقال: أرى الأحلام تطيح برأسك .. أولست تبدأ بالسؤال والتضرع؟ ولكنك ترجو أن يكلل مسعاك بإصدار أوامر فرعونية لمصلحتك .. حسنا .. الحمقى كثيرون .. ولكن ماذا تحمل قافلتك من النفائس يا هذا؟
فحنى إسفينيس رأسه إجلالا، وقال بإغراء التاجر الأريب: هلا تفضل مولاي بزورة قافلتي ليطلع بنفسه على نفائسها، ويختار ما يعجبه من كرائم جواهرها؟
وتحركت لواعج النهم والجشع في نفس الحاكم، فاستطاب الفكرة، فقال لإسفينيس وهو يهم بالقيام للذهاب معه: سأمنحك هذا الشرف.
وتقدمه إلى السفينة الحربية، ثم إلى القافلة، وعرضت لناظريه الحلي والجواهر والحيوان العجيب، فشاهد النفائس بعين يلتمع فيها نور الجشع الخاطف، وأهدى إليه إسفينيس صولجانا من العاج ذا رأس من خالص الذهب المحلى بالزمرد والياقوت فتقبله بلا كلمة شكر، وأخذ بنفسه أساور وخواتيم وأقراطا ثمينة، وأنشأ يقول لنفسه: لماذا لا أسمح لهذا التاجر بالدخول إلى مصر؟ .. ليست هذه تجارة، ولكنها هدايا تسبي العقول، وسيرحب بها فرعون بغير جدال، فإن حقق لصاحبها أمنيته نال ما تمنى، أو رفض مطلبه فلا شأن لي به .. وأمامي فرصة سانحة ينبغي أن أنتهزها، إن خنزر حاكم الجنوب مغرم بكل نفيس، فلأبعث بالتاجر إليه فيذكر لي صنيعي على ما أهديت إليه من كنز، وما أتحت له من فرصة يزداد بها قربا إلى مولاه .. فإذا أراد يوما أن يختار لولاية من الولايات الكبرى حاكما ذكرني بلا ريب!
وتحول نحو إسفينيس وقال: سأعطيك فرصة لتجرب حظك، فسر توا إلى طيبة، وهاك كتابا إلى حاكم الجنوب تذهب به إليه لتعرض نفائسك، وتسأله الشفاعة في رجائك .. واستخف الفرح إسفينيس، فانحنى للحاكم شكرا وارتياحا.
3
وكان أول كلمة نطق بها إسفينيس على أثر مبارحة الحاكم لسفينته، أن قال للشيخ الذي يلازمه: منذ هذه الساعة لا أحمس هناك ولا حور، ولكن إسفينيس التاجر ووكيله لاتو.
فابتسم الشيخ وقال: نطقت بالحكمة أيها التاجر إسفينيس.
ونشرت القافلة شراعها، وتحركت مجاديفها، فانحدرت مع الموج صوب حدود مصر واجتازتها في أمان وسلام، وكان إسفينيس ولاتو يقفان عند مقدم السفينة يكابدان شوقا واحدا، تكاد عيناهما تشرقان بالدمع، قال إسفينيس: بدء حسن.
فقال لاتو: نعم فلنصل للرب آمون شكرا، ونسأله أن يسدد خطانا ويكلل مسعانا بالفوز المبين.
وجثوا على سطح السفينة وصليا معا، ثم عادا إلى وقفتهما، وقال إسفينيس: إذا ظفرنا بإعادة الروابط مع النوبة إلى سابق عهدها، فقد ظفرنا بنصف النجاح، فنعطيهم ذهبا ونأخذ رجالا. - اطمئن، فهم لا قبل لهم بمقاومة إغراء الذهب، ألم يفتح لنا الحدود المغلقة منذ عشرة أعوام؟ .. إن الرجل من الرعاة عظيم العنجهية والصلف شديد البأس؛ ولكنه كسلان يستخدم غيره، ويتعالى على التجارة، ولا يحتمل الحياة في النوبة، فلا سبيل إلى ذهبها إلا بمن يتطوع مثل التاجر إسفينيس بحمله إليه!
ومضيا معا يلقيان ببصرهما إلى مجاهل الأفق البعيد الغارق في مجرى النيل، يقلبان الطرف في خضرة ناضرة تكتنف القرى والدساكر، تحلق فوقها الأطيار، وترعاها الثيران والبقر نشاوى؛ والفلاحون يعملون هنا وهنالك عراة لا يرفعون رءوسهم عن الأرض، فأثار منظرهم في صدر الشاب الحب والغضب، واستعر قلبه حنانا وحنقا، فقال: انظر إلى جنود أمنمحيت، كيف يعملون عبيدا للبيض الحمقى المتعجرفين ذوي اللحى القذرة!
وتقدم المسير بالقافلة، فمرت بأمبوس وسلسليس ومجنا ونخب وترت، فلم يبق دون طيبة سوى ساعة، وتساءل إسفينيس: أين ينبغي أن ترسو السفينة؟
فقال لاتو مبتسما: في الجنوب من طيبة حيث توجد أحياء الفقراء والصيادين، وجميعهم مصريون خلص.
فأمن الشاب على قوله، ولاحت منه نظرة إلى الأمام فرأى على البعد سفينة تسير نحوهم فعلق بصره بها وهي تدنو رويدا رويدا، حتى استطاع أن يتنورها؛ فرأى سفينة فخمة جميلة التركيب بادية الأناقة، تعلو وسطها مقصورة حسناء يتألق في جوانبها الفن الجميل، فخال أنه رأى مثلها من قبل، ولكز لاتو في ذراعه متمتما: انظر.
فنظر الرجل وقال بسرعة: رباه! هذه سفينة فرعونية، (ثم استدرك) إنها تسير بغير حرس، فلعل راكبها أحد رجال القصر، أو أمير يطلب الخلوة!
ودنت السفينة فكادت تلتقي بالقافلة: وأثار منظر القافلة الغريب تطلع أصحابها، فبرزت من المقصورة امرأة يتبعها سرب من الجواري، تقدمتهن في أناة كأنها شعاع من النور الساطع يغشى العيون، شقراء يعبث النسيم بحاشية ثوبها الأبيض، ويراقص ذؤاباتها الرقيقة الذهبية، فأيقنا أن صاحبتها أميرة من قصر طيبة تنتجع النسيم.
ورأياها تشير بأناملها إلى سفينة متأخرة وقد فغرت من الدهشة فاها، وارتسم العجب كذلك على وجوه الجواري الحسان، فالتفت إسفينيس إلى الوراء، فرأى قزما من الأقزام التي أتى بها يسير على ظهر السفينة، فأدرك سر دهشة الأميرة الجميلة، ونظر إلى لاتو مبتسما أن لاقت إحدى الهدايا ما تستحق من التقدير، ولكن لاتو كان يرمق المرأة بعينين جامدتين ووجه مكتئب، ونادى النسوة نوتيا، فتقدم من حافة السفينة، وصاح موجها خطابه إلى لاتو بلهجة أمر لا يرد: قف أيها النوبي وألق مرساتك!
وأذعن إسفينيس للأمر، وأصدر أمره إلى القافلة بالتوقف، ودنت السفينة الفرعونية من السفينة التي ظهر بسطحها القزم، وسأل النوتي إسفينيس: ما هذه القافلة؟ - قافلة تجارة يا سيدي.
فأشار بيده إلى القزم، وكان يفر إلى باطن السفينة، وقال: هل يؤذي هذا المخلوق؟ - كلا يا سيدي. - إن صاحبة السمو الفرعوني ترغب في مشاهدة هذا المخلوق عن كثب.
فهمس لاتو قائلا: هذا لقب ابنة فرعون.
أما إسفينيس فخفض رأسه باحترام وقال: حبا وكرامة.
وسارع إلى مفارقة السفينة إلى قارب سار به إلى السفينة الأخرى، وصعد إلى سطحها ليكون في استقبال الأميرة، وكانت الأميرة وحاشيتها يقتربن بقاربهن من السفينة حتى بلغنها، فصعدن إلى السطح تتقدمهن الأميرة، فانحنى الشاب بين يديها في إجلال ظاهر، وكان يقاوم شعوره بالاستهانة، ويتظاهر بالارتباك والاضطراب، فقال بتلعثم: لقد أوليت قافلتي شرفا رفيعا يا صاحبة السمو!
ثم رفع رأسه فشاهدها عن كثب بعين خاطفة، رأى وجها تجسم فيه الحسن والكبرياء، ففيه من دواعي الفتنة بقدر ما فيه من نوازع الهيبة، ورأى عينين زرقاوين يتجلى في صفائهما التعالي والإقدام، فلم تلق إلى تحيته بالا، ودارت بعينيها في المكان تبحث دون ريب عن القزم، وسألته بصوت رخيم يبعث الطرب في آذان سامعيه: أين ذهب المخلوق العجيب الذي كان هنا؟
فقال الشاب: سيكون بين يديك.
وذهب إلى كوة تطل على باطن السفينة، ونادى قائلا: زولو.
وما لبث أن ظهر رأس القزم من الكوة، وتبعه جسمه، ثم أقبل على صاحبه، فأخذه من يده إلى حيث تقف الأميرة وجواريها، وكان يسير ملقيا بصدره إلى الأمام في خيلاء مضحكة، وبرأسه الكبير إلى الوراء، ولا يزيد طوله على أربعة أشبار؛ أما لونه فشديد السواد، وأما ساقاه فمقوستان، قال له إسفينيس: حي مولاتك يا زولو.
فانحنى القزم حتى مس شعره المفلفل الأرض، فاطمأنت الأميرة وسألت وعيناها لا تفارقان القزم: أحيوان هو أم إنسان؟ - هو إنسان يا صاحبة السمو. - ولماذا لا نعده حيوانا؟ - له لغته ودينه. - يا عجبا، وهل يوجد مثله كثيرون؟ - نعم يا مولاتي، إنه ينتمي إلى شعب وافر العدد، فيهم نساء ورجال وأطفال ولهم ملك وسهام مسمومة يسددونها نحو الحيوان المفترس والإنسان المغير؛ ولكن قوم زولو يأنسون إلى الناس سريعا ويخلصون المودة لمن يصادرهم، ويتبعونه كالكلب الأمين.
فهزت رأسها المكلل بخصلات الذهب عجبا، وافتر ثغرها عن در نضيد، وتساءلت: وأين يعيش قوم زولو؟ - في أقاصي غابات النوبة، حيث يرقد النيل المعبود. - دعه يحدثني إن استطعت. - إنه لا يستطيع أن يتكلم لغتنا، وقصارى جهده أن يفهم بعض الأوامر، ولكنه سيحيي مولاته بلغته.
وقال إسفينيس للقزم: ادع لمولاتك دعاء طيبا.
فاهتزت رأس القزم الكبير كأنه يرعش، ثم نطق بكلمات غريبة بصوت أدنى إلى الخوار، فلم تملك الأميرة إلا أن تضحك ضحكة عذبة، ثم قالت: حقا إنه غريب، ولكنه قبيح لا يسرني أن أقتنيه!
فبدا الأسف على وجه الشاب، وقال بلباقة التاجر الماكر: ليس زولو يا صاحبة السمو خير ما في قافلتي .. إليك دررا تفتن النفوس وتسلب الألباب.
فتحولت في استهانة عن زولو إلى المتباهي بنفائسه، وألقت عليه نظرة فاحصة لأول مرة، فهالها طوله الفارع ونضارة شبابه، وعجبت أن يكون هذا المظهر لتاجر من عامة الشعب، وسألته: هل لديك حقا حلي تستحق الإعجاب؟ - نعم يا مولاتي. - إذن أرني عينة .. أمثلة مما عندك.
وصفق إسفينيس، فجاءه عبد فألقى إليه كلمات بصوت خافت، فغاب الرجل هنيهة، ثم عاد يحمل صندوقا من العاج بمعاونة رجل آخر، فوضعاه أمام الأميرة وفتحاه، وتنحيا جانبا. ونظرت الأميرة في داخل الصندوق، واشرأبت أعناق الجواري، فرأت ما يسر القلب من لآلئ لامعة، وأقراط وأساور، وتفحصتها بعين واعية، ثم مدت يدها البضة الرخصة إلى عقد آية في السذاجة والكمال، قلب من الزمرد في سلسلة من خالص الذهب، وأمسكت القلب بأناملها وتمتمت: من أين لك بهذا الحجر النفيس؟ .. ليس في مصر نظيره؟
فقال الشاب بابتهاج: إنه درة من كنوز النوبة.
فتمتمت قائلة: النوبة .. بلاد زولو .. ما أجمله!
فابتسم إسفينيس وهو ينعم النظر إلى أناملها، وقال: أما وقد حاز إعجاب سموك، فلا يجوز أن يرد إلى صندوقه.
فقالت في سهولة: نعم .. ولكن ليس لدي ثمنه .. هل أنت ذاهب إلى طيبة؟
فقال: نعم يا مولاتي.
فقالت: ما عليك إلا أن تقصد القصر فتقبض ثمنه.
فانحنى الشاب إجلالا، وألقت الأميرة نظرة وداع على زولو، ثم تحولت ماضية بقوامها اللدن الرشيق، يتبعها الجواري، وتعلقت بها عينا الشاب حتى غيبها عنه حائط السفينة، ثم تنبه إلى نفسه، فعاد إلى سفينته حيث كان لاتو ينتظره على جزع، وقد بادره: ما وراءك؟
فأجمل له أقوال الأميرة، وتساءل ضاحكا: ترى هل هي حقا ابنة أبوفيس؟
فقال لاتو بامتعاض: هي الشيطانة ابنة الشيطان.
وأيقظته لهجة لاتو الخشنة ونظراته الغاضبة من سباته، وأدرك أن التي أثارت إعجابه ابنة مذل شعبه وقاتل جده، وأنه لم يشعر في محضرها بما هي أهل له من المقت والكراهية. وتضايق وخشي أن تكون لهجته وهو يروي قولها نمت عن إعجاب ساء الشيخ الأمين، وقال لنفسه: ينبغي أن أكون أهلا للواجب الذي جئت هنا من أجله، ولذلك لم يلتفت إلى سفينة الأميرة وأطال النظر إلى الأفق، وحاول أن يحقد على الأميرة، وأحس أنها قوة حقيقة بكل مقاومة .. لقد ذهبت من سبيله إلى الأبد، ولكن .. رباه .. إنها جمال يجري في أعطافه السحر، ولا يسع من يبتلى برؤيته إلا أن يغمض جفنيه من قوة نوره!
وذكر في تلك اللحظة زوجه الصغيرة نيفرتاري، بقوامها المعتدل، ووجهها الأسمر الخمري، وعينيها السوداوين الساحرتين، فلم يزد على أن تمتم قائلا: «يا لهما من صورتين متناقضتين جميلتين!»
4
وبدا سور طيبة الجنوبي وأبوابها الرائعات تتصاعد من ورائه الهياكل والمسلات، فبدا الجلال مجسما يروع الناظرين، ورنا الرجلان إلى المدينة بعينين لاح فيهما الحنين والحزن، وقال لاتو: حياك الرب يا طيبة المجيدة!
وقال إسفينيس: وأخيرا يا طيبة .. بعد أعوام طوال في المنفى!
وانعطفت السفينة نحو الشاطئ، تتبعها على الأثر سفن القافلة، وقد ضمت الشرع ورفعت المجاديف، فشقت طريقها بين عدد وافر من زوارق الصيد ملأى بالسمك، منه ما تزال تدب فيه الحياة، ويقف في أوساطها الصيادون بأجسادهم العارية النحاسية وعضلاتهم المفتولة؛ فانبعث في نفس إسفينيس نشوة طرب لرؤيتهم، وقال لرفيقه: عجل بنا، فنفسي مشوقة إلى محادثة أي من المصريين.
وكان الجو معتدلا لطيفا، والسماء صافية الزرقة، والشمس مشرقة تغمر أشعتها النيل والشطآن والحقول والمدن، فنزلا إلى الشاطئ يلتفان في عباءتيهما، ويضعان على رأسيهما قلنسوتين مصريتين ككبار التجار، وتقدما خطوات نحو حي الصيادين، وكانت جماعات منهم تقف على الشاطئ، وأيديها آخذة بحبال الشباك التي ترميها الزوارق في لجة النيل، يغنون وينشدون، وكان غيرهم يملأ العربات بالسمك، ويلهبون ظهور الثيران المشدودة إليها صوب الأسواق، وعلى مسير دقائق من الشاطئ أقيمت أكواخ صغيرة أو متوسطة الحجم من الآجر، مسقوفة بجذوع النخيل، يدل مظهرها على السذاجة والفقر.
وكان إسفينيس ينتقل من مكان إلى مكان، مرهف الحواس، مفتوح العينين، يتفحص الصيادين ويتتبع حركاتهم ويصغي إلى أناشيدهم، وكان يشعر نحوهم بالحنان والحزن المقرونين بالإعجاب والإكبار، وخالط قلبه وهو يشق جموعهم إحساس ألفة وطمأنينة ومحبة، فتمنى لو يستطيع أن يعترض سبيلهم ويضمهم إلى صدره ويقبل وجوههم السمر المعناة بالكفاح والفقر، وذكر ما حدثته به عنهم توتيشيري؛ فقال لصاحبه: يا لهم من رجال أشداء صابرين!
فقال لاتو، وكان يشارك الشاب جل عواطفه: أحسب هؤلاء الصيادين أسعد حالا من الفلاحين. لأن الرعاة يترفعون عن النزول إلى حيهم، فيعفونهم من غير قصد من صلف أخلاقهم وسوء صنيعهم.
وقطب الشاب غضبا وتألما ولم يتكلم، وجدا في السير يلفتان الأنظار بوجاهة منظرهما وفخامة لباسهما، ورأى إسفينيس عن كثب شابا يافعا يتجه نحوهما يحمل سلة، وكان يرتدي وزرة قصيرة في خاصرته، أما بقية جسمه فعار، وقد بدا طويلا رشيقا ووجهه حسنا، فقال إسفينيس: انظر يا لاتو إلى هذا الشاب، ألم يخلق ليكون فارسا في فرقة العجلات لولا أن خانه زمانه؟
واقترب الشاب منهما، فرغب في الحديث إليه، وحياه بيده وقال: حياك الرب أيها الشاب .. هل تدلنا على مكان نستريح فيه ولك الشكر؟
فوقف الشاب عن المسير وهم بالرد عليه، ولكنه حين وقعت عيناه عليهما أغلق فمه، وألقى عليهما نظرة غريبة تفصح عن الغضب والاحتقار، وولاهما ظهره ومضى، فتبادل الرجلان نظرة دهشة وإنكار، وتبعه إسفينيس على الأثر واعترض سبيله قائلا: أيها الأخ، ما الذي جعلك تزهد الرد علينا وتولينا ظهرك غاضبا؟
فصاح الشاب مزمجرا: إليك عني يا عبد الرعاة.
وابتعد غاضبا وهو يوسع الخطى، تاركا الشاب في ذهول وحيرة، ولحقه لاتو وهو يقول: إنه لمجنون بلا ريب. - ليس مجنونا يا لاتو .. ولكن لماذا يدعوني عبد الرعاة؟ - إنه لدعاء يثير الضحك. - نعم .. نعم .. ولكن هبنا صنائع الرعاة، فكيف تؤاتيه شجاعته فيتحدانا؟ .. إنه لشاب جسور حقا يا لاتو، ويدل سلوكه معنا على أن عشرة أعوام من حكم الرعاة الخانق لم تستطع أن تستأصل الغضب من النفوس الكريمة.
واستأنفا المسير حتى جذب انتباههما ضجيج عال، فنظرا يمنة فرأيا بناء كبيرا ذا مدخل صغير في أعلى حائطه كوات ضيقة، يدخل إليه جماعات ويخرج منه جماعات، فسأل الشاب صاحبه: ما هذا البناء؟
فقال لاتو: هذه حانة. - هلم نشاهدها.
فابتسم لاتو وقال: هلم!
5
ودخلا الحانة معا، فوجدا نفسيهما في مكان متسع، حوائطه عالية، يتدلى من سقفه مصباح يعلوه الغبار، وفي وسطه وضعت الدنان، يحيط بها سور طوله ذراعان وعرضه ذراع، اصطفت عليه أكواب الفخار وأحاط به الشاربون، ويقف في دائرته صاحب الحانة فيملأ الأقداح للملتفين به، أو يرسلها مع ساق يافع إلى الجلوس في الأركان على أرض الحان، وكان لا يكاد يرفع رأسه عن دنانه، فإذا آذاه أحد الشاربين بنكتة أو دعابة انتهره بخشونة وسب وقذف، فجال الرجلان ببصرهما في المكان، وأراد إسفينيس أن يزحم الوقوف حول الساقي، فأخذ صاحبه من يده، وشق بمنكبيه طريقا إلى السور حتى ارتقاه وسط الأعين المحدقة فيهما دهشة وإنكارا، وكان أحس شيئا من التعب، فقال للخمار مسترسلا: أيها الرجل الطيب هل نجد عندك مقعدين؟
فازداد إنكار من حوله للهجته وغرابة طلبه، أما الخمار فرد عليه دون أن يعيره التفاتا: عفوا أيها الأمير .. إن رواد حانتي ممن يقنعون باقتعاد الغبراء.
وضحك منه ومن صاحبه قوم السكارى، ودنا منهما رجل قصير القامة غليظ الوجه والرقبة عظيم الكرش، فانحنى لهما في هزء، وقال بتلعثم الثمل: أيها السيدان، إني أنزل لكما عن كرشي تقتعدانه.
وأدرك إسفينيس خطأه الذي أساء به إلى نفسه وإلى صاحبه، فقال يصلح منه: إننا نتقبل هديتك شاكرين، ولكن كيف يمكن أن تشرب خمرك المعتقة بغير هذا الكرش؟
وسر السكارى بسؤال الشاب، وصاح بعضهم بالرجل الأكرش: أجب يا طونا .. أجب .. كيف تشرب أقداحك إذا نزلت للسيدين عن كرشك؟
وقطب الرجل مفكرا، وهرش رأسه متحيرا وقد تدلت شفته السفلى كقطعة كبد دامية، ثم أضاءت عيناه المحمرتان كأنما وجد الحل السعيد، وقال: أشرب خمرا مهضومة!
فضحك الرجال، وسر إسفينيس لإجابته، وقال له متلطفا : إني أعفيتك من النزول عن هذا الكرش العظيم، الذي خلق ليكون زق خمر لا مقعد جلوس.
ثم نظر إسفينيس إلى الخمار وقال له: أيها الرجل الطيب املأ ثلاثة أقداح لنا وللظريف طونا.
وملأ الرجل الأقداح وقدمها إلى إسفينيس، فخطف طونا قدحه وأفرغه في فمه دفعة واحدة وهو لا يصدق، ثم مسح فمه بكفه، وقال لإسفيني: أنت غني بلا شك أيها السيد الكريم.
فقال إسفينيس مبتسما: حمدا للرب على نعمائه.
فقال طونا: ولكنكما كما أرى من مشابه وجهيكما مصريان؟ - صدقت فراستك، وهل من تناقض بين أن نكون مصريين وغنيين؟ - نعم، إلا أن تكونا من المقربين إلى الحاكمين.
وهنا قال رجل آخر: وهؤلاء يقلدون سادتهم فلا ينزلون إلى مخالطتنا.
فتجهم وجه إسفينيس، وعاودته صورة الشاب الذي صاح به غاضبا منذ حين قائلا: «يا عبد الرعاة»، ثم قال: نحن من مصريي النوبة، وجئنا مصر حديثا.
وساد الصمت، ودوت كلمة النوبة في الآذان دويا غريبا، ولكن كان القوم سكارى لا يملك هذيان الخمر ناصية عقولهم، فلا يقدرون على جمع شتات أفكارهم، فنظر أحد الرجال إلى كأسي الرجلين اللذين لم يقرباهما، وقال بلسان ثقيل: لماذا لا تشربان، سقاكما الرب أطيب خمر الجنان؟
فقال لاتو: قليلا ما نشرب، وإذا ما شربنا فعلى مهل.
فقال طونا: نعم ما تفعلان، فما جدوى الفرار من حياة سعيدة؟ أما أنا فشقائي بمهنتي جلل، وشقائي بأسرتي وأولادي أجل، وشقائي بنفسي أفدح، ومناي ألا أرفع القدح عن شفتي.
فصفق ثمل مسرورا بقول طونا، وقال وهو يهز رأسه طربا: هذه الحانة مهجر البائسين، مهجر من يقدمون موائد الطعام الشهية وهم جياع، ومن ينسجون فاخر اللباس وهم عراة، ومن يهرجون في أفراح السادة وهم جرحى قلوب، صرعى نفوس.
فقال رجل غير هذين: اسمعا يا رجلي النوبة، لن تطيب الحياة لشارب حتى تخذله ساقاه، فيهوي فاقد الوعي، ولأضرب لكما مثلا بنفسي، فما من ليلة أعود إلى كوخي إلا محمولا.
وانتفض إسفينيس، وأدرك أنه بين جماعة من مبتئسي البشر، وسألهم: هل أنتم صيادون؟
فقال طونا: جلنا صيادون.
وهز صاحب الحانة كتفيه استهانة، وقال دون أن يحول رأسه عن عمله: أما أنا فخمار يا سيدي.
فقهقه طونا، ثم أشار بأصبع غليظة إلى رجل قصير القامة، نحيف القد، دقيق الأطراف، واسع العينين براقهما، ثم قال: وإن أردت التدقيق فهذا الرجل لص!
فنظر إسفينيس إلى الرجل بغرابة، فارتبك، وأراد أن يطمئنه فقال: لا يساورك القلق يا سيدي، فأنا لا أسرق في هذا الحي جميعه.
وعلق طونا على قول الرجل بقوله: يعني أنه لما كان لا يوجد في حينا ما يستحق مشقة السرقة، فهو يعاشرنا كأحدنا، ويمارس فنه في أطراف طيبة، حيث المال موفور، والسعادة وارفة الظلال.
وكان اللص نفسه ثملا، فقال بلهجة الاعتذار: لست لصا يا سيدي، ولكنني سائح يضرب الأرض ويشرق ويغرب كما تسوقه قدماه، فإذا عثرت في سبيلي بأوزة ضالة أو دجاجة تائهة، هديتها إلى مأوى، وهو كوخي في الغالب. - وهل تأكلها؟ - معاذ الرب يا سيدي، إن الطعام الحسن يسمم بطني، ولكني أبيعها لمن يشتري. - ألا تخشى الخفراء؟ - أخشاهم أكبر خشية يا سيدي، لأنه غير مسموح بالسرقة في هذا البلد لغير الأغنياء والحكام.
فأمن طونا على قول اللص قائلا: القاعدة المتبعة في مصر أن يسرق الأغنياء الفقراء، ولكن لا يجوز أن يسرق الفقراء الأغنياء.
وكان يتكلم وعيناه تحدقان في القدحين المترعين بنهم وجشع، فغير مجرى الحديث وقال باستياء: لماذا تتركان قدحيكما فتنة للشاربين؟
فابتسم إسفينيس وقال مسترسلا: هما لك يا طونا.
فتحلب ريقه وقبض على القدحين بيديه الغليظتين، مرسلا لمن حوله نظرات وعيد، ثم أفرغهما في جوفه قدحا إثر قدح، وتنهد بارتياح، وأدرك إسفينيس معنى الوعيد الذي يهدد به، فطلب للقريبين منه جعة ونبيذا مما يشتهون، فشرب الجميع وضجوا فرحين، وانطلقوا في الأحاديث والغناء والضحك، وكان الشقاء والفقر يرتسمان على وجوههم جميعا، ولكنهم بدوا في تلك الساعة سعداء ضاحكين لا يحسبون حسابا للغد، واندمج إسفينيس في جوهم جذلا مسرورا، تعتاده الكآبة بين الحين والحين، وقضى بينهم زمنا ليس بالقصير، حتى دخل الحانة رجل تدل هيئته على أنه منهم، فحياهم بإيماءة وطلب قدحا من الجعة، ثم قال لمن حوله بلهجة لا تدل على شيء: قبضوا على السيدة إبانا وساقوها إلى المحكمة.
ولم يعره الأكثرون التفاتا لما أذهل الشراب من عقولهم، وسأله آخرون: ولمه؟ - يقال إن ضابطا كبيرا من الرعاة اعترض سبيلها على شاطئ النيل، ورغب في أن يضمها إلى نسائه، فقاومته ودفعته عنها.
فزمجر الكثيرون، وسأله إسفينيس: وما عسى أن تصنع بها المحكمة؟
فحدجه الرجل بنظرة إنكار، وقال: ستحكم عليها بدفع غرامة لا قبل لها بها حتى تعجزها، فتأمر بجلدها بالسياط، والزج بها في السجن.
فتجهم وجه إسفينيس وامتقع، وقال للرجل: هل لك أن تدلنا على طريق المحكمة؟
فقال له طونا بتلعثم: الشراب أولى بذهنك، لأن من يدفع عن هذه المرأة يغضب الضابط الكبير، ويعرض نفسه لعاقبة غير مأمونة.
وسأله الرجل الذي أذاع الخبر: هل أنت غريب يا سيدي؟
فقال إسفينيس: نعم، وأرغب في حضور هذه المحاكمة. - أكون دليلك إلى المحكمة إذا شئت.
وفي أثناء مفارقتهم للحانة مال لاتو على أذنه، وقال هامسا: إياك والتورط في أمر يفسد علينا مهمتنا الخطيرة.
فلم يجب إسفينيس، واقتفى من فوره أثر الرجل.
6
كانت المحكمة مكتظة بذوي الحاجات وأصحاب القضايا والشهود، وامتلأت مقاعد القاعة بالحاضرين من جميع الطبقات، وفي الصدر جلس القضاة ذوو اللحى المرسلة والوجوه البيض، وقد تدلى على صدر رئيسهم تمثال صغير لربة العدالة ثمي، فاتخذ الرفيقان مقعدين متقاربين، وقال لاتو لإسفينيس همسا: إنهم يقلدون أنظمتنا في ظاهرها.
وتفرسا في الوجوه، فأدركا أن أغلب الحاضرين من الهكسوس، وكان القضاة يستدعون المتهمين ويستجوبونهم على عجل، ويصدرون الأحكام بسرعة وبلا رحمة، وأصوات الشكوى والعويل تتصاعد من العراة ذوي الأجسام النحاسية والوجوه السمر، وجاء دور السيدة المنشودة، فنادى المنادي قائلا: السيدة إبانا.
وتطلع الرجلان في لهفة، فرأيا سيدة تقترب من المنصة في خطى متزنة، يدل مظهرها على الوقار والحزن، وتتجلى قسماتها عن حسن بالرغم من بلوغها الأربعين، وتبعها رجل من الهكسوس يرتدي لباسا فخما، فانحنى للقاضي باحترام وقال: سيدي القاضي الجليل، أنا وكيل القائد رخ - الذي اعتدت عليه هذه المرأة - وأدعى خم، وسأنوب عن عظمته أمام القضاء.
فهز القاضي رأسه موافقا، مما أثار دهشة لاتو وإسفينيس، ثم قال: بماذا يتهم مولاك هذه المرأة؟
فقال الرجل بإنكار وامتعاض: يقول مولاي إنه التقى بهذه المرأة صباح اليوم، فرغب في أن يضمها إلى جواريه، فقابلت صنيعه بالإنكار والجحود، ودفعته بوقاحة عدها اعتداء على شرفه العسكري.
فأثار حديث الرجل ضجة بين الحاضرين واستياء، وتقاربت الرءوس في همس واستنكار. وأشار القاضي للقوم بصولجانه، فساد السكون، ثم وجه سؤاله إلى المرأة قائلا: ما قولك يا امرأة؟
وكانت المرأة محافظة على هدوئها، كأن اليأس من الإنصاف أكسبها أمانا من الخوف، فقالت بهدوء: إن قول هذا الرجل لا ينطبق على الحقيقة!
فغضب القاضي، وقال منتهرا إياها: حاذري أن تقولي قولا ينال من مقام المشتكي العظيم فتضاعف جريمتك، قصي ودعي الحكم لنا.
فاحمر وجه المرأة ارتباكا، وقالت وهي ما تزال تحافظ على هدوئها: كنت أسير في طريقي إلى حي الصيادين، فإذا عربة تعترض سبيلي وينزل منها ضابط فيدعوني إلى الركوب دون إمهال ولا سابق معرفة، فارتعت وأردت أن أتحاماه، ولكنه أمسك بيدي وقال لي إنه يشرفني بضمي إلى نسائه فقلت له إني أرفض ما يعرضه علي، ولكنه سخر مني، وقال لي إن رفض المرأة الظاهري عين القبول.
وأشار إليها القاضي إشارة أسكتتها، وكأنما ساءه أن تأتي على تفاصيل تحرج مقام الضابط، فسألها: أجيبي هل اعتديت عليه؟ - كلا يا سيدي، لقد أصررت على رفضي، وحاولت التملص من يده، ولكني لم أعتد عليه لا بيدي ولا بلساني، ويشهد على قولي هذا جمع غفير من أهل الحي. - أتعنين الصيادين؟ - نعم يا سيدي. - هؤلاء لا تقبل شهادتهم في هذا المكان المقدس.
فسكتت المرأة، ولاحت في عينيها نظرة حيرة وارتباك، فسألها القاضي: أليس لديك ما تقولينه غير ذلك؟ - كلا يا سيدي، وأقسم أني ما آذيته بقول أو فعل! - إن المدعي عليك شخص كبير، وقائد من قواد الحرس الفرعوني، وقوله حق حتى تقيمي الدليل على نقضه. - وكيف لي بنقضه، وقد رفضت المحكمة الإصغاء إلى شهودي؟
فقال القاضي بغضب: إن الصيادين لا يدخلون هذا المكان، إلا إذا سيقوا إليه متهمين!
وأعرض الرجل عنها، وعدل إلى رفاقه القضاة وتبادل معهم الرأي حينا، ثم اعتدل في جلسته وقال موجها كلامه إلى السيدة إبانا: أيتها المرأة، لقد أراد بك القائد خيرا فجازيته أسوأ الجزاء، والمحكمة تخيرك بين دفع خمسين قطعة من الذهب، أو السجن ثلاثة أعوام والجلد!
وأصغى الحاضرون إلى الحكم فبدا الرضى على الوجوه جميعا، إلا واحدا صاح بصوت ثائر كأنما أفلت منه الزمام: سيدي القاضي .. هذه السيدة مظلومة بريئة .. فأطلق سراحها .. اعف عنها إنها مظلومة!
ولكن القاضي استولى عليه الغضب، وحدج الصارخ بنظرة أسكتته، وتوجهت إليه الأنظار من كل صوب فعرفه إسفينيس، وقال لصاحبه دهشا: إنه الشاب الذي أغضبه حديثنا معه، واتهمنا بأننا عبيد الرعاة!
وكان إسفينيس مغضبا متألما، فاستدرك يقول: لن أدع هذا القاضي الأحمق يزج بهذه السيدة في السجن.
فقال لاتو بقلق: إن مهمتنا أكبر من نصرة امرأة مظلومة، فاحذر أن ينقلب علينا عملك .. ولكنه لم يصغ إلى صاحبه، وتريث حتى سمع القاضي يسأل المرأة قائلا: هل تدفعين ما يطلب إليك دفعه؟
فقام واقفا، وقال بصوت جميل عذب النبرات: نعم يا سيدي القاضي!
وانعطفت نحوه الرءوس تتفحص الكريم الجسور الذي تقدم لإنقاذ المرأة في آخر لحظة، ونظرت إليه المرأة في ذهول، وكذلك الشاب الذي دافع عنها بالبكاء والاستعطاف، أما وكيل القائد فصوب نحوه نظرة نارية برق فيها الوعيد، ولكن الشاب لم يبال أحدا وسار نحو منصة القضاة بقامته الطويلة الرشيقة، ومحياه الجميل الفاتن، وأدى الغرم المطلوب إلى المحكمة.
وتفكر القاضي مرتبكا، وهو يسائل نفسه من أين لهذا الفلاح بالذهب؟ ومن أين له هذه الشجاعة؟ .. ولم يجد بدا مما ليس منه بد، فأقبل على المرأة قائلا: يا امرأة .. اذهبي طليقة .. وليكن لك مما كدت تتردين فيه موعظة ودرسا.
7
وغادروا المحكمة جميعا، لاتو وإسفينيس والسيدة إبانا والشاب الغريب، وفي الطريق نظرت المرأة إلى إسفينيس، وقالت بصوت لا يكاد يسمع: سيدي ، لقد أنقذتني مروءتك من ظلمات السجون، فملكت عنقي بجميل صنيعك، وحملتني دينا لا أستطيع الوفاء به.
وخطف الشاب الغريب يده فقبلها وعيناه مغرورقتان بالدموع، وقال بصوت متهدج: فليعف الرب عما سلف من سوء ظني، وليجزك أجمل الجزاء على ما أوليتنا بإنقاذك أمي من غيابات السجن وآلام الجلد.
فغلب التأثر إسفينيس وقال برقة: لا عليكما من هذا، لقد ابتليت أيتها السيدة بظلم قبيح، والظلم وإن وقع على نفس بعينها يسيء إلى النفوس العادلة جميعا، وما فعلت إلا أن غضبت فنفست عن غضبي، فلا دين هناك ولا وفاء!
ولم يقنع هذا القول السيدة إبانا، فظلت على تأثرها تتعثر في ارتباكها وتقول: يا له من عمل نبيل .. يا له من عمل يجل عن الوصف ويعلو على المديح.
وأما ابنها فكان لا يقل عنها تأثرا، ورأى إسفينيس ينظر إليه فقال كالمعتذر: ظننت حين التقينا أنكما من صنائع الرعاة، لما يبدو عليكما من مظاهر الثراء، فإذا بكما مصريان كريمان لا أدري من أين جئتما، وقد أقسمت ألا أفارقكما حتى تتفضلا بزورة كوخنا الصغير، لنشرب معا قدحا من الجعة احتفالا بتشرفنا بمعرفتكما، فماذا تقولان؟
وراقت الدعوة إسفينيس الذي كان يرغب في الاختلاط ببني جلدته، وكانت شهامة الشاب وجماله يجذبانه إليه، فقال: إننا نقبل هذه الدعوة ببالغ السرور.
وابتهج الشاب كما ابتهجت أمه، ولكنها قالت: أرجو المعذرة لأنكما لن تجدا كوخنا يليق بمقامكما الرفيع.
فقال لاتو بلباقة: إن في صاحبي الكوخ غنى عن كل شيء، ومع هذا فنحن تجار متعودون شظف العيش ووعثاء الطريق.
ثم ساروا جميعا يشملهم شعور واحد بالمودة، كأنهم أصدقاء من عهد قديم، وفي أثناء الطريق قال إسفينيس لابن إبانا: كيف ندعوك يا صاحبي؟ أما أنا فإسفينيس، وأما صاحبي فيدعى لاتو.
فحنى الشاب رأسه إكراما، مبتسما وقال: ادعوني أحمس.
فخيل إلى إسفينيس كأن أحدا يناديه، ونظر إلى الشاب نظرة غريبة!
وبلغوا الكوخ بعد مسير نصف ساعة، وكان ساذجا كأكواخ الصيادين، يتكون من ردهة خارجية وحجرتين صغيرتين متداخلتين، ولكنه كان على سذاجة أثاثه وفقره الواضح نظيفا حسن الترتيب، فجلس أحمس وضيفاه في الردهة، وفتحا الباب على مصراعيه ليخلص لهم نسيم النيل ومنظره؛ على حين ذهبت إبانا لتعد الشراب، ولبثوا هنيهة صامتين يتبادلون النظرات، ثم قال أحمس بعد تردد: إنه من العجب أن يجد الإنسان مصريين في مثل مظهركما الوجيه، فكيف ترككما الرعاة تثريان ولستما من صنائعهم؟
فقال إسفينيس: نحن من مصريي النوبة، ودخلنا طيبة اليوم.
فصفق الشاب بيديه دهشة وسرورا، وقال: النوبة .. لقد فر إليها كثيرون في أثناء غزو الرعاة لبلادنا، فهل أنتما من المهاجرين؟
وكان لاتو بطبعه شديد الحذر، فقال بسرعة قبل أن يجيب إسفينيس: بل نحن من الذين هاجروا قبل ذلك للتجارة! - وكيف استطعتما الدخول إلى مصر، وقد أغلق الرعاة الحدود؟
فأدرك الرجلان أن أحمس على حداثة سنه يعرف أشياء كثيرة، وكان إسفينيس يشعر نحوه بمودة واطمئنان، فقص عليه قصة دخولهما مصر، وفي أثناء حديثه عادت إبانا تحمل أقداح الجعة، وسمكا مشويا، فوضعت الشراب والطعام أمامهم، وجلست تصغي إلى قصة إسفينيس حتى ختمها بقوله: «إن الذهب يذهل القوم عن نفوسهم ويخلب ألبابهم، وسوف نمضي إلى حاكم الجنوب ونعرض عليه نفائس ما نحمل، وأملنا أن يوافق أو ينال لنا الموافقة على تبادل التجارة بين مصر والنوبة، لنعود إلى سابق عملنا وتجارتنا» .. فقدمت لهما أقداح الجعة والسمك، وقالت: إذا وفقتما إلى غرضكما فستقومان بأعباء عملكما منفردين، فلا الرعاة يرضون بالعمل في التجارة، ولا المصريون في حالتهم الراهنة من الفقر والبؤس بقادرين على المشاركة فيها!
وكان لدى التاجرين ما يقولان في ذلك، ولكنهما آثرا السكوت عليه، وأقبلا على السمك يأكلان وعلى الجعة ينهلان، وأثنيا على السيدة أجمل الثناء، وأطريا مائدتها الساذجة، فتورد وجهها، ولهج لسانها بشكر الشاب على جميل صنيعه، وبلغ منها التأثر مبلغا عظيما فقالت: لقد مددت إلي يدك الكريمة في الوقت المناسب، وكم من مصريين بائسين تطحنهم رحى الظلم في الصباح والمساء دون أن يظفروا بمعين!
وبدا أحمس سريع التأثر، فما كاد يسمع أمه تقول هذا القول حتى تضرج وجهه باحمرار الغضب، وقال بحدة : المصريون عبيد، يلقى إليهم بالفتات ويضربون بالسياط، أما الملك والوزراء والقواد والقضاة والموظفون والملاك جميعا فمن الرعاة، السلطان اليوم للبيض ذوي اللحى القذرة، والمصريون عبيد في الأراضي التي كانوا بالأمس أصحابها!
وكان إسفينيس يرمق أحمس في أثناء تدفقه بالكلام بعينين يلوح فيهما الإعجاب والعطف، على حين ظل لاتو خافضا عينيه ليخفي تأثره، وسأله إسفينيس: وهل يوجد كثيرون يغضبون لهذه المظالم؟ - نعم، ولكننا جميعا نكظم الغضب ونحتمل الإساءة، شأن الضعيف الذي لا حيلة له، وإني لأتساءل أما لهذا الليل من آخر؟ فقد انقضت عشرة أعوام منذ رضي الرب الغاضب علينا أن يسقط التاج عن رأس مليكنا سيكننرع.
وخفق قلب الرجلان خفقة عنيفة، وامتقع إسفينيس، ونظر لاتو إلى الشاب دهشا ثم سأله: كيف تعرف هذا التاريخ على حداثة سنك؟ - تحفظ ذاكرتي صورة قليلة قائمة، ولكنها واضحة لا تزول، لأيام الشقاء الأولى، ولكني أدين لأمي بمعرفة تاريخ قصة طيبة الأسيفة التي لا تفتأ ترددها على مسمعي!
فنظر لاتو إلى إبانا نظرة غريبة اضطربت لها المرأة، فأراد أن يسري عنها فقال لها: أنت سيدة فاضلة وابنك شاب نبيل!
وقال لاتو لنفسه إن السيدة ما تزال تحاذر بالرغم من كل شيء، وكان في نيته أن يسأل عن بعض أمور تهمه، فعدل عن هذا إلى المستقبل، وغير الشيخ مجرى الحديث بلباقة وصرفه إلى وجوه تافهة، فأعاد الطمأنينة إلى النفوس، وشملهم الصفاء وتبادلوا جميعا شعور المودة الخالصة، وحين هم التاجران بمبارحة الدار قال أحمس لإسفينيس: متى تذهب يا سيدي إلى حاكم الجنوب؟
فقال إسفينيس وهو يعجب للسؤال: ربما ذهبت غدا. - لي رجاء. - ما هو؟ - أن أصحبك إلى ضيعته.
فسر إسفينيس لذلك، وقال للشاب: أتعرف الطريق إليها؟ - حق المعرفة.
وحاولت إبانا الاعتراض على ابنها، ولكنه أسكتها بإشارة عصبية من يده، فابتسم إسفينيس وقال: إذا لم يكن عندك مانع، فستكون الدليل إليها.
8
وانقضى النصف الأول من اليوم الثاني في الإعداد لزورة الحاكم، وكان إسفينيس يقدر قيمة هذه الزورة حق قدرها، ويعلم أن حياة آماله جميعا رهينة ببعض عواقبها، وكذلك آمال من خلفهم وراءه في نباتا يعترك في نفوسهم الكبيرة اليأس والأمل، فشحن سفينته بصناديق التحف واللآلئ، وأقفاص الحيوان الغريب والقزم زولو، وعدد كبير من العبيد، وقبيل الأصيل وافاهما أحمس، فحياهما بفرح وقال: أنا منذ الساعة من عبيدكما!
فتأبط إسفينيس ذراعه، ومضوا ثلاثتهم إلى المقصورة، ثم أبحرت السفينة صوب الشمال في جو رائق وريح مؤاتية، وقد صمت من في المقصورة، واستغرق كل منهم في تأملاته، مرسلا بناظريه إلى شاطئ طيبة، وعبرت السفينة أحياء الفقراء، وأقبلت على القصور الشم الغارقة بين أدواح النخيل وأشجار الجميز، تهفو عليها الأطيار من كل نوع ولون، وتفصل بينها وتترامى وراءها الحقول ذات الخضرة، تشقها الجداول الفضية والوديان والنخيل والكروم، وترعاها الثيران والبقر، ويعكف عليها الفلاحون العراة الصابرون، وعلى الشاطئ أقيمت المنازف تغرف من النيل على أنغام الأناشيد الرقيقة، وكانت النسائم تعابث الأشجار حاملة في حناياها هسيس النبات وزقزقة العصافير وخوار الثيران، وشذا الأزهار والرياحين، فأحس إسفينيس أن أنامل الذكريات تداعب جبينه المحترق، وذكر أيام الربيع حين كان يخرج إلى الحقول محمولا على هودجه الملكي، يسير بين يديه العبيد والحرس والفلاحون يحيونه فرحين بطفولته الطاهرة، ناثرين الورد في طريقه السعيد.
وأيقظه صوت أحمس وهو يقول: هذا هو ذا قصر الحاكم.
فتنهد إسفينيس ونظر إلى حيث يشير الشاب، ونظر معهما لاتو وقد لاحت في عيني الشيخ نظرة دهشة وإنكار.
وعرجت السفينة نحو القصر وقد سكنت مجاديفها، فاعترض سبيلها زورق حربي غاص بالجنود، وصاح بهم ضابط في عنف وعجرفة: ابتعد بسفينتك القذرة أيها الفلاح.
فقفز إسفينيس من المقصورة، ودنا من حائط السفينة وحيا الضابط باحترام وقال: معي رسالة خاصة إلى صاحب العظمة حاكم الجنوب.
فحدجه الضابط بنظرة حادة وحشية، وقال: أعطنيها وانتظر.
فأخرج الشاب الكتاب من جيب عباءته وأعطاه للضابط، وتفحصه هذا بأناة، ثم أمر رجاله فوجهوا الزورق نحو درج الحديقة، ونادى حارسا فناوله الرسالة، فأخذها الحارس ومضى ناحية القصر، وغاب زمنا يسيرا وعاد مسرعا إلى الضابط وأسر إليه كلمات، فأشار الضابط إلى إسفينيس أن يدنو بسفينته، فأمر الشاب ملاحيه بالجدف حتى رست السفينة في مرفأ القصر، وقال له الضابط: إن صاحب العظمة ينتظرك، فاحمل إليه بضاعتك!
وأصدر الشاب أمره إلى النوبيين، فحملوا الصناديق وبينهم أحمس، ورفع آخرون أقفاص الحيوان وهودج زولو. وقال لاتو للشاب وهو يودعه: فليكتب الرب لك التوفيق.
ولحق إسفينيس بالقافلة، يقطعون جميعا أرض الحديقة المعشوشبة في سكون شامل.
9
مضى التاجر لمقابلة الحاكم، فقاده خادم إلى بهو الاستقبال، وتبعه عبيده بأثقالهم، ووجد الشاب نفسه في بهو فائق الترف عظيم الأناقة، يتجلى الفن في أرضه وحوائطه وسقفه، وفي الصدر منه جلس الحاكم على متكأ وثير، في جلباب فضفاض كأنه كتلة من بنيان متين. وكانت ملامح وجهه الكبير قوية واضحة، أما نظرة عينيه الحادتين فتدل على الشجاعة والبسالة والصفاء، فأشار إسفينيس إلى رجاله فوضعوا الصناديق والأقفاص أمامهم، واقترب من وسط البهو خطوات، ثم انحنى إجلالا للحاكم وقال: حياك الرب المعبود ست أيها الحاكم الأجل.
فألقى عليه الحاكم نظرة من نظراته القوية النافذة، فراقه منظره النبيل وطوله الفارع، وبدا على وجهه الارتياح لرؤيته، وسأله: أقادم أنت حقا من بلاد النوبة؟ - نعم يا مولاي. - وماذا تبغي من وراء رحلتك هذه؟ - أطمع أن أهدي إلى سادة مصر تحفا مما يوجد في بلاد النوبة، آملا أن تروقهم فيطلبوا المزيد منها. - وماذا تطلب أنت لقاء ذلك؟ - بعض ما يفيض عن حاجة مصر من الغلال.
فهز الحاكم رأسه الكبير، وقد لاحت في عينيه نظرة ساخرة، وقال بصراحة: أراك حديث السن ولكنك جسور مغامر، ومن حسن طالعك أني أحب المغامرين .. والآن أرني ما تحمل من التحف! - ودعا إسفينيس أحمس فاقترب الشاب من الحاكم ووضع عند موضع قدميه صندوقه، وفتحه التاجر فبدا ما بداخله من الياقوت صيغ حليا مختلفة أشكالها، فتفحصها الحاكم بعينين لاح فيهما الجشع والطمع والإعجاب، ومضى يقلبها بين يديه، ثم سأل الشاب قائلا: هل يوجد من هذه الحلي كثير في النوبة؟
فأجاب إسفينيس بلباقة، وكان أعد الجواب من قبل أن يدخل مصر: إنه لمن أعجب الأمور يا مولاي أن توجد هذه الأحجار الكريمة في أقاصي أدغال النوبة، حيث تأوي الوحوش الضارية وتنتشر الأوبئة الفتاكة!
ثم عرض على الحاكم صندوقا من الزمرد، وثانيا من المرجان، وثالثا من الذهب، ورابعا من اللؤلؤ، وتفحصها الرجل على مهل مبهورا حتى بدا في النهاية كالثمل النشوان، وعرض عليه بعد ذلك أقفاص الغزلان والزرائف والقرود وهو يقول: ما أجمل هذا الحيوان في حديقة القصر.
فابتسم الحاكم وهو يقول لنفسه: «يا له من شاب كالشيطان لا يقاوم!» وبلغت دهشة الحاكم نهايتها حين رفع الستار عن الهودج، وبدا زولو بخلقه الغريب، فلم يتمالك الحاكم أن قام واقفا، ودنا من الهودج ودار حوله وهو يتساءل: يا للعجب .. أحيوان هو أم إنسان؟
فقال إسفينيس مبتسما: بل إنسان يا مولاي من شعب جم العدد. - هذا أعجب ما رأيت وما سمعت!
ونادى الرجل عبدا وقال له: ادع الأميرة أمنريدس وزوجي وأخي.
10
وجاء الذين دعاهم الحاكم، ورأى إسفينيس أن يخفض بصره تأدبا، ولكنه سمع صوتا رخيما زلزلت له نفسه زلزالا شديدا يقول: لماذا أزعجت مجلسنا أيها الحاكم؟
فاختلس نظرة إلى الداخلين، فرأى في مقدمتهم الأميرة التي زارت بالأمس قافلته وانتقت القلب الزمردي، وكان منظرها كما عهده يغشى العيون، ويفعل بها ما يفعله الوهج الشديد، فأيقن الشاب أن الحاكم خنزر وزوجه من الأسرة الفرعونية لا محالة، على أنه رأى وجها آخر ليس بالجديد عليه، وهو وجه الرجل الذي تبع الأميرة وزوج الحاكم، فقد كان القاضي الذي حكم على إبانا بالأمس، وقد وضح له ما بينه وبين الحاكم من شبه قريب وما من شك في أن الأميرة والقاضي عرفاه كذلك، لأنهما ألقيا عليه نظرة ذات معنى، وكان الحاكم يجهل ما يحدث حوله من التعارف الصامت، فانحنى للأميرة وقال: تعالي يا صاحبة السمو انظري إلى أنفس ما حوت بطون الأرض وأغرب ما حمل سطحها، ودار على الصناديق المحملة بالأحجار الكريمة وأقفاص الحيوان وهودج زولو، فأقبلوا عليها في شغف ودهشة وإعجاب، ونال القزم قسطه من الإنكار والغرابة، وكان زوج الحاكم أكبرهم دهشة وإعجابا، وكانت مغرمة بالجواهر غراما يضرب به المثل، فأقبلت على صناديق العاج أيما إقبال، أما القاضي فتحول إلى إسفينيس وقال له: كنت بالأمس أسائل نفسي عن مصدر ثروتك، وقد عرفت اليوم كل شيء.
فقلب الحاكم وجهه فيهما، وقال لشقيقه: ماذا تعني أيها القاضي سنموت؟ .. هل عرفت هذا الشاب قبل الآن؟ - نعم يا سيدي الحاكم، رأيته بالأمس في المحكمة، والظاهر أنه عظيم الاعتداد بنفسه وبثروته، فقد تبرع بخمسين قطعة من الذهب لينقذ فلاحة متهمة بإهانة القائد رخ من السجن والجلد، فترى يا سيدي أن القائد أصيب في يوم واحد بفلاحة تتطاول عليه وبفلاح يتحدى غضبه.
فضحكت الأميرة أمنريدس ضحكة رقيقة ساخرة، وقالت وهي تلقي نظرة على وجه الشاب: وما وجه العجب في ذلك أيها القاضي سنموت؟ .. أليس من الطبيعي أن يشمر فلاح للدفاع عن فلاحة؟ - الحق يا مولاتي أن الفلاحين لا يقوون على شيء، ولكنه الذهب وسحره، وقد صدق من قال إنك إذا رغبت في أن تنتفع بالفلاح فأفقره ثم اضربه بالسوط.
أما الحاكم فكان بطبعه عظيم الإعجاب بأعمال الجسارة والبسالة، فقال: إن التاجر شاب جسور، وما اقتحامه حدود بلادنا إلا آية من آي شجاعته، مرحى .. مرحى .. ليته كان رجل قتال لأقاتله، فقد صدئ سيفي من طول انزوائه في غمده.
فقالت الأميرة أمنريدس بلهجتها الساخرة: كيف لا تأخذك به الرحمة أيها القاضي سنموت وهو يدينني؟ - أتقولين يدينك يا صاحبة السمو؟ .. يا لها من كلمة!
وضحكت من دهشة الحاكم، وقصت عليه كيف رأت القافلة، وكيف جذبها زولو إلى السفينة حيث انتقت العقد الجميل، وكانت تروي قصتها بلهجة دلت على ما تتمتع به من حرية وجسارة، وميل إلى السخرية والفكاهة، فزالت دهشة الحاكم خنزر، وقال لها مداعبا: لماذا اخترت قلبا أخضر يا صاحبة السمو؟ .. فإنا نعلم معنى القلب الأبيض والقلب الأسود، ولكن ما معنى القلب الأخضر؟
فقالت الأميرة ضاحكة: وجه سؤالك إلى بائع القلب؟
وكان إسفينيس صامتا منصتا تعلوه الكآبة؛ فقال: القلب الأخضر يا صاحبة العظمة رمز الخصب والحنان!
فقالت الأميرة: ما أشد حاجتي إلى هذا القلب، لأني أحس أحيانا أني قاسية حتى ليلذ لي أن أقسو على نفسي.
وكان القاضي سنموت يطيل النظر في تلك الأثناء إلى زولو، وحاول أن يحول انتباه زوج شقيقه إليه، ولكنها أبت أن تتحول عن صناديق الأحجار الكريمة، فقال القاضي وقد تأفف من منظر القزم: يا له من مخلوق قبيح.
فقال إسفينيس: إنه من شعب من الأقزام، لا تروقهم صورتنا، ويعتقدون أن الخالق شوه ملامحها وقبح أطرافها!
فضحك الحاكم خنزر ضحكة عظيمة، وقال: إن قولك هذا أعجب من زولو نفسه، ومن كل ما تحمل من غريب الحيوان والنفائس.
وقال سنموت وهو يحدج إسفينيس بنظرة ارتياب: أرى هذا الشاب يدع أفكارنا تضطرب بأخيلته، فمن المؤكد أن أولئك الأقزام لا يمكن أن يدركوا معنى للحسن أو القبيح!
ورنت الأميرة أمنريدس إلى القزم كالمعتذرة، وقالت: هل تستقبح النظر إلى وجهي يا زولو؟
فعاد خنزر إلى قهقهته، واختلج قلب إسفينيس لما رآه من روعة حسنها وفتنة دلالها، وقد تمنى في تلك اللحظة أن يديم إليها النظر، وساد الصمت بعد ذلك، فأدرك الشاب أنه قد آن وقت الانصراف وخشي أن يصرفه الحاكم دون أن يطرق الموضوع الذي يهمه، فقال للحاكم: هل من الممكن أيها الحاكم الجليل أن أطمع في تحقيق آمالي في ظل رعايتك الكريمة؟
ففكر الحاكم وعبثت يده بلحيته الغزيرة السوداء، ثم قال: لقد مل قومنا الحرب والغزو ومالوا إلى الترف والنعيم، وإنهم ليترفعون بطبعهم عن التجارة، فلا سبيل إلى هذه الدرر الثمينة إلا بالمغامرين من أمثالك، ولكني لا أحب أن أعطيك كلمتي الآن، فينبغي أن أحدث قبل ذلك مولاي الملك، وسأرفع إلى ذاته العليا أجمل هذه النفائس عسى أن يوافقني على رأيي.
فانشرح صدر إسفينيس وقال: سيدي الحاكم، إني أحتفظ لمولانا فرعون بهدية نفيسة صنعت خاصة لذاته العليا.
فتفرس الحاكم في وجهه مليا، وخطرت له فكرة يتقرب بها إلى مولاه فقال: في ختام هذا الشهر يحتفل فرعون بعيد النصر كعادته منذ عشرة أعوام، ومن الممكن أن أجعل منك ومن أقزامك مفاجأة سارة للمليك، فتقدم إليه هديتك التي لا شك أنها لائقة بالمقام الأعلى .. فأخبرني عن اسمك ومقامك. - أدعى يا مولاي إسفينيس، وأقيم حيث ترسو قافلتي على شاطئ حي الصيادين جنوب طيبة. - سيأتي رسولي في يوم قريب.
وانحنى الشاب في إجلال عظيم، وبرح المكان يتبعه عبيده، وكانت الأميرة تنظر في وجهه وهو يحدث الحاكم عن آماله، ويصغي إليه، وتبعته بنظرها وهو يبرح المكان، فعجبت لآي النبل والحسن البادية على وجهه وقامته، وأسفت أن يكون حظه من الدنيا التجارة وحمل الأقزام. أواه .. كم تمنت أن تجد هذه القامة في جسم واحد من قومها الميالين إلى البدانة والقصر، ولكنها وجدتها في جسم مصري أسمر يتجر في الأقزام .. وأحست أن صورة هذا الفتى الجميل تحرك عاطفة في نفسها .. فبدت كالغاضبة، وولت الحاكم وآله ظهرها وفارقت البهو.
11
وعاد إسفينيس والعبيد في أثر مرشدهم إلى الحديقة، فتنسم نسمة من ريح طيبة هدأت من وجدانه الثائر، وتنفس تنفسة عميقة امتلأ بها صدره، وكان يعد نتيجة رحلته هذه توفيقا عظيما، ولكنه كان يفكر في الأميرة أمنريدس ويتمثل وجهها النوراني وشعرها الذهبي وشفتيها القرمزيتين، والقلب الزمردي المدلى على صدرها الناهد .. رباه! .. ينبغي أن يتعامى عن المطالبة بثمنه ليظل قلبه وقلبها معا .. وقال لنفسه: إنها ربيبة النعيم والحب، تظن على غير شك أن الدنيا ما فيها رهن إشارة من إصبعها، وجسورا ضحوكا: ولكنه ضحك مترف لا يخلو من القسوة، تضاحك الحاكم وتهزأ بتاجر غريب ولما تبلغ الثامنة عشرة، ولو رأيتها غدا على متن جواد تريش سهما ما حق لي العجب!
ثم نصح نفسه ألا يستسلم للتفكير فيها، ولكي يعمل بنصيحته عاود التفكير في توفيقه فأثنى على الحاكم خنزر، إنه حاكم جبار قوي عظيم الشجاعة، ولكنه طيب القلب، وربما كان عظيم الغباوة أيضا، وإن نزوعه إلى الذهب عظيم كعامة قومه، وقد هضمت معدته الهدايا الكثيرة من الذهب واللؤلؤ والزمرد والياقوت والحيوان والمسكين زولو بغير كلمة شكر .. ولكن هذا الجشع هو الذي فتح له أبواب مصر، وبلغ به قصر الحاكم، وسينتهي به قريبا إلى قصر فرعون، وكان أحمس يسير على مقربة منه، فسمعه يهمس بصوت لا يكاد يسمع قائلا: «شارف» فظنه يخاطبه، فالتفت إليه فوجده ينظر إلى شيخ هرم يحمل سلة أزهار ويضرب في الحديقة بخطى واهنة، وسمع الشيخ الصوت الذي يناديه، فتلفت فيما حوله يبحث ببصره الضعيف عمن يناديه .. ولكن أحمس تحاماه وولاه قفاه، فدهش إسفينيس وألقى عليه نظرة متسائلة، ولكن الفتى خفض نظره ولم ينبس بكلمة.
وبلغوا السفينة وصعدوا إليها فوجدوا لاتو في انتظارهم، يلوح على وجهه الذابل الاهتمام الشديد، فابتسم إسفينيس وقال له: وفقنا بفضل الرب آمون.
ثم رفعت المرساة وتحركت المجاديف، فأقبل الشاب عليه يحدثه حديث المقابلة، حتى قطع عليهما الحديث صوت بكاء، فالتفتا إلى مصدره فرأيا أحمس متكئا على حائط السفينة ينتحب كالأطفال، فراعهما منظره، وتذكر إسفينيس ما غمض عليه من سلوكه في الحديقة، فدنا منه يتبعه لاتو، ووضع يده على منكبه وقال له: أحمس ما الذي يبكيك؟
ولكن الفتى لم يجبه ولم يع مما قال شيئا، واستسلم للبكاء في حزن عميق غلبه على أمره وأفقده وعيه فانزعج الرجلان وأحاطا به، وأخذاه إلى المقصورة وأجلساه بينهما، وأحضر إسفينيس له قدحا من الماء وقال له: ما الذي يبكيك يا أحمس؟ .. هل تعرف ذاك الشيخ الهرم الذي دعوته شارف؟
فقال أحمس وهو يرتجف من حرارة البكاء: كيف لا أعرفه؟ كيف لا أعرفه؟
فسأله في غرابة: من هو؟ ولماذا تبكي هذا البكاء؟
وأخرجه الحزن عن صمته، فباح بما في صدره قائلا: آه يا سيدي إسفينيس، إن هذا القصر الذي دخلته خادما من خدمك هو قصر والدي.
فبدت الدهشة على وجه إسفينيس، وتفرس لاتو في وجهه باهتمام شديد، أما الشاب فاستدرك قائلا وهو في غيبوبة الحزن الشديد: هذا القصر الذي اغتصبه الحاكم خنزر هو مهد طفولتي ومرتع صباي، وبين جدرانه العالية قضت أمي البائسة عهد الشباب والنعيم في كنف والدي قبل أن تقع القارعة في أرض مصر، وتطأ أرض طيبة المقدسة أقدام الغزاة. - ومن كان أبوك يا أحمس؟ - كان أبي قائد جيش مليكنا الشهيد سيكننرع.
فقال لاتو: القائد بيبي؟ .. يا إلهي .. حقا هذا قصر القائد الباسل.
فنظر أحمس إلى لاتو بدهشة وسأله: هل كنت تعرف أبي أيها السيد لاتو؟ - وهل وجد في جيلنا من يجهله؟ - إن قلبي يحدثني بأنك من السادة الذين شردهم الغزو.
فسكت لاتو رغبة عن أن يكذب على ابن القائد بيبي وسأله: وكيف انتهت حياة القائد الباسل؟ - استشهد يا سيدي في الدفاع الأخير عن طيبة، أما والدتي فعملت بوصيته وفرت بي في جمع من السادة إلى حي الفقراء حيث نعيش الآن، لقد تشتت سادة طيبة الأقدمون، وتخفى قوم منهم في أسمال بالية وهاجروا إلى حي الصيادين، وركبت أسرة مليكنا البحر إلى مكان مجهول، وأغلق معبد آمون أبوابه على كهنته فانقطع ما بينهم وبين العالم، وخلا الجو للبيض الغرباء ذوي اللحى يمشون في الأرض مرحا، ويملكون كل شيء، وكان خنزر أسعد القوم حظا فزوجه الملك أخته، ووهبه ضيعة أبي وقصره، ونصبه حاكما على الجنوب جزاء ما اقترفت يداه الأثيمتان.
فسأله لاتو: وأي ذنب اقترفه الحاكم؟
وكان أحمس سكت عن البكاء، فقال بلهجة تنطوي على الغضب الشديد: يده الأثيمة التي أردت مليكنا سيكننرع.
وانتفض إسفينيس كمن مسته نار حامية، ولم يطق قعودا فانتصب واقفا متوعدا وقد ارتسم الغضب على وجهه بصورة مروعة تبعث الرعب في الأفئدة، في حين أغضى لاتو الطرف ممتقع الوجه لاهث الأنفاس، وردد أحمس بصره بينهما فوجد أخيرا من يشاركه عواطفه المضطرمة، فرفع رأسه إلى السماء وتمتم قائلا: ألا فليبارك الرب هذا الغضب القدسي!
وبلغت السفينة مرفأها، وكانت الشمس تنغمس في النيل والشفق يخضب الأفق، فقصدوا إلى بيت إبانا، ووجدوا السيدة تشعل مصباحها، فلما شعرت بمقدمهم تحولت إليهم وعلى فمها ابتسامة ترحيب، فتقدم منها لاتو وإسفينيس وانحنيا لها في إجلال، وقال الشيخ في صوت رزين: طيب الرب مساء أرملة قائدنا العظيم بيبي!
فغاضت الابتسامة من شفتيها، واتسعت حدقتاها دهشة وانزعاجا، وحدجت ابنها بنظرة لوم وتأنيب، وأرادت الكلام فامتنع عليها، فاغرورقت عيناها بالدموع، فدنا منها أحمس ووضع يدها بين راحتيه، وقال لها بحنان: أماه لا تخافي ولا تحزني، وقد علمت ما أولاني هذان السيدان من الجميل، واعلمي إلى هذا أنهما كما ظننت من سادة طيبة الأقدمين الذين شردهم الطغيان، نازعهما الشوق إلى اجتلاء وجه الوطن مرة أخرى!
فسكنت نفس المرأة ومدت لهما يدها فطالعاها بوجهين ينطقان بالصفاء والإخلاص، وجلسوا جميعا متقاربين، وقال إسفينيس: إن فخرنا العظيم بالجلوس إلى أرملة قائدنا الباسل بيبي، الذي قضى في الدفاع عن طيبة ولحق بمولاه من أنبل السبل، إلى ابنه الشاب المتحمس أحمس!
فقالت إبانا: وإني لجد سعيدة أن تلقى إلي المصادفات السعيدة رجلين كريمين من رجال العهد القديم، فنتذاكر معا أيامنا الخوالي، ونشعر بحاضرنا شعورا واحدا، أما أحمس فهو شاب عظيم الحماسة جدير باسمه، وقد دعاه أبوه تيمنا باسم أحمس حفيد مليكنا سيكننرع وابن ملكنا كاموس - وقد ولدا في يوم واحد - طيب الرب مساءه حيثما كان!
وبسط لاتو كفيه مؤمنا على قولها، وقال بصدق وإخلاص: ليحفظ الرب صديقنا أحمس، وليحفظ سميه العظيم حيثما كان!
12
وتوطدت المودة بين التاجرين وأسرة إبانا، فعاشوا جميعا أسرة واحدة لا يفترقون إلا في الثلث الأول من الليل، وعلم الرجلان أن حي الصيادين مكتظ بالسادة المختفين من تجار طيبة وأصحاب ضياعها ومزارعها السابقين، فسر لذلك الرجلان، وأرادا أن يتعرفا إلى بعض البارزين منهم، وأفضيا برغبتهما إلى أحمس بعد أن استوثقا من إخلاص القوم، ورحب الفتى برغبتهما، واختار أربعة من أقرب المقربين إلى والدته هم: سنب وهام وكوم وديب، وأسر إليهم بحقيقة التاجرين، ودعاهم يوما إلى داره حيث وافاهم لاتو وإسفينيس، وكان الرجال يرتدون لباس الفقراء، وزرة وسترة من الكتان بالية، فرحبوا جميعا بالتاجرين وتبادلوا التحيات بحرارة دلت على الصدق والمودة، قال أحمس: إن من ترون مثلكما من سادة مصر الأقدمين، وجميعهم يعيشون عيشة الصيادين المنبوذة البائسة، على حين يستأثر بأرضهم الرعاة الملعونون!
وسأل هام التاجرين: هل أنتما من طيبة أيها السيدان؟
فقال لاتو: كلا يا سيدي، ولكنا كنا يوما من ملاك أمبوس!
فقال سنب: وهل هاجر إلى النوبة كثيرون مثلكما؟
فقال لاتو: نعم يا سيدي ، وفي نباتا يوجد مئات من المصريين، ومن أمبوس وسيين وهابو ومن طيبة نفسها.
فتبادل الرجال النظرات، ولم يكن يرتاب منهم أحد في التاجرين بعدما قص عليهم أحمس ما صنع إسفينيس لأمه في المحكمة، فتساءل هام: وكيف تعيشون في نباتا أيها السيد لاتو؟ - عيشة الضنك كالنوبيين أنفسهم، ففي النوبة تجود الأرض بالذهب وتشح بالغلال. - ولكنكم سعداء ما دمتم لا تمتد إليكم أيدي الرعاة. - دون شك، ولذلك لا نفتأ نذكر مصر وأهلها الأسرى المستعبدين. - ألا يوجد لنا في الجنوب قوة حربية؟ - بلى، ولكنها قوة صغيرة يستعين بها رءوم حاكم الجنوب المصري على حفظ الأمن في البلاد. - وما عسى أن يكون شعور النوبيين نحونا بعد الغزو؟ - إن النوبيين يحبوننا ويرضون بحكمنا طائعين، ولذلك لا يلقى رءوم أية مشقة في حكم البلاد بقوة صغيرة لا يعتد بها، ولو شقوا عصا الطاعة ما وجدوا قوة تؤدبهم!
فلاحت الأحلام في أعين الرجال، وكان أحمس قص عليهم كيف تمكن التاجران من اجتياز الحدود وزيارة الحاكم، وكيف أن إسفينيس سيقدم إلى أبوفيس هدية يوم الاحتفال بعيد النصر، فتساءل هام بامتعاض: وما تبعي من وراء تقديم هديتك إلى أبوفيس؟
فقال إسفينيس: أن أثير جشعه، فيأذن لي بالاتجار بين النوبة ومصر وتبادل الذهب بالحبوب.
فسكت الرجال، وسكت إسفينيس ساعة يفكر، وبدا له أن يخطو خطوة جديدة في سبيل مشروعه، فقال باهتمام: أصغوا إلي أيها السادة، ليس هدفنا الذي نرمي إليه التجارة، وما ينبغي أن تكون التجارة هدف قوم قدموا إليكم في بيت أرملة قائدنا العظيم بيبي، ولكنا نأمل أن تصل قافلتنا مصر بالنوبة، وأن نستعين بقوم منكم كعمال في الظاهر فنحملكم إلى إخواننا في الجنوب، سنحمل الذهب إلى مصر ونعود بالحبوب والرجال، وربما كررنا يوما بالرجال فقط.
فاستمع الجميع في دهشة ممزوجة بفرح، وأشعت أعينهم نورا خاطفا، وصاحت إبانا قائلة: رباه! ما هذا الصوت الجميل الذي يحيي في أنفسنا هامد الأمل!
وصاح هام قائلا: يا إلهي .. إن الحياة تدب في مقبرة طيبة.
وهتف كوم: أيها الشاب الذي يبعث صوته القلوب الميتة، لقد كنا نعيش حتى الساعة بلا أمل ولا مستقبل، يئودنا شقاء حاضرنا فلا نجد منه مهربا إلا في تذكر الماضي المجيد والتحسر عليه، وها أنت ذا تزيح الستار عن مستقبل باهر!
فانشرح صدر إسفينيس وأفعم قلبه أملا، وقال بصوته الجميل المثير: لا ينفع البكاء يا أيها السادة، فإن الماضي يوغل في القدم والفناء ما دمتم تقنعون بالتحسر عليه، وما يلبث مجده أن يصبح قريبا إذا توثبتم للعمل له، فلا يحزنكم أن تكونوا اليوم تجارا، فإنكم في القريب تصيرون جنودا تضيق بهم الأرض وتذل لهم الحصون، ولكن اصدقوني هل تثقون بإخوانكم جميعا؟
فقالوا في نفس واحد: ثقتنا بأنفسنا! - ألا تخشون العيون؟ - إن الرعاة جبابرة بغير عقول، وقد اطمأنوا بقوتهم إلى استعبادنا عشر سنين فهم لا يحاذرون.
فصفق إسفينيس بيديه فرحا وقال: اذهبوا إلى إخوانكم المخلصين وبشروا بالأمل الجديد، واجمعوا بيننا وبينهم في كل حين لنتبادل الرأي والشورى ولنبلغهم رسالة الجنوب، وإذا كان مصريو نباتا الآمنون غاضبين، فأولى بكم الغضب.
فأمن الرجال على قوله متحمسين، وقال نايب: نحن غاضبون أيها الشاب النبيل، سيثبت لك كفاحنا أننا أشد غضبا من إخوان نباتا!
وحيوا التاجرين ومضوا وقد داخلتهم ثورة غضب وتحفز لا تهدأ ولا تسكن، وسمع الرجلان إبانا تتنهد وتقول: رباه! .. من يدلنا على أسرة مليكنا الشهيد؟ .. وفي أي ركن من الأرض هو؟
ومضت أسابيع وكان إسفينيس وزميله الشيخ لا يذوقان طعم الراحة، كانا يجتمعان برجال طيبة المتخفين في بيت إبانا، وكانا يكاشفانهم بآمال المصريين المهاجرين فيبثان في نفوسهم الأمل والحياة، ويصبان في عزائمهم القوة والجلاد، حتى بات حي الصيادين جميعه ينتظر على لهفة وجزع الساعة التي يدعى فيها إسفينيس إلى القصر الفرعوني.
وتوالت الأيام حتى كان يوم جاء حي الصيادين أحد حجاب حاكم الجنوب يسأل عن قافلة المدعو إسفينيس، ثم سلمه كتابا من الحاكم يجيز له دخول القصر الفرعوني في ساعة سماها من يوم العيد، ورأى كثيرون الرسول فابتهجوا وشملهم السرور، وأشرق في نفوسهم الأمل.
وفي ذلك المساء نامت القافلة، ولبث إسفينيس منفردا على ظهر السفينة في هدأة وجلال الليل الساكن، يغمره نور القمر ويسيل على وجهه النبيل دررا ولؤلؤا لامعا متوهجا، فدخلته رقة، وأثلج صدره الرضا، وطاب لخياله أن يتردد بين الماضي القريب والحاضر الغريب. فتمثل ساعة الوداع في نباتا وجدته توتيشيري تبشره بأن روح آمون أوحت إليها أن ترسله إلى مصر، وقد وقف أبوه كاموس قريبا منه يوصيه بصوته الجهوري المؤثر، وذكر أمه الملكة ستكيموس وهي تلثم جبينه، وزوجه نيفرتاري وهي تلقي عليه نظرة الوداع من خلال أهدابها المبتلة .. فلاحت في عينيه نظرة حنان كنور القمر في صفائه وحيائه .. ونفذت قطرات من الحسن المنبث ما بين السماء وماء النيل إلى قلبه، فانتعش وانتشى بخمر إلهية، ولكن طرقت مخيلته خلسة صورة من النور والبهاء، فاقشعر بدنه، وأغمض جفنيه كأنما يفر منها فرارا، وهمس لنفسه بامتعاض: «يا إلهي .. إني أذكرها أكثر مما ينبغي .. وما ينبغي لي أن أذكرها بتاتا!»
13
وجاء يوم العيد، فلبث إسفينيس في السفينة نهار اليوم؛ وعند المساء لبس أجمل ما عنده من الثياب، ورجل جمته ومس طيبا، وبرح السفينة يتبعه عبيده يحملون صندوقا من العاج، وهودجا مسدل الستائر، وساروا في طريق القصر، وكانت طيبة ساهرة تضج أجواؤها بنقر الدفوف وسجع الأغاني، وينير القمر منها سبلا اكتظت بجماعات الجنود السكارى المنشدين، وعربات الأعيان والنبلاء تقطع الطريق صوب القصر الفرعوني يتقدمها الخدم حاملين المشاعل، فتولت الشاب كآبة ثقيلة، وقال لنفسه محزونا: «قضي علي أن أشارك القوم عيدهم الذي يحيون به ذكرى سقوط طيبة ومقتل سيكننرع»، وصوب نحو الجنود المتهافتين نظرة مغضبة، وذكر قول الحكيم قاقمنا: «الجنود إذا تعودوا الشراب، وهنت سواعدهم وعافوا القتال».
ثم تابع تيار السائرين حتى شارف ميدان القصر، ولاحت لعينيه أسواره ونوافذه نورا فوق نور، فشقت عليه الرؤية وخفق قلبه بعنف، ونسمت على رأسه المحموم ريح عبقة عاطرة من ذكريات الصبا، وجدت قلبه حزينا ونفسه والهة، ومضى تزداد شجونه كلما أدناه المسير من مهد الطفولة ومرتع الصبا.
واقترب الشاب من أحد الحجاب وأبرز له كتاب خنزر، فنظر فيه بإمعان، ثم نادى أحد الحراس وأمره أن يقود التاجر وقافلته إلى مكان الانتظار بالحديقة، فتبعه الشاب وعرج وراءه إلى أحد ممرات الفناء الجانبية لازدحام الممر الوسيط بالمدعوين والحجاب والحراس، وكان إسفينيس يذكر المكان جيد الذكرى، وكأنما فارقه أمس آخر مرة، وحين بلغوا ممر الأعمدة الكبير المؤدي إلى الحديقة، اشتد وجيب قلبه وعض على شفته السفلى من شدة التأثر، وذكر كيف كان يلعب في هذا الممر مع نيفرتاري، فيشد على عينيه حتى تخفي نفسها وراء أحد الأعمدة الهائلة، ثم يحل العصابة ويجد في البحث عنها حتى يظفر بها. وخال في اللحظة أنه يسمع وقع قدميها الصغيرتين، ويسمع رجع ضحكتها الحلوة، وكانا يحفران اسميهما على بعض العمد، ترى هل تحتفظ بآثار اسميهما حتى الآن؟ .. وقد ود لو يغافل حارسه ويعاين أثر الماضي الجميل، ولكن الرجل كان يوسع الخطى غير شاعر بالقلب المنصهر على قيد ذراع منه .. فبلغوا الحديقة، وأشار الحارس إلى أريكة وقال للشاب: انتظر ها هنا حتى يأتيك الرسول.
وكانت الحديقة مضاءة بالمصابيح الوهاجة، والنسيم يهب من أنحائها بشذى الريحان وريا الزهور، فبحثت عيناه عن الموضع الذي كان يقوم فيه تمثال سيكننرع عند نهاية الممر المعشب الذي يشق الحديقة نصفين، فوجد مكانه تمثالا جديدا لا روح فيه؛ يمثل شخصا ربعة ضخم الهيكل كبير الرأس مقوس الأنف ذا لحية طويلة وعينين واسعتين جاحظتين، فلم يشك في أنه أمام أبوفيس ملك الرعاة، فأدام إليه النظر شزرا، ثم ألقى على الحراس نظرة قاسية يستعر فيها الغضب والحنق، وكان كل شيء من القصر والحديقة كعهده به، ولاحت لعينيه الحجرة الصيفية على هضبة عالية، تحنو عليها أدواح النخيل بقاماتها الرشيقة الطويلة، فذكر أيامها السعيدة، حين كانت تهرع إليها الأسرة جميعا في فصلي الصيف والربيع، فينهمك جده وأبوه في لعب الشطرنج، وتجلس نيفرتاري بين الملكة ستكيموس وجدتها الملكة أحوتبي، أما هو فيقعد في حجر توتيشيري، ثم تمضي الساعات وهم في شغل عنها بالسمر الرقيق ومطالعة الأشعار وأكل الفاكهة الناضجة، جلس إسفينيس فترة غير قصيرة من الليل يطالع ذكرياته على صفحات الحديقة والممرات والأروقة، فلم يتململ ولم يجزع، حتى جاءه الرسول وسأله: هل أنت مستعد؟
فقام واقفا وهو يقول: على تمام الاستعداد يا سيدي.
فقال وهو يهم بالعودة: اتبعني.
فتبعه ورجاله على الأثر، وارتقوا أدراج السلم، وقطعوا الرواق الفرعوني حتى شارفوا باب البهو الملكي، فلبثوا ينتظرون أن يؤذن لهم بالدخول، وبلغ سمعيه أصوات ضحك عالية، ووقع الأقدام الراقصة، وسجع الموسيقى العنيف، وشاهد زرافات السقاة يحملون الأباريق والأقداح والأزهار، فأدرك أن القوم لا يتحرجون في لهوهم ولا يعتدلون في أعيادهم، وأن الملك يعفيهم من الوقار والتأدب ليعودوا إلى فطرتهم الوحشية الأولى، ثم نادى باسمه أحد العبيد، وتقدم بخطى متئدة، ورأى وسط البهو خاليا، والقوم جلوسا حوله في ثيابهم الرسمية الفاخرة يتطلعون إليه باهتمام، فدخله شيء من الارتباك، وأيقن أن الحاكم عرف كيف يثير اهتمام القوم بما حدثهم عنه وعن هداياه لتعظم مآثره في عين الملك، واستبشر بذلك خيرا، ولما جاوز منتصف البهو أمر أتباعه بالوقوف، ودنا وحده من العرش وحنى هامته إجلالا، وقال بصوت الخضوع والعبودية: مولاي الرب المعبود، سيد النيل، فرعون مصر العليا والسفلى وأمير المشرقين.
فقال له الملك بصوت جهوري قوي النبرات: إني أمنحك السلام أيها العبد.
واعتدلت قامة إسفينيس، واستطاع أن يختلس نظرة سريعة إلى الرجل المتربع على عرش آبائه وأجداده، فعرف فيه صاحب تمثال الحديقة بلا شك.
ولكنه أدرك من شدة احمرار وجهه ونظرة عينيه وكأس الخمر الموضوعة أمامه أنه ثمل. وكانت الملكة تجلس إلى يمينه، والأميرة أمنريدس إلى شماله، وقد لحظها الشاب فرآها في لباسها الملكي كالكوكب المتألق، وكانت تنظر إليه في هدوء وكبرياء.
وألقى الملك عليه نظرة فاحصة فراقه منظره وابتسم قائلا بصوته الغليظ: وحق الرب إن هذا الوجه لجدير بأحد رجالنا النبلاء!
فأحنى إسفينيس رأسه وقال: شاء الرب أن يجعله لمولى من موالي فرعون.
فقهقه الملك ضاحكا وقال: أراك تحسن القول، وبالقول الحسن يستجلب قومك عطفنا ونقودنا. وهي حكمة ست أن يعطى السيف للسيد القوي، وحسن البيان للعبد الضعيف، ولكن لا عليك من هذا، فقد قال لي صديقنا خنزر إنك تحمل لنا هدية من بلاد النوبة .. أرنا هديتك.
فحنى الشاب رأسه وانتحى جانبا، ثم أشار إلى رجاله فتقدم اثنان منهم بالصندوق العاجي ووضعاه أمام العرش، ودنا الشاب منه وفتحه واستخرج منه تاجا فرعونيا مزدوجا من الذهب الخالص مرصعا بالياقوت والزمرد واللؤلؤ والمرجان، ورفعه بين يديه فخطف الأبصار، وانبهر له القوم جميعا وضجوا بالدهشة والاستحسان، وأما أبوفيس فقد حملق فيه بعينين جاحظتين جشعتين، وخلع تاجه دون شعور منه، وتناول التاج الجديد بين يديه الكبيرتين ووضعه على رأسه الأصلع، فتبدى صورة جديدة من الجلال، واغتبط الملك ولاح في وجهه الرضا، فقال للشاب: أيها التاجر، إن هديتك حازت القبول.
فانحنى إسفينيس إجلالا، والتفت إلى رجاله وأشار إليهم إشارة خاصة فأزاحوا الستار المسدل على الهودج، ورئي الأقزام الثلاثة جالسين متلاصقين، وقد أثار ظهورهم دهشة عظيمة في نفوس القوم جميعا، فقام أكثرهم واقفين، واشرأبت الأعناق، وصاح بهم التاجر أن حيوا مولاكم فرعون، فقفز الأقزام الثلاثة قفزة واحدة فصاروا صفا، ثم اقتربوا من العرش في خطى ثابتة وئيدة، وسجدوا بين يدي فرعون ثلاثا، ووقفوا ساكنين لا تبين وجوههم عن شيء. وهتف الملك قائلا: أيها التاجر، ما عسى أن تكون هذه المخلوقات؟ - هي أناس يا مولاي تعيش قبائلها في أقاصي النوبة الجنوبية، ولا يصدقون أن العالم يشتمل على أقوام سواهم، فإذا رأوا واحدا منا عقدت الدهشة ألسنتهم وتنادوا متعجبين. وقد ربيت هؤلاء الثلاثة فأحسنت تربيتهم، وسيجدهم مولاي مثالا للطاعة والعبودية، ونوعا من التسلية والتلهية.
فهز الملك رأسه الكبير، وضحك ضحكته العظيمة ثم قال: جهل من يدعي العلم كله، أما أنت أيها الشاب فقد أدخلت السرور على قلوبنا، وإني أمنحك رضاي!
وحنى إسفينيس هامته، ثم ارتد بظهره راجعا، وعند منتصف البهو اعترض سبيله إنسان ما، فقبض على ذراعه، والتفت إسفينيس إلى صاحب اليد الغليظة، فرأى رجلا في الثياب العسكرية الفخمة، جميل العثنون غليظ الشاربين منتفخ الأوداج، دل احتقان الدم بوجهه وبريق الجنون في نظرة عينيه على شدة سكره، وقد حيا مولاه وقال: إنه ليسر مولاي من غير شك أن يشاهد فنون القتال الباسل في الحفلات القومية، كما تقضي به تقاليدنا المقدسة، وإني أدخر لذات مولاي المقدسة مبارزة دموية تسر الناظرين.
فقال الملك وهو يرفع كأسه إلى شفتيه الغليظتين: ما أجمل أن تراق دماء الفرسان على أرض هذا البهو لتنفض عن النفوس ما ران عليها من سأم، ولكن من السعيد الذي شرفته بعداوتك أيها القائد رخ؟
فأشار القائد الثمل إلى إسفينيس وقال: هذا غريمي يا مولاي.
فعجب الملك وعجب كثيرون من النبلاء، وسأله الملك: كيف استجلب غضبك هذا التاجر النوبي؟ - أنقذ امرأة فلاحة - تجاسرت على توجيه الإهانة إلى شخصي - من العقاب، بدفعه خمسين قطعة من الذهب بدلا منها.
فضحك الملك ضحكته العظيمة المجلجلة، وسأل القائد: ولكن أترضى أن يكون غريمك فلاحا؟ - أراه يا مولاي متين البنيان مفتول العضلات، فإذا لم يكن قلبه من قلوب الطير فإني أغضي عن وضاعة جنسه، مرضاة لمولاي ومشاركة في سرور العيد.
ولكن الحاكم خنزر لم يرض عن المبارزة، وقد رمق شقيقه القاضي سنموت بنظرة لوم، لأنه أدرك أنه هو الذي دل القائد على إسفينيس دون تقدير منه للموقف، وأشفق من أن يضيع سيف رخ عليه كنوز النوبة الثمينة، فدنا من القائد رخ وقال له بحزم: لا يجوز أن تخدش أوسمتك بمنازلة تاجر فلاح أيها القائد.
فقال رخ يقطع على الحاكم سبيله: إذا كان من العيب أن أقاتل فلاحا، فمن العار أن أترك عبدا يتحداني دون أن أنزل به العقاب الذي يستحقه .. ولما رأيت فرعون يمنح هذا التاجر عطفه، آثرت أن أنصفه وأن أتيح له فرصة للدفاع عن نفسه.
وظن من سمع قول القائد أنه حق وعدل، وتمنوا صادقين أن يقبل التاجر النزال ليشهدوا المبارزة وليتموا سرورهم بالعيد، وكان إسفينيس يكابد حيرة شديدة لا يجد لنفسه منها مخرجا، وكان يشعر بتلهف القوم على استماع كلمته، ويحس نظرة التحدي والاحتقار التي يصوبها نحوه القائد الثمل العنيد، فيغلي الدم في عروقه، ثم يذكر نصائح توتيشيري ولاتو، وكيف أن قتله هذا القائد الفظ قد يضيع من يديه الثمرة الدانية القطوف، ويفوت على أسرته الفرصة السانحة، فيبرد دمه وتخذله عزيمته، رباه .. لا محيد عن النكوص، ولا محيص عن الهرب، سيتهكم به القائد، وترمقه الأعين بالاحتقار، ويفارق المكان منكس الذقن كسير الفؤاد، ولكن يظفر بغرضه الأسمى، وهنا سمع القائد يقول له: لقد تحديتني أيها الفلاح، فهل تستطيع مواجهتي؟
فسكت إسفينيس شاعرا بانهيار وتخاذل، وسمع صوتا يقول: «دعوا الشاب إنه لا يعرف القتال»، وقال صوت آخر: «دعوا الشاب فإن الفارس يقاتل بنفسه لا بجسمه ...» فدخله الحنق، وأحس يدا توضع على كتفه وصوتا يقول له: «لست فارسا ولا عار عليك إذا اعتذرت»، فنظر فرأى خنزر، فشعر بقشعريرة تسري في أعضائه من لمس اليد التي فتكت بجده، ولاحت منه نظرة في تلك اللحظة الراهبة نحو العرش فرأى الأميرة أمنريدس تنظر نحوه باهتمام، فغلبه الغضب وفقد وعيه، فقال بصوت مسموع: إني أشكر القائد على نزوله لمبارزتي، وأقبل اليد التي يمدها لي.
وسرى الفرح في النفوس، وضحك الملك وشرب كأسا أخرى، وتطلعت الرءوس من كل حدب وصوب للغريمين، وبدا الارتياح على وجه القائد وابتسم ابتسامة التشفي والانتقام، ثم سأل إسفينيس: هل تضارب بالسيف؟
فحنى رأسه أن نعم، فأعطاه سيفا، ثم خلع إسفينيس عباءته عن سترته وسرواله فبدا جسمه الطويل القوي يجذب الأبصار برشاقته واعتدال قامته وجمال وجهه، وأعطي ترسا، فقبض على السيف بيمناه، ووضع الترس على يسراه، ووقف على بعد ذراع من القائد كأحد التماثيل التي أغلقت عليها أبواب المعابد.
وأذن الملك بالقتال، فشهر كل منهما سيفه، وبدأ القائد الغاضب الهجوم فسدد نحو خصمه ضربة قاتلة ظنها القاضية، ولكن الشاب تفادى منها بخفة عجيبة فضاعت في الهواء، ولم يمهله القائد فوجه إلى رأسه ضربة أشد من الأولى بسرعة البرق، فتلقاها الشاب بترسه بحركة خاطفة، فتعالت أصوات الإعجاب من أنحاء البهو جميعا، وأدرك القائد أنه يقاتل رجلا يجيد الطعان، فأخذ حذره، وعاود القتال متبعا خطة جديدة، فتصاولا، واشتبكا وانفصلا، وكرا وفرا، القائد في غضب وعنف، والشاب في هدوء عجيب، وكان يصد هجمات عدوه بسهولة ويسر وثقة، وكان كلما أطاش ضربة بمهارته الرائعة زاد غضب عدوه اهتياجا وجنونا، وأدرك الجميع أن إسفينيس يكتفي بالدفاع ولا يكاد يهجم إلا إذا أراد بهجومه إفساد خطة أو تفويت ضربة، فتجلى فنه، وبرع على خصمه في الخفة والمهارة بدرجة أشعلت حماسة القوم الذين تنسيهم لذة القتال فوارق الأجناس، فجن جنون رخ، ووالى هجماته عليه بشدة وعنف لا يني ولا يتوانى، وصوب نحوه الضربة تلو الضربة، فصد بترسه ما صد، وتفادى بفنه ما تفادى منه، ولبث سليما مطمئنا ذا ثقة لا حد لها، لا يغضب ولا يؤخد، وكأنه حصن منيع، فأخذ اليأس يستولي على القائد الحانق، وشعر بدقة موقفه وشدة حرجه، وحدثه اليأس على المغامرة، فرفع ذراعه بالسيف، وجمع كل ما أعطي من قوة وعزم ليضرب ضربة الموت الزؤام، وكان مطمئنا إلى خطة عدوه المقصورة على الدفاع، فما هو إلا أن وجه إلى قبضة سيفه ضربة رائعة فجرح سنان السيف كفه، وارتجفت يده، فضرب الشاب السيف ضربة أخرى أطاحت به بعيدا، فسقط قريبا من عرش فرعون، ولبث رخ أعزل والدم يقطر من يده، لا يكف عن حنقه، فضج القوم مسرورين متعجبين من بسالة التاجر وجميل عفوه، ثم صاح به القائد: لماذا تبطئ في الإجهاز علي أيها الفلاح؟
فقال إسفينيس بهدوء: ليس لدي من الأسباب ما يحملني على ذلك!
فصر القائد بنواجذه وانحنى للملك تحية، ثم دار على عقبيه وبرح البهو، وعلت ضحكة الملك طويلا حتى اضطرب لها جسمه، ثم أشار إلى إسفينيس فأعطى الشاب سيفه وترسه إلى أحد الحجاب، واقترب من العرش وانحنى للملك، فقال له: إن قتالك لا يقل غرابة عن أقزامك .. كيف تعلمت القتال؟ - أيها الملك المعبود، في بلاد النوبة لا يأمن التاجر على قافلته إذا لم يعرف كيف يدافع عن نفسه ورفاقه.
فقال الملك: يا لها من بلاد .. وقد كنا مقاتلين أشداء رجالا ونساء حين كنا نجوب أطراف الصحراء الشمالية الباردة، فلما أن احتوتنا القصور وتقلبنا في ظلال الترف والنعيم، وشربنا بدل الماء الخمور، طاب لنا السلام، ورأيت واحدا من قواد جيشي ينهزم في قتاله مع تاجر من الفلاحين!
وكان الملك يتكلم متهلل الوجه ضاحك الفم، فدنا من عرشه الحاكم خنزر وانحنى له تحية وقال: مولاي هذا الشاب باسل وحقيق بالأمان.
فهز فرعون رأسه الثمل وقال: صدقت يا خنزر، كان القتال عادلا شريفا، وإني أمنحه الأمان.
فوجد الحاكم الفرصة سانحة فقال: مولاي .. إن هذا الشاب لعلى استعداد أن يؤدي للعرش أجل الخدمات، بأن يحمل إليه الثمين المعجب من كنوز النوبة لقاء ما يعود به من حبوب مصر.
فنظر الملك إلى الحاكم مليا، وذكر التاج الذي يتوج رأسه، فقال بلا تردد: قد أذنا له في ذلك.
فانحنى خنزر شاكرا، وسجد إسفينيس بين يدي فرعون، ومد يده فلثم حاشية ثوبه الملكي، ثم وقف في خشوع وهو يقاوم رغبة في النظر إلى شمال العرش، ورجع القهقرى حتى غيبه باب البهو الكبير، وكان مسرورا مبتهجا، ولكنه كان يسائل نفسه: «ترى ماذا يقول لاتو إذا علم بقصة المبارزة؟»
وبلغ إسفينيس والعبيد السفينة بعد منتصف الليل، فوجدوا لاتو ساهرا يترقب، فأقبل على الشاب قلقا متشوقا إلى سماع أخباره، فقص عليه إسفينيس ما صادفه في القصر من النجاح والمتاعب، فقال لاتو: لنحمد الرب آمون على ما أولانا من نجاح، ولكني أخون واجبي إذا لم أصارحك بأنك اقترفت خطأ كبيرا باستسلامك للغضب والكبرياء، وما كان ينبغي لك أن تعرض آمالنا الكبار لخطر الانهيار من أجل ثورة غضب، أفما كان من الجائز أن يظفر القائد بك؟ .. أو ما كان من المتوقع أن يبطش الملك بك؟ .. ينبغي أن تذكر دائما أننا هنا عبيد وهم سادة، وأننا طلاب فضل هم أصحابه وذووه، فليكن رائدك أن تتظاهر بالشكر والإخلاص لهم، وعلى رأسهم ذلك الحاكم الذي وجه إلى جدك العظيم وإلى مصر جميعا الضربة القاضية، افعل هذا من أجل مصر، ومن أجل من تركناهم وراءنا في نباتا يخشون ويرجون.
ولم يتمالك الرجل فأجهش في البكاء، ثم مضى إلى مخدعه فصلى صلاة حارة.
وفي صباح اليوم التالي قصدا إلى كوخ السيدة إبانا كما وعدا أصحابهما من قبل، فاستقبلتهما السيدة وابنها أحمس وبعض الأصدقاء، بينهم سنب وهام وديب وكوم، وكانوا جميعا قلقين متلهفين على سماع الأخبار، فقال لهما هام: إن قلوبنا قلقة يعذبها الخوف ويلهبها الأمل، وقد تركنا وراءنا في الأكواخ القريبة المئات من الأصدقاء ممن لم يغمض لهم جفن طوال الليلة الماضية.
فابتسم إسفينيس ابتسامة حلوة، وقال: أبشروا يا أصدقاء، لقد أذن لنا الملك في الاتجار بين مصر والنوبة.
فلاح البشر في وجوههم، وتألقت أعينهم بنور الرجاء، وقال لاتو بحزم: جاء وقت العمل فلا تضيعوا الوقت هباء، واعلموا أن الطريق طويل فينبغي أن نحمل أكثر ما نستطيع من الرجال، لا تتوانوا عن إغراء العامة بالاشتراك في رحلتنا، ومنوهم بالربح الوفير دون أن تصارحوهم بالحقيقة، حتى نبلغ هدفنا فيما وراء الحدود، وسنجدهم بغير شك من المخلصين كعهدنا برجال طيبة ومصر جميعا .. هلموا جميعا فاحزموا أمتعتكم.
وانتشرت في الخفاء حركة واسعة النطاق يضطرم في جوانبها الحماسة والإيمان، وهرع الرجال المتخفون في ثياب الصيادين إلى السفن، وشغلوا كل مكان يمكن أن يشغل من أسطحها وبطونها. ثم واجهت إسفينيس مشكلة عسيرة وهي إرحال النساء والأطفال، وشغلهن أماكن أحق بها الرجال والشبان، أو تركهن وحدهن على ما في هذه من إيلام لهن ولذويهن، ورأى الشاب أن يثير المسألة فشاور فيها أصدقاءه الأقربين، وطال الأخذ والرد، حتى انبرى أحمس بن إبانا فقال: أيها السيد إسفينيس، نحن في حاجة إلى جيش عرمرم من الرجال، فلا يجوز أن يؤخر النساء تجنيد هذا الجيش العظيم، وما يضيرهن أن يمكثن في طيبة حتى نعود إليهن عودة الظافرين؟ وإنه لأدعى إلى حماستنا أن نقاتل وفي البلاد نساؤنا، من أن نخلفهن وراءنا في النوبة، وإذا كان في هذا الرأي ألم لنا، فليؤد كل منا نصيبه من ضريبة الألم والتفدية في سبيل غرضنا الأسمى.
وبلغ التأثر بإبانا مبلغا عظيما فقالت: نعم الرأي الحكيم .. إن مكاننا هنا، وسنقاسم أهل طيبة حظهم، إن موتا فموت، وإن حياة فحياة!
ولم يتردد أحد عن القبول، ورضي النساء بفراق الأزواج والأبناء، وكان جنوب طيبة يذوب من حرارة الوداع وذرف الدموع واضطرام الدعاء والآمال.
وكان إسفينيس لا يذوق الراحة في تلك الأيام القلائل الحافلة بجلائل الأعمال والتفديات الصامتة، كان يستقبل الرجال ويزور الأسر وينظم الراحلين، وكان إلى هذا يعلل نفسه بالآمال، ويذكر الحاضر والمستقبل، ويعالج بالصبر فورة الغضب والرغبة في الانتقام، وكان إلى هذا وذاك يكتم أشواقا تضطرم في فؤاده، ويغالب لواعج الوجدان التي باتت تأكل صدره وكبده، ويضني بما يعترك في نفسه من أسباب البغضاء وقوى المحبة .. فلشد ما جاهد وتحمل في الأيام القلائل، ولشد ما تجلد وتصبر.
14
وأذن أخيرا حاكم الجنوب لإسفينيس بالرحيل، وأعطاه جوازا لعبور الحدود في أي وقت يشاء، فرفعت القافلة مراسيها وأبحرت مع الفجر الرطيب، وكان إسفينيس ولاتو وأحمس بن إبانا يأخذون مجالسهم في مقصورة السفينة الأولى وفي قلوبهم شوق وحنين، وفي عيني أحمس دموع هي آخر ما ودع به أمه، وكان إسفينيس يغرق في أحلامه، فذكر طيبة وأهل طيبة، طيبة أعظم مدن الأرض، المدينة ذات الأبواب المائة، والمسلات التي تناطح الجوزاء، والمعابد الهائلة والقصور الشم، والسبل الطويلة والميادين العظيمة، والأسواق التي لا تهدأ ولا تسكن آناء الليل وأطراف النهار، طيبة المجيدة، طيبة آمون الذي قضي أن تغلق أبوابه دون عبادة عشرة أعوام من الأسر، طيبة التي حكمها الهمج أخيرا وجلسوا منها مجلس الوزراء والقضاة والقواد والنبلاء واستعبدوا أهلها، فالدهر يمرغ وجوههم في ثرى من كان بالأمس لهم عبدا، وتنهد الشاب من قلب مكلوم، ثم ذكر الرجال الجاثمين في بطون سفنه يحدوهم أمل واحد، ويدفعهم إلى الأهوال حب لمصر مكين توارثوه جيلا بعد جيل، كم يعانون من ألم الفراق لمن خلفوا وراءهم بين أيدي أعدائهم من زوجات وبنات وأطفال، وكأنهم جميعا هذا الفتى الباسل أحمس الذي يكظم أشواقه ويكتم حنينه ويبدو على وجهه العزم والقوة .. ثم طافت بذهنه في حشد الذكريات صورة ذات بهاء، فأطرق ليخفي عينيه عن لاتو الثاقب البصر، ولو علم الرجل فيما يفكر لغضب مرة أخرى ، ولكبر عليه أن يشغل قلبه بابنة الشيطان كما دعاها أول مرة، وعجب لنفسه كيف تحوم حول صورتها، وكيف لا تنفك تنزع إليها، وتساءل متحيرا: هل يمكن أن يجتمع الحب والكراهية لشيء واحد؟ ولاحت في عينيه نظرة حزينة، وقال لنفسه: مهما يكن أمري فلن تقع عيناي عليها مرة أخرى فلا داعي للقلق، وهل وجد في الدنيا شيء يعز على النسيان؟ وقطع عليه أحلامه لاتو وهو يقول بلهجة دلت على القلق: انظر إلى الشمال .. أرى قافلة قادمة على عجل!
فنظر الشابان إلى الوراء فرأيا قافلة من خمس سفن تشق عباب الماء بسرعة، ولم تستطع الأعين رؤية من فيها ولكنها أخذت تدنو بسرعة وتستبين أجزاؤها فعاين إسفينيس رجلا يقف في مقدمة القافلة فعرفه، وقال بقلق: هذا القائد رخ!
فامتقع وجه لاتو، وقال وقد تزايد اضطرابه: ترى هل يبغي اللحاق بنا؟
فلم يدر الآخر كيف يجيبه، وراقبوا القافلة باهتمام وحذر، وساور لاتو بعض المخاوف فقال بحنق: هل يجيء هذا الأحمق ليعوق مسيرنا؟
وأدرك إسفينيس أنه لم يخلص بعد من عواقب خطئه، وأن الخطر يوشك أن يحيق بقافلته وقد شارفت بر الأمان والسلامة، وصوب بصره نحو قافلة رخ فرآها تقترب بسرعة حتى جاوزت بعض سفن قافلته، وإذا بها خمس سفن حربية يقف على أسطحها فصائل من جند الحرس ولم تجيء لخير بلا شك، ثم اتجهت سفينة القيادة نحو سفينته فحاذتها، ورأى القائد يحدجه بنظرة قاسية، وسمعه يصيح به بصوته الغليظ: قف وألق مراسيك.
وغيرت السفن اتجاهها لتحاصر القافلة، فأمر إسفينيس بحارته أن يكفوا عن التجديف وأن يلقوا المراسي، فأذعنوا لما أمروا، وقد تولاهم الخوف ورأوا سفن الرعاة تحمل الجنود الشاكي السلاح كأنهم يتأهبون لمعركة حربية، واشتد القلق بإسفينيس، وأشفق من أن ينكل القائد الحقود بقافلته فيئد أمل قومه جميعا، وقال لرفيقه: إذا كان هذا الرجل يريد رأسي فلا بأس أن أكون أول صرعى الكفاح الجديد، وما عليك يا لاتو إذا قضيت إلا أن تستأنف المسير، دون أن تمكن للغضب من نفسك فتقضي على آمالنا جميعا .
فشد الشيخ على يده وقد اسودت الدنيا في عينيه، واستدرك إسفينيس قائلا بحزم: إني أوصيك يا لاتو بما أوصيتني به بالأمس من تجنب الغضب غير الحكيم، دعني أدفع ثمن خطئي. ولئن تعد غدا إلى أبي فتعزيه عن موتي وتهنئه بمن حملت إليه من جنود مصر، لخير من أن تعود بي إليه وقد خسرنا أملنا إلى الأبد!
وسمع القائد رخ يصيح به قائلا: اخرج إلى وسط السفينة أيها الفلاح.
فشد الشاب على يد لاتو ومضى بقدمين ثابتتين، فقال له القائد وكان يقف على سطح سفينته: لقد أطحت بسيفي أيها العبد المفتون وأنا ثمل أترنح وها أنا ذا أنتظرك وقلبي ثابت وساعدي غير مرتعش.
فأدرك أن القائد ذو طبيعة انتقامية، وأنه يريد أن ينازله ليغسل العار الذي لحقه منه، فقال له بهدوء وقد دخله شيء من الطمأنينة على قافلته: هل ترغب في أن تعيد الكرة أيها القائد؟
فقال بقحة: نعم أيها العبد، وسأقتلك بيدي هذه المرة شر قتلة.
فسأله إسفينيس في هدوء: وأنا لا أخشى نزالك، ولكن هل تعد بألا تمس قافلتي بسوء مهما تكن عاقبة المبارزة؟
فقال القائد باحتقار: سأترك القافلة احتراما لمشيئة مولاي فتسير دون جثتك. - وأين تريد القتال؟ - على ظهر سفينتي.
فلم ينبس الشاب بكلمة، وقفز إلى قارب وجدف بساعديه القويين حتى بلغ سفينة القائد، ثم ارتقى السلم إلى سطحها ووقف أمام عدوه وجها لوجه، فألقى عليه القائد نظرة قاسية وقد أغضبه ما يبدو على وجهه الجميل من الهدوء والثبات والاستهانة، وأشار إلى جندي من الجنود فأعطى الشاب سيفا وترسا، وقال له القائد وهو يتحفز للقتال: لا رحمة اليوم فدافع عن نفسك، ثم هجم عليه كالوحش الضاري فاشتبكا في قتال عنيف وسط دائرة واسعة من الجنود المدججين بالسلاح؛ وعلى مقدمة السفينة الأخرى وقف لاتو وأحمس يشاهدان المعركة ببصر زائغ .. وتتابعت ضربات القائد فصدها إسفينيس بمهارته الفائقة، ثم وجه إلى خصمه ضربة شديدة سقطت على ترسه فصكته بعنف بدا عليه أثره، فانتهز الشاب الفرصة وبدأ هجومه عليه بشدة وحذق، فاضطر القائد إلى التقهقر، وجعل يدفع عن نفسه الضربات التي يسددها له خصمه المقتدر الذي لم يهيئ له فرصة يستريح فيها أو يعاود الهجوم، وتبدى الحنق على وجه الرجل وصر بنواجذه بغضب جنوني، فارتمى على خصمه يائسا، ولكن الشاب تفادى منه ووجه إليه ضربة رشيقة أصابت عنقه، فتخاذلت يداه، وكف عن القتال، وترنح كالثمل ثم سقط على وجهه يتخبط في دمه، فصرخ الجنود صرخة غاضبة، وسلوا سيوفهم الطويلة وتحفزوا للانقضاض على الشاب لدى أول إشارة تصدر من الضابط الذي على رءوسهم، فأيقن إسفينيس بالهلاك وأدرك عبث المقاومة ولا سيما أن كثيرين كانوا يسددون نحو قلبه قسيهم، فلبث يترقب مذاق الموت مستسلما وعيناه لا تفارقان القائد الطريح أمامه، وفي تلك اللحظة المزعجة الراهنة سمع صوتا قريبا يصيح بغضب: أيها الضابط مر جنودك أن يغمدوا سيوفهم!
وخيل إليه أنه يعرف الصوت فانخلع قلبه في صدره، والتفت إلى مصدر الصوت فرأى سفينة فرعونية تكاد تلتصق بسفينة الموت وعلى حائطها تتكئ الأميرة أمنريدس، تلوح على وجهها الجميل آي الغضب. •••
وأغمد الجنود سيوفهم وأدوا التحية، فحنى إسفينيس هامته إجلالا قبل أن يفيق من دهشته ويصدق حقا أنه نجا من الموت، وسألت الأميرة الضابط قائلة: هل قتل القائد رخ؟
فاقترب الضابط من القائد ووضع يده على قلبه وتفحص عنقه، ثم وقف قائلا: أرى جرحه شديد الخطر يا صاحبة السمو، ولكن به نفس يتردد.
فسألته ببرود: وهل كان القتال عادلا؟ - نعم يا صاحبة السمو.
فقالت الأميرة بغضب: كيف إذن سولت لكم نفوسكم الهم بقتل رجل أعطاه الملك الأمان؟
ولاح الارتباك في وجه الضابط ولم ينبس بكلمة، فقالت الأميرة بلهجة آمرة: أطلقوا سرح هذا التاجر وعودوا بالقائد الجريح إلى أطباء القصر!
وأذعن الضابط لما أمر فترك إسفينيس حرا، فهبط الشاب إلى قاربه ووجهه إلى السفينة الفرعونية، وهو يقول لنفسه بارتياح: «كيف جاءت الأميرة في الوقت المناسب؟» ثم صعد إلى سطحها فلم يمنعه أحد من الحراس، وصادف الأميرة قد عادت إلى مقصورتها فمضى إليها بقدمين ثابتتين، وطلب من جارية أن تستأذن له في الدخول .. فغابت في الداخل لحظة ثم جاءت بإذن، فدخل خافق القلب، ورأى الأميرة تجلس إلى متكأ وثير مسندة ظهرها في رخاوة إلى نمرقة محشوة بالقز، ووجهها يشع نورا سنيا، فانحنى بين يديها في إجلال صادق، ورأى وهو يعتدل واقفا عقده ذا القلب الزمردي حول عنقها، فتورد وجهه، ولم يغب عنها شيء مما ينطق به وجهه وعيناه، فقالت بصوت رخيم عذب وهي تشير بأنملتها إلى العقد: أجئت تسألني ثمن هذا العقد؟
فاطمأن الشاب إلى لهجتها العذبة، وسر بدعابتها وقال بإخلاص: بل جئت يا صاحبة السمو لأشكر سموك مخلصا على ما أوليتني من نعمة الحياة، التي سأظل مدينا لك بها ما حييت.
فابتسمت ابتسامة مشرقة لاحت في ثغرها كومضة البرق، وقالت: نعم أنت مدين لي بحياتك. ولا تعجب إذ أقول هذا، فلست ممن يأخذهم الرياء بتصنع الكذب والتواضع، فلقد علمت صباح اليوم أن القائد أبحر بأسطول صغير ليتعرض لقافلتك فلحقت به في السفينة وشهدت جانبا من قتالكما، ثم تدخلت في الوقت المناسب لإنقاذ حياتك.
فوقع هذا المن من قلبه موضع الماء من الصادي، ووجد في نظرة عينيها الناعستين وما أعلنت من رغبتها في إنقاذ حياته، ما جعله ينتشي بخمر السعادة، وسألها: هل أطمع في أن تصارحني مولاتي، بما أعهده فيها من كراهية للرياء والتصنع، بالسبب الذي جعلها تجشم نفسها تعب إنقاذ حياتي؟
فقالت في استرسال وكأنها تسخر مما ظن أنه أحرجها به: أن أجعلك تدين لي بحياتك! - هو دين يسعدني ولا يفقرني.
فرفعت له عينيها الزرقاوين حتى أحس أنه على وشك أن يترنح ويقع على قدميها، وقالت: يا لك من مراء كذوب .. أهذا كلام يقوله مدين لدائنه وهو يوليه ظهره لسفرة لا رجعة منها؟ - كلا يا مولاتي بل لسفرة لها معاد قريب!
فقالت وكأنها تحدث نفسها: إني أسائل نفسي عما عسى أن يكون انتفاعي بهذا الدين؟
ووجب قلبه، ونظر إلى زرقة عينيها فرأى نظرة استسلام وحنو أعذب من الحياة التي وهبته إياها، وأحس أن ما بينهما من هواء ينتفض بحرارة عميقة بسحر يجذب إليه روحيهما ليلتقيا ويمتزجا، ففقد لبه وهوى على قدميها!
ثم سألته وقد هفت ذؤابات من شعرها الذهبي على جبينها الأغر وأذنيها: هل تغيب طويلا؟
فقال وهو يتنهد: شهرا يا مولاتي.
فلاحت في عينيها نظرة حزن وقالت: ولكنك تزمع العودة .. أليس كذلك؟ - نعم يا مولاتي وحق حياتي التي هي لك .. وحق هذه المقصورة المقدسة!
فمدت إليه يدها وقالت: إلى الملتقى!
فلثم يدها وقال: إلى الملتقى! •••
واستقبله لاتو بذراعين مفتوحتين وعينين دامعتين وضمه إلى صدره، وتعلق أحمس بعنقه ولثم جبينه، ورفعت القافلة مراسيها وأطلقت لنفسها العنان، ووقفوا يودعون سفينة الأميرة بأبصارهم وهي توغل في الشمال وهم يوغلون في الجنوب، حتى ارتدت عنها الأبصار وهي كليلة.
وعادوا إلى المقصورة وأخذوا مجالسهم وكأن شيئا لم يقع.
وجعل إسفينيس يعلل نفسه بمشاهدة القرى ورجالها الأشداء ذوي الأجسام النحاسية، ولكن قلبه كان ينزع به إلى المقصورة، هل يداخل لاتو شك؟ .. إن لاتو رجل كريم شاخ قلبه وزهد كل شيء إلا حب مصر، وهو نفسه لا يخلو من هم يساوره ولا يدري أأخطأ أم أصاب، ولكن من من بني الإنسان يستطيع أن يبلغ هدفه كما قدر له من قبل دون حسبان لما يجد من الأمور؟ .. فلرب قاصد إلى جبل يجد نفسه منحدرا في واد عميق، ولرب مزمع صيد أراش له نبلا يلقى الصيد منقضا عليه ومطارده.
15
واجتازت القافلة حدود مصر في سلام، فصلى رجالها للرب آمون صلاة جامعة حارة، وشكروا ربهم على ما هيأ لهم من سبل النجاة، ودعوه أن يدني إليهم آمالهم ويحفظ نساءهم من كل سوء، وصعدت القافلة في النهر أياما وليالي حتى رست عند جزيرة صغيرة للراحة والاستجمام، فدعا لاتو الرجال إلى النزول إلى أرض الجزيرة، ووقف بينهم وإسفينيس إلى يمينه ثم قال لهم: أيها الإخوان، دعوني أصارحكم بسر أخفيته عنكم لحكمة لن تخفى عليكم؛ ألا فاعلموا أننا رسولا أسرة مليكنا الشهيد سيكننرع إليكم، وأن مليككم كاموس ينتظر مقدمكم الآن في نباتا.
فلاحت الدهشة في وجوه الرجال، وسأل البعض وهم لا يملكون أنفسهم من الفرح: أحق أيها السيد لاتو أن أسرتنا الفرعونية في نباتا؟
فحنى رأسه بالإيجاب مبتسما، فسأله آخرون: هل توجد هناك أمنا المقدسة توتيشيري؟ - نعم .. وستبارككم في الغد القريب. - ومليكنا كاموس بن سيكننرع؟ - نعم وسوف ترونه بأعينكم، وتسمعون إليه بآذانكم. - وولي العهد أحمس؟
فابتسم لاتو وأشار إلى إسفينيس، ثم حنى هامته قائلا: إليكم أيها السادة ولي عهد المملكة المصرية، حضرة صاحب السمو الفرعوني الأمير أحمس.
وتصايح كثيرون: التاجر إسفينيس ولي عهد مصر الأمير أحمس؟
أما أحمس إبانا فقد سجد بين يدي الأمير وهو يبكي، فسجد الجميع وراءه، منهم من يبكي ومنهم من يهتف فيتصاعد الهتاف من أعماق قلبه!
واستأنفت القافلة رحلتها والفرح يشمل وحداتها جميعا، يود رجالها لو تطير بهم طيرانا إلى نباتا حيث ينتظرهم مليكهم المعبود كاموس وأمهم المقدسة توتيشيري .. ومضت أيام وليالي، ثم لاحت في الأفق نباتا بأكواخها الساذجة ومبانيها المتواضعة، وما زالت تقترب وتدنو وتظهر معالمها حتى رست القافلة إلى مرفئها، وشعر بالقافلة بعض الجنود فقصدوا إلى قصر الحاكم، وتجمع حشد النوبيين على الشاطئ ليشاهدوا السفن والقادمين عليها، ونزل المصريون إلى الشاطئ يتقدمهم الأمير أحمس والحاجب حور، ثم جاءت عربة مسرعة ونزل منها حاكم الجنوب رءوم، فحيا الأمير والقادمين معه، وأبلغهم تحية الملك وأسرته، وأخبرهم أن جلالته ينتظرهم في القصر، وهتف الرجال للملك طويلا، ثم ساروا في جموع غفيرة وراء أميرهم يتبعهم جمع غفير من النوبيين.
وكانت الأسرة الفرعونية تجلس تحت مظلة كبيرة في فناء قصر الحاكم، وقد غيرت تلك السنوات العشر منها ما غيرت، فترك الجد والصرامة والحزن في نفوسهم جميعا آثارا لا تمحى أبد الدهر، وكان أكبرهم تأثرا بالدهر، الملكتان توتيشيري وأحوتبي، فجف عود الأم المقدسة ومالت قامتها إلى الانحناء قليلا، وحفرت الآلام في جبينها الوضاء تجعداتها، ولم يبق من توتيشيري القديمة سوى بريق عينيها ونظراتها الدالة على الحكمة والصبر، وأما أحوتبي فقد جلل رأسها المشيب، وارتسمت على وجهها الحسن مسحة حزن ووجوم.
ولما رأى الشعب مليكه، سجد له، ثم تقدم أحمس من أبيه وقبل يد والدته الملكة ستكيموس وجدته أحوتبي وتوتيشيري، وقبل جبين زوجته الأميرة نيفرتاري، ثم وجه خطبته إلى الملك قائلا: مولاي لقد تعهد آمون عملنا بالنجاح، فإلى جلالتكم أقدم أول كتائب جيش الخلاص.
فلاح السرور في وجه الملك، وقام واقفا ورفع الصولجان تحية لقومه، فهتفوا له طويلا، ثم أقبلوا عليه يقبلون يده رجلا رجلا، ثم قال لهم كاموس: حياكم الرب أيها الطيبيون الشجعان الذين فرق البغي بيننا وبينهم، فقضى عليهم أن يساموا الخسف، كما قضى علينا أن نذوق مرارة الغربة عشرة أعوام كاملة، ولكن أراكم رجالا تأبون الضيم وتؤثرون مشقة الاغتراب وتعب الكفاح عن الرضى بالسلامة في ظل الذل، كما عهدتكم دائما وكما عهدكم أبي من قبل، فجئتم تصلون جناحي بعد أن تمزق أو كاد، وتثبتون قلبي وقد أرعشه جفاء الدهر، وكان من رحمة الرب آمون أن جاء أطهرنا قلبا وأعظمنا أملا الأم توتيشيري في المنام، وأمرها أن تبعث بابني أحمس إلى أرض الآباء والأجداد ليأتي بالجنود الذين يخلصون مصر من عدوها ومذلها، فبعثت بابني كما أمر الرب وأتى بكم، فمرحبا بكم جنود مصر وجنود كاموس، وسيأتي غدا آخرون؛ فلنستوص بالصبر ولنعد إلى العمل؛ وليكن شعارنا الكفاح، وأملنا مصر، وإيماننا آمون.
فصاحوا جميعا كرجل واحد: «الكفاح ومصر وآمون ...» ثم قامت توتيشيري واقفة وتقدمت خطوات متوكئة على صولجانها، ثم قالت للرجال بصوت قوي سليم النبرات: يا أبناء طيبة المجيدة الحزينة، تقبلوا تحيات أمكم الكبيرة، ودعوني أقدم لكم هدية صنعتها بيدي لكم لنعمل جميعا تحت ظلها.
وأشارت إلى أحد الجنود بصولجانها، فاقترب من الرجال وقدم إليهم علما كبيرا عليه صورة معبد آمون يحيط به سور طيبة ذو الأبواب المائة، فتلقفته الأيدي بحماسة، ودعوا لأمهم دعاء حارا وهتفوا لها ولطيبة المجيدة، فابتسمت توتيشيري وأضاء وجهها نور بهيج، وقالت: يا أبنائي الأعزاء، أصارحكم بأني لم أستسلم إلى اليأس أبدا، وقد أوصانا سيكننرع يوم الوداع بأن نحذر اليأس، وما زلت أدعو الرب أن يمد في أجلي حتى أرى طيبة مرة أخرى ترفرف على قصرها أعلامنا ، ويجلس على عرشها كاموس فرعون مصر العليا والسفلى، وقد أصبحت اليوم أدنى إلى أملي بعد أن ضمت إلي سواعدكم الفتية.
فتعالى هتاف القوم مرة أخرى، وجعل الملك يسأل عن رجالات مصر وكاهن آمون ومعبد الرب، والحاجب يجيبه بما عرف، ثم قدم الأمير أحمس إلى أبيه أحمس بن إبانا ابن القائد بيبي، فرحب به الملك وقال له: أرجو أن تكون لي كما كان أبوك لأبي قائدا باسلا، فعاش لواجبه ومات في سبيله!
ثم دعا الملك القادمين إلى وليمة غداء، فأكلوا هنيئا وشربوا مريئا، ثم مضوا جميعا يفكرون في الغد القريب والغد البعيد، وباتت نباتا أول مرة منذ عشرة أعوام فرحة مستبشرة يعمر قلبها الأمل.
كفاح أحمس
1
لم تكن حياة الأسرة الفرعونية في المهجر حياة دعة وخمول، ولكنها كانت حياة عمل وإعداد للمستقبل البعيد، ومدارها جميعا قلب توتيشيري الذي لا يعرف اليأس أو الراحة، فطلبت منذ بدء قدومها إلى رءوم حاكم الجنوب أن يدعو إلى نباتا مهرة الصناع النوبيين والفنيين المصريين المقيمين بالنوبة، فبعث الرجل برسله إلى أرقو وأطلال وغيرهما من بلاد النوبة، وجاءوه بالصناع والعمال، وأوجبت الملكة الكبيرة على ابنها أن يعهد إليهم بصنع السلاح والخوذات والثياب الحربية، وبناء السفن وعجلات القتال، وقالت له تشجعه: «ستعمد يوما إلى الهجوم على العدو الذي اغتصب عرشك وامتلك بلادك، فينبغي إذا جاء هذا اليوم أن تهجم بأسطول كبير، وقوة عجلات لا تقهر كما فعل العدو مع أبيك».
وتحولت نباتا في أثناء السنوات العشر إلى مصنع كبير لصناعة السفن والعجلات والآلات الحربية بأنواعها جميعا، ونمت ثمارها على مر الأيام فكانت دعائم الأمل الجديد، ولما جاء الرجال مع القافلة الأولى، وجدوا ما يحتاجون إليه من السلاح والعتاد راهنا موفورا، فأقبلوا على التدريب بقلوب تملؤها الحماسة والأمل الصادق، فانخرطوا جميعا غداة وصولهم إلى نباتا في سلك الجندية، وتدربوا على فنون القتال واستعمال الأسلحة المتنوعة تحت إشراف ضباط الحامية المصرية، فلم تأخذهم في التدريب هوادة، فكانوا يعملون من مطلع الفجر حتى غروب الشمس.
كانوا يعملون جميعا لا فرق بين كبير وصغير، فكان الملك كاموس يشرف بنفسه على تدريب الجند وتكوين نواة الفرق المختلفة ويختار الصالحين للأسطول، يعاونه ولي العهد أحمس، وأبت الملكات الثلاث والأميرة الصغيرة إلا أن يعملن مع العاملين، فكن يثقفن السهام ويرشنها، أو يشتغلن بحياكة الثياب الحربية، وكن لا يفتأن يختلطن بالجنود والصناع ويؤاكلنهم ويشاربنهم ليشجعنهم ويثبتن قلوبهم، وما كان أروع منظر الأم توتيشيري وهي مكبة على عملها بهمة لا تعرف الملل، أو سائرة بين الجنود تشاهد تدريبهم وتلقي عليهم كلمات الحماسة والرجاء، وكان الرجال يرونها فينسون أنفسهم وينفضون حماسة وإقبالا، فتبتسم المرأة استبشارا، وتقول لمن حولها: إن السفن والعجلات تنقلب مقابر لمن عليها إذا لم تدفعها قلوب أشد صلابة من حديدها .. انظروا إلى رجال طيبة كيف يعملون؟ سوف ينقض الواحد منهم على عشرة من الرعاة ذوي اللحى القذرة والبشرة البيضاء، فيطير أفئدتهم.
والحق قد انقلب الرجال بقوة الحماسة والحب والبغضاء وحوشا ضواري!
وانصرف الحاجب حور إلى إعداد القافلة الثانية، فضاعف لها السفن، وملأها بالذهب والفضة والأقزام وغريب الحيوان، وارتأت الأم توتيشيري أن يحمل معه جماعات من النوبيين المخلصين ليهديهم إلى سادة طيبة ليكونوا عبيدا في الظاهر وأعوانا في الباطن، يطعنون العدو من الخلف إذا اشتغل يوما باشتباك معهم، وقد راقت الفكرة الملك كما راقت الحاجب حور، وعمل على تحقيقها بغير تردد.
وانتهى حور من الإعداد لقافلته واستأذن في السفر، وكان الأمير أحمس ينتظر تلك الساعة بقلب أضناه الشوق وعناه الجوى، فاستأذن في الرحيل على رأس القافلة، ولكن الملك وقد علم بما وقع له من الأحداث وما تعرض له من الأخطار، أبى أن يجازف بسفره مرة أخرى بغير داع، فقال له: أيها الأمير، إن واجبك الآن يدعوك إلى البقاء في نباتا.
فبغت الأمير بقول أبيه الذي ألقى على الأمل المضطرم في صدره كما يلقى الماء البارد على الجمرة المستعرة، وقال له برجاء صادق: إن رؤية مصر والاختلاط بأهلها شفاء من أدواء ابتلي بها قلبي.
فقال الملك: ستجد الشفاء التام يوم تدخلها غازيا على رأس جيش الخلاص .
فعاود الشاب الرجاء قائلا: أبي، طالما عللت نفسي برؤية طيبة قريبا.
فقال الملك بحزم: لن يطول انتظارنا، فاصبر حتى تأذن ساعة الكفاح.
وأدرك الشاب من لهجة الملك أنه قال كلمته الأخيرة، فأشفق من إغضابه إذا عاوده الرجاء، وحنى رأسه دلالة على التسليم والقبول وقد أحس الألم يقطع قلبه ويكتم أنفاسه، ولكنه تماسك وتجلد ومضى إلى المعسكر حيث يتدرب الرجال والقلب حزين كئيب، وكان نهاره ينقضي في العمل الشاق فلم يظفر من يومه إلا بساعة قصيرة قبيل النوم فينادي في خلوته حلو الذكريات، ويحوم بخياله حول المقصورة الجميلة في السفينة الفرعونية التي شاهدت ساعة الوداع أبدع الحسن وألطف الهوى، فيخال أنه يسمع الصوت الرخيم يتمتم قائلا: «إلى الملتقى»، ثم يتنهد من أعماق قلبه ويقول أسيفا محزونا: أين الملتقى؟ .. إنه الوداع الذي لا لقاء بعده.
على أن نباتا في تلك الأيام كانت حقيقة بأن تنسي الرجل نفسه وهمه، وتقصره على الاشتغال بما هو أجل وأخطر، وكان الرجال يعملون جادين يكافحون بغير انقطاع، فإذا نسمت عليهم ريح طيبة وهزهم الشوق إلى من خلفوهم وراء أسوارها، تنهدوا حينا ثم انكبوا على ما بين أيديهم بهمة أعظم وعزيمة أشد، ومرت بهم الأيام لا يصدقون أن في الدنيا شيئا غير العمل، أو أن في الغد شيئا سوى الأمل .. ثم عادت القافلة برجال جدد يهتفون كما هتفوا يوم مجيئهم ويصيحون متلهفين مثلهم: أين مليكنا «كاموس»، وأين أمنا توتيشيري، وأين أميرنا أحمس؟ .. ثم ينضمون إلى المعسكر يعملون ويتدربون.
وجاء الحاجب حور الأمير أحمس وحياه، ثم مد له يده برسالة وقال: عهد إلي أن أحمل إلى سموك هذه الرسالة!
فسأله أحمس وهو يتناولها دهشا: من مرسلها؟
ولكن حور لازم الصمت في وجوم، فخطر للأمير خاطر فخفق قلبه، وفض الرسالة وقرأ الإمضاء فارتعدت مفاصله واشتد وجيب قلبه، وجرت عيناه على الأسطر فإذا هي ما يأتي:
أيها التاجر إسفينيس
يحزنني أن أخبرك بأني اخترت قزما من أقزامك ليعيش معي في جناحي الخاص، وأني عنيت به وأطعمته ألذ الطعام وكسوته أجمل الكساء وعاملته أحسن المعاملة، حتى أنس بي وأنست به، ثم افتقدته يوما فلم أجده فأمرت الجواري أن يبحثن عنه فوجدنه قد هرب إلى أخويه في الحديقة، فآلمني غدره وصددت عنه، فهل لك أن تبعث إلي بقزم جديد يعرف الوفاء؟
أمنريدس
وأحس أحمس لدى انتهائه من قراءة الرسالة طعنة نجلاء تصيب قلبه، وأن الأرض تميد تحت قدميه، ولاحت منه نظرة إلى حور فرآه ينعم النظر كأنه يحاول أن يعرف الرسالة بمطالعة وجهه.
فتحول عنه وسار في سبيله محزونا كسير الفؤاد، يقول لنفسه هيهات أن تدري بما يمنعه من العودة إليها، وهيهات أن يستطيع يوما أن يبثها شجوه وعواطفه، وسترى فيه دائما القزم فاقد الوفاء.
وانطوى على آلامه لا يحس ما يستعر في فؤاده سوى أقرب الأفئدة إليه: نيفرتاري، وقد تحيرت من أمره وعجبت لما يكمن وراء ذهوله وشروده، ونظرة الحزن التي تلوح في عينيه الجميلتين كلما أرسل النظر غير قاصد شيئا.
فقالت له ذات مساء: لست كعهدي بك يا أحمس.
فاضطرب لملاحظتها، وداعب ضفائرها بأنامله وقال مبتسما: إنه التعب يا حبيبتي، ألا ترين ما نحن فيه من كفاح يهد الجبال الرواسي؟
فهزت رأسها ولم تقل شيئا، وغدا الشاب أشد حذرا.
على أن نباتا لم تكن لتترك إنسانا يغرق في حزنه، لأن العمل قاهر الأحزان وقد شهدت من معجزاته ما لم تشهد من قبل ولا من بعد، فكانت تدرب الرجال، وتصنع السفن والعجلات والسلاح، وترسل القوافل محملة بالذهب فتعود محملة بالرجال، ثم تردها فترتد إليها، ومضت الأيام والشهور الطوال إلى أن جاء اليوم السعيد المرتقب، فقصد الملك كاموس إلى جدته توتيشيري، وهو لا يتمالك من الفرح، ولثم جبينها وقال بصوت متهدج: أبشري يا أماه، لقد تم إعداد جيش الخلاص!
2
ودقت طبول الرحيل فانتظم الجيش فرقا ورفع الأسطول مراسيه، ودعت توتيشيري إليها الملك وولي العهد وكبار القواد والضباط وقالت لهم: هذا يوم من الأيام السعيدة التي طال انتظاري لها، فأبلغوا جنودكم البواسل أن توتيشيري تضرع إليهم أن يفكوا أسرها، ويحطموا الأغلال التي تغل أعناق مصر جميعا، وليكن شعاركم جميعا أن تحيوا حياة أمنمحيت أو تموتوا ميتة سيكننرع، وليبارككم الرب آمون وليثبت قلوبكم!
فقبل الرجال يدها النحيلة، وقال لها الملك كاموس وهو يودعها: سيكون شعارنا جميعا حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع، وسيموت من يموت منا أشرف ميتة، ويحيا من يبقى منا أعز حياة.
وخرجت نباتا وعلى رأسها الأسرة الفرعونية والحاكم رءوم تودع الجيش اللجب، ودقت الطبول وعزفت الموسيقى وتحرك الجيش متبعا نظامه التقليدي، فتقدمته قوة الكشافة تحمل الأعلام، وسار الملك كاموس في طليعة الجيش وسط هالة من الحاشية والحجاب والقواد يتبعها الحرس الفرعوني في عجلاته الأنيقة، ثم تقدمت فرقة العجلات تسير صفوفا صفوفا لا يحدها البصر، تبعث عجلاتها في الجو صلصلة تصم الآذان، وتصهل جيادها كزفزفة الرياح، وتليها فرقة القسي الثقيلة بقسيها ودروعها وجعبات السهام، تتبعها عربات السلاح والمؤن والخيام تحرسها الفرسان، وأبحر كذلك الأسطول بسفنه الجبارة وقد تهيأ الجنود عليه بكامل معداتهم من القسي والرماح والسيوف.
وتقدمت هذه القوات على أنغام الموسيقى تستعر الحماسة في قلوبها الفتية الغاضبة، ويلقي منظرها الراهب الرعب في الأفئدة والنفوس، وتقطع النهار ضاربة في الأرض وتهجع إذا ما خيم الظلام لا تكل ولا يصيبها الإعياء، مستعينة على مشاق الطريق وطول الرحلة بعزائم تزحزح الجبال، فمروا في سبيلهم بسمنة وبون وأبسخليس وفتتزيس ونافس، وما زالوا يضربون في الأرض حتى بلغوا دابود آخر بلدان النوبة، ونسمت على وجوههم ريح مصر الطيبة، فعسكروا وأقاموا الخيام ليستريحوا من وعثاء السفر ويأخذوا أهبتهم للنضال.
ودبر الملك ورجاله خطة الغزو الأولى فأحكموا التدبير، وعهد إلى أحمس إبانا - وكان أمهر رجال الأسطول كافة - بقيادة جزء من الأسطول ليسير به إلى حدود مصر، باعتباره قافلة مما ألف الحراس اجتيازها للحدود في العهد الأخير، وعند فجر اليوم الرابع لوصول الجيش إلى دابود أبحر الأسطول الصغير فبلغ الحدود المصرية عند إسفار الصبح، وكان أحمس إبانا يقف على ظهر السفينة في ثياب التجار الفضفاضة، فأبرز جواز الدخول للحراس ودخل بأسطوله في سلام، وكان الضابط يعلم أن حرس الحدود مكون من سفن قلائل وحامية صغيرة، فكانت خطته ترمي إلى مفاجأة السفن الآمنة والاستيلاء عليها، ثم ضرب الحصار حول جزيرة بيجة حتى يدخل الجيش والأسطول أرض مصر، فيسهل عليه ضرب سيين ولما تأخذ أهبتها. وتقدمت القافلة في خط أفقي، فلما دنت من شاطئ بيجة الجنوبي حيث ترسو سفن الرعاة ظهر الجنود على سطحها وبأيديهم القسي، وخلع أحمس عباءة التجار فبدا في ثياب الضباط، وأمر بإطلاق السهام على حرس السفن، واقترب الأسطول من السفن الراسية بسرعة، وانقض عليها قبل أن يأتيها مدد من البر، وألقى عليها شباكه، وقفز الجنود إلى سطحها ليستولوا عليها، فاشتبكوا مع من وجد فيها من الحراس القليلين، في معركة صغيرة فأبادوهم في زمن يسير، وفي أثناء هذه الحركة كانت سفينة أحمس تطلق سهامها على حرس الشاطئ وتمنع الجنود من معاونة زملائهم في السفن، فتم الاستيلاء على السفن بسرعة دون أن يكلف المهاجمين ثمنا غاليا، وضرب الأسطول الحصار حول الجزيرة ليمنع الاتصال بالمدن الشمالية، وتنبهت حامية بيجة إلى الحركة الخاطفة فجرت إلى الشاطئ، ولكنها وجدت نفسها حبيسة محصورة، وأن أسطولها الصغير أسير.
ولم يمض إلا قليل وقت على انتهاء المعركة حتى بدت وحدات الأسطول المصري في الأفق تمخر عباب الماء متجهة صوب الحدود، ثم اجتازتها دون أن تجد مقاومة، وانضمت إلى أسطول أحمس إبانا، فصارت الجزيرة وسط دائرة من السفن الضخمة، مما اضطر حامية بيجة إلى التقهقر إلى قلب الجزيرة بعيدا من مرمى سهام الأسطول التي انهالت عليها من جميع الجهات.
وما هي إلا أن دخلت طلائع الجيش الحدود وانهالت على الجانب الشرقي، تتبعها الفرق ذات اللجب، فأدرك المحاصرون في بيجة أن القادمين غزاة لا قراصنة كما توهموا أول الأمر. ثم أصدر قائد الأسطول قمكاف أمره بالهجوم على الجزيرة، فانقضت عليها السفن من جميع الجهات، وأنزلت الجنود المدججين بالسلاح تحت حماية القسي، وزحف الجنود من جميع النواحي نحو الحامية المحاصرة في الوسط، وكان جنودها - إلى وقوعهم في مركز دقيق - قد رأوا تدفق القوات المصرية في البر والنيل فخذلتهم سواعدهم وخانتهم شجاعتهم، وألقوا السلاح وسلموا أنفسهم وأخذوا أسرى، وكان أحمس إبانا على رأس المهاجمين، فدخل قصر الحاكم دخول المنتصر، ورفع عليه الأعلام المصرية، وأمر بالقبض على الموظفين الرعاة والأعيان أسوة بالجنود.
ورأى أهل الجزيرة من الفلاحين والعمال والخدم الجنود المصريين فلم يصدقوا أعينهم، وهرعوا نساء ورجالا إلى قصر الحاكم الجديد وتجمعوا أمامه ليروا ما الخبر، تصطرع في نفوسهم الآمال والمخاوف، فخرج إليهم أحمس إبانا، وقد تطلعوا إليه صامتين، فقال لهم: حياكم الرب آمون حامي المصريين وقاهر الرعاة.
فوقعت كلمة آمون من آذانهم موقعا جميلا ساحرا، وقد حرموا سماعها عشرة أعوام، وأضاء وجوههم الابتهاج فتساءل بعضهم: هل أتيتم حقا لإنقاذنا؟
فقال أحمس إبانا بصوت متهدج: لقد جئنا لإنقاذكم وإنقاذ مصر المستعبدة فأبشروا، ألا ترون هذه القوات الهائلة؟ إنها جيش الخلاص، جيش مولانا الملك كاموس ابن مليكنا الشهيد سيكننرع، الذي جاء لتحرير شعبه واستعادة عرشه.
فنطق القوم باسم كاموس كالذاهلين، ثم غمرهم الفرح والحماسة فهتفوا له طويلا، وجثا كثيرون يصلون للرب آمون المعبود، وسأل بعض الرجال أحمس إبانا قائلين: هل انتهت عبوديتنا حقا؟ وهل نرد اليوم أحرارا كما كنا من قبل سنوات عشر؟ .. هل مضى زمن السوط والعصا وتعييرنا بأننا فلاحون؟
فاهتاج أحمس إبانا غضبا وقال بحنق: ثقوا أن عهد الظلم والعبودية والسوط قد مضى إلى غير رجعة، وأنكم ستعيشون منذ الساعة سادة أحرارا في كنف مليكنا كاموس فرعون مصر الشرعي، وسترد إليكم أرضكم وبيوتكم ويلقى بمن اغتصبوها هذا الدهر في غيابات السجون.
فشمل الفرح النفوس المعذبة، وانتظمتهم صلاة جامعة تصاعد فيها الدعاء إلى آمون في السماء، وكاموس في الأرض.
3
وفي رونق الضحى نزل الملك كاموس وولي عهده أحمس والحاجب حور وأفراد الحاشية جميعا إلى أرض الجزيرة فاستقبله الأهلون استقبالا حماسيا، وخروا سجدا يقبلون الأرض بين يديه، وتعالى هتافهم لذكر سيكننرع ولتوتيشيري وللملك وللأمير أحمس، فحياهم كاموس بيديه، وتحدث إلى جمع غفير من رجالهم ونسائهم وأطفالهم، وأكل ما قدموه له من الدوم والفاكهة، وشرب وحاشيته وقواده أقداحا مترعة بنبيذ مريوط، ذهبوا جميعا إلى قصر الحاكم، وأصدر الملك أمره بتعيين أحد رجاله المخلصين المدعو سمار حاكما على الجزيرة وعهد إليه في نشر العدالة وتطبيق القوانين المصرية، وفي ذلك الاجتماع أجمع القواد على وجوب مفاجأة سيين عند الفجر، لتضرب الضربة القاضية قبل أن تفيق من ذهولها.
ونام الجيش مبكرا واستيقظ قبيل الفجر، ثم زحف نحو الشمال ومعه الأسطول يسد منافذ النيل، فشق الظلماء والنجوم ساهرة يقظى تراقبه بأعين لامعة، والغضب يتأجج في الصدور فتتلهف على الانتقام والقتال، واقتربوا من سيين وقد اختلطت ظلمة آخر الليل بنور الصباح الأزرق الخجول، وشف الأفق الشرقي عن طلائع الشمس، وأصدر كاموس أمره إلى قوات العجلات بأن تزحف على المدينة من الجنوب والشرق تؤيدها قوات من فرقتي القسي والرماح، وأمر أسطوله بضرب الحصار على الساحل الغربي للمدينة، وهجمت القوات على المدينة من ثلاث جهات في وقت واحد، وكان يقود العجلات ضباط قدماء يعرفون المدينة ومواقعها، فوجهوا العجلات نحو الثكنات ومراكز الشرطة، تبعتها قوات المشاة شاكية السلاح فأوقعوا بالعدو مذبحة سالت فيها الدماء أنهارا، واستطاع الرعاة أن يقاتلوا في بعض المواقع فدافعوا عن أنفسهم دفاع اليائس، وتساقطوا كأوراق الخريف اليابسة هبت عليها ريح عاصفة .. أما الأسطول فلم يلق مقاومة ولم يلتق في طريقه بسفن حربية فاستولى على الشاطئ وأنزل قوات من جنوده فهجموا على القصور المشرفة على النيل وقبضوا على أصحابها، وكان بينهم حاكم المدينة وقضاتها وكبار الأعيان، ثم اخترقت القوات الحقول صوب المدينة.
وكانت المفاجأة عاملا فاصلا في المعركة قصر مدتها وكثر صرعاها من الرعاة، فما ارتفعت الشمس في الأفق وأرسلت نورها إلى المدينة حتى رئيت جموع الغزاة وهي تحتل الثكنات والقصور وتسوق الأسرى، وشوهدت الجثث ملقاة في السبل وأفنية الثكنات وقد سالت دماؤها، وذاع في أرجاء المدينة والحقول القريبة أن كاموس ابن سيكننرع اقتحم سيين بجيش جرار واستولى عليها، فاستعرت على الأثر ثورة دموية، وهاجم الأهلون بيوت الرعاة وقتلوهم في مخادعهم، ومثلوا بهم وضربوهم بالسياط ضربا مبرحا، فهام كثيرون على وجوههم فزعين كما فعل المصريون حين زحف أبوفيس على الجنوب بعجلاته ورجاله .. ثم هدأت النفوس وقبض الجيش على ناصية الحال ودخل الملك كاموس على رأس جيشه تخفق على رأسه الأعلام المصرية وتسير بين يديه قوات الحرس بموسيقاها، فهب الأهلون يستقبلونه، وكان يوما مجيدا.
ونقل الضباط للملك أن عددا غفيرا من الشبان - ومنهم من كانوا جنودا في الجيش القديم - يقبلون على التطوع في الجيش بحماسة فائقة، فسر كاموس وولى على المدينة أحد رجاله المدعو شاو، وأمره بأن ينظم المتطوعين ويدربهم لينضموا إلى الجيش جنودا متأهبين، وأحصى القواد للملك ما غنموا من العجلات والجياد، فإذا هو شيء عظيم.
واقترح الحاجب حور على الملك أن يتقدموا دون توان حتى لا يدعوا للعدو مهلة للتأهب وحشد الجيوش، وقال: سنخوض أول معركة حقيقية في أمبوس.
فقال كاموس: نعم يا حور، ولا يبعد أن يكون قد طرق أبواب أمبوس الآن عشرات الفارين، فلا مجال للمفاجأة بعد الآن، وسنلقى عدونا مستعدا، وربما استطاع أبوفيس أن يلقانا بقواته الغاشمة في هيراكونوليس .. فهيا إلى المسير!
وزحفت القوات المصرية - البرية والنيلية - صوب الشمال في طريق أمبوس، ودخلت في قرى كثيرة فلم تلق مقاومة ألبتة، ولم تعثر برجل واحد من الرعاة، وعلم الملك أن رجال العدو يحملون متاعهم ويسوقون حيوانهم فارين إلى أمبوس، وخرج الفلاحون يستقبلون جيش الخلاص ويحيون مليكهم المظفر ويدعون له من قلوب أنعشها الفرح والأمل، وجد الجيش في المسير حتى شارف أمبوس، وهناك جاءت طلائع الكشافة تقرر أن العدو معسكر جنوب المدينة متأهبا للقتال، وأن أسطولا متوسط العدد يرسو غرب أمبوس، فعلم كاموس أن أول معركة مهمة باتت على الأبواب، ورغب الملك في أن يعرف عدد جنود عدوه، ولكن تعذر ذلك على جنود الكشف لأن العدو كان يعسكر في سهل منبسط لا تسهل مراقبته، فقال قائد شاب يدعى محب: لا أظن يا مولاي أن قوة أمبوس تعدو بضعة آلاف.
فقال الملك كاموس: ائتوني بكل ضابط أو جندي من أمبوس.
وفطن الحاجب حور إلى ما يريد الملك فقال: عفوا يا مولاي، لقد تغير وجه أمبوس في عشرة الأعوام المنقضية، فأنشئت بها ثكنات لم تكن من قبل، رأيتها بعيني في بعض رحلاتي التجارية، ومن المرجح أن الرعاة جعلوا منها مركزا للدفاع عن البلاد المتاخمة للحدود.
فقال القائد محب: على أي حال يا مولاي أرى أن نهجم بقوات خفيفة، حتى لا نتكبد خسارة فادحة.
ولم يستحسن الأمير أحمس هذا الرأي، فقال لأبيه: مولاي أرى خلاف هذا الرأي، أرى أن نهاجم بقوات كثيفة لا تقاوم، وأن نقذف جل قواتنا في المعركة لنضرب العدو الضربة القاضية في أقصر وقت، ونذهل القوات التي تحشد في طيبة الآن لقتالنا، ونقاتل من الغد رجالا يرون الموت ماثلا في قتالنا، ولا خوف علينا من المخاطرة بجنودنا، فسيتضاعف جيشنا بما ينضم إليه من المتطوعين في كل بلد نغزوه، ولن يجد عدونا لخسارته عوضا.
وراق هذا الرأي الملك فقال: إن رجالي يجودون بأنفسهم عن طيب خاطر في سبيل طيبة!
وكان الملك يعلم بما لانتصار الأسطول من أثر حاسم في كسب الموقعة، للدور الخطير الذي يلعبه في ضرب الحصار على شواطئ المدن الغنية أو إنزال جنود في مؤخرة العدو، فأصدر أمره إلى القائد قمكاف بالهجوم على سفن الرعاة الراسية غرب أمبوس.
وغدا الجيشان لا يفصل بينهما سوى ميدان فسيح، وكان الرعاة رجال حرب وجلاد، ذوي بأس ومقدرة، وكانوا يستهينون بالمصريين استهانة متأصلة، فبدءوهم بالهجوم وهم يجهلون قوتهم، وأرسلوا عليهم فرقة العجلات المكونة من مائة عجلة حربية، وأصدر كاموس أمره بالهجوم، فاندفعت قوات من العجلات تزيد على ثلاثمائة، وأطبقت على قوة العدو فثار النقع وصهلت الخيل وعزفت القسي، ودار قتال عنيف، وعزم الأمير أحمس على أن يقضي على العدو القضاء المبرم فاندفع بمائتي عجلة جديدة على قوات المشاة التي تنتظر نتيجة معركة العجلات أمام أبواب أمبوس، وتبعته قوات من فرقة القسي وأخرى من حملة الرماح، وانقضت العجلات على المشاة فاخترقت صفوفهم وألقت فيها الاضطراب والفزع، وانهالت عليهم بالسهام كالمطر، فتشتت شملهم بين جريح وقتيل وهارب فتلقتهم قوة المشاة المهاجمة في كثرة لا تقاوم وقضت عليهم القضاء الأخير، وذهل العدو الذي لم يكن يتوقع أن يلاقي قوات بهذا العدد، وانهارت قواته سريعا، وتساقط فرسانه وحطمت عجلاته، وسيطر المصريون على الميدان في زمن يسير لا يصدق، بعد أن قاتلوا بغضب وحنق، وضربوا بسواعد يشد أعصابها حقد مؤرث وسخيمة مستعرة.
واقتحمت قوات مسلحة أبواب أمبوس ودخلتها عنوة لتحتل الثكنات وتطهرها من بقايا جنود العدو، ومضى الضباط في الميدان ينظمون فرقهم ويحملون الجرحى والقتلى. ووقف الملك كاموس في وسط الميدان على عجلته يحيط به القواد إلى يمينه الأمير أحمس وإلى يساره الحاجب حور، وكانت الأنباء جاءته بأن أسطوله كر على سفن العدو وهجم عليها بشدة، وأنها تقهقرت أمامه دون انتظام .. فسر الملك وقال لمن حوله مبتسما: بدء موفق!
فقال الأمير أحمس، وكان معفر الثياب مغبر الوجه متصبب الجبين عرقا: إني أتوق لخوض معارك أشد هولا!
فقال كاموس وهو يلقي على وجهه الجميل نظرة إعجاب: لن يطول انتظارك.
ثم نزل الملك عن عجلته وتبعه رجاله، وسار خطى حتى صار وسط جثث الرعاة، وألقى عليها نظرة وقد انبجست الدماء منها فخضبت جلدها الأبيض ومزقتها السهام والرماح، ثم قال: لا تظنوا هذه الدماء دماء أعدائنا، بل هي دماء قومنا التي امتصوها وتركوهم يتضورون جوعا.
وامتقع وجه كاموس واكتسى بلون قاتم من الحزن، فرفع رأسه إلى السماء وتمتم قائلا: لتنعم روحك يا أبت بالسلام والغبطة!
ثم نظر إلى من حوله وقال بصوت دلت نبراته على القوة والبأس: ستمتحن قوتنا في معركتين شديدتين في طيبة وهواريس، فإذا آزرنا النصر فيهما طهرنا الوطن من الرعاة إلى الأبد، ورددنا مصر إلى عهد أمنمحيت المجيد، فمتى نقف موقفنا هذا على جثث المدافعين عن هواريس؟
وتحول الملك ليرجع إلى عجلته، وفي تلك اللحظة انتصبت جثة من بين الجثث واقفة بسرعة البرق وسددت قوسا نحو الملك وأطلقت ... ولم يكن في الوسع منع القضاء ولا ضرب القاتل قبل أن يطلق، فأصاب السهم صدر الملك، وقد صرخ الرجال صرخة الفزع وأطلقوا السهام على الهكسوس، وهرعوا إلى الملك بأفئدة يملؤها الرعب والإشفاق، وصعدت من صدر كاموس آهة عميقة، ثم ترنح كالثمل وسقط بين يدي ولي عهده، وصاح الأمير: أحضروا هودجا وادعوا الطبيب.
ومال برأسه على أبيه وقال بصوت متهدج: أبتاه .. أبتاه ألا تستطيع أن تكلمنا؟!
وجاء الطبيب على عجل ومعه الهودج، فحملوا الملك وأناموه عليه في عناية فائقة، وركع الطبيب إلى جانبه، ومضى يخلع درع الملك وسترته ليكشف عن صدره، وأحاطت الحاشية بالهودج في سكون، يرددون أعينهم بين وجه الملك الشاحب ويدي الطبيب، وذاع الخبر في الميدان ففشت الضوضاء، ثم ساد صمت ثقيل كأنما لحق الفناء بذلك الجيش العرمرم!
نزع الطبيب السهم وكان الدم يتدفق من الجرح بغزارة، فتقلص وجه الملك من الألم، فأظلمت عينا الأمير من الحزن، وتمتم حور قائلا: رباه .. إن الملك يتألم!
وغسل الرجل الجرح ووضع عليه الحشائش، ولكن الملك لم يبد عليه أي تحسن، وارتعشت أطرافه بصورة جلية، ثم تنهد تنهدة عميقة، وفتح عينيه فلاحت فيهما نظرة قاتمة لا تدل على الحياة، فازداد صدر أحمس انقباضا، وقال لنفسه شاكيا «لشد ما تغيرت يا والدي!» .. وحرك الملك عينيه حتى استقرت على وجه أحمس، فلاحت فيهما ابتسامة، وقال بصوت ضعيف لا يكاد يسمع: ظننت قبل حين أني بالغ هواريس، ولكن الرب يريد أن تنتهي رحلتي على أبواب أمبوس!
فصاح أحمس بصوته الحزين: فدتك نفسي يا أبتاه!
فقال الملك بصوته الضعيف: كلا، صن نفسك فما أكبر الحاجة إليك .. وكن أشد حذرا مني، واذكر دائما أنه لا يجوز أن تكف عن الكفاح حتى تسقط هواريس حصن الرعاة الأخير، ويجلو القوم عن ديارنا جميعا.
وخشي الطبيب على الملك من الجهد الذي يبذله في الكلام وأشار عليه بالسكوت، ولكن الملك كان يندمج في إحساس علوي هو الفاصل بين الفناء والخلود، فقال بصوت تغيرت نبراته وبدا غريب الوقع: قل لتوتيشيري إني لحقت بأبي باسلا مثله.
ومد يده لابنه، فجثا الأمير على ركبتيه وضمها إلى صدره، وقبض الملك على منكبه حينا يودعه، ثم تراخت أصابعه وأسلم الروح.
4
وسجى الطبيب الجثة، وسجد الرجال حولها وصلوا صلاة الوداع، ثم قاموا وكأنهم من الحزن سكارى، واستدعى الحاجب حور قواد الفرق وكبار الضباط، فلما مثلوا بين يديه خاطبهم قائلا: أيها الرفاق، يؤسفني وحق الرب أن أنعى إليكم مليكنا الباسل كاموس، فقد استشهد في ميدان الكفاح وفي سبيل مصر كما استشهد أبوه من قبل، وانتقل إلى جوار أوزوريس منتزعا من صميم نفوسنا، بعد أن أوصانا بألا نكف عن الكفاح حتى تسقط هواريس ويجلو العدو عن ديارنا، وإني بوصفي حاجب هذه الأسرة الكريمة أعزيكم في مصابنا الجلل، وآذنكم بتولية مليكنا الجديد وقائدنا المجيد أحمس بن كاموس بن سيكننرع حفظه الرب وأيده بالنصر المبين!
فحيا القواد جثة كاموس وانحنوا لأحمس الملك الجديد، وأذن لهم الحاجب بالعودة إلى جنودهم لإعلان الوفاة والتولية.
وأمر حور الجنود أن يرفعوا الهودج الملكي على الأعناق وقد غلبه الحزن، فقال وهو يجفف عينيه: لتنعم نفسك العالية بالغبطة والسلام في جوار أوزوريس، كنت على وشك أن تدخل أمبوس على رأس جيشك المظفر، ولكن قضى الرب أن تدخلها محمولا على نعشك، وإنك لأكرمنا على الحالين!
ودخل الجيش أمبوس في نظامه التقليدي يتقدمه نعش الملك كاموس، وكان الخبر الفاجع قد شمل المدينة كلها، فجرعت لذة النصر ولوعة الحزن في شربة واحدة، وجاءت الجموع الغفيرة من كل مكان تستقبل جيش الخلاص وتودع مليكها الراحل بقلوب تحيرت بين الفرح والحزن، ولما رأى الناس الملك الجديد أحمس سجدوا في سكون وخشوع، ولم يتعال في ذلك اليوم هتاف قط .. وتسلم كهنة أمبوس الجثمان العظيم وخلا أحمس إلى نفسه فكتب رسالة إلى توتيشيري كما أوصاه أبوه، وبعث بها مع رسول.
وجاءت رسل الاستطلاع بأخبار سارة ومؤسفة عن الأسطول، قالوا: إن الأسطول المصري هزم أسطول الرعاة وأسر بعض وحداته، ولكن القائد قمكاف سقط قتيلا، وأن الضابط أحمس أدار دفة المعركة بعد سقوط القائد، وحاز النصر النهائي، وقتل قائد الرعاة بيده في معركة عنيفة، وأراد الملك أن يكافئ أحمس إبانا، فأصدر أمره بتوليته قيادة الأسطول.
واتبع سياسة أبيه الحكيمة فولى صديقه هام حكم أمبوس، وعهد إليه بتنظيمها وتجنيد القادرين من أهلها، وقال الملك لحور : سنتقدم بقواتنا سريعا، لأنه إذا كان الرعاة يعذبون قومنا في وقت السلام فإنهم سيضاعفون لهم العذاب في وقت الحرب، فينبغي أن نقصر عهد العذاب ما وسعنا الجهد.
واستدعى الملك الحاكم هام، وقال له أمام حاشيته وقواده: اعلم أنني آليت على نفسي منذ اليوم الذي سعيت فيه إلى أرض مصر في ثياب التجار أن أجعل مصر للمصريين؛ فليكن هذا شعارك في حكم هذا البلد؛ وليكن رائدك أن تطهره من البيض، فلن يحكم بعد اليوم إلا مصري، ولن يملك إلا مصري، والأرض أرض فرعون والفلاحون نوابه في استثمارها، لهم ما يكفيهم ويكفل لهم حياة رغدة، وله ما يفيض عن حاجتهم ينفقه في الصالح العام، والمصريون متساوون أمام القانون، لا يرفع الأخ منهم إلا فضله، ولا عبد في هذا البلد إلا الرعاة .. وأوصيك أخيرا بجثة أبي فأد إليها واجبها المقدس.
5
وغادر الجيش أمبوس عند الفجر، وأبحر الأسطول، ومضت الطلائع تدخل القرى، فاستقبل فيها أحر استقبال وأجمله حتى شارفوا أبولبتوبوليس مجنا، فتأهبوا لخوض معركة جديدة. ولكن الطلائع لم تلق أية مقاومة ودخلت المدينة بسلام، وكانت وحدات الأسطول تنحدر مع مياه النيل في ريح مؤاتية فلا تجد أثرا لسفن العدو، فأشار حور الحذر بطبعه على الملك أن يرسل بعض قواته الكشفية إلى الحقول الشرقية خشية أن يقعوا في كمين، وبات الجيش والأسطول في أبولبتوبوليس مجنا، وفارقاها مع الفجر، وكان الملك وحرسه يسيرون في مقدمة الجيش وراء القوات الاستطلاعية، وإلى يمين الملك عجلة الحاجب حور يحيط بهما رجال الحاشية الخبراء بطبيعة البلاد، وسأل الملك حور: ألسنا سائرين الآن إلى هيراكونبوليس؟
فقال الحاجب: بلى يا مولاي، وهي مركز الدفاع الأمامي عن طيبة نفسها، وستنشب في واديها أول معركة شديدة بين قوتين متعادلتين.
وحين الضحى جاءت أنباء كشفية بأن الأسطول المصري اشتبك مع أسطول للرعاة يظن لضخامته وكثرة وحداته أنه الأسطول الكامل للعدو، وأن المعركة تدور بقوة وعنف، فعطف الملك رأسه نحو الغرب وبدا على وجهه الجميل الرجاء والأمل، وقال حور: إن الرعاة يا مولاي حديثو عهد بحرب الأساطيل.
فصمت الملك ولم يجب، ومضت الشمس ترتفع إلى كبد السماء والجيش يتقدم بفرقه ومعداته، فاستسلم أحمس للتأمل والتفكير، وتمثلت له أسرته وهي تتلقى نبأ مقتل كاموس، وكيف تفزع أمه ستكيموس وتنفجع جدته أحوتبي وتئن الأم الصابرة توتيشيري وتبكي زوجه نيفرتاري التي أصبحت ملكة مصر .. رباه .. لقد سقط كاموس غدرا وخسر جيشه بسالته ودرايته وأورثه تركة مثقلة بجلائل الواجبات، ثم سرى خياله إلى الأمام، إلى طيبة حيث يملك أبوفيس ويعاني الشعب ألوان العذاب والذل، وذكر خنزر الحاكم الهائل الباسل الذي لن تهدأ نفسه حتى ينتقم لجده الشهيد منه ويرديه قتيلا، ثم لاحت لخاطره الأميرة أمنريدس وذكر المقصورة التي أصلاهما الهوى فيها نارا مقدسة، وتساءل: أما تزال تتعلق بالتاجر الجميل إسفينيس وتأمل أن يبر لها بوعده؟
وهنا سعل حور فذكره بأنه لا ينبغي له أن يتشوق إلى أمنريدس وهو على رأس الجيش الزاحف لتطهير مصر من قومها، فأراد أن يطرد الفكر: فألقى ببصره على جيشه العرمرم الذي ينطبق الأفق على الأرض دون مؤخرته، فسرى عنه وعاد إلى التفكير في المعركة الدائرة في النيل .. وعند منتصف النهار جاءت رسل الاستطلاع يقولون: إن الأسطولين مشتبكان في قتال عنيف، وإن القتلى تسقط بكثرة من الجانبين، وإن القوتين ما تزالان متعادلتين بحيث يستحيل التكهن بنتيجة المعركة، فلاح العبوس في وجه الملك ولم يخف قلقه، فقال حور: لا داعي للقلق يا مولاي فأسطول الرعاة قوة لا يستهان بها، وأسطولنا يخوض الآن المعركة الفاصلة في النيل.
فقال أحمس: إذا خسرناها خسرنا نصف الحرب.
فقال حور بيقين: وإذا كسبناها يا مولاي كما أتوقع كسبنا الحرب كلها.
وأمسى الجيش على مسير بضع ساعات من هيراكونبوليس فوجب التوقف للراحة والاستعداد، على أنه ما كاد يمكث وقتا قصيرا حتى جاءت الأخبار بأن الطلائع تقاتل قوات متفرقة من جيش العدو، فقال أحمس: إن الرعاة مستريحون، ولا شك أنهم يرحبون بالاشتباك معنا الآن.
وأمر الملك بإرسال قوة من العجلات لتؤيد قوات الاستطلاع إذا هاجمتها قوات تفوقها عددا، واستدعى قواده وأمرهم بالاستعداد لخوض المعركة في أي وقت كان.
وكان أحمس يحس التبعة الخطيرة التي يتحملها بقيادته الجيش لأول مرة في حياته، وشعر بأنه حامي هذا الجيش العظيم والمسئول عن مصير مصر إلى الأبد، فقال لحور: ينبغي أن نوجه قوتنا لتحطيم عجلات الرعاة.
فقال الحاجب: هذا ما سيحاوله كلا الجيشين، وإذا حطمنا عجلات العدو وسيطرنا على الميدان، أصبح الجيش تحت رحمة قسينا.
وفي تلك الساعة وأحمس يتأهب لخوض غمار المعركة، جاء رسول من ناحية النيل وأخبر الملك أن الأسطول المصري تلقى ضربات شديدة، فرأى أحمس إبانا أن يتقهقر بوحداته الأساسية ليعيد تنظيمها، وأن القتال مستمر على أشده، فساور القلق الشاب وأشفق من ضياع أسطوله العظيم، ولم يجد مهلة للتفكير إذ أخبر أن جيش العدو بدأ هجومه، فحيا حور والحاشية وتقدم بحرسه وأمر فرقة العجلات بالهجوم؛ فهجم الجيش في قلب وجناحين اندفعوا صفوفا متراصة في سرعة وجلبة زلزلت الأرض زلزالا، وما لبثوا أن رأوا جيش الرعاة يتقدم منقضا كالريح العاصفة في جموع كثيفة من العجلات، فعلموا أن عدوهم يلقاهم بقواته الوحشية التي طالما سامتهم الخسف، فثار الغضب في نفوسهم وصاحوا بصوت كهزيم الرعد: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، وألقوا بأنفسهم في المعركة بقلوب تتعطش إلى القتال والانتقام، فقاتل الفريقان بقوة وقسوة ووحشية، وخضبت الأرض بالدماء، واختلط صياح الجنود بصهيل الخيل وعزيف القسي، واستمر القتال قاسيا عنيفا حتى مالت الشمس نحو الأفق وذابت في بحيرة من دماء، وحلقت في الفضاء أشباح الظلام، فكف الجيشان ورجع كل إلى معسكره، وكان أحمس يسير وسط دائرة من حرسه الذي دافع عنه في أثناء كره وفره، واستقبله رجاله وعلى رأسه حور فقال لهم: كان قتالا عنيفا كلفنا أبطالا بواسل!
ثم تساءل الملك: ألم تجد أخبار عن معركة النيل؟
فقال الحاجب: ما يزال الأسطولان يعتركان. - أما من جديد عن أسطولنا؟
فقال حور: قاتل في أثناء النهار وهو يرتد، ثم التحمت أكثرية السفن مع وحدات العدو بالسلالم فلم تستطع انفصالا حين خيم الظلام، والقتال ما يزال مستمرا وإنا لفي انتظار ما يجد من الأخبار.
فتجهم وجه الملك التعب، وقال لمن حوله: لندع الرب جميعا أن ينصر إخواننا الذين يقاتلون على متن النيل!
6
واستيقظ الجيش مع طلوع الفجر وأخذ في الاستعداد والتأهب، وجاءت العيون بأنباء مهمة فقالوا: إن الحركة لم تسكن طوال الليل في معسكر العدو، وقرر بعض من جازفوا بالتوغل في الحقول المحيطة بميدان القتال أن قوات جديدة من الرجال والعجلات جعلت تتدفق على هيراكونبوليس طوال الليل وأن تدفقها إلى ما قبيل طلوع الفجر، وتفكر حور مليا ثم قال: إن العدو يا مولاي يجمع لنا جل قواته هنا ليلقانا بجيشه كاملا، ولا أعجب لذلك لأننا إذا اقتحمنا أبواب هيراكونبوليس فلن يعوق تقدمنا سوى أسوار طيبة المجيدة!
وجاءت أخبار سارة من جانب النيل، فعلم الملك أن أسطوله قاتل قتال المستيئس فلم يتمكن منه عدوه كما اشتهى، وأنه على العكس طرد جنوده من كثير من سفنه بعد أن وطئتها أقدامهم فاضطر أسطول الرعاة أن ينفصل عنه وقد خسر ثلث قوته، وكف الأسطولان عن القتال ساعات ثم اشتبكا في عراك جديد بعيد مطلع الفجر، وكان أسطول أحمس إبانا البادئ بالهجوم، فانشرح صدر الملك وتوثب للقتال بقلب جذل.
وحين سفور الصبح تقدم الجيشان للقتال، وبرزت صفوف العجلات وصاح المصريون صيحتهم المعروفة: حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع، ثم قدموا بأنفسهم في معترك الموت لا يلوون على شيء، فالتقوا بالعدو في صدمات قاتلة واشتدوا عليه كما اشتد عليهم، وقاتلوا بالقسي والرماح والسيوف، ولاحظ الملك أحمس بالرغم من اشتداد القتال أن قلب جيش العدو يدير المعركة بمهارة فائقة ويرسل القوات هنا وهناك بانتظام ودقة، فعاين القائد البارع فإذا به غير حاكم هيراكونبوليس، وإذا به الملك أبوفيس نفسه الذي أهدى إليه التاج المرصع بالجواهر في قصر طيبة بجسمه البدين ولحيته الطويلة وبصره الحاد فتحفز أحمس لهجمات شديدة، وقاتل قتال الأبطال البواسل وحرسه يرد عنه هجمات العدو، فلم يلق فارسا من القوم إلا جندله في غمضة عين، حتى هابوا نزاله ويئسوا من التغلب عليه، وطال أمد القتال، واندفعت إلى الميدان قوات جديدة من الجانبين، فاستمر القتال على عنفه وشدته حتى أوشك النهار أن يزول، وفي تلك الساعة وقد نهكت قوى الطرفين انقضت قوة من عجلات الرعاة على جناح المصريين الأيسر بقيادة رجل شديد البأس، وضغطته ضغطا شديدا لم تفد معه المقاومة المنهوكة القوى، ومضت تصنع لنفسها ثغرة تندفع منها لتطويق القوى المحاربة أو للهجوم على المشاة؛ فأدرك أحمس أن ذاك القائد ذا البأس تحين في تعبهم فرصة مناسبة، وأنه ادخر قوته ليضرب ضربة قاضية، وخشي أن يظفر الرجل بغرضه فيوقع الاضطراب في صفوف جيشه المتراصة، أو يوقع مذبحة في مشاته؛ فرأى أن يقتحم قلب العدو بقوته ليضيق عليه، فيجد القائد الداهية نفسه شبه محاصر، ولم يتردد لأن الموقف كان خطيرا دقيقا، فأمر جنوده بالهجوم وهجم على القلب بحركة فجائية قوية، واشتد القتال إلى درجة مروعة مفزعة، واضطر العدو أن يتقهقر تحت الضغط الشديد، وحينذاك أرسل أحمس قوة من العجلات لتطويق القوة التي تشتد على جناحه الأيسر، ولكن القائد كان داهية بارعا؛ فعدل خطته بعد أن كاد يحدث الثغرة المطلوبة ورمى بقوة صغيرة من عجلاته تهجم على العدو، وتقهقر هو وبقية القوة بسرعة إلى جيشه، وفي أثناء هذه العملية الدقيقة استطاع أحمس أن يرى القائد الجسور وأن يعرف فيه خنزر حاكم الجنوب الجبار ببنيانه المتين وعضلاته الفولاذية؛ وقد كلفت هجمته الجبارة المصريين صرعى كثيرين من زهرة فرسان العجلات، وانتهى القتال بعد ذلك بقليل، فعاد الملك وجيشه إلى معسكرهم، وكان أحمس يقول متوعدا غاضبا: «لا بد أن نلتقي يا خنزر وجها لوجه ...» واستقبله رجاله بالدعاء، ووجد بينهم شخصا جديدا هو أحمس إبانا، فتفاءل من وجوده في المعسكر وسأله: ماذا وراءك أيها القائد؟
فقال أحمس إبانا: النصر يا مولاي، لقد أوقعنا بأسطول الرعاة الهزيمة وأسرنا أربع سفن كبيرة من وحداته وأغرقنا نصفه، وفرت سفن لا تغني ولا تعين.
فتهلل وجه الملك، ووضع يده على منكب القائد وقال: لقد كسبت لمصر بهذا النصر نصف الحرب، وإنني بك جد فخور.
فتورد وجه أحمس إبانا وقال بسرور: ما من شك يا مولاي في أننا دفعنا ثمن النصر غاليا، ولكن أصبحت لنا السيادة المطلقة على النيل.
فقال الملك بلهجة رزينة: كبدنا العدو خسارة كبيرة أخشى ألا نجد عوضا منها، والفوز في هذه الحرب لمن يقضي على فرسان عدوه.
وسكت الملك هنيهة ثم استدرك: إن حكامنا في الجنوب يدربون الجند ويبنون السفن والعجلات ولكن تدريب فرسان العجلات يتطلب زمنا طويلا، فلن ينفعنا في المعركة التي نخوض غمارها إلا استبسالنا حتى لا تواجه مشاتنا عجلات العدو مرة أخرى.
7
استيقظ الجيش مرة أخرى عند مطلع الفجر وأخذ في التأهب والاستعداد، وارتدى الملك لباسه الحربي واستقبل في خيمته رجاله وقال لهم: لقد صح عزمي على مبارزة خنزر!
فارتاع حور لهذا القول وقال برجاء عظيم: مولاي، ينبغي ألا تشل ضربة طائشة عملنا المجيد.
وتوسل كل قائد إلى الملك أن يأذن له في قتال حاكم الجنوب، ولكن أحمس شكرهم وقال لحور: لن يشل عملنا خطب وإن جل، ولن يعوقه مصرعي إذا صرعت، فلا يفتقر جيشي إلى القواد ولا تعوز بلادي الرجال، وما كان لي أن أضيع من بين يدي فرصة أواجه بها قاتل سيكننرع، فدعني أقاتله حتى أقتله لأوفي دينا في عنقي نحو روح كريم يراقبني من العالم الغربي: ولتنزل لعنة الرب بالمترددين الخائرين!
وأرسل الملك ضابطا ليعرض على خصمه رغبته، فتوسط الرجل الميدان وصاح: أيها العدو، إن فرعون مصر يرغب في مبارزة القائد خنزر لتسوية حساب قديم.
فبرز له رجل من كتيبة خنزر: قل لمن تدعوه فرعون: إن القائد لا يحرم عدوا شرف الموت بسيفه!
فامتطى أحمس صهوة جواد كريم، ووضع السيف في حاملته والرمح في قرابه، ونخسه فعدا به إلى الميدان، ورأى عدوه ينطلق نحوه على جواد أشهب تياها فخورا يبدو جسمه كأنه كتلة جبارة من الجرانيت، فتدانيا رويدا رويدا حتى كاد رأسا جواديهما أن يتماسا، وعاين كل منهما خصمه، فلم يتمالك خنزر أن بدت على وجهه الدهشة وصاح بغرابة: رباه .. من أرى أمامي؟ أليس إسفينيس تاجر الأقزام واللآلئ؟ يا لها من دعابة ، أين تجارتك أيها التاجر إسفينيس؟
وكان أحمس ينظر إليه في هدوء وسكينة فقال له: انتهى إسفينيس أيها القائد خنزر، وليس لي من تجارة الآن سوى هذا ...
وأشار إلى سيفه، فملك خنزر عواطفه وسأله: فمن تكون إذن؟
فقال أحمس ببساطة وهدوء: أحمس فرعون مصر.
فضحك خنزر ضحكة عالية دوت في الميدان، وقال ساخرا: ومن الذي ولاك مصر وهذا ملكها يحمل التاج المزدوج الذي أهديته إليه ساجدا؟
فقال أحمس: ولاني الذي ولى آبائي وأجدادي من قبل، فاعلم أيها القائد أن الذي سيقاتلك هو حفيد سيكننرع!
فبدا الجد على وجه الحاكم وقال بهدوء: سيكننرع .. إني أذكر ذلك الرجل الذي قضى سوء حظه يوما أن يرغم على منازلتي، وإني أكاد أدرك كل شيء فاعذرني على بطء فهمي. فإننا معشر الهكسوس أبطال ميدان لا نحسن المكر ولا نعرف غير لغة السيف، أما أنتم معشر مدعي الملك من المصريين فتتخفون طويلا في ثياب التجار قبل أن تؤاتيكم شجاعتكم على ارتداء لباس الملوك .. فليكن ما تريد، ولكن هل ترغب في مبارزتي يا إسفينيس؟
فقال أحمس بحدة: فلنرتد من الثياب ما نشاء فهي ثيابنا أما أنتم فما تعلمتم ارتداء الثياب حتى آوتكم مصر، ولا تدعني إسفينيس ما دمت تعرف أني أحمس بن كاموس بن سيكننرع، أسرة عريقة في النبل والقدم انحدرت من صلب طيبة المجيدة، فلم تعرف التشرد في الصحاري ولا رعي القطعان، وإني لأرغب حقا في مبارزتك وإنه لشرف تكتسبه كي أؤدي دينا في عنقي نحو أجل إنسان عرفته طيبة!
فصاح خنزر قائلا: أرى الغرور يعميك عن معرفة قدر نفسك، فظننت أن انتصارك على القائد رخ مسوغا للوقوف أمامي .. فوا رحمتاه لك أيها الشاب الغرير! ماذا تختار أن يكون سلاحك؟
فقال أحمس وقد ارتسمت على فمه ابتسامة ساخرة: السيف إذا شئت!
فقال خنزر وهو يهز منكبيه العريضين: هو أعز الأصدقاء.
ونزل خنزر عن ظهر جواده وأسلم قياده إلى تابعه، ثم سل سيفه وأمسك بترسه، ففعل أحمس مثله ووقفا صامتين يفصل بينهما مقدار ذراع، ثم تساءل أحمس: هل نبدأ؟
فقال خنزر ضاحكا: ما أجمل هذه المواقف التي تتكاشف فيها الحياة والموت، هلم يا فتى!
فتوثب الملك وهاجم خصمه الضخم بشجاعة ووجه إليه ضربة شديدة تلقاها الحاكم على ترسه. ثم رد عليه الهجوم وهو يتكلم قائلا: يا لها من ضربة صادقة يا إسفينيس، وما أظن إلا أن رنين سيفك على ترسي ينشد لحن الموت .. مرحى .. مرحى إن صدري يرحب برسل الموت، فطالما طمع الموت، وأنا ألعب بين مخالبه، ثم يرتد عني خائبا وقد أدرك آخر الأمر أنه إنما حضر لغيري.
وكان الرجل يقاتل دون أن يكف عن الكلام كأنه راقص ماهر يغني وهو يرقص، فأدرك أحمس أن خصمه عنيد شديد البأس، فولاذي العضلات، واسع الحيلة، خفيف الحركة، جبار في الكر والفر؛ فبذل كل ما لديه من قوة ودراية، وتفادى من الضربات الموجهة إليه وهو يعلم أنها ضربات قاتلة لا نجاة منها إذا أصابت هدفها، ولكنه تلقى ضربة بترسه أحس ثقلها، ورأى خصمه يبتسم في ثقة وطمأنينة فاهتاجه الغضب والحنق ووجه إليه ضربة هائلة تلقاها الرجل بدوره على ترسه وكان يسيطر على أعصابه وإرادته، فسأل أحمس: أين صنع هذا السيف المتين؟
فقال له أحمس وقد تمالك نفسه كذلك: في نباتا في أقصى الجنوب.
فقال الرجل وهو يتفادى ضربة شديدة وجهت إليه بمهارة فائقة: أما سيفي فقد صنع في منف بأيدي صناع مصريين .. وما كان صانعه يعلم أنه يقدم لي ما أقضي به على مليكه الذي تاجر وقاتل في سبيله، فقال أحمس: ما أسعده غدا إذا علم أنه كان شؤما على عدو بلاده!
وكان أحمسن يتحين الفرصة لهجوم عنيف، فما كاد يتم كلامه حتى وجه إلى خصمه الجبار ثلاث ضربات متوالية بسرعة خاطفة، فتحاماها خنزر بدرعه وسيفه ولكنه اضطر إلى أن يتقهقر خطوات، فقفز عليه الملك وهاجمه هجوما قاسيا ووجه الضربة تلو الضربة إلى مقاتله، وأدرك خنزر خطر المصير، فكف عن مداعبة خصمه وأطبق فمه، وزال عنه الابتسام فقطب جبينه ودافع هجمات عدوه بقوة جبارة وبسالة هائلة، وأبدى من ضروب المهارة والشجاعة ما يفوق كل تصور، وأصاب ذباب سيفه خوذة أحمس، فظن الرعاة أنه قضى على عدوهم العنيد فتعالى هتافهم حتى تساءل أحمس هنيهة: «ترى هل أصبت؟» ولكنه لم يحس تخاذلا ولا وهنا، فاستجمع وضرب عدوه ضربة قوية عنيفة عرض لها ترسه فصكته بقسوة فتركه يسقط من يده متضعضعا وقد ارتج ساعده، وتعالى الهتاف من الجانبين بين فرح وغضب، وتوقف أحمس عن القتال ونظر إلى خصمه مبتسما ابتسامة الظفر، وكان الآخر يشهر سيفه ويتأهب للقتال بغير ترس، فما كان من أحمس إلا أن خلع ترسه ورمى به جانبا، فبدت الدهشة على وجه خنزر ونظر إليه نظرة غريبة وهو يقول: يا له من نبل حقيق بأخلاق الملوك!
واستأنفا القتال في سكون، فتبادلا ضربتين شديدتين، ولكن ضربة أحمس كانت أسرع إلى رقبة خصمه الجبار فسرت فيه رجفة هائلة، وتراخت يده عن مقبض سيفه ثم سقط على الأرض كأنه بنيان تهدم، ودنا الملك منه في خطى بطيئة، ونظر إلى وجهه بعين ملؤها الاحترام وقال له: يا لك من جبار باسل أيها الحاكم خنزر!
فقال الرجل وهو يصعد أنفاس الحياة الأخيرة: بالحق نطقت أيها الملك .. ولن يعترض سبيلك من بعدي مقاتل.
وتناول أحمس سيف خنزر ووضعه إلى جانب جثته، ثم امتطى جواده وعاد إلى معسكره، وكان يعلم أن الرعاة سيحاربون بحنق ورغبة في الانتقام، فأقبل على فرسانه وصاح بهم: أيها الجنود، رددوا شعارنا الخالد: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، واذكروا أن مصيرنا إلى الأبد معلق بنتيجة هذه المعركة الدائرة، فلا ترضوا أبدا أن يضيع صبر الأعوام وجهاد الأجيال في تخاذل ساعة واحدة!
ثم حمل وحملوا ودار القتال عنيفا حتى مغيب الشمس.
واستمر القتال على هذا النحو عشرة أيام كاملة.
8
وفي مساء اليوم العاشر من أيام القتال عاد الملك أحمس من الميدان متعبا منهوك القوى، فاجتمع بحاشيته وقواده، وكان سقوط خنزر قد ألحق بجيش الرعاة خسارة لا تعوض، ولكن فرقة عجلاتهم لبثت تقاوم وتصد هجمات المصريين وتوقع بهم الخسائر الفادحة، فساور الملك القلق، وخشي أن تتحطم فرقة العجلات الجبارة يوما بعد يوم، وكان في ذاك المساء غاضبا حزينا لكثرة من سقط من فرسانه البواسل الذين يتصدون للموت بغير مبالاة، فقال وكأنه يحدث نفسه: هيراكونبوليس .. هيراكونبوليس .. ترى هل يقترن اسمك بانتصارنا أم بهزيمتنا؟
وكان المجتمعون لا يقلون عن الملك حزنا أو غضبا، ولكن راعهم ما يبدو على وجهه الجميل من التعب والانفعال، فقال الحاجب حور: مولاي .. إن فرساننا يقاتلون فرقة عجلات الرعاة بكامل عددها وعددها فلا تهولنا خسائرنا، وغدا إذا ظهرنا على العدو وحطمنا عجلاته فلن يكون لمشاته قبل بنا، وسيلوذون بأسوار الحصن فرارا من انقضاض عجلاتنا عليهم.
فقال الملك: كانت غايتي الكبرى أن أقضي على عجلات العدو مع الاحتفاظ بقوة عظيمة من عجلاتنا لتسيطر على الميدان دائما، كما فعل الرعاة في هجومهم في طيبة، ولكني بت أخشى أن يقضى على قوتينا الراكبتين معا، فنتعرض لحرب طويلة الأمد لا تبقي على مدننا ولا تذر.
وطلب الملك أن يطلع على الإحصاء الأخير للخسائر، وجاء ضابط به فإذا فرقة العجلات المصرية قد خسرت ثلثي قوتها من العجلات والفرسان.
فامتقع أحمس ونظر في وجوه رجاله، فإذا بالوجوم يعلوها جميعا، ثم قال: لم يبق لدينا سوى ألفي فارس .. فكيف تقدرون خسائر العدو؟
فقال القائد ديب: لا أتصور يا مولاي أنها تقل عن خسارتنا .. وأرجح أنها تزيد عليها.
فحنى الملك رأسه ولبث يفكر مليا، ثم نظر إلى رجاله وقال: سيعلم كل شيء غدا، فغدا يوم الفصل دون شك، ولعل عدونا يعاني من الحيرة والقلق ما نعاني وأكثر، وعلى كل حال لن يلومنا أحد ولن نلوم أحدا، والرب يعلم أننا نقاتل بقلوب كارهة للحياة!
فقال ديب متسائلا: إن أسطولنا لا يحارب الآن، فلماذا لا ينزل جنودا وراء جيش العدو فيما بين هيراكونبوليس ونخب؟
فقال أحمس إبانا: إن أسطولنا سيطر الآن على النيل سيطرة كاملة، ولكنا لا نستطيع أن نجازف بإنزال جنود وراء العدو إلا إذا كان جيشه جميعا مشتبكا في القتال، والواقع أن القتال مقصور حتى الآن على فرقتي العجلات، أما جيش العدو فرابض وراء الميدان مستريحا يقظا.
وسأل أحد كهنة أمبوس قائلا: أليس لنا يا مولاي قوة احتياطية من الفرسان؟
فقال أحمس: لقد جئنا مصر بستة آلاف فارس، هم ثمرة جهاد شاق وصبر طويل، فخسرنا منهم أربعة آلاف رجل في اثني عشر يوما من أيام الجحيم!
فقال حور: مولاي .. إن سيين وأمبوس وأبولينوبوليس مجنا تبني العجلات وتدرب الفرسان بلا توان.
أما أحمس إبانا فقال بحماسه الذي لا يعرف اليأس: حسبنا شعارنا الذي لقنتناه الأم المقدسة توتيشيري: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، وأن فرساننا لا يغلبون، وأن مشاتنا ليتحرقون شوقا إلى القتال، ولنذكر دائما أن الرب الذي أرسلك إلى أرض مصر لم يرسلك عبثا.
وأمن الرجال على قول القائد الشاب، وابتسم الملك ابتسامة مشرقة، وبات الجيش ليلته واستيقظ مع الفجر كعادته وتأهب للقتال، وعند سفور الصباح تقدمت فرقة العجلات وفي قلبها الملك وحرسه، ونظر إلى الميدان فرآه خاليا فعجب غاية العجب، ثم أمعن في النظر فرأى على البعد أسوار هيراكونبوليس لا يعترض سبيله إليها رجل من الرعاة، ولم تطل الدهشة بالملك فجاءه بعض رجال الاستطلاع وقرروا بين يديه أن جيش أبوفيس انسحب من الميدان بجموعه الجرارة وترك هيراكونبوليس في الليل، وجد في السير نحو الشمال، ولم يتمالك القائد محب أن قال: الآن حصحص الحق .. وما من شك في أن قوة عجلات الرعاة تحطمت، وأن أبو فيس آثر أن يفر إلى حصونه على أن يواجه فرساننا بمشاته.
وقال القائد ديب فرحا: مولاي .. لقد كسبنا موقعة هيراكونبوليس الهائلة!
وكان الملك أحمس يتساءل: ترى هل انكشفت الغمة؟ .. ترى هل حقا زالت المخاوف؟ ثم التفت إلى ديب وقال: بل قل إننا حطمنا عجلات الرعاة وكفى.
وسرت الأخبار إلى الجيش فشاع الفرح في النفوس، وهرع رجال الحاشية يتقدمهم حور إلى الملك وهنأوه بالنصر المبين الذي فتح الرب به عليه، ودخل أحمس مدينة هيراكونبوليس على رأس جيشه، وهرع معه الأهالي إليها من الحقول فروا إليها خوفا من انتقام الرعاة، واستقبلوا ملكهم استقبالا حارا وهتفوا لجيش الخلاص هتافا يشق عنان السماء.
وكان أول شيء فعله الملك أن صلى للرب آمون الذي مد له يد المعونة بعد أن كاد يشفي على اليأس.
9
واستراح الجيش في هيراكونبوليس بضعة أيام بعد قتال عنيف دام اثني عشر يوما، وأشرف أحمس بنفسه على تنظيم المدينة وإعادة مصريتها الأولى إلى حكومتها ومزارعها وأسواقها ومعابدها، وواسى الأهالي لما تعرضوا له من ألوان الاضطهاد وما تعرضت له مدينتهم في أثناء تقهقر الرعاة من النهب والسلب والتخريب.
ثم زحف الجيش نحو الشمال وأبحر معه الأسطول ودخل مدينة نخب في عصر اليوم نفسه دون مقاومة، وبات فيها حتى فجر اليوم الثاني، ثم استأنف مسيره دون أن يلتقي بأية قوات للعدو فاحتل القرى ورفع عليها الأعلام المصرية، وشارف وادي لاتوبوليس بعد ثلاثة أيام، وكان الملك ورجاله يظنون أن العدو سيدافع عنها فأرسل أحمس طلائع جيشه إليها وحاصر أحمس إبانا شطآنها الغربية ولكن الطلائع دخلت المدينة دون مقاومة فدخلها الجيش آمنا، وقص عليهم الأهالي كيف مر بهم جيش أبوفيس يحمل جرحاه، وكيف حمل أصحاب الدور والمزارع من الرعاة أثاثهم وأموالهم ولحقوا بجيش ملكهم في حالة شديدة من الفزع والفوضى.
وتقدم الجيش بقواته المرهوبة يدخل القرى والمدن دون أدنى مقاومة حتى بلغ ترت، ثم بعدها هزمنتيس، وكانوا يتوقون جميعا إلى ملاقاة عدوهم ليشفوا غل صدورهم، ولكن كان السرور يتألق في وجوههم كلما رفعوا العلم على بلدة أو قرية وشعروا أنهم حرروا قطعة من الوطن الأثير، وكان خبر الهزيمة التي لحقت بفرقة عجلات الرعاة ينعش نفوس الجنود ويذكي في قلوبهم الأمل والحماسة، فمضوا ينشدون الأغاني الحماسية، ويضربون في أرض الوادي بسيقانهم النحاسية، حتى طالعتهم أسوار مدينة هابو المتوغلة في منطقة طيبة، وكان الوادي ينحدر نحو جنوبها انحدارا فجائيا شديدا، فذهبت الطلائع إلى المدينة ولكنها كانت كسابقاتها من المدن بغير حراس، فدخلها الجيش في سلام، هز دخول هابو قلوب الجنود جميعا لأنها وطيبة كانتا كأعضاء الجسم الواحد، ولأن كثيرا من جنود الجيش كانوا من بنيها البواسل، فتعانقت في ساحاتها القلوب والأنفس وهتفت الضمائر بأناشيد الشوق والحنين، ثم تقدم الجيش شمالا بقلوب متحفزة وأنفس متوثبة، وهو يعلم أنه مقبل على العمل الفاصل في تاريخه والمعركة الخطيرة التي تقرر مصير طيبة، وانحدر في الوادي العظيم الذي يطلق عليه الطيبيون «طريق آمون» وكان يتسع كلما أوغلوا فيه حتى بدا لهم السور العظيم ذو الأبواب المتعددة يقطع الطريق عليهم ويمتد شرقا وغربا، تنطلق من خلفه المسلات وجدران المعابد والأبنية الشاهقة يتمثل فيها جميعا المجد والخلود وتطوف بها الذكريات العظيمة، فسرت منها إلى النفوس عاصفة من الحماسة والحنين زلزلت القلوب والضمائر، فتصايحت جنبات الوادي هاتفة: «طيبة ...» «طيبة ...». وجرى اسمها على كل لسان ولهجت به الأفئدة المضطرمة، وما زالوا يهتفون حتى جرى الدمع كبرياءهم فبكوا وبكى حور الشيخ!
وعسكر الجيش العظيم، ووقف أحمس في قلبه يرفرف على رأسه علم طيبة الذي حاكته توتيشيري بيديها، يرسل ناظريه إلى المدينة وقد لاحت فيهما الأحلام ويقول: طيبة .. طيبة .. يا أرض المجد .. ومثوى الآباء والأجداد، أبشري فغدا يطلع عليك صبح جديد!
10
واستدعى الملك القائد أحمس إبانا وقال له: سأكل إليك أيها القائد ساحل طيبة الغربي فهاجمه أو حاصره كما يتراءى لك، مستلهما خططك من الملابسات المحيطة بك.
وأنشأ الرجال يفكرون في طريقة الهجوم على طيبة، فقال القائد محب: إن أسوار طيبة منيعة شديدة البأس تكلف المهاجمين أرواحا غالية، ولكن ما من مهاجمتها بد، فأبوابها الجنوبية هي السبيل الوحيد إليها.
وقال القائد ديب: إن محاصرة المدن الحصينة وتجويعها أجدى على المهاجمين من مهاجمتها، ولكننا لا نستطيع أن نفكر لحظة واحدة في تجويع طيبة، فلم يبق لدينا سوى مهاجمة أسوارها، ونحن لا تعوزنا وسائل الهجوم على الأسوار من السلالم والقباب الواقية؛ ولكنها ليست كافية كذلك، ونرجو أن تصلنا منها كميات وافرة، وعلى أية حال إذا كان ثمن طيبة غاليا فسنبذله عن طيب خاطر.
فقال أحمس: هذا هو الرأي، فينبغي ألا نضيع وقتنا لأن قومنا محصورون داخل أسوار المدينة، ويحتمل أن يتعرضوا لانتقام عدونا الوحشي.
وفي ذلك اليوم تقدم الأسطول المصري نحو شاطئ طيبة الغربي والتقى أمامه بأسطول للرعاة جمعوه من السفن الفارة من هيراكونبوليس فأطبق عليه واشتبك الأسطولان في معركة عنيفة، ولكن كان تغلب المصريين في عدد الرجال والسفن كبيرا، فضيقوا الخناق على عدوهم وأصلوه نارا حامية.
وأرسل أحمس طلائع من فرق القسي والرماح لاختبار القوات المدافعة، فأطلقوا قسيهم على نقط متباعدة من السور العظيم، فإذا بالرعاة قد ملئوا السور بالحرس الأشداء وبأسلحة لا تنفد، وكان القواد المصريون ينظمون قواتهم، فلما صدر إليهم أمر الهجوم أرسلوا كتائب متتالية من رجالهم في أرجاء الوادي لتهاجم السور في نقط متباعدة، محتمية بدروعها الطويلة، فانهالت عليهم سهام العدو كالسيل، وصوبوا قسيهم نحو منافذ السور المنيع، ودار القتال بلا رحمة، وكان المعسكر لا يفتأ يرسل جماعات الجنود المتحفزين للقتال، وكانوا يقاتلون بجسارة لا تهاب الموت فدفعوا ثمن جرأتهم غاليا، وانتهى النهار بمذبحة هائلة، وقد روع الملك بمنظر القتلى والجرحى فصاح غاضبا: إن جنودي لا يبالون الموت، والموت يحصدهم حصدا.
فقال حور وهو يلقي على الميدان بصرا زائغا: يا لها من معركة يا مولاي .. أرى الجثث تملأ الميدان!
وكان القائد محب متجهم الوجه معفر الثياب فقال: ألسنا نهاجم الموت سافرا؟
فقال أحمس: لن أدفع بجيشي إلى الهلاك المحقق، ويحسن بي أن أرسل عددا محدودا من الرجال وراء القباب الواقية، حتى يملأ الموت على العدو منافذ سوره.
ولبث الملك مهتاج النفس، ولم يخفف عنه ما حملته الرسل من أن الأسطول المصري استولى على بقية أسطول الرعاة وأصبح سيد النيل دون منازع .. وفي ذاك المساء عاد الرسول الذي كان بعثه إلى أسرته في نباتا يحمل رسالة من توتيشيري، فبسط أحمس الرسالة بين يديه وقرأ ما يأتي: «من توتيشيري إلى حفيدي ومولاي فرعون مصر أحمس بن كاموس، من أدعو الرب الكريم أن يصون حياته الغالية، ويوفق رأيه للسداد، وقلبه للإيمان، ويده إلى مقتل عدوه .. جاءني رسولك ينعى إلينا فقيدنا الباسل كاموس ويبلغني كلمته الأخيرة الموجهة إلي، ويحسن بي - وأنت تقاتل عدونا - أن أضرب صفحا عن ذكر ما تخفق به قلوبنا جميعا، فقد قضي على قلبي أن يذوق الموت مرتين في حياة قصيرة واحدة، ولكن لا يعز العزاء على من يعيش في أتون معركة هائلة تبذل فيها النفوس رخيصة ويستبق الشجعان إلى الموت، ولا أكتمك - على ألمي وحزني - أن رسولا يسعى إلي بموت كاموس ونصر جيشنا، أحب إلي من أن يجيئني كاموس بنبأ الهزيمة .. فسر في سبيلك ترعاك عناية الرب الرحيم، ويحفظك دعاء قلبي والقلوب الرقيقة المجتمعة حولي، يتنازعها الحزن والتصبر والرجاء، واعلم يا مولاي أننا نشد الرحال إلى بلدة دابور على مقربة من حدود بلادنا، لنكون أدنى إلى رسلك، والسلام».
قرأ أحمس الكتاب فاستشف ما يكمن وراء سطوره من ألم ممض ورجاء حار، وتمثلت له الوجوه التي ودعها في نباتا، توتيشيري بوجهها الناحل المكلل بالمشيب، وجدته أحوتبي بجلالها وحزنها، وأمه ستكيموس بوداعتها، وزوجه نيفرتاري بعينيها الواسعتين وقدها الرشيق، وتمتم قائلا: «رباه! إن توتيشيري تتلقى طعنات الألم القاتل بالعزاء والأمل، ولا ينسيها حزنها أملنا المنشود فلأذكر دائما حكمتها ولأتبعها بعقلي وقلبي!»
11
وقام الأسطول بواجبه بعد أن أسر أسطول الرعاة؛ فضرب الحصار حول شاطئ المدينة الغربي، وبث الرعب في أنفس أصحاب القصور المطلة على النيل، وتبادل إطلاق السهام مع حصون الشواطئ، ولكنه لم يحاول مهاجمة هذه الحصون لمناعتها ولارتفاعها بسبب انخفاض النيل في فصل الحصاد، فاكتفى بمناوشتها وضرب الحصار حولها، وكان أحمس إبانا تنازعه نفسه إلى شاطئ البلد الجنوبي حيث يقيم الصيادون، ويخفق بحبه قلب حنون، وظن أن هذا المكان قد يكون منفذه إلى طيبة، ولكن الرعاة كانوا أكبر حذرا مما ظن فأخذوا الشاطئ من المصريين، وشغلوا مساحته الممتدة بالحرس المدرعين.
أما الملك أحمس فقد عدل عن الهجوم بجماعات كثيفة، وقدم للميدان نخبة من رجاله المدربين وراء الدروع الطويلة، فاستبقوا مع المدافعين عن السور العظيم في حرب قوامها الفن ودقة التصويب، ولم يتوانوا عن إظهار مهارتهم التقليدية وكفاءتهم العالية، واستمرت الحرب على هذا النحو بضعة أيام دون أن تبشر بأي نتيجة أو تنبئ بأية نهاية، فتململ الملك وقال: ينبغي ألا نعطي العدو مهلة يستعيد فيها نظامه ويعيد بناء قوة جديدة من عجلاته.
ثم شد أحمس على مقبض سيفه وقال: سآمر باستئناف الهجوم العنيف، وإذا لم يكن من بذل النفوس بد فلنقدم أنفسنا كما ينبغي لرجال أقسموا أن يحرروا مصر من نير عدوها الثقيل. وسأوجه رسلي إلى حكام الجنوب ليحثوهم على صنع دروع الحصار والقباب الواقية.
وأصدر الملك أمره بالهجوم، وأشرف بنفسه على توزيع فرق القسي والرماح في الميدان الفسيح على هيئة قلب وجناحين، وجعل القائد محب على الميمنة، والقائد ديب على الميسرة، ومضى المصريون يتقدمون في موجات واسعة النطاق، لا تلحق الموجة بسابقاتها حتى تكون هذه قد أخذت مكانها وطفقت تناجز العدو المحتمي بالسور المرهوب، فلما تقدم النهار بالمقاتلة كان الميدان يزخر بالجنود الضاغطين سور طيبة، واستطاع المصريون أن يلحقوا بعدوهم خسارة فادحة كما خسروا عددا كبيرا من رجالهم؛ ولكن خسارتهم على أي حال كانت دون خسارة اليوم الأول ودار القتال على هذا بضعة أيام أخر، وكثر عدد القتلى من الجانبين، واشتد ضغط جناح المصريين الأيمن للعدو حتى استطاع مرة أن يسكت نقطة من نقط الدفاع المتعددة، وأن يهلك كل من يتصدى لإطلاق السهام من منافذها، وانتهز بعض الضباط البواسل هذه الفرصة فهاجموا تلك الجهة بجنودهم، وأقاموا سلم هجوم وصعدوا عليه مع قوة باسلة، وسهام إخوانهم تغشاهم كالسحاب، وقد انتبه الرعاة إلى الناحية المهددة فتكاثروا عليها وأصلوا المهاجمين نارا حامية حتى أبادوهم، وسر الملك لهذا الهجوم الذي ضرب مثلا رائعا لجيشه، وقال لمن حوله: لأول مرة من بدء الحصار يقتل نفر من جنودي على سور طيبة.
والحق كان لهذه الخطوة مغزى عظيم، فقد تكررت في اليوم الثاني، ثم وقعت في غداته في نقطتين من السور، ومضى يتزايد ضغط المصريين للعدو حتى بات الغزو أملا مرجوا قريبا. وفي تلك الأثناء جاء رسول من شاو حاكم سيين على رأس قوة من الجنود المدججين بالسلاح الذين تم تدريبهم أخيرا، ومعهم سفينة محملة بدروع الحصار وسلالمه وعدد من القباب الواقية، فاستقبل الملك الجنود بسرور، وقد تضاعف أمله في النصر، وأمر بتسييرهم في الميدان أمام معسكره لتحييهم الجنود ويزدادوا بهم أملا وقوة.
ودار القتال مع الغداة مروعا هائلا، وتوالت هجمات المصريين الصادقة، ولاقوا الموت بقلوب لا تهابه، وأنزلوا بعدوهم خسائر جمة حتى بدا عليه الإعياء واليأس واعتور سواعده النصب، فاستطاع القائد محب أن يقول لمولاه وهو عائد من الميدان: مولاي .. سنقتحم السور غدا.
واجتمع رأي القواد جميعا على هذا، فبعث أحمس برسول إلى أسرته يدعوها إلى هابو التي يرفرف عليها العلم المصري، ليدخلوا جميعا طيبة في الغد القريب .. وبات الملك ليلته شديد الإيمان كبير الأمل.
12
وطلع فجر اليوم الموعود، فاستيقظ المصريون نشاوى يتوثبون، توقع قلوبهم الخافقة لحن الحرب والنصر، ثم تقدمت جموعهم إلى أماكنها وراء الدروع والقباب، ونظروا إلى أهدافهم غاضبين، فرأوا منظرا عجبا لم يتوقعوا رؤيته، فضجوا بالدهشة والانزعاج، وتبادلوا نظرات الحيرة والذهول، رأوا على السور المحيط أجسادا عارية قيدت عليه، رأوا نساء مصريات وأطفالهن الصغار اتخذ الرعاة منهم دروعا تحميهم شر نبالهم وقذائفهم، ووقفوا خلفهن ضاحكين شامتين، وكان منظر النساء العاريات وقد حلت شعورهن وهتكت أعراضهن، والأطفال الصغار وثقت أيديهم وأرجلهم يفتت الأكباد جميعا، فضلا عن أكباد من هم أزواجهن وأبناؤهن، فأسقط في أيدي الرجال وشلت سواعدهم، وسرى الانزعاج في النفوس حتى بلغ الملك فتلقاه كأنه صاعقة من السماء، وصاح غاضبا: يا للوحشية الهمجية .. إن الجبناء يحتمون بأجساد النساء والأطفال!
وساد الصمت والوجوم حاشية الملك وقواده فلم ينبس أحدهم بكلمة، ووضح نور الصباح فرأوا على البعد سور طيبة تحميه أجساد النساء والأطفال، فاقشعرت أبدانهم هولا، واصفرت وجوههم غضبا، وارتعشت أطرافهم، وحامت أرواحهم حول الأسرى المعذبين وأهليهم البواسل الذين وقفوا في الميدان أمامهم مكتوفي الأيدي، يعانون العذاب ويضيقون بالعجز، وصاح حور بصوت متهدج: يا للبائسات، سيقتلهن توالي الليل والنهار إذا لم تمزق قلوبهن السهام .. ولفت الحيرة الملك، وجعل ينظر إلى الأسرى اللاتي يحمين بأجسادهن وأطفالهن عدوهن بعينين ذاهلتين كئيبتين، ما عسى أن يفعل؟ .. إن كفاح أشهر طوال ينذر بالضياع، وآمال عشرة أعوام تهدد بالخيبة واليأس، فما عسى أن يصنع؟ .. هل جاء لخلاص شعبه أم للتنكيل به؟ .. وهل أرسل رحمة أم عذابا؟ وجعل يتمتم في حزنه: «آمون .. آمون .. ربي المعبود .. إن هذا الكفاح لوجهك وللمؤمنين بك، فألهمني الصواب على أن أجد لنفسي مخرجا» .. وتنبه من صلاته على صلصلة عجلة قادمة من ناحية النيل، عاين ومن حوله راكبها فإذا به قائد الأسطول أحمس إبانا، وترجل القائد وأدى للملك التحية ثم تساءل قائلا: مولاي .. لماذا لا يهجم جيشنا على الرعاة المتداعين؟ .. أما كان ينبغي أن تكون جنودنا على سور طيبة الآن؟
فقال الملك بصوت حزين ثقيل النبرات وهو يشير إلى ناحية السور: انظر لترى بنفسك أيها القائد!
ولكن أحمس إبانا لم ينظر كما كانوا يتوقعون بهدوء: آذنتني عيوني بالعمل الدنيء الوحشي، ولكن كيف نرضى أن نساق إلى أشراك أبوفيس ونحن به عالمون؟
هل يجوز أن نكف عن الكفاح في سبيل طيبة ومصر إشفاقا من أن تؤذي نبالنا بعض النساء والأطفال من قومنا؟!
فقال الملك أحمس بمرارة: أترى أن آمر بتمزيق أجساد هؤلاء النسوة البائسات وأطفالهن؟
فقال القائد بحماس وثقة: نعم يا مولاي، إنه قربان الكفاح، مثلهن مثل جنودنا البواسل الذين يتساقطون في كل حين، بل مثلهن مثل مليكنا الشهيد سيكننرع وفقيدنا الباسل كاموس، فلماذا نشفق من ذهابهن هذا الإشفاق المعطل لكفاحنا؟
مولاي .. إن قلبي يحدثني بأن أمي إبانا بين هؤلاء الأسيرات البائسات، فإذا صدق شعوري فلا أشك في أنها تدعو الرب الآن أن يجعل حبك طيبة فوق رحمتك بها وبأخواتها البائسات، ولست الجريح وحدي في جنودنا، فليضع كل منا حول قلبه درعا من إيمانه وعزيمته ولنهجم!
ونظر الملك إلى قائد أسطوله طويلا، ثم قلب وجهه في حاشيته وقواده، فقال الحاجب حور بهدوء وكان متجهما ممتقعا: صدق أحمس إبانا العظيم.
وتنفس الرجال من الأعماق وصاحوا جميعا في نفس واحد: نعم .. نعم .. صدق قائد الأسطول ولنهجم!
فالتفت الملك إلى القواد وقال بعزم: أيها القواد، اذهبوا إلى جنودكم وقولوا لهم إن مليكهم الذي فقد في سبيل مصر جده وأباه، ومن لا يتردد عن الجود بنفسه في سبيلها ، يأمرهم بالهجوم على سور طيبة المدرع بأكبادنا والاستيلاء عليه مهما كلفنا ذلك من بذل.
وذهب القواد سراعا ونفخ في الأبواق، فتقدمت صفوف الجند شاكي السلاح مكفهري الوجوه. وصاح الضباط بأصوات مدوية: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، وبدأت في الحال أبشع معركة خاض غمارها الإنسان، وأطلق الرعاة السهام فرد عليهم المصريون، وانطلقت نبالهم تشق صدور نسائهم وتمزق قلوب أطفالهم وتسيل الدماء غزيرة، ولوحت النسوة برءوسهن للجنود وصحن بأصوات رفيعة مبحوحة: اضربونا ينصركم الرب وانتقموا لنا.
فجن جنون المصريين وهجموا هجمة وحوش كواسر قست قلوبها وتعطشت إلى الدماء، ودوى صراخهم في جنبات الوادي كعزيف الرعد وزئير الأسود، واندفعوا لا يبالون الموت المنصب عليهم كأنما فقدوا الشعور والإدراك وانقلبوا آلات جهنمية، وحمي وطيس القتال واشتد الطعان، وسالت الدماء كأنها ينابيع تتفجر في الصدور والأعناق، وأحس كل هاجم أن في قلبه غمزا جنونيا لا يسكن حتى يدفن رمحه في قلب واحد من الرعاة، وتمكن الجناح الأيمن قبل أن ينتصف النهار من أن يسكت عدة مواضع دفاعية، فبادر رجال إلى إقامة أدراج الحصار وصعدوا عليها بقلوب لا تخشى الموت، فنقلوا القتال من الميدان إلى أعلى السور الحصين، وقفز بعضهم إلى سطح السور الداخلي واشتبكوا مع العدو بالرماح والسيوف وتوالت الهجمات بعنف وبسالة، وكان الملك يرقب القتال بأعين يقظى، ويرسل النجدات إلى المواقع التي يشتد عليها العدو، وقد شاهد جنوده تصعد إلى السور في مكان الوسط ومكانين في الميسرة وقد أخذت الشمس تتوسط في كبد السماء، فقال: إن جنودي يبذلون جهد الجبابرة، ولكني أخشى أن يلحقنا الظلام قبل أن نستولي على السور جميعه، فنستأنف غدا من جديد!
وأصدر الملك أوامره إلى فيالق جديدة بالهجوم، فاشتد ضغط رجاله للمدافعين عن السور المنيع، وصنعوا لأنفسهم طرائق جديدة إلى أعلاه، والظاهر أن اليأس أخذ يستولي على الرعاة بعد أن أنزل المصريون بهم خسائر فادحة، وبعد أن رأوا سيلهم لا ينقطع وهم يصعدون أدراج الحصار كجماعات النمل الزاحفة على سيقان الأشجار، فانهارت مواضع دفاعية بسرعة لم يكن يتوقعها أحد، واحتل جنود أحمس نقطا كاملة من السور، وبدا سقوط السور أمرا محققا لا يحتاج إلا لوقت، وكان أحمس لا ينفك عن إرسال الإمدادات القوية، وجاءه في المعسكر ضابط من قوة الاستطلاع المتوغلة في الحقول المحيطة بطيبة يطفر البشر من وجهه، فانحنى للملك وقال: أخبار جليلة يا مولاي .. إن أبوفيس وجيشه يغادرون أبواب طيبة الشمالية كالفارين.
فعجب الملك وسأل الضابط قائلا: أواثق أنت مما تقول؟
فقال الرجل بثقة وإيمان: رأيت بعيني ركب ملك الرعاة وحرسه يتبعهم جموع الجيش المدججة بالسلاح.
فقال أحمس إبانا: لقد أدرك أبوفيس عبث الدفاع عن سور طيبة بعد ما رأى من هجمات جنودنا وجيشه في المدينة لا يحسن الدفاع عن نفسه، ففر هاربا.
فقال حور: والآن أدرك على غير شك أن الاحتماء بنساء المحاربين وأطفالهم شر وبيل.
وما كاد حور يتم كلامه حتى جاء رسول جديد من الأسطول فحيا الملك وقال: مولاي .. لقد شبت نيران الثورة في طيبة، وشاهدنا من الأسطول عراكا عنيفا يقع بين الفلاحين والنوبيين من ناحية، وأصحاب القصور وحرس الشاطئ من الناحية الأخرى.
فبدا القلق على أحمس إبانا وسأل الضابط: وهل قام الأسطول بواجبه؟ - نعم يا سيدي، لقد دنت سفننا من الشاطئ وأطلقت السهام بكثرة على الحرس حتى لا تمكنهم من التفرغ لقتال الثائرين.
فلاح الارتياح في وجه القائد، واستأذن الملك في العودة إلى أسطوله ليهجم على الشاطئ، فأذن له الملك وقال لحور مغتبطا: لن يفلت أصحاب الضياع هذه المرة بأموالهم.
فقال حور بصوت متهدج من الفرح: نعم يا مولاي، وعما قريب تفتح لك طيبة المجيدة أبوابها. - ولكن أبوفيس فر بجيشه. - لن نكف عن الكفاح حتى تسقط هواريس ويجلو عن مصر آخر رجل من الرعاة.
وعاد الملك إلى مراقبة القتال فرأى جنوده تقاتل على أدراج الحصار وفي أعلى السور وتضغط على الرعاة المتقهقرين أمامها، وصعدت فيالق الجند من حملة الرماح والسيوف بكثرة وعلت السور من كل جانب وأحاطت بالرعاة وأعملت فيهم القتل والذبح، وما لبث أن رأى جنوده تمزق علم الهكسوس وترفع علم طيبة الخفاق ، ثم شاهد أبواب طيبة العظيمة تنفتح على مصراعيها وجنوده تندفع إلى داخلها هاتفة باسمه، فتمتم قائلا بصوت خافت: «طيبة .. يا منبع دمي .. ومنبت جسدي .. ومرتع روحي .. افتحي ذراعيك وضمي إلى صدرك الحنون أبناءك البررة البواسل»، ثم حنى رأسه ليخفي دمعة منتزعة من ضلوعه، وكان حور إلى يمينه يصلي ويجفف عينيه وقد تندى خداه النحيلان.
13
ومضت ساعات أخرى وأخذت الشمس تميل نحو المغيب، وأقبل الملك والقائدان محب وديب، ثم تبعهما على الأثر أحمس إبانا فانحنوا لأحمس في إجلال وهنأوه بالنصر، فقال أحمس: ينبغي قبل أن يهنئ بعضنا بعضا أن نؤدي الواجب نحو جثث الأبطال والجنود والنساء والأطفال الذين استشهدوا في سبيل طيبة فائتوني بها جميعا.
وكانت الجثث ملقاة في جنبات الميدان وعلى سطح السور وخلف الأبواب، وقد عفرتها الأتربة وخضبتها الدماء، وسقطت من رءوسها الخوذ الحديدية، وشملها سكون الموت الرهيب، فرفعها الجنود باحترام وساروا بها إلى جانب من المعسكر وأرقدوها جنبا إلى جنب، وأتوا بالنساء والأطفال اللاتي مزقتهن سهام جنودهم ووضعوهن في مكان منعزل، وتوجه الملك إلى مرقد الشهداء يتبعه الحاجب حور والقواد الثلاثة والحاشية، ولما دنا من الجثث المتراصة انحنى في إجلال صامت حزين ففعل رجاله مثله، ثم سار في خطى بطيئة مارا بها كأنما يستعرضها في حفل رسمي مشهود، ثم عدل إلى حيث يرقد النسوة والأطفال وقد سجوا أجسادهن العارية بأغطية من الكتان، فأظلت وجه الملك سحابة حزن وأظلمت عيناه، وتنبه من كمده على صوت القائد أحمس إبانا وهو يصيح بالرغم منه بصوت مرتعش النبرات قائلا: أماه!
فالتفت الملك وراءه فرأى قائده يجثو متألما متفجعا أمام إحدى الجثث، فألقى عليها الملك نظرة فاحصة فعرف السيدة إبانا وقد ارتسم على محياها شبح الفناء المروع، فوقف الملك إلى جانب قائده الجاثي خاشعا حزين الفؤاد، وكان يكن للسيدة احتراما عظيما ويعرف لها وطنيتها وشجاعتها وفضلها في تربية أحمس خير قواده بلا نزاع، ورفع الملك رأسه إلى السماء وقال بصوت متهدج: أيها الرب المعبود آمون، خالق الكون، وواهب الحياة ومنظم كل شيء بسنته العالية، هذه ودائعك ترد إليك تبعا لمشيئتك، وقد كانوا في عالمنا يعيشون لغيرهم وكذلك ماتوا، إنهم قطع عزيزة تناثرت من قلبي، فتغمدهم برحمتك، وعوضهم عما فقدوا من حياة فانية حياة سعيدة أبدية باقية.
والتفت الملك إلى الحاجب حور وقال: أيها الحاجب، أريد أن تحفظ هذه الجثث جميعا وتودع مقابر طيبة الغربية، ولعمري إن أحق الناس بأرض طيبة من استشهدوا في سبيلها.
وعاد في تلك الأثناء الرسول الذي كان أرسله الملك إلى أسرته في دابور وقدم إلى مولاه رسالة، فعجب الملك وسأله: هل عادت أسرتي إلى هابو؟
فقال الرجل: كلا يا مولاي.
فبسط أحمس الرسالة وكانت موجهة من توتيشيري وقرأ: «مولاي المؤيد بروح آمون وبركته، أسأل الرب أن يبلغك كتابي هذا وقد فتحت طيبة لك أبوابها فدخلتها على رأس جيش الخلاص لتضمد جراحها، وتسعد روحي سيكننرع وكاموس، أما نحن فلن نبرح دابور، وقد فكرت في الأمر طويلا فوجدت أن خير وسيلة نشارك بها شعبنا المعذب آلامه، أن نبقى في منفانا حيث نحن الآن نعاني آلام الوحشة والغربة، حتى نحطم أغلاله وترفع عنه النقمة، فندخل مصر آمنين ونقاسمه السعادة والسلام، فسر في طريقك مؤيدا بالعناية الربانية تحرر البلدان وتقهر الحصون، وطهر أرض مصر من عدوها ولا تجعل له في أقطارها موضع قدم، ثم ادعنا نأت آمنين».
ورفع أحمس رأسه وطوى الرسالة وهو يقول بتبرم: تقول توتيشيري إنها لا تدخل مصر حتى نجلي عنها آخر رجل من الرعاة.
فقال حور: إن أمنا المقدسة تريد ألا نكف عن القتال حتى نحرر مصر.
فهز الملك رأسه بالموافقة، فتساءل حور: ألا يدخل مولاي طيبة هذا المساء؟
فقال أحمس: كلا يا حور، سيدخلها جيشي وحده، أما أنا فسأدخلها مع أسرتي بعد طرد الرعاة، ندخلها جميعا كما فارقناها جميعا منذ عشرة أعوام مضت. - سيمنى أهلها بخيبة أمل! - قل لمن يسأل عني إني أتعقب الرعاة لأقذف بهم خارج حدودنا المقدسة، وليتبعني من يحبني!
14
ورجع الملك إلى الخيمة الفرعونية، وكان في نيته أن يصدر أمره إلى قواده بأن يدخلوا المدينة في نظامهم التقليدي على أنغام الموسيقى الحربية، ولكن جاء أحد ضباط الجيش وقال: مولاي، كلفني قوم من قادة الثورة أن أستأذن لهم في المثول بين يديك، ليقدموا لذاتك العلية هدايا مما غنموا في ثورتهم.
فابتسم أحمس وسأل الضابط: أقادم أنت من المدينة؟ - نعم يا مولاي. - هل فتحت أبواب معبد آمون؟ - فتحها الثوار يا مولاي. - ولماذا لم يأت الكاهن الأكبر لتحيتنا؟ - يقولون يا مولاي إنه أقسم ألا يبرح خلوته وفي مصر رجل من الرعاة إلا عبدا أو أسيرا.
فابتسم الملك وقال: حسنا .. ادع قومي!
وبرح الرجل الخيمة ومضى إلى المدينة، وعاد يتبعه قوم كثيرون يسيرون جماعات جماعات، تسوق كل جماعة هديتها، واستأذن للجماعة الأولى فدخل نفر من المصريين عراة إلا من أزر على أوساطهم، تنطق وجوههم بالبؤس والفقر، ويدفعون بين أيديهم رجالا من الرعاة تعرت رءوسهم وتلبدت لحاهم وتعفرت جباههم، ثم سجدوا للملك حتى مست الأرض جباههم، ولما رفعوا وجوههم إليه رأى أعينهم فائضة بالدمع من الفرح والسرور، وقال كبير القوم: مولانا أحمس بن كاموس بن سيكننرع فرعون مصر ومحررها وحاميها، والغصن السامق من تلك الدوحة الباسقة التي استشهدت أصولها في سبيل طيبة المجيدة، ومن كان مجيئه رحمة لنا وتكفيرا عن إساءة الأيام إلينا.
فقال أحمس مبتسما: أهلا بقومي الأعزة، من آمالهم كآمالي، وآلامهم من منبع آلامي، ولون بشرتهم كلون بشرتي!
فأضاءت وجوه القوم بنور بهيج، ووجه كبيرهم الخطاب إلى الرعاة قائلا: اسجدوا لفرعون يا أحقر عبيده.
فسجد الرجال دون أن ينبس أحدهم بكلمة، فقال الرجل: مولاي .. هؤلاء الرعاة من النفر الذين ملكوا الضياع بغير الحق، كأنما توارثوها عن آبائهم خلفا عن خلف، واستذلوا المصريين وساموهم الخسف واستأدوهم أشق الأعمال بأزهد الأجور، جعلوهم فريسة للفقر والجوع والمرض والجهل، ثم كانوا إذا دعوهم قالوا باحتقار: فلاحون، ومنوا عليهم أن تركوهم أحياء .. هؤلاء طغاة الأمس وأسرى اليوم سقناهم إلى ذاتكم العلية عبيدا من أذل عبيدك!
فابتسم الملك وقال: أشكر لكم يا قومي هديتكم، وأهنئكم على استرداد سيادتكم وحريتكم.
وسجد الرجال لمليكهم مرة أخرى وغادروا الخيمة، وساق الجنود الرعاة إلى معتقل الأسرى. ثم دخلت الجماعة الثانية يسير بين يديها رجل ضخم الهيكل ناصع البياض ممزق الثياب، تركت السياط آثارا واضحة بظهره وذراعيه، فسقط إعياء عند قدمي الملك دون أن يحفل به معذبوه، وسجدوا لمليكهم طويلا وقال رجل منهم: مولانا فرعون مصر ابن الرب آمون، هذا الشرير المؤزر بلباس الذل كان كبير شرطة طيبة، وكان يلهب ظهورنا بسوطه القاسي لأتفه الأسباب، فمكننا الرب منه فألهبنا ظهره بسياطنا حتى مزق جلده، وأتينا به إلى معسكر الملك ليضم إلى عبيده.
فأمر الملك بالرجل فأخذه الجند، وشكر لقومه صنيعهم.
وأذن الملك للجماعة الثالثة فأقبلت عليه تسوق رجلا ما إن وقع عليه بصر الملك حتى عرفه، فهو سنموت قاضي طيبة وشقيق خنزر، فألقى عليه الملك نظرة هادئة، ونظر سنموت إليه نظرة ذاهلة من عينين قلقتين دهشتين لا تكادان تصدقان، وحيا الرجال الملك وقال لسانهم: إليك يا فرعون نسوق من كان بالأمس قاضي طيبة، كان يقسم بالعدالة ويقضي بالظلم في كل حين، فأورد مشرب الظلم ليذوق ما كان يسقي الأبرياء.
فقال أحمس موجها خطابه للقاضي: يا سنموت، لقد كنت حياتك تحكم على المصريين، فرض نفسك هذه المرة أن يحكموا عليك.
ودفع به إلى جنوده، وشكر رجاله المخلصين.
وجاءت الجماعة الأخيرة وكانت شديدة الحماسة تفور بالغضب، وتحيط بشخص لفته في ستار من الكتان من ذؤابته إلى نعليه، فحيوا الملك هاتفين: وقال قائلهم: يا فرعون مصر وحامي المصريين والمنتقم لهم، نحن بعض من أخذ الرعاة نساءهم وأطفالهم وادرعوا بهن في موقعة طيبة، وأراد الرب أن ينتقم لنا من أبوفيس الظالم فهجمنا على حريمه في أثناء انسحابه، وخطفنا دون علمه من هي أعز عليه من نفسه، وجئنا بها إليك لتنتقم لنسائنا منها!
ودنا الرجل من الشخص المتخفي في دثار من الكتان وأزاح عنه الستار، فبدت امرأة عارية إلا من غلالة على وسطها، بيضاء صافية كالنور، يهفو حول هامتها شعر كأسلاك الذهب، ويلوح في وجهها الفاتن الحنق والغضب والكبرياء، فبهت أحمس، ونظر إليها ونظرت إليه فبدا الانزعاج على وجهه، وبدت على وجهها دهشة محت ما كان يلوح فيها من الغضب والحنق والكبرياء وتمتم بصوت غير مسموع وهو لا يفيق: الأميرة أمنريدس!
وخلع حور عباءته ودنا من المرأة وألقاها عليها، وصاح أحمس برجاله: لماذا تمثلون بهذه المرأة؟
فقال زعيم القوم: إنها ابنة كبير السفاكين أبوفيس.
وأدرك أحمس حرج موقفه بين القوم الغاضبين المتعطشين للانتقام، فقال: لا تمكنوا للغضب من أنفسكم أن يفسد عليكم آدابكم المقدسة، فالفاضل حقا من يستمسك بفضيلته حين ثورة الوجدان ونزوة الغضب، وأنتم قوم يحترمون النساء ولا يقتلون الأسرى.
فقال رجل من القوم موتور: يا حامي المصريين، إن شفاء صدورنا في إرسال رأس هذه المرأة إلى أبوفيس.
فقال أحمس: هل تحثون مليككم على أن يكون كأبوفيس سفك دماء وقتل نساء؟ .. كلوا الأمر لي وانصرفوا بسلام.
فسجد القوم لفرعون وانصرفوا، ونادى الملك أحد ضباط حرسه وأمره بصوت خافت أن يمضي بالأميرة إلى سفينته الفرعونية، وأن يحوطها بالعناية.
وكان الملك يكابد ثورة في القلب والنفس فلم يحتمل القعود، فأصدر أمره إلى قواده بدخول طيبة على رأس الجيش دخول الظفر والنصر، ولما تحول إلى حور وجده يرمقه بعينين قلقتين حائرتين مشفقتين.
15
وخلا الميدان، فاتجه الملك نحو النيل يتبعه حرسه، وكان يحث سائقي عجلته على السرعة ويغرق في الأحلام والأفكار، أي صدمة تعرض لها قلبه اليوم! أي مفاجأة كابدها وعاناها؟ ولم يكن يدور بخلده أنه سيلقى أمنريدس مرة أخرى فمني باليأس منها، وتمثلت له كحلم أضاء ليله ساعة ثم ابتلعته الظلماء، ولكنه رآها مرة أخرى على غير انتظار أو حسبان، ألقت بها المقادير إلى رحمته فغدت بغتة في ملكه الخاص، لشد ما اضطرب صدره وخفق قلبه، لشد ما تيقظت في نفسه عواطف حارة أحيت من جديد ذكرياته الحلوة، فانغمر في تيارها الحنون ناسيا كل شيء.
ولكن هي، هل عرفته يا ترى؟ .. وإذا لم تكن عرفته، فهل ما تزال تذكر التاجر السعيد إسفينيس؟ .. الذي أنقذت حياته من الموت المحقق، ومن قالت له والقلب خافق والدموع ذوارف: «إلى اللقاء»؟ ومن حنت إليه في منفاه فبعثت إليه برسالة كمن الحب في سطورها كمون النار في الحجر؟ .. أما يزال قلبها يخفق خفقته الأولى في مقصورة السفينة الفرعونية؟ .. رباه .. ما له يحس أنه مقبل على سعادة لا حد لها؟ .. هل يصدقه قلبه أم يخدعه؟ وتمثل للملك منظرها البائس حين دفع بها الثائرون إليه، فانتفض جسمه القوي وسرت فيه قشعريرة، وتساءل حزينا والقوم الغاضبون من حولها يبصقون عليها ويسبونها ويلعنون أباها .. وإنه ليذكر ما كان يلوح في وجهها من الغضب والحنق والكبرياء، فهل يسكت غضبها إذا علمت أنها أسيرة إسفينيس، وأحس قلقا لم يساوره في أحرج المواقف، وكان ركبه بلغ الشاطئ فهبط إلى السفينة الفرعونية، ودعا إليه الضابط الذي عهد إليه بالأميرة وسأله: كيف حال الأميرة؟ - وضعت يا مولاي في مخدع خاص وجيء لها بثياب جديدة وقدم لها الطعام، ولكنها رفضت أن تمسه، وعاملت الجنود معاملة تنطوي على الاحتقار ودعتهم بالعبيد، ولكنها عوملت أحسن معاملة كأمر جلالة الملك.
فبدا على الملك عدم الارتياح، وسار بخطوات هادئة إلى المخدع، ففتح الباب أحد الحراس ورده بعد دخول الملك، وكان المخدع صغيرا أنيقا يضيئه مصباح كبير يتدلى من سقفه، وإلى يمين المدخل جلست الأميرة على أريكة وثيرة في ثوب بسيط من الكتان وقد مشطت شعرها الذي بعثره الثائرون وأرسلته ضفيرة كبيرة، فنظر إليها مبتسما فرآها تنظر إليه في دهشة وغرابة وهي لا تصدق عينيها، وبدت له كأنما هي في حيرة وشك، فحياها قائلا: طاب مساؤك أيتها الأميرة.
فلم تجبه، ولكنها ازدادت بسماع صوته حيرة وشكا، وكان الشاب يطيل النظر إليها في شغف وافتتان، فسألها: هل يعوزك شيء؟
فتفرست في وجهه، ثم صعدت بصرها إلى خوذته، وخفضته إلى درعه وسألته: من أنت؟ - أدعى أحمس فرعون مصر؟
فلاح الإنكار في نظرة عينيها، وأراد أن يزيدها حيرة فخلع خوذته ووضعها على خوان وهو يقول لنفسه إنها لا تستطيع أن تصدق عينيها، ورآها تنظر إلى شعره المجعد بغرابة، فقال كالداهش: ما لك تنظرين إلي هكذا كأنك تعرفين لي شبيها ؟
فلم تدر ما تقول ولم تحر جوابا، واشتاق إلى سماع صوتها والتماس حنانها فقال لها: هبي أنني أجبتك أني أدعى إسفينيس، فهل تردين علي؟
وما كادت تسمع اسم إسفينيس حتى قامت واقفة وصاحت به: إذن أنت إسفينيس!
فدنا منها خطوة وحدجها بنظرة حنان، وأمسك بمعصمها وهو يقول: أنا إسفينيس أيتها الأميرة أمنريدس.
فجذبت معصمها بشدة وقالت: إني لا أفهم شيئا.
فابتسم أحمس وقال برقة: ماذا تعني الأسماء؟ .. كنت بالأمس أدعى إسفينيس وأدعى اليوم أحمس، ولكني شخص واحد وقلب واحد! - يا للغرابة .. كيف تقول أنت شخص واحد؟ .. كنت تاجرا تبيع الحلي والأقزام، وأنت اليوم تقاتل وترتدي ثياب الملوك. - ولم لا؟ .. كنت بالأمس أجوس خلال طيبة متخفيا، وأنا اليوم أقود قومي لتحرير بلدي واسترداد عرشي المسلوب.
فنظرت إليه نظرة طويلة تحير في إدراك كنهها، وحاول أن يدنو منها مرة أخرى، ولكنها صدته بإشارة من يدها وجمدت قسمات وجهها وتبدت القساوة والكبرياء في عينيها، فأحس خيبة أمل وبرودة تشتمل آماله وتقتل بلابل الرجاء المغردة في صدره، وسمعها تقول بشدة: ابتعد عني.
فقال لها برجاء: ألا تذكرين ...؟!
ولكنها قاطعته قبل أن يتم كلامه قائلة وقد استولى عليها الغضب الذي اشتهر به قومها: أذكر وسأذكر دائما أنك جاسوس وضيع!
فأحس صدمة مروعة جعلته يقطب، وقال بغضب: أيتها الأميرة .. ألا تدركين أنك تخاطبين ملكا؟ - أي ملك يا هذا؟
فاستولى عليه الغضب وقال بشدة: فرعون مصر.
فقالت بتهكم: وأبي أيكون أحد ولاتك؟!
فاشتد الغضب بالملك وغلب كبرياؤه عواطفه جميعا، فقال: ليس أبوك أهلا لأن يكون واليا من ولاتي، ولكنه مغتصب عرش بلادي، وقد هزمته شر هزيمة وجعلته يفر من أبواب طيبة الشمالية تاركا ابنته تقع أسيرة بين أيدي القوم الذين ظلمهم، وسوف أتبعه بجيوشي حتى يلوذ بالصحاري التي قذفته إلى وادينا .. ألا تدركين هذا؟ .. أما أنا فملك هذا الوادي الشرعي لأني من سلالة فراعنة طيبة المجيدة، ولأني قائد مظفر أسترد بلادي عنوة واقتدارا.
فقالت ببرود وسخرية: طبت من ملك يبرع قومه في مقاتلة النساء! - يا للعجب ألا تعلمين أنك مدينة لقومي هؤلاء بحياتك؟ .. لقد كنت تحت رحمتهم ولو أنهم قتلوك ما خالفوا السنة التي استنها أبوك في تعريض النساء والأطفال لنبال المقاتلين. - وهل تضعني على قدم المساواة مع أولئك النسوة؟ - ولم لا؟ - معذرة أيها الملك .. فإنه كبر علي أن أتصور أني مثل إحدى نسائكم أو أن أحدا من قومي مثل أحد من قومكم إلا أن يتساوى السادة والعبيد .. ألا تعلم أن جيشنا غادر طيبة لا يحس ذل المغلوب؟ وكانوا يقولون باستهانة ثأر عبيدنا وسنكر عليهم!
وجن جنون الملك وغلبه الغضب على أمره، فصاح بها: من العبيد ومن السادة؟ .. إنك لا تدركين شيئا أيتها الفتاة المغرورة؛ لأنك ولدت بين أحضان هذا الوادي الذي يوحي بالمجد والعزة، ولو تأخر مولدك قرنا من الزمان لولدت في أقسى صحاري الشمال الباردة، ولما سمعت من يقول لك: أميرة، أو يدعو أباك: ملكا، من تلك الصحاري جاء قومك فاغتصبوا سيادة وادينا وجعلوا أعزته أذلة، ثم قالوا جهلا وغرورا إنهم أمراء وإننا فلاحون عبيد، وإنهم بيض وإننا سمر، واليوم يأخذ العدل مجراه فيرد إلى السيد سيادته، وينقلب العبد إلى عبوديته، ويصير البياض سمة الضاربين في الصحاري الباردة، والسمرة شعار سادة مصر المطهرين بنور الشمس.
هذا الحق الذي لا مراء فيه!
فاحتدم الغيظ في قلب الأميرة واندفع الدم إلى وجهها، وقالت باحتقار: أنا أعلم أن أجدادي هبطوا مصر من الصحراء الشمالية، ولكن كيف غاب عنك أنهم كانوا سادة الصحراء قبل أن يصيروا بقوتهم سادة هذا الوادي؟ .. كانوا وما يزالون سادة ذوي كبرياء ونخوة، لا يعرفون سوى السيف سبيلا إلى هدفهم، لا يتخفون في ثياب التجار كي يطعنوا اليوم من سجدوا له بالأمس القريب.
فحدجها بنظرة قاسية متفحصة، فرآها ذات كبرياء وخيلاء وقسوة لا تلين ولا تخاف، وتتمثل فيها صفات قومها الفظة المتعالية، فاشتد به الحنق، وأحس رغبة حارة إلى إخضاعها وإذلالها ولا سيما بعد أن أذلت عواطفه بكبريائها وصلفها، فقال بصوت هادئ متعال: لا أرى سببا يدعوني إلى الاستمرار في مجادلتك، ولا يجوز أن أنسى أني ملك وأنك أسيرة. - أسيرة كما تشاء، ولكني لن أذل أبدا. - بل إنك تحتمين برحمتي فتؤاتيك هذه الشجاعة. - لم تفارقني شجاعتي قط .. سل رجالك الذين خطفوني غدرا ينبئونك عن شجاعتي واحتقاري لهم في أحرج الأوقات وأشدها خطرا علي.
فهز كتفيه العريضين استهانة، وتحول إلى الخوان فأخذ خوذته ووضعها على رأسه، وقبل أن يخطو خطوة أخرى سمعها تقول: لقد قلت حقا إني أسيرة، وليست سفينتك المكان الذي يصلح للأسرى، فألحقني بأسرى قومي.
فنظر إليها مغيظا محنقا وقال يغيظها ويخيفها: ليس الأمر كما تتصورين، فالعادة أن الأسرى الرجال يسخرون عبيدا، أما النساء فيلحقن بحريم الملك الظافر.
فقالت وقد اتسعت حدقتاها: ولكني أميرة! - كنت أميرة .. ولست الآن سوى أسيرة. - كلما ذكرت أني أنقذت حياتك يوما يجن جنوني!
فقال بهدوء: فلتحيي هذه الذكرى .. فبفضلها أنقذت حياتك من أيدي الثائرين الذين يتمنون أن يرسلوا رأسك إلى أبوفيس.
وأدار لها ظهره وغادر المخدع غاضبا حانقا، وحياه الحراس فأمرهم بالإبحار إلى شمال طيبة، وسار إلى مقدمة السفينة بخطى ثقيلة متباطئة مالئا صدره بهواء الليل الرطيب، وما لبثت السفينة أن انحدرت مع تيار النيل المتدفقة منذ الأزل تشق الظلماء إلى شمال طيبة. فأرسل الملك بناظريه إلى المدينة فارا إليها من هموم نفسه، وكان النور يشع من سفن الأسطول الراسية إلى شاطئ المدينة، أما القصور الشاهقة فكانت غارقة في الظلمة بعد أن هجرها أصحابها الفارون، ولاحت على البعد من بين القصور والحدائق أضواء المشاعل التي يحملها الساهرون الفرحون، وحمل النسيم صدى أصواتهم المتصاعدة بالهتاف والأناشيد، فجرت على فمه العريض ابتسامة، وأدرك أن طيبة تستقبل جيش الخلاص كما تعودت أن تستقبل جيوشها المظفرة وأعيادها الخالدة.
ومضت السفينة تدنو من القصر الفرعوني حتى حاذته في مسيرها، ورأى الملك القصر مضاء يشع النور من نوافذه وحديقته، فعلم أن حور يشرف على تهيئته وتطهيره، وأنه عاد حقا إلى أداء وظيفته الأولى في قصر سيكننرع وشاهد أحمس ميناء حديقة القصر فعاودته الذكرى الأليمة، ليلة حملت السفينة الفرعونية أسرته إلى أقاصي الجنوب والدماء تتفجر من ورائها.
وعاود الملك السير جيئة وذهابا على مقدم السفينة، واتجه بصره مرات إلى مخدع الأميرة المغلق ثم تساءل متبرما ساخطا: لماذا جاءوني بها؟ .. لماذا جاءوني بها؟
16
وفي صباح اليوم الثاني بكر حور والقواد والمستشارون إلى زيارة الملك في سفينته الراسية شمال طيبة، فاستقبلهم الملك في المقصورة وسجدوا بين يديه وقال حور بصوته الهادئ: أسعد الرب صباحك أيها الملك المظفر، لقد خلفنا وراءنا أبواب طيبة يخفق قلبها بالأفراح، ويهزها الشوق إلى اجتلاء نور جبين مخلصها ومحررها.
فقال أحمس: لتفرح طيبة، أما اللقاء فحين يقضي الرب بالنصر.
فقال حور: وذاع بين الأهلين أن مليكهم في طريق الشمال، وأنه يرحب بمن يلحق به من القادرين، ولا تسل يا مولاي عن الحماسة التي فاضت بقلوب الشباب، ولا عن تهافتهم على الضباط ليضموهم إلى جيش أحمس المعبود.
فابتسم الملك وسأل رجاله: وهل زرتم معبد آمون؟
فقال حور: نعم يا مولاي زرناه جميعا، وهرع إليه الجنود يتمسحون بأركانه ويمرغون وجوههم في ترابه ويعانقون كهنته، وقد فاض المذبح بالقربان وأنشد الكهنة نشيد الرب المعبود وترددت صلاتهم في جنبات المعبد، فصهر الحنين القلوب وانتظم الطيبيون جميعا في صلاة جامعة، أما نوفر آمون فلم يبرح عزلته.
فابتسم الملك، ولاحت منه التفاتة فرأى القائد أحمس إبانا صامتا مكتئبا فأشار إليه أن يقترب، فاقترب القائد من مولاه، ووضع الملك يده على منكبه وقال له: تحمل نصيبك من الأذى يا أحمس، واذكر أن شعار أسرتك الشجاعة والبذل.
فحنى القائد رأسه شاكرا وقد دخلته رقة من عطف الملك عليه، ونظر أحمس إلى رجاله وقال: أشيروا علي فيمن أختاره حاكما لطيبة، وأعهد إليه بمهمة تنظيمها الشاقة!
فقال القائد محب: إن خير من يصلح لهذا المنصب الخطير الرجل المخلص الحكيم حور.
ولكن حور بادر يقول: إن واجبي في السهر على خدمة مولاي لا في التخلف عنه.
فقال أحمس: صدقت .. وأنا لا أستغنى عنك.
فقال حور: يوجد رجل فاضل عظيم الدراية والخبرة معروف بالحكمة وأصالة الرأي هو توتي آمون وكيل معبد آمون، فإذا شاء مولاي فليعهد إليه بشئون طيبة.
فقال أحمس: قد وليناه طيبة.
ثم دعا الملك رجاله إلى تناول الفطور على مائدته.
17
ومضت ساعات النهار والجيش يضمد جراحه ويأخذ قسطه من الراحة واللهو والغناء والشراب، واستبق الجنود الطيبيون إلى منازل أهلهم فتعانقت القلوب وامتزجت النفوس، وصارت طيبة من المودة والعطف كأنها قلب الدنيا الخافق، أما أحمس فلم يبرح سفينته، ودعا الضابط المكلف بحراسة الأميرة وسأله عنها؟ فقال له الرجل: إنها باتت ليلتها دون أن تذوق طعاما، وكان يفكر في وضعها في سفينة أخرى ويعهد بها إلى حراس أمناء، ولكنه لم ينته من تفكيره إلى عزم قاطع، ولم يشك في أن حور غير راض عن وجودها في سفينته، وأيقن أن الحاجب يكبر عليه أن تنال ابنة أبوفيس هذه الحظوة لديه، وكان يعرفه حق المعرفة، ويعلم أنه لا يشغل قلبه سوى كفاح طيبة، أما هو فكانت عواطفه متعطشة فائرة، وكان يعيا عن كف نفسه عن الحوم حول المخدع وصاحبته، أو في صرفها عن الولوع بها على ما به من سخط وغضب، فإن الغضب لا يقتل الحب ولكنه يحجبه حينا من الزمن كما يكدر الضباب وجه المرآة المصقولة إلى حين، ثم ينقشع عنها فيعود إليها الصفاء، ولذلك لم يسلم لليأس، وجعل يقول لنفسه متعزيا: لعل ما بها من آثار الكبرياء المغلوب على أمره والصلف الواقع في الأسر، ولعل غضبها أن يسكت فتجد أن ما تظهر من البغض دون ما تبطن من الحب فتلين وتذعن وتؤدي للحب حقه كما أدت للغضب حقوقه، أليست هي صاحبة المقصورة التي أنقذت حياته ومنحته العطف والود؟ .. أليست هي التي أقلقها غيابه فكتبت إليه رسالة عذل تضمر أنين الحب المكتوم؟ .. فكيف تذوي عواطفها هذه من أجل ثورة كبرياء وغضب؟ .. وانتظر الأصيل ثم هز كتفيه العريضين استهانة وذهب إلى المخدع، وحياه الحرس وأوسعوا له فدخل كبير الرجاء، ورآها تجلس في جمود وهدوء تلوح في عينيها الزرقاوين الكآبة والملل! فآلمته كآبتها وقال لنفسه: كانت طيبة على رحابتها تضيق بها، فكيف وقد حبست في هذا المخدع الصغير ؟ .. ووقف أمامها جامدا فاستوت في جلستها ورفعت إليه عينين باردتين، فقال لها برقة: كيف كانت ليلتك؟
فلم تجب وخفضت رأسها تنظر إلى الأرض، فألقى على رأسها ومنكبها وصدرها نظرة مشوقة، وأعاد سؤاله قائلا وقد ظن أن أمله قريب: كيف كانت ليلتك؟
وبدا عليها كأنها لا تريد أن تخرج عن الصمت، ولكنها رفعت رأسها بحدة وقالت: كانت أسوأ ليالي!
فأغضى عن لهجتها وسألها: لماذا؟ .. هل يعوزك شيء؟
فقالت دون أن تغير لهجتها: يعوزني كل شيء. - كيف؟ .. لقد أمرت الضابط المكلف بحراستك ...
فقاطعته بتبرم قائلة: لا تتعب نفسك في ذكر هذا .. فإنه يعوزني كل شيء أحبه، يعوزني أبي وقومي وحريتي، ولكن لدي كل ما أكرهه .. هذا الثياب وهذا الطعام وهذا المخدع وهؤلاء الحراس!
فمني بالخيبة مرة ثانية وأحس انهيار آماله وذهاب رجائه، فجمدت أساريره وقال لها: أتريدين أن أفك أسرك وأرسلك إلى أبيك؟
فهزت رأسها بعنف وقالت بشدة: كلا.
فنظر إليها متعجبا متحيرا، ولكنها استدركت بمثل هذه اللهجة قائلة: كيلا يقال إن ابنة أبوفيس ضرعت إلى عدو أبيها العظيم أو أنها استحقت الرثاء يوما.
فهاجه الغضب وحنق على صلفها وكبريائها وقال لها: إنك لا تتحرجين في إظهار صلفك اطمئنانا منك إلى رحمتي! - كذبت!
فامتقع وجهه وحدجها بنظرة قاسية وقال: يا لك من سادرة لا تعرفين ما الحزن وما الألم، هل تعلمين ما تستوجبه إهانة الملك من عقاب؟ هل رأيت امرأة تجلد قبل اليوم؟ .. أنا لو شئت لجعلتك تجثين عند قدمي أصغر جنودي سائلة الصفح والتوبة!
أدام إليها النظر ليرى أثر تهديده في نفسها، فوجدها تتحداه بعينيها القاسيتين لا تغضيهما، والغضب يسارع إليها إسراعه إلى بني قومها جميعا، وقالت بحدة: نحن قوم لا يعرف الخوف إلى قلوبنا سبيلا، ولا يذل كبرياؤنا حتى تطوي السماوات أيدي البشر.
وتساءل في غضبه هل يجرب إذلالها؟ .. لماذا لا يذلها ويدوس كبرياءها بقدمه؟ أليست هي أسيرته ويستطيع أن يجعلها جارية من جواريه؟ .. ولكنه لم يرتح إلى هذا الهوى، كان يطمع فيما هو أعذب وأجمل، فلما أدركته الخيبة ثار كبرياؤه واحتد غضبه فزهد في استذلالها، على أنه أظهر غير ما يبطن فقال بلهجة كلهجتها كبرياء: إن مشيئتي لا تقتضي تعذيبك فلن تعذبي لذلك .. وإنه لمن أعجب الأمور أن يفكر إنسان في تعذيب جارية حسناء مثلك. - بل أميرة ذات كبرياء. - كان هذا قبل أن تقعي أسيرة في يدي!
أما أنا فأوثر أن أضمك إلى حريمي على أن أعذبك: ومشيئتي هي النافذة. - ستعلم أن مشيئتك نافذة على نفسك وعلى قومك لا علي، وأنك لن تمسني حية.
فهز كتفيه استهانة، ولكنها استدركت قائلة: من عاداتنا المتوارثة أنه إذا وقع فرد منا في أشراك ذل ولم يستطع النجاة، امتنع عن الأكل حتى يقضي كريما.
فقال متهكما: حقا؟ .. ولكني رأيت قضاة طيبة يساقون إلي فيسجدون صاغرين سائلة أعينهم العفو والمغفرة!
فامتقع وجهها ولاذت بالصمت، وضاق الملك بحديثها ذرعا وكان يعاني مرارة الخيبة فلم يطق البقاء، وقال وهو يهم بمغادرة المخدع: لن تجدي حاجة إلى الامتناع عن الطعام.
وغادر المخدع مغضبا ساخطا وقد بيت نيته على أن ينقلها إلى سفينة أخرى، ولكن ما كاد غضبه يسكت حين خلا إلى نفسه في المقصورة حتى عدل عن نيته فلم يصدر أمره.
18
ومثل الحاجب حور بين يدي الملك في مقصورته وقال: مولاي، جاء رسل من قبل أبوفيس يستأذنون في المثول بين يديك.
فعجب أحمس وسأله: ماذا يريدون؟
فقال الحاجب: قالوا إنهم يحملون رسالة لذاتك العليا.
فقال أحمس: ادعهم على عجل!
فغادر الحاجب المقصورة وبعث بضابط إلى الرسل، وعاد إلى مولاه ينتظران، ولم يلبث أن جاء الرسل مع شرذمة من ضباط الحرس، وكانوا ثلاثة يتقدم كبيرهم ويتبعه اثنان يحملان صندوقا من العاج، وكانوا كما يبدو من ثيابهم الفضفاضة من الحجاب، بيض الوجوه، طوال اللحى، وقد رفعوا أيديهم بالتحية دون انحناء، ووقفوا في غطرسة ظاهرة، فرد أحمس تحيتهم في كبرياء وسألهم: ماذا تريدون؟
فقال زعيمهم بلهجة أعجمية متغطرسة: أيها القائد ...
ولكن حور لم يمكنه من إتمام عبارته، فقال له بهدوئه الطبيعي: إنك تحدث فرعون مصر يا رسول أبوفيس!
فقال الزعيم : الحرب ما تزال مستعرة لم يفصل فيها بعد، وما دام لنا رجال وفي أيدينا سلاح، فأبوفيس فرعون مصر لا شريك له!
فأومأ أحمس إلى حاجبه بالسكوت وقال للرسول: تكلم فيما جئت من أجله.
فقال الزعيم: أيها القائد، خطف الفلاحون يوم الانسحاب من طيبة صاحبة السمو الفرعوني الأميرة أمنريدس كريمة مولانا الملك أبوفيس فرعون مصر وابن الرب ست، ومولانا يريد أن يعلم هل ابنته على قيد الحياة أو قتلها الفلاحون؟ - هل يذكر مولاك ما فعل بنسائنا وأطفالنا في حصار طيبة؟ .. ألم يذكر كيف عرضهن لسهام أبنائهن وأزواجهن تمزقهن شر ممزق، وجنودكم الجبناء مدرعون بهن؟
فقال الرجل بحدة: إن مولاي لا يتنصل من تبعة عمله، والحرب كفاح للموت والهزيمة فلا يستعان عليها بالرحمة.
فهز أحمس رأسه بنفور وقال: بل الحرب نزال بين الرجال، يفصل فيه الأقوياء ويعنو له الضعفاء، وهي عندنا صراع لا ينبغي أن يطغى على ما بنفوسنا من المروءة والدين .. على أني أعجب كيف يسأل الملك عن ابنته وذاك علمه وهذا رأيه في الحرب؟
فقال الرسول بإباء: إن مولاي يستفهم لغاية في نفسه، فلا هو يسترحم ولا هو يشفق!
وتفكر أحمس مليا، ولم يغب عنه الباعث الذي حدا بعدوه إلى السؤال عن ابنته، ولذلك قال بوضوح وبلهجة نمت عن الاحتقار: عد إلى مولاك وقل له إن الفلاحين قوم شرفاء لا يغتالون النساء، وإن الجنود المصريين يترفعون عن قتل أسراهم، وإن ابنته أسيرة تتمتع بنبل آسريها!
فبدا على الرجل الارتياح وقال: لقد أنقذت كلمتك هذه أرواح الآلاف من قومك نساء ورجالا ممن أسرهم الملك، وجعل حياتهم رهينة بحياة سمو الأميرة.
فقال له أحمس: وحياة الأميرة رهينة بحياتهم.
فصمت الرجل مليا ثم قال: وقد أمرت ألا أعود حتى أراها بنفسي.
وبدا الإنكار على وجه حور، ولكن أحمس بادر الرسول قائلا: ستراها بنفسك.
فأشار الزعيم إلى الصندوق العاجي الذي يحمله تابعاه وقال: وهذا الصندوق يحوي بعض ثيابها، فهل تأذن لنا في تركه في حجرتها؟
فسكت الملك هنيهة ثم قال: لك هذا.
ولكن حور مال إلى مولاه وهمس قائلا: ينبغي أن نفحص الثياب أولا.
فوافق الملك على رأي حاجبه، وأمر الحاجب بوضع الصندوق بين يدي الملك، ثم فتحه بيديه وأخرج ما به من الثياب ثوبا ثوبا، وعثر بحق صغير فأمسك به وفتحه فإذا ما به عقد ذو قلب زمردي، وارتعد قلب الملك لمرآه: وذكر كيف انتقته الأميرة من بين لآلئه يوم كان يدعى إسفينيس ويبيع اللآلئ فتورد وجهه، أما حور فقال: هل السجن مكان صالح للزينة؟!
فقال الرسول: هذا العقد حلية الأميرة المفضلة لديها، فإن شاء القائد أبقيناه، وإلا أخذناه معنا.
فقال أحمس: لا بأس بإبقائه.
ثم التفت الملك إلى الضباط وأمرهم باصطحاب الرسل إلى مخدع الأميرة، ومضت الرسل ومضى الضباط في إثرهما.
19
وفي ذات المساء لحقت بالجيش قوات آتية من الجنوب من مدربي أبولينوبوليس وهيراكونبوليس، ورست في ميناء طيبة سفن صغيرة محملة بالأسلحة وقباب الحصار موجهة من أمبوس، وبشر ربانها الملك بأنه عما قريب تصله قوة من العجلات والفرسان المدربين. وانضم إلى الجيش رجال من طيبة وهابو فاعتاض جيش أحمس عما فقده من الرجال وأربى عدده على اليوم الذي اخترق الحدود غازيا، ولم ير الملك داعيا إلى البقاء في طيبة أكثر مما بقي؛ فأمر قواده بالاستعداد للزحف شمالا فجر الغد، وتودع الجنود من طيبة وأهلها، وتحولوا عن اللهو والدعة لاستقبال الكفاح والجلاد، وعند مطلع الفجر نفخ الجنود في الأبواق فتحرك الجيش العرمرم صفوفا كأمواج البحر، تتقدمه الطلائع ويسير في مقدمته الملك وحرسه، وفرقة العجلات تتبعها الفرق الأخرى، وأقلع الأسطول بقيادة أحمس إبانا يشق مياه النيل بوحداته القوية، تواثبوا جميعا للقتال، وشحذ النصر إرادتهم فجعلها كالحديد أو أشد صلابة، واستقبل الجيش في القرى بحماسة دافقة، وهرع الفلاحون إلى طريقه هاتفين يلوحون بالأعلام وسعف النخل، واجتاز سبيله آمنا فأضحى في شنهور ودخلها بغير مقاومة، ثم أمسى في قسي ففتحت له أبوابها وباتوا جميعا في قسي، واستأنفوا المسير مع الفجر، وجدوا في سيرهم حتى شارفوا ميدان كبتوس، ولاح لهم الوادي الذي ينتهي بالمدينة، وهنا شمل الجيش صمت حزين وطافت الذكريات بالرءوس، وذكر أحمس الهزيمة التي حلت بجيش طيبة في هذا الوادي لعشرة أعوام خلت أو يزيد، وذكر مصرع جده الباسل سيكننرع الذي ارتوت هذه الأرض بدمه، وحار بصره في جنبات الميدان وهو يتساءل: ترى في أي مكان سقط، ولاحت منه التفاتة نحو حور، فرأى وجهه ممتقعا وعينيه مغرورقتين بالدموع، فاشتد به التأثر وقال له: يا للذكرى المؤلمة!
فقال حور بصوت متهدج وأنفاس لاهثة: كأني أستمع إلى أرواح الشهداء التي يعمر بها جو هذا المكان المقدس!
فقال القائد محب: لشد ما ارتوت هذه الأرض من دماء آبائنا!
وجفف حور دمعه وقال للملك: فلنصل جميعا يا مولاي على روح مليكنا الشهيد سيكننرع وجنوده البواسل.
وترجل أحمس وقواده وحاشيته وصلوا جميعا صلاة حارة!
20
ودخل الجيش مدينة كبتوس وخفق على سورها علم مصر، فهتف الجنود لذكرى سيكننرع طويلا، ثم زحف الجيش إلى تنتيرا دون أن يجد أدنى مقاومة، وكذلك استرد ديوس بوليس برفا، ثم سار في طريق أبيدوس وهو يتوقع أن يلقى الرعاة في واديها، ولكنه لم يعثر برجل من العدو، فعجب أحمس وتساءل قائلا: أين أبوفيس وأين جيوشه الجرارة؟
فقال حور: لعله لا يريد أن يلقى عجلاتنا بمشاته. - حتام تدور هذه المطاردة؟ - من يعلم يا مولاي؟ .. لعلها تدوم حتى نواجه أسوار هواريس، حصن الرعاة الحصين الذي شيدوا أسواره في قرن من الزمان، ولسوف يدمي قلب مصر قبل أن تخترقه جنودنا.
وفتحت أبيدوس أبوابها لجيش الخلاص، فدخلها دخول الجيش المظفر، وارتاح بها يومه.
وكان أحمس يتعطش للحرب لعله يلقى عدوه في موقعة فاصلة، ولأنه كان يتوق إلى أن ينغمر في القتال لينسى نوازع نفسه ويطمس أحزان فؤاده، ولكن أبوفيس أبى عليه هذه الراحة، فوجد أفكاره تحوم حول الأسيرة العنيدة، وقلبه ينازعه إليها على ما به من موجدة عليها، وذكر أحلامه حين ظن أن أسعد الأقدار هي التي دفعتها إلى أسره وحين طمع أن يجعل سفينة الأسر جنة من جنان الحب، ثم ذكر ما فعل به إباؤها وغضبها، وكيف صيره مريضا محروما من أشهى الثمار وهي ناضجة دانية، وكانت رغبته إلى الحب قوية لا تقاوم فجرفت بتيارها الدافق عوائق التردد والكبرياء، فذهب إلى السفينة وقصد إلى المخدع المسحور ودخل، وكانت جالسة جلستها المعهودة على الأريكة ملتفة في ثوب من أثواب منف الرقيقة. وكأنها عرفت وقع خطاه فلم ترفع إليه رأسها وظلت تنظر إلى ما بين قدميها، وجرى بصره المشغوف على مفرق شعرها وجبينها وجفنيها المسبلين فأحس رعدة تصدع صدره، ونازعته الرغبة في أن يرتمي عليها ويضغطها بين ذراعيه بكل ما أوتي من قوة وعزم، ولكنها رفعت رأسها بغتة وحدجته بنظرة باردة، فلبث حيث هو جامدا، ثم سألها: هل زارك الرسل؟
فقالت بلهجة لا تنم عن عاطفة: نعم.
فجال ببصره في الحجرة حتى استقر على الصندوق العاجي وقال: لقد أذنت لهم أن يوصلوا إليك هذا الصندوق!
فقالت باقتضاب وبصوت لا يخلو من جفاء: شكرا لك.
فارتاح فؤاده وقال: وكان بالصندوق العقد ذو القلب الزمردي.
فاضطربت شفتاها وأرادت أن تتكلم، ولكنها عدلت فجأة وأطبقت فمها بحالة تدل على الحيرة، فقال أحمس برقة: قال الرسل إن هذا العقد عزيز لديك.
فهزت رأسها بعنف وكأنها تنفي عن نفسها تهمة وقالت: كنت أكثر من لبسه حقا لأن ساحرة القصر جعلته تعويذة تقي الضر والسوء!
ففطن إلى تهربها، ولكنه لم ييأس وقال: ظننت أن ذلك لأسباب أخرى تشهد بها مقصورة السفينة الفرعونية.
فتضرج وجهها بالاحمرار وقالت بغضب: لا أذكر اليوم نزوة الأمس، ويجمل بك أن تحدثني كما ينبغي لعدو أن يحدث أسيرة.
ورأى وجهها قاسيا جامدا فتجرع الخيبة مرة أخرى، ولكنه أراد أن يكتم عواطفه فقال: ألم تعلمي بأنا نضم نساء أعدائنا إلى حريم قصورنا؟
فقالت بحدة: إلا مثلي! - هل تعودين إلى التهديد بالصوم؟ - لا حاجة لي به بعد الآن.
فتفحصها بنظرة مريبة وسألها متهكما: فكيف تدافعين عن نفسك؟
فأرته في كفيها سلاحا صغيرا لا يزيد طوله عن ظفر، وقالت باطمئنان: انظر؛ هذا خنجر مسموم، إذا خدشت به جلدي سرى سمه في دمي فقضى علي في لحظات ، دسه إلي الرسول في غفلة من رقبائك، فعلمت أن أبي يضع بين يدي ما أقضي به على نفسي إذا مسني الضيم أو تحرش بي إنسان.
فغضب أحمس وعبس وجهه وقال: أهذا هو سر الصندوق؟ .. سحقا لمن يطمئن إلى كلمة خنزير من الرعاة ذوي اللحى القذرة، إن الخيانة تسري في عروقكم مسرى الدم، ولكن أراك تخطئين فهم رسالة أبيك، فقد دس إليك هذا الخنجر لتقضي به علي!
فهزت رأسها كالساخرة وقالت: أنت لا تفهم أبوفيس، إنه يأبى إلا أن أعيش كريمة أو أموت كريمة، أما عدوه فسيقضي عليه بنفسه كما تعود أن يقضي على أعدائه.
فضرب أحمس الأرض بقدمه وقال بحنق شديد: لماذا كل هذا العناء؟ .. فما أزهدني في جارية مثلك أعماها الغرور والكبرياء والطبع الفاسد، لقد توهمتك فيما مضى شيئا ليس فيه من حقيقتك شيء، فسحقا للأوهام جميعا!
وتحول الملك عنها وغادر المخدع، وفي الخارج دعا كبير حراسها وقال له: لتنقل الأسيرة إلى سفينة أخرى تحت الحراسة الشديدة!
وبرح الرجل السفينة ضيق الصدر مكفهر الوجه، وعاد في عجلته إلى المعسكر.
21
وضاق الملك بالسكون فأمر قواده بالتأهب، وفي فجر اليوم الثاني زحف الجيش بجموعه الجرارة وأقلع الأسطول فبلغ بطلمايس في يومين، ولم يظهر حولها أثر للعدو فدخلتها الطلائع في سلام، وتبعها الجيش على الأثر، وأوغلت الطلائع شمالا حتى بانوبوليس آخر بلدان طيبة الشمالية، ودخلتها بلا مقاومة، وزفت البشرى إلى الملك أحمس أن بانوبوليس في أيد مصرية، فصاح أحمس: لقد أجلي الرعاة من مملكة طيبة.
فقال حور: وسيجلون عن مصر قريبا.
وتقدم الجيش نحو بانوبوليس ودخلها مزهوا ظافرا على أنغام الموسيقى الحماسية، ونفخ في الأبواق إعلانا للنصر، ورفعت الأعلام المصرية على سور المدينة، وانتشر الجنود في الأسواق واختلطوا بالأهلين يهتفون وينشدون، وشمل المدينة فرح جنوني خفق في كل صدر وتردد مع كل نفس، وأولم الملك لقواد الجيش والأسطول والحاشية وليمة فاخرة قدمت في ختامها كئوس مترعة بأنبذة مريوط المعتقة مع أزهار اللوتس وقضب الريحان، وقال الملك لرجاله: غدا نخترق حدود المملكة الشمالية وترفع على أسوارها أعلام مصر لأول مرة منذ نيف ومائة عام.
فدعا الرجال له وهتفوا باسمه طويلا.
ولكن في أصيل ذلك اليوم رأى الحراس كوكبة من العجلات تعدو نحو المدينة من الشمال رافعة راية بيضاء، فأحاط بها الجند وسألوا عن مقصدها، فقال أحد رجالها إنهم رسل الملك أبوفيس إلى أحمس، فمضى بهم الجنود إلى المدينة، وعلم أحمس بأمر الرسل فذهب إلى قصر حاكم المدينة، ودعا إليه حور وقائد الأسطول والقائدين محب وديب، وجلس على كرسي الحاكم يحيط به قواده ومن حولهم الحرس في ثيابهم الفخمة، وأذن للرسل بالدخول، وكان المصريون لا يدرون ما يحمله الرسل هذه المرة فانتظروا مشوقين، وجاء رسل ملك الرعاة وكانوا خليطا من القواد والحجاب في الثياب العسكرية والمدنية تسبقهم لحاهم المسترسلة، ولم يكن يبدو على وجوههم آي التحدي والغلظة كما توقع أحمس، ولكنهم اقتربوا من مجلس الملك وانحنوا جميعا في إجلال واحترام حتى كاد الملك أن يعلن دهشته، وقال كبيرهم: حياك الرب يا ملك طيبة، نحن رسل فرعون مصر السفلى والوسطى إليك.
فألقى أحمس عليهم نظرة لا تدل على شيء مما يثور في نفسه، وقال بهدوء: حياكم الرب يا رسل أبوفيس، ماذا تريدون؟
وبدا على الرسل الاستياء لإغفال الملك ألقاب مليكهم، ولكن زعيمهم قال: أيها الملك نحن رجال حرب، في ميدانها نشأنا وعلى سنتها نعيش، شجعان بواسل كما بلوتمونا، نعجب بالبطل وإن كان لنا عدوا، وننزل عند حكم السيف وإن كان علينا، ولقد انتصرت أيها الملك واسترددت عرش مملكتك فحق لك ملكها كما حق علينا تسليمها، فهي مملكتك وأنت مليكها. وإن فرعون يقرئك السلام، ويعرض عليك حقن الدماء وصلحا شريفا يحترم الحقوق ويصل ما انقطع من علاقات المودة بين مملكة الجنوب ومملكة الشمال.
وأصغى الملك إلى الرسل في هدوء ظاهر ودهشة باطنة، ثم نظر إلى لسان القوم وسأله متعجبا: أجئتم حقا تنشدون سلاما؟
فقال الرجل: نعم أيها الملك.
فقال أحمس بصوت يدل على العزم والحزم: إني أرفض هذا السلام. - ولماذا تصر على الحرب أيها الملك؟
فقال أحمس: يا قوم أبوفيس .. لأول مرة تخاطبون مصريا باحترام، ولأول مرة تنزلون مقهورين عن نعته بصفات العبودية، أتعلمون لماذا؟ لأنكم غلبتم على أمركم، فأنتم يا هؤلاء وحوش ضوار إذا غلبتم، وشاء إذا غلبتم، أتسألونني لماذا أصر على الحرب؟ .. فإليكم جوابي: إني ما أعلنتها عليكم لأسترد طيبة، ولكني عاهدت ربي وقومي على أن أحرر مصر جميعا من نير الظلم والاستبداد، وأن أعيد بها حريتها ومجدها؛ فإذا أراد الذي بعثكم السلام حقا، فليترك مصر لأهلها وليرجع بقومه إلى صحاري الشمال.
فسأله الرسول بصوت غليظ: هذه هي الكلمة الأخيرة؟
فقال أحمس بثقة وقوة: هي ما افتتحنا به الكفاح، وآخر ما نختتمه به.
فقام الرسل واقفين، وقال رئيسهم: ما دمت تريد الحرب فستكون حربا ضروسا بيننا وبينكم حتى يقضي الرب فيها بمشيئته.
وانحنى الرجال للملك مرة أخرى وغادروا المكان في خطى ثقيلة.
22
ولبث أحمس في بانوبوليس يومين كاملين، ثم أرسل الطلائع لاختراق حدود دولة أبو فيس، فتقدمت جماعات قوية شمال المدينة، والتحمت بقوات صغيرة للعدو فمزقت شملها، ومهدت السبيل للجيش المعسكر في بانوبوليس، فزحف أحمس على رأس جيش لم تشهد مصر له مثيلا من قبل في عدده أو عدده، وأقلع أسطول أحمس إبانا الجبار بسفنه المظفرة، وفي طريق الزحف أبلغت العيون الملك أن جيش الرعاة معسكر في جنوب أفروديتوبوليس في جموع لا يحيط بها الحصر، ولم يكن يهم الملك عدد الرعاة، ولكنه سأل الحاجب حور قائلا: ترى هل ما يزال لدى أبوفيس قوة من العجلات يلقانا بها؟
فقال حور: ما من شك يا مولاي في أن أبوفيس قد فقد العدد الأكبر من فرسانه، ولو كان لديه قوة منهم تستطيع أن تفصل في هذا العراك ما طلب الصلح ولا سعى إلى السلام، على أن الرعاة قد فقدوا ما هو أثمن من الفرسان والعجلات، فقدوا الثقة والأمل!
واستمر تقدم الجيش حتى دنا من معسكر عدوه، ولاحت نذر المعركة في الأفق، وتأهبت فرقة العجلات لخوض غمار المعركة بقيادة الملك، وصاح أحمس في القواد قائلا: سنقاتل على أرض حرم علينا وطؤها مائة عام ونيف؛ فلنضرب ضربة هائلة تضع حدا لآلام الملايين من إخواننا المستعبدين، ولنقدم بقلوب شديدة البأس، فقد حبانا الرب بالعدد والأمل، وخذل عدونا بالانقراض واليأس، وإني لعلى رأسكم كما كان سيكننرع، وكما كان كاموس.
وأمر الملك طلائعه بالهجوم؛ فانقضت كالنسور الكاسرة، وتحفز للهجوم وهو يراقبها ليرى كيف يلقاها العدو، فشاهد قوة من العجلات تقدر بمائتي عجلة ترد عليها الهجوم محاولة الإحداق بها، وكان الملك شديد الرغبة في القضاء على عجلات العدو فهاجم على رأس العجلات وانقض على العدو من جميع الجهات، وأدرك الهكسوس أن فرسانهم لا يمكن أن يثبتوا لقوات تفوقهم أضعافا؛ فقذف أبوفيس بكتائب من الرماة وحملة الرماح لتؤيد عجلاته المحدودة. ودارت معركة شديدة، ولكن الرعاة لم ينفعهم شجاعتهم وقضي على قوتهم الراكبة.
وبات الجيش ليلته .. وكان أحمس لا يدري أيلقاه أبوفيس بمشاته مستيئسا أم يفر بجيشه مؤثرا السلامة كما فعل في هيراكونبوليس، ووضح الأمر في الصباح حين رأى الملك جموع الرعاة تتقدم لاحتلال مواقعها والقسي والرماح في أيديها، ورآهم حور فقال: الآن تدور الدائرة عليهم يا مولاي، ويتعرض أبوفيس بمشاته لبأس عجلاتنا كما تعرض له مليكنا سيكننرع في جنوب كبتوس من لدن عشرة أعوام.
فانشرح صدر الملك، وتهيأ للهجوم بفرقة العجلات تؤيدها قوات مختارة من الرماة وفرق الأسلحة الأخرى، وانقضت العجلات على مواقع الرعاة تملأ الجو أمامها سهاما طائرة، فاخترقت الصفوف في مواضع كثيرة والرماة وراءها يحمون ظهورها ويطاردون من يتفرق من العدو فيقتلون ويأسرون، وقاتل الرعاة بما عرف عنهم من الشجاعة ولكنهم كانوا يتساقطون سقوط الأوراق الجافة تعرضت لرياح الخريف العاتية، وسيطر المصريون على الميدان، وخشي أحمس أن يفلت أبوفيس من يده؛ فهاجم أفروديتوبوليس كما هاجم الأسطول شطآنها، ولكنه لم يجد أثرا للرعاة داخل أسوارها ولا عثر بعدوه اللدود، ثم وافته العيون بأن أبوفيس فارق المدينة مع قوات من جيشه بعد جثوم ليلة الأمس، وأنه ترك من ترك من رجاله ليعوقوا زحف المصريين، وقال حور للملك: لن تجدي المقاومة فتيلا بعد اليوم، ولعل أبوفيس يجد الآن في طلب هواريس ليحتمي بأسوارها المنيعة.
ولم يأسف أحمس طويلا، وكان سروره بفتحه بلدا من بلاد مصر التي حرم دخولها على قومه مائتي عام لا يعادله سرور، فاشتغل بتفقد أحوالها وأهليها عن كل شيء.
23
وتقدم الجيش في زحفه العظيم لا يجد مقاومة ولا أثرا للعدو، يستقبله أهل القرى والبلدان ذاهلين من الفرح لا يصدقون أن الآلهة رفعت عنهم غضبا بعد ذل قرنين من الزمان، وأن الذي يفتح بلدانهم ويطرد عنها عدوهم ملك منهم يبعث مجد الفراعين من جديد. ووجد أحمس أن الرعاة قد فروا عن المدن تاركين قصورهم وضياعهم، حاملين ما وسعهم حمله من متاعهم وأموالهم؛ وسمع في كل مكان طرقه أن أبوفيس مجد في الهرب بجيشه وقومه إلى الشمال، وهكذا استرد الملك في شهر من الزمان: هبسيل، وليكوبوليس، وكوسي، ثم بلغ أخيرا هرموبوليس، وكان لدخولهم فيها وقع عظيم في نفس أحمس وجنوده، لأن هرموبوليس مسقط رأس الأم المقدسة توتيشيري، وكانت ولادتها قبل عهد الاحتلال في بيتها العتيد، فاحتفل أحمس بتحريرها، واشترك في الاحتفال العظيم رجال الحاشية وقواد البر والبحر والجنود جميعا، ثم كتب الملك إلى جدته رسالة يهنئها باستقلال وطنها الأول هرموبوليس، ويضمنها عواطفه وعواطف جنده وشعبه، وقد أمضاها الملك والقواد والحاشية وكبار الضباط.
ثم تقدم الجيش في زحفه المظفر؛ فدخل تتنوى وسينوبوليس وهبنن ثم أرسنوي، وانحدر بين الأهرام في طريق منف العظيمة غير عابئ بمشاق السفر وطول الطريق، وكان أحمس في أثناء ذلك يحطم الأغلال التي يرسف فيها شعبه البائس، وينفخ فيه من روحه الكبيرة حياة جديدة، حتى قال له حور يوما: إن عظمتك الحربية يا مولاي لا يضارعها شيء في الوجود سوى مقدرتك السياسية وحنكتك الإدارية، لقد غيرت معالم البلدان فمحوت أنظمة وأنشأت أنظمة، ورسمت السبل التي ينبغي انتهاجها والسنن التي يجب اتباعها، ووليت الحكام الوطنيين، فدبت الحياة مرة أخرى في شرايين الوادي، وشاهد الناس أول مرة منذ عهد غابر حكاما مصريين وقضاة مصريين، فارتفعت الرءوس المنكسة، ولم يعد الرجل يعيا بسمرته ويعير بها ، بل صارت موئله ومفخرته .. ألا فليحفظك الرب آمون يا حفيد سيكننرع.
كان الملك يعمل مخلصا مجاهدا لا يعرف اليأس ولا التعب، وكانت غايته التي لا يتحول عنها أن يرد إلى قومه الذين اهتصرهم الذل والجوع والفقر والجهل العزة والشبع والرغد والعلم.
على أن قلبه لم ينج على كده وانهماكه من همومه الخاصة، فعناه الهوى وأعيته الكبرياء، وكان كثيرا ما يضرب الأرض بقدمه ويقول لنفسه: «لقد خدعت .. وما هي إلا امرأة بلا قلب»، وكان يرجو من العمل أن يغمره بالنسيان والعزاء، ولكنه وجد روحه تسري بالرغم منه إلى السفينة التي يعابثها الموج في مؤخرة أسطوله.
24
واطرد زحف الجيش ومضى يدنو من منف الخالدة ذات الذكريات المجيدة، وأخذت تلوح له أسوارها البيض السامقة؛ فظن أحمس أن الرعاة سيدافعون عن عاصمة ملكهم دفاع المستميت. ولكنه أخطأ ظنه ودخلت طلائعه المدينة في سلام، وعلم أن أبوفيس تقهقر بجيشه نحو الشمال الشرقي؛ فدخل أحمس طيبة الشمال في حفل لم يشهد له مثيلا من قبل، واستقبله الأهلون استقبالا حماسيا مهيبا، وسجدوا له ودعوه ابن منفتاح، ومكث الملك في منف عدة أيام زار ربوعها وشاهد أسواقها وأحياءها الصناعية، وطاف بالأهرام الثلاثة، وصلى في معبد أبي الهول، وقدم القرابين، فلم يكن سرور يعادل سرورهم بفتح منف إلا استرداد طيبة، وكان أحمس يعجب كيف لا يدافع الرعاة عن منف، فقال له القائد محب: لن يتعرضوا مختارين لبأس عجلاتنا بعد ما بلوها في هيراكونبوليس وأفروديتوبوليس.
وقال الحاجب حور بثقة: إن السفن لا تفتأ تأتي إلينا محملة بالعجلات والجياد من مقاطعات الجنوب، وليس أمام أبوفيس إلا الاهتمام بأسوار هواريس.
وتشاوروا جميعا في الوجهة التي يولونها بعد أن انبسطت رقعة الغزو أمامهم، فقال القائد ديب: لا شك أن العدو جلا عن الشمال كله وانحصر في الشرق وراء أسوار هواريس، فينبغي أن نقصد إليه بقواتنا كاملة.
على أن أحمس كان شديد الحذر؛ فأرسل جيشا صغيرا إلى الغرب عن طريق لنوبوليس، وسير آخر شمالا في اتجاه أتريبس، وسار بقواته الرئيسية وأسطوله العظيم شرقا في طريق أون، وانطوت الأيام وهم يضربون في الأرض تدفعهم الحماسة والأمل أن يضربوا الضربة الأخيرة بحماسة، ويكللوا كفاحهم الطويل بالنصر الحاسم، ودخلوا أون مدينة رع الخالدة ثم فاكوسة ثم فربيتص وضربوا في الطريق المؤدية إلى هواريس، وكانت أخبار أبوفيس تترامى إليهم فعلموا أن الرعاة ارتدوا من جميع الجهات إلى هواريس يسوقون آلافا من البائسين، وقد أحدثت هذه الأخبار في نفس الملك حزنا شديدا، ورق لحال أولئك الأسرى المستذلين الذين سقطوا في قبضة الرعاة القاسية.
وأخيرا لاحت في الأفق أسوار هواريس الهائلة كالجبال الصخرية، فصاح أحمس: هذا آخر حصن للرعاة في مصر.
فقال له حور وهو ينظر إلى الحصن بعينيه الضعيفتين: حطم أبوابه يا مولاي يخلص لك وجه مصر الجميل.
25
وكانت هواريس تقع شرق فرع النيل، ويمتد سورها شرقا مسافة ينقطع دونها البصر، وكان كثير من الأهلين يعرفون المدينة المحصنة، ومنهم من عملوا داخلها أو في أسوارها، فقالوا لمليكهم: إنه يحيط بالمدينة أربعة أسوار ضخمة غليظة دائرة، يليها خندق محيط يجري فيه ماء النيل، وإن بالمدينة حقولا شاسعة تكفي حاجة أهليها جميعا، وجلهم جنود ما عدا المزارعين المصريين، وتسقي المدينة جداول تأخذ من فروع النيل تحت السور الغربي وفي حمايته، وتتجه شرقا نحو المدينة.
وقد وقف أحمس ورجاله جنوب الحصن الهائل يقلبون وجوههم حيارى في الأسوار العظيمة المترامية، بدت الجنود في ذراها كالأقزام، وضرب الجيش خيامه، وامتدت صفوف الجند بحذاء السور الجنوبي، وتقدم الأسطول في النهر غربي السور الغربي بعيدا عن مرمى سهامه للمراقبة والحصار، وكان أحمس يستمع إلى أقوال الأهلين عن الحصن، ويفحص الأرض المحيطة به والنهر الجاري غربه وعقله لا يني عن التفكير، وفي أثناء ذلك سير قوات راكبة ومشاة إلى القرى المحيطة بالمدينة، فاستولت عليها دون عناء، وأضحى حصاره للحصن كاملا في زمن يسير؛ ولكنه كان ورجاله يعلمون أن الحصار عقيم، وأن المدينة مستغنية بنفسها عما عداها، وأن الحصار لو امتد أعواما لن يؤثر فيها شيئا؛ وسيبقى هو وجيشه يعانيان الملل والانتظار في غير أمل، وأهوال الجو وتقلباته ، وفيما كان يجول حول الحصن خطر له خاطر، فدعا رجاله إلى خيمته ليشاورهم في الأمر، وقال لهم: أشيروا علي، فإني أرى الحصار ضياعا للعمر وتبديدا للقوى، وأرى الهجوم ضربا من العبث وانتحارا صريحا، ولعل العدو يتمنى أن نكر عليه ليصيد رجالنا البواسل أو يوقعهم في خنادقه .. فما الرأي؟
فقال القائد ديب: الرأي يا مولاي أن نحاصر الحصن بجزء من قواتنا، ونعتبر الحرب منتهية عند ذاك؛ ثم تعلن استقلال الوادي وتباشر واجبك كفرعون مصر المتحدة.
ولكن حور اعترض على الفكرة قائلا: وكيف تترك أبوفيس آمنا يدرب رجاله ويجدد عجلاته ليكر علينا فيما بعد؟
فقال القائد محب بحماسة: لقد دفعنا ثمن طيبة غاليا، والكفاح بذل وفداء، فلماذا لا نؤدي ثمن هواريس ونهجم كما هجمنا على حصون طيبة؟
فقال القائد ديب: نحن لا نضن بنفوسنا، ولكن الهجوم على أربعة أسوار ضخمة تفصل بينها خنادق ملأى بالماء، تهلكة لجنودنا بلا ثمن.
وكان الملك صامتا متفكرا، فقال وهو يشير إلى النهر الجاري تحت سور المدينة الغربي: إن هواريس حصينة لا تؤخذ ولا تجوع، ولكنها قد تظمأ.
فنظر الرجال إلى النهر وبدت على وجوههم الدهشة، وقال حور بذهول: كيف تظمأ هواريس يا مولاي؟
فقال أحمس بهدوء: بأن نحول عنها مياه النيل.
فنظر الرجال مرة أخرى إلى النيل وهم لا يصدقون أنه يمكن تحويل هذا النهر العظيم من مجراه، وتساءل حور: هل يمكن القيام بهذا العمل الجبار؟
فقال أحمس: لا يعوزنا المهندسون ولا العمال! - وكم يقتضينا من الوقت يا مولاي؟ - عاما أو عامين أو ثلاثة أعوام .. ماذا يهم الزمن ما دامت هذه هي الوسيلة الوحيدة .. ينبغي أن يتحول النيل شمال فربتتس إلى مجرى جديد يتجه غربا نحو مندس، كي يختار أبوفيس بين الموت جوعا وظمأ أو الخروج لقتالنا، وسيغفر لي شعبي أني عرضت من في هواريس من المصريين للخطر والهلاك، كما غفر لي أني فعلت ذلك ببعض نساء طيبة.
26
وتهيأ أحمس للعمل العظيم فاستدعى مهندسي طيبة المشهورين، وعرض عليهم فكرته فتوفروا على دراستها باهتمام وشغف، ثم قالوا للملك: إن فكرته ممكن تنفيذها على شرط أن يفسح لهم من الزمن ويمدهم بآلاف العمال، وعلم أحمس أن مشروعه لن يتحقق قبل مضي عامين فلم يركن إلى اليأس، ولكنه بعث بالرسل إلى البلدان يحثون على التطوع في العمل العظيم المنوط به تحرير الوطن وطرد عدوه بتحقيقه، وجاء العمال جماعات من جميع الأنحاء حتى اجتمع منهم عدد يكفي للبدء في العمل، وافتتح الملك المشروع العظيم فأمسك فأسا وضربه في الأرض معلنا ابتداء العمل، فتبعته السواعد المفتولة التي تكد على سجع الأناشيد والأغاني.
ولم يكن أمام الملك وجيشه سوى الانتظار الطويل، وكان الجنود يقومون بتدريبهم اليومي تحت إشراف الضباط والقواد، أما الملك فكان يزجي فراغه بالخروج إلى الصحراء الشرقية طلبا للصيد والطراد والسباق، وفرارا من نوازع قلبه ونزوات هواه، وفي فترة الانتظار هذه حمل إليه رسول رسالة من الأم المقدسة توتيشيري قالت فيها: «مولاي ابن آمون، فرعون مصر العليا والسفلى، حفظه الرب وأيده بالنصر والفوز، إن دابور الصغيرة اليوم جنة من جنان السعادة والأفراح بفضل ما حمله إليها رسلك من أنباء النصر المبين الذي فتح به الرب عليك، وإن انتظارنا اليوم في دابور غير انتظارنا بالأمس؛ لأنه محفوف بالعزاء وأدنى إلى الرجاء والأمل، وما أسعدنا جميعا أن نعلم أن مصر حررت من الهوان والعبودية، وأن عدوها ومذلها حبس نفسه بين جدران حصنه، ينتظر خانعا القضاء الذي تقضي به عليه.
وقد شاء الرب القدير أن يحبوك - أنت الذي أذللت عدوه، وأعليت كلمته - بعطفه ورحمته، فرزقك بغلام نورا لعينيك ووليا لعهدك، دعوته أمنحتب تبركا بالرب المعبود، وقد تلقيته بيدي كما تلقيت أباه وجده وجد أبيه من قبل، وقلبي يحدثني بأنه سيكون ولي عهد مملكة عظيمة متعددة الأجناس واللغات والأديان، يرعاها أبوه الحبيب».
وخفق قلب أحمس خفقان الأبوة ودرت أضلعه الحنان، وفرح فرحا عظيما أنساه بعض ما يعاني من آلام الهوى المكبوت، وآذن رجاله بمولد ولي عهده أمنحتب فكان يوما مشهودا.
27
ومضت الأيام بطيئة ثقيلة ولكنها حافلة بجلائل الأعمال التي اشتركت في إنجازها أكبر العقول وأشد السواعد وأعلى الهمم؛ وكانوا جميعا لا يبالون مشقة العمل ولا انقضاء الزمن ما دام يدنيهم إلى أملهم الأسمى وهدفهم الأعلى، ولكن حدث ذات يوم وكان مضى على الحصار عدة أشهر أن رأى الحراس عجلة قادمة ناحية الحصن وعلى مقدمها يخفق علم أبيض، فاستقبلها بعض الحراس ووجدوا بها ثلاثة رجال من الحجاب؛ فسألوهم عن وجهتهم؟ فقال كبيرهم: إنهم رسل الملك أبوفيس إلى الملك أحمس، وطير الحراس النبأ إلى الملك؛ فعقد الملك مجلسا من حاشيته وقواده في سرادقه، وأمر بإدخال الرسل إليه، وجيء بالرجال يسيرون في تواضع وانكسار وقد ذهبت عنهم الخيلاء والكبر وبدوا كأنهم من غير قوم أبوفيس، وانحنوا بين يدي الملك وحياه كبيرهم قائلا: حياك الرب أيها الملك.
فرد عليه أحمس قائلا: وحياكم يا رسل أبوفيس .. ماذا يريد ملككم؟
فقال الرسول: أيها الملك، إن رجل السيف مغامر ينشد النصر، ولكن قد يدركه الموت. ونحن رجال حرب وقد مكنتنا الحرب من وطنكم فحكمناه قرنين أو يزيد كنا فيهما السادة المعبودين، ثم قضي علينا بالهزيمة فغلبنا على أمرنا وأجبرنا على الاعتصام بقلعتنا، ونحن أيها الملك رجال أشداء نقدر على تحمل الهزيمة كما قدرنا على جني ثمار النصر.
فقال أحمس غاضبا: أرى أنكم أدركتم ما يعنيه هذا المجرى الجديد الذي يحفره قومي فجئتم تستعطفون.
فهز الرجل رأسه الضخم وقال: كلا أيها الملك، نحن لا نستعطف أحدا ولكنا نقر بالهزيمة، وقد أرسلني مولاي لأعرض عليك أمرين تختار منهما ما تشاء: فإما الحرب إلى النهاية، وفي هذا الحال لن ننتظر وراء الأسوار حتى نموت جوعا وعطشا، ولكنا سنقتل الأسرى من قومك وهم يزيدون على ثلاثين ألفا، ثم نقتل نساءنا وأطفالنا بأيدينا ونحمل على جيشك في ثلاثمائة ألف مقاتل ما منهم إلا كاره للحياة متعطش للانتقام.
وسكت الرجل ريثما يجمع أنفاسه ثم استدرك قائلا: وإما أن تردوا لنا الأميرة أمنريدس والأسرى من قومنا وتؤمنونا على أرواحنا وأموالنا ومتاعنا، فنرد لكم رجالكم ونخلي هواريس، ونولي وجوهنا شطر الصحراء التي جئنا منها، تاركين لكم بلادكم كما تشاءون ؛ وبذلك ينتهي الصراع الذي استمر قرنين من الزمان.
وسكت الرجل، فعلم الملك أنه ينتظر جوابه، ولم يكن الجواب حاضرا ولا مما تسعف فيه البداهة، فقال للرسول: هلا انتظرت حتى نقطع برأي؟
فقال الرسول: كما تشاء أيها الملك، فقد أمهلني مولاي نهار اليوم.
28
واجتمع الملك برجاله في مقصورة السفينة الفرعونية وقال لهم: أشيروا علي برأيكم.
وكانوا جميعا على رأي بغير تشاور ولا اتفاق، فقال حور: مولاي لقد انتصرت على الرعاة في مواقع كثيرة وأقروا لك بالنصر ولأنفسهم بالهزيمة، فمحوت بذلك آثار الهزائم التي ابتلينا بها في ماضينا الأسيف، وقتلت منهم خلقا كثيرين فانتقمت لقتلى قومك البائسين، فلا تثريب علينا الآن أن نشتري حياة ثلاثين ألفا من رجالنا، ونوفر على أنفسنا بذلا للنفوس لا يدعو واجب إليه، ما دام عدونا سيجلو عن بلادنا مغلوبا على أمره، وسيحرر وطننا إلى الأبد.
وقلب الملك عينيه في وجوه قومه فوجد منهم حماسة إجماعية لقبول الفكرة، وقد قال القائد ديب: لقد أدى كل جندي من جنودنا واجبه كاملا، وإن ارتداد أبوفيس إلى الصحراء لهو أشد نكالا من ذوق الموت.
وقال القائد محب: إن هدفنا الأسمى تحرير الوطن من حكم الرعاة وإجلاؤهم عن ربوعه؛ وقد يسر لنا الرب ذلك، فلا يجوز أن نطيل عهد الذل باختيارنا.
وقال أحمس إبانا: إننا نشتري حياة ثلاثين ألفا من الأسرى بالأميرة الأسيرة وشرذمة من الرعاة.
واستمع الملك من رجاله باهتمام شديد وقال: نعم الرأي، ولكني أرى أن ينتظر رسول أبوفيس فترة أخرى حتى لا يظن إسراعنا إلى موافقته على الرأي السلمي لضعف أو ملل الكفاح.
وغادر الرجال السفينة وخلا الملك إلى نفسه، وكان على توافر دواعي الابتهاج له كئيبا ضيق الصدر، لقد كلل كفاحه بالفوز المبين وجثا له عدوه الجبار، ومن الغد يحمل أبوفيس متاعه ويفر إلى الصحراء التي جاء منها قومه خاضعا لإرادة القضاء الذي لا يرد، فما باله لا يفرح ولا يبتهج؟ أو ما بال فرحه ليس صافيا وابتهاجه ليس كاملا؟ .. لقد حمت الساعة الخطيرة، ساعة الوداع إلى الأبد ، كان قبل تلك الساعة الخطيرة يائسا حقا، ولكنها كانت هناك في السفينة الصغيرة، فماذا يفعل غدا إذا رجع إلى قصر طيبة وحملت هي إلى بطن الصحراء المجهولة؟ أيتركها تذهب دون أن يتزود منها بنظرة وداع؟ .. وأجاب قلبه أن لا. وحطم أغلال التجلد والكبرياء، وقام واقفا وفارق المقصورة، وأخذ زورقا إلى سفينة الأميرة الأسيرة وهو يقول لنفسه: «مهما يكن من استقبالها فسأجد ما أقوله»، وصعد إلى السفينة ومضى إلى المخدع فحياه الحراس وفتحوا له، واجتاز الباب خافق الفؤاد، وألقى نظرة على المخدع الصغير البسيط فرأى الأسيرة جالسة في الصدر على ديوان، والظاهر أنها لم تكن تتوقع عودته فبدت على محياها الجميل الدهشة والإنكار، وتفحصها أحمس بنظرة عميقة فوجدها جميلة كعهده بها، ورأى ملامحها كيوم حفرت في قلبه على ظهر السفينة الفرعونية، فعض شفته وقال لها: أنعمي صباحا أيتها الأميرة.
فرفعت إليه عينين لم تذهب منهما الدهشة وكأنها لا تدري بماذا تجيب، ولم يطل انتظار الملك فقال بصوت هادئ وبلهجة لا تدل على شيء: أنت منذ اليوم طليقة أيتها الأميرة.
فلاح في وجهها أنها لا تفهم شيئا، فعاد يقول: ألا تسمعين ما أقول؟ أنت منذ هذه الساعة طليقة حرة، انتهى أسرك أيتها الأميرة وأصبحت الحرية حقا لك.
فازدادت دهشتها ولاح الرجاء في عينيها، فقالت بلهفة: أحق ما تقول؟ .. أحق ما تقول؟ - إن ما أقول حق واقع.
فأضاء وجهها وتورد خداها، ثم ترددت هنيهة وتساءلت: ولكن كيف كان ذلك؟ - آه، إني أقرأ في عينيك آمالك الطموح، ألست تتمنين أن يكون انتصار أبيك هو الذي رد إليك حريتك؟ .. إني أقرأ هذا، ولكنها هزيمته وا أسفاه التي أنهت عبوديتك.
فعقلت لسانها ولم تنبس بكلمة، فأخبرها باقتضاب بما عرض عليه رسول أبيها وما تم الاتفاق عليه، ثم قال: وعما قليل تحملين إلى أبيك وترحلين معه إلى حيث يرحل، فمبارك عليك هذا اليوم.
فاكتنفت وجهها ظلال الحزن وجمدت أساريرها وغضت طرفها، فسألها أحمس: أتجدين حزنك للهزيمة أكبر من فرحك لحريتك؟
فقالت: يجدر بك ألا تشمت بي، فسنغادر بلادكم كراما كما عشنا فيها كراما.
فقال أحمس بجزع ظاهر: لست أشمت بك أيتها الأميرة، فقد ذقنا مرارة الهزيمة من قبل وعلمتنا الحروب الطويلة أن نشهد لكم بالشجاعة والبسالة.
فقالت بارتياح: شكرا لك أيها الملك!
وسمعها لأول مرة تتكلم بلهجة خالية من الغضب والكبرياء، فتأثر وقال لها وهو يبتسم ابتسامة حزينة: أراك تدعينني ملكا أيتها الأميرة؟
فقالت وهي تغض بصرها: لأنك ملك هذا الوادي دون شريك، أما أنا فلن أدعى أميرة بعد اليوم.
فازداد تأثر الملك ولم يكن يتوقع أن تلين شكيمتها على هذا النحو .. ظن أنها تزداد بالهزيمة صلفا، فقال بحزن: أيتها الأميرة، إن ذكريات الدنيا سجل اللذة والألم، وقد بلوتم الحياة حلوها ومرها ولا يزال أمامكم غد.
فقالت بطمأنينة عجيبة: نعم أمامنا غد وراء سراب الصحراء المجهولة، وسنلقى حظنا ببسالة.
ساد الصمت، والتقت عيناهما، فقرأ في عينيها الصفاء والرقة؛ فذكر صاحبة المقصورة التي أنقذت حياته من الموت وسقته رحيق المودة والحنان، وكأنه يراها لأول مرة بعد ذاك العهد الطويل، فزلزل فؤاده وقال بجد وجزع: عما قليل يفرق بيننا البين ولن تبالي ذلك، ولكني سأذكر دائما أنك كنت معي فظة غليظة!
فلاح في عينيها الحزن وافتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة وقالت: أيها الملك إنك لا تعرف عنا إلا القليل .. نحن قوم الموت أروح لنفوسهم من الهوان. - لم أرد بك الهوان قط .. ولكن غرني الأمل إدلالا بمنزلة كنت أظنها لي عندك.
فقالت بصوت خافت: أليس من الهوان أن أفتح ذراعي لآسري وعدو أبي؟
فقال بمرارة: إن الحب لا يعرف هذا المنطق!
فلاذت بالصمت، وكأنها أمنت على قوله، فتمتمت بصوت خافت لم يسمعه: «لا ألومن إلا نفسي»، ورنت بعينيها رنوا تائها، وبحركة فجائية مدت يدها إلى وسادة فراشها وأخرجت من تحتها العقد ذا القلب الزمردي ووضعته حول عنقها بهدوء واستسلام، وتتبعها بعينين لا تصدقان، ثم ارتمى إلى جانبها غير متمالك، وأحاط عنقها بذراعه وضمها إلى صدره بجنون وعنف، ولم تقاومه ألبتة، ولكنها قالت بحزن: حذار .. لقد فات الأوان.
فاشتد ضغط ذراعيه حولها وقال بصوت متهدج: أمنريدس ... كيف هان عليك أن تقولي هذا؟ .. بل كيف لا أكتشف سعادتي إلا حين وشك زوالها؟ .. كلا لن أدعك تذهبين.
فرنت إليه بعطف وإشفاق وقالت له: وماذا أنت فاعل؟ - سأبقيك إلى جانبي! - ألا تدري بما يقتضيه بقائي إلى جانبك؟ .. هل تجود من أجلي بثلاثين ألف أسير من قومك وبأضعافهم من جنودك؟
فعبس وجهه وأظلمت عيناه وتمتم قائلا وكأنه يحادث نفسه: لقد استشهد أبي وجدي في سبيل قومي ووهبتهم حياتي، فهل يضنون على قلبي بالسعادة؟
فهزت رأسها أسفا وقالت برقة: أصغ إلي يا إسفينيس، ودعني أدعك بهذا الاسم العزيز، لأنه أول اسم أحبه في دنياي، ما من الفراق بد .. سنفترق .. سنفترق .. فأنت لا ترضى بالجود بثلاثين ألف أسير من قومك الذين تحبهم، ولا أنا أرضى بتقتيل أبي وقومي. فليتحمل كل منا نصيبه من الألم.
فنظر إليها بذهول وكأنه يأبى أن يكون كل نصيبه من الحب أن يرضى بالفراق وتحمل الألم، وقال لها برجاء: أمنريدس، لا تتعجلي اليأس وأشفقي من ذكر الفراق، فإن جريه على لسانك في يسر يبعث الجنون في دمي .. أمنريدس .. دعيني أطرق جميع الأبواب حتى باب أبيك، فما يكون لو طلبت إليه يدك؟
فابتسمت ابتسامة حزينة وقالت وهي تمس يده برفق: وا أسفاه يا إسفينيس، أنت لا تعي ما تقول، هل تظن أبي يقبل أن يزوج ابنته من الملك المظفر الذي قهره وقضى عليه بالنفي من البلاد التي ولد فيها وتربع على عرشها؟ .. أنا أعرف أبي منك فليس ثمة فائدة ترجى، وما من وسيلة سوى الصبر!
وأصغى إليها ذاهلا وكان يتساءل: «أحق أن التي تتكلم بهذا الصوت الخافت المنكسر الحزين هي الأميرة أمنريدس التي لم تكن الدنيا تسعها جنونا واستهتارا وكبرا؟»، وبدا لعينيه كل شيء غريبا منكرا، فقال بغضب: إن أصغر جندي من جنودي لا يهمل قلبه ولا يسمح لإنسان بأن يفرق بينه وبين من يحب! - أنت ملك يا مولاي، والملوك أعظم الناس متعة وأثقلهم واجبا، كالشجرة الباسقة أوفى من الحشائش نصيبا من شعاع الشمس ونسائم الهواء، وأكثر تعرضا لثورة الريح واقتلاع الزوابع.
فأن أحمس قائلا: آه! ما أشقاني .. لقد أحببتك منذ أول لقاء في سفينتي!
فخفضت عينيها وقالت ببساطة وصدق: وطرق الحب قلبي في ذلك اليوم عينه، ولكني لم أكتشفه إلا فيما بعد، وتيقظت عواطفي ليلة أجبرك القائد رخ على مبارزته فدلني إشفاقي على دائي، وبت ليلتي حائرة مضطربة لا أدري ماذا أصنع بهذا المولود الجديد .. حتى غمرني السحر بعد ذلك بأيام ففقدت وعيي. - في المقصورة؟ .. أليس كذلك؟ - نعم. - أواه .. كيف تكون حياتي بدونك. - تكون كحياتي بدونك يا إسفينيس.
فضمها إلى صدره وألصق خده بخدها كأنه يخال أن التصاقهما ييئس منهما شبح الفراق الماثل أمامهما، وكان يكبر عليه أن يكتشف حبه ويودعه الوداع الأخير في ساعة واحدة، وطرق كل سبيل من الفكر يبغي حلا فاعترضه اليأس والقهر، وكانت غاية سعيه أن يشد حولها ذراعيه، وأحس كل منهما أنه آن أن ينفصلا، ولكن لم يحرك أحدهما ساكنا فلبثا كشيء واحد.
29
وغادر أحمس سفينة الأميرة لا تكاد تحمله قدماه، وكان ينظر إلى شيء في كفه وتمتم قائلا: «أهذا كل ما تبقى لي من حبي؟»، وكانت سلسلة العقد الزمردي هي التي تبقت له من حبه، أهدتها إليه الأميرة تذكارا واحتفظت بالقلب لنفسها، وركب الملك عجلته ومضى إلى معسكر جيشه، واستقبله رجاله وعلى رأسهم الحاجب حور وكان يختلس من مولاه نظرات قلقة مشفقة، وقصد الملك إلى السرادق ودعا برسول أبوفيس وقال له: أيها الرسول لقد درسنا بإمعان ما عرضته علينا، ولما كانت غايتي أن أحرر وطني من سيطرتكم وهو ما رضيتم به، فقد اخترت الحل السلمي حقنا للدماء، وسنبادل الأسرى في الحال، ولكني لن آمر بالكف عن العمل حتى يغادر آخر رجل منكم هواريس، بذلك تطوى هذه الصفحة السوداء في تاريخ بلادي.
فأحنى الرسول رأسه وقال: نعم الرأي الذي رأيت أيها الملك، فإن الحرب إذا لم تكن لغاية تستوجبها صارت تقتيلا وتذبيحا.
فقال أحمس: الآن سأترككم لتبحثوا معا في تفاصيل التبادل والإجلاء.
وقام الملك فقام الجميع وقوفا وانحنوا له إجلالا، فحياهم بيده وغادر المكان.
30
وفي مساء ذلك اليوم تم تبادل الأسرى؛ ففتح باب من أبواب هواريس وخرجت منه جماعات الأسرى نساء ورجالا، وكانوا يهتفون لمليكهم مسرورين ويلوحون بأيديهم، وذهب الأسرى الرعاة وعلى رأسهم الأميرة أمنريدس إلى المدينة في سكون ووجوم.
وفي غداة اليوم الثاني بكر أحمس وحاشيته إلى هضبة قريبة تشرف على أبواب هواريس ليشهدوا خروج الرعاة من آخر مدينة مصرية، وكانوا لا يخفون جذلهم، وتتألق وجوههم بنور الفرح والابتهاج، وكان القائد محب يقول: عما قليل يأتي حجاب أبوفيس بمفاتيح هواريس ليسلموها إلى جلالة الملك، كما سلمت مفاتيح طيبة إلى أبوفيس قبل أحد عشر عاما.
وجاء الحجاب كما قال القائد محب، وقدموا إلى أحمس صندوقا من خشب الأبنوس رصت به مفاتيح هواريس، فتسلمه الملك وأعطاه حاجبه الأكبر، ورد تحية الرجال الذين عادوا من حيث أتوا في سكون وصمت.
ثم فتحت الأبواب الشرقية على مصاريعها فدوى صريرها في جنبات الوادي، فتطلع أصحاب الهضبة صامتين، وبرزت أولى جماعات الخارجين، وكانت من الفرسان المدججين بالسلاح قدمها أبوفيس لاستطلاع الطريق المجهول، وتبعتها جماعات النساء والأطفال يمتطين متون البغال والحمير وبعضهن يحملون في الهوادج، وقد استغرق خروجهن ساعات طويلة، ثم بدا ركب عظيم تحيط به الفرسان من رجال الحرس تتبعه عربات كثيرة تجرها الثيران، فعلم الناظرون أنه أبوفيس وآل بيته، وقد خفق فؤاد أحمس لمرآه وقاوم دمعة حرى أحس انتزاعها من حناياه، وتساءل: ترى في أي مكان هي؟ وهل تجد في البحث عنه كما يجد في البحث عنها؟ .. وهل تذكره بمثل ما يذكرها به؟ .. وهل تكتم دمعها كما يكتم دمعه؟ وتابع الركب بناظريه لا يلتفت إلى الجنود المتدفقة على أثره من جميع الأبواب، وما زال يتبعهم ببصره وفؤاده ويحوم حولهم بروحه حتى غيبهم الأفق وابتلعهم الغيب!
واستيقظ الملك على صوت حور وهو يقول: في هذه الساعة الخالدة تسعد روح مليكنا سيكننرع وبطلنا المجيد كاموس، ويكلل كفاح طيبة التي لا تعرف اليأس بالفوز المبين.
ودخل جيش الخلاص هواريس الجبارة واحتل أسوارها المنيعة، وبات فيها حتى فجر الغداة، وزحف أحمس بفرقة العجلات شرقا تتقدمه طلائعه فدخل تنيس ودفنى، وهناك جاءته العيون وهنأته بجلاء آخر رجل من الرعاة عن أرض مصر، فعاد الملك إلى هواريس، وأمر أن يصلي الجيش صلاة جامعة للرب آمون؛ وانتظمت الفرق المختلفة وعلى رأس كل فرقة ضباطها وقائدها، وعلى رأس الجميع الملك وحاشيته، ثم جثوا جميعا في خشوع وصلوا للرب صلاة حارة. وختم أحمس صلاته بأن دعا ربه قائلا: أحمدك وأشكر لك أيها الرب المعبود، فقد وصلت جناحي وثبت قلبي، وأكرمتني ببلوغ الغاية التي استشهد في سبيلها جدي وأبي، فاللهم ألهمني الصواب وأيدني بالعزم والأمان لأضمد جراح شعبي، واجعله خير عابد لخير معبود!
ثم دعا أحمس رجاله إلى الاجتماع به فلبوا سراعا، فقال لهم: اليوم تنتهي الحرب فيجب أن نغمد سيوفنا، ولكن الكفاح لم ينته أبدا، وصدقوني إن السلام أكبر من الحرب حاجة إلى يقظة النفوس وتوثب العزائم، فأعيروني قلوبكم لنبعث مصر بعثا جديدا.
ونظر الملك في وجوه رجاله قليلا ثم استطرد: وقد رأيت أن أبدأ كفاح السلام باختيار أعواني المخلصين: لذلك أعهد إلى حور بالوزارة.
وقام حور إلى مولاه وجثا أمامه وقبل يده، فقال الملك: وأرى أن سنب خير خلف لحور في قصري، أما ديب فهو رئيس الحرس الفرعوني.
ونظر الملك إلى محب وقال: وأنت يا محب قائد جيشي العام.
ثم التفت إلى أحمس إبانا وقال: وأما أنت فقائد الأسطول، وسترد إليك ضياع أبيك القائد الباسل بيبي.
ووجه الملك كلامه إلى الجميع قائلا: والآن عودوا إلى طيبة عاصمة ملكنا ليؤدي كل واجبه.
وتساءل حور قلقا: ألا يعود فرعون على رأس جيشه إلى طيبة؟
فقال أحمس وهو يهم قائما: بل ستقلع بي سفينتي إلى دابور لأزف بشرى النصر إلى أسرتي ثم أعود معها إلى طيبة، فندخلها جميعا كما تركناها جميعا.
31
وأقلعت السفينة الفرعونية في حراسة ثلاث سفن حربية، وكان أحمس ملازما المقصورة ينظر إلى الأفق البعيد بوجه جامد وعينين غارقتين في الحزن والأسى .. واستغرقت الرحلة أياما ثم لاحت دابور الصغيرة بأكواخها المتناثرة ، ورسا الأسطول على شاطئها عند الأصيل، وغادره الملك وحرسه في ثيابهم الجميلة فجذبوا الأنظار وهرع إليهم جمع من النوبيين، وساروا بين أيديهم إلى بيت الحاكم رءوم، وذاع في المدينة أن رسولا فرعونيا كبيرا جاء يزور أسرة سيكننرع، وسبق الخبر الملك إلى بيت الحاكم، فلما شارفه رأى الحاكم والأسرة الفرعونية في فناء القصر ينتظرون، وطلع الملك عليهم، فعقدت الدهشة والفرح ألسنتهم، وجثا رءوم على ركبتيه، وصاح الجميع صيحة الفرح والسرور وهرعوا إليه، وكانت أسبقهم الملكة الصغيرة نيفرتاري؛ فقبل خديها وجبينها ونظر فرأى أمه الملكة ستكيموس مادة ذراعيها، فضمها إلى صدره وأسلم لها خديه تقبلهما بحنان، وكانت جدته الملكة أحوتبي تنتظر دورها؛ فدنا منها وقبل يديها وجبينها، وأخيرا رأى توتيشيري .. أخيرة القوم وأعزهم، توتيشيري التي كللها المشيب وأذبل خديها الكبر، فخفق قلبه وأحاطها بذراعيه وهو يقول: أماه وأم الجميع!
فلثمته بشفتيها النحيلتين وقالت وهي ترفع إليه عينيها: دعني أنظر إلى صورة سيكننرع الحية.
فقال أحمس: اخترت يا أماه أن أكون الرسول الذي يبشرك بالفوز العظيم، فاعلمي يا أماه أن جيشنا الباسل نال النصر المبين وهزم أبوفيس وقومه وطردهم إلى الصحراء التي جاءوا منها وحرر مصر جميعا من عبوديتهم، فحق وعد آمون وطابت نفس سيكننرع وكاموس!
فتهلل وجه توتيشيري وومضت عيناها الكليلتان وقالت بفرح: اليوم يفك أسرنا ونعود إلى طيبة فأجدها كعهدي بها مدينة المجد والسيادة، وأجد حفيدي على عرش سيكننرع يصل ما انقطع من حياة أمنمحيت المجيدة.
وجاءت وصيفة الملكة السيدة راي تحمل ولي العهد بين ذراعيها، فانحنت للملك وقالت: مولاي قبل طفلك الصغير وولي عهدك أمنحتب!
فلانت نظرة عينيه ودرت حناياه حنانا دفاقا، وأخذ الصغير بين ذراعيه وأدناه من فمه حتى التصقت به شفتاه المشوقتان، وابتسم أمنحتب إلى أبيه وعابثه بيديه الصغيرتين.
ثم دخلت الأسرة الفرعونية الدار تشملها السعادة والطمأنينة، فخلصوا إلى أنفسهم يتسامرون ويتذاكرون أيامهم.
32
وحمل الجنود متاع الأسرة إلى السفينة الفرعونية، ثم انتقل الملك وآله إليها وخرج لوداعهم الحاكم رءوم وأعضاء حكومته وأهالي دابور جميعا، وقبل أن ترفع السفينة مراسيها، دعا أحمس رءوم وقال له على مسمع من رجاله: أيها الحاكم الأمين؛ أوصيك خيرا بالنوبة وأهل النوبة، فالنوبة كانت مهجرنا حين ضاقت بنا الدنيا، ووطننا إذ لا وطن لنا، ومأوانا حين عز النصير ومات الصديق، ومدخر عتادنا وجنودنا لما دعا الداعي إلى الكفاح، فلا تنس صنيعها، ولتكن منذ اليوم مصر الجنوب لا نحرمها شيئا نتمناه لنفسنا ونذود عنها ما نكره لها.
ثم أقلعت السفينة وأقلعت وراءها سفن الحراسة تشق طريقها نحو الشمال تحمل قوما تهفو نفوسهم إلى مصر وأهلها .. وبلغت السفينة حدود مصر بعد رحلة قصيرة، فاستقبلت استقبالا رائعا، وخرج إليها رجال الجنوب في سفينة الحاكم شاو، وأحاطت بها زوارق الأهالي يهتفون ويغنون، وصعد إلى سطحها شاو وكهنة بيجة وبلاق وسيين وعمد القرى وشيوخ البلاد فسجدوا للملك واستمعوا إلى نصائحه، ثم انحدرت السفينة نحو الشمال يستقبلها الأهلون على الشطآن وتطوف بها القوارب ويصعد إلى سطحها عند كل بلدة الحكام والقضاة والعمد والأعيان، وما زالت السفينة تجد في السير حتى انقشعت ظلمة الفجر ذات صباح في الأفق البعيد عن أسوار طيبة العالية وأبوابها الضخمة وجلالها الخالد، وهرعت الأسرة من المخادع إلى مقدم السفينة عالقة أبصارهم بالأفق، ويتجلى في نظراتهم الحنين والوجد، وتفيض أعينهم بدمع الشكران، وتغمغم شفاههم في صوت خافت: «طيبة .. طيبة»، وقالت الملكة أحوتبي بصوت متهدج: رباه .. ما كنت أتصور أن يقع بصري مرة أخرى على هذه الأسوار!
وجعلت السفينة تقترب من جنوب طيبة في ريح مؤاتية حتى استطاعوا أن يروا جموعا من الجنود وكبار القوم على الشاطئ ينتظرون، فعلم أحمس أن طيبة تزجي أولى تحياتها لمخلصها، فعاد إلى المقصورة تتبعه أسرته وجلس على العرش وجلسن حوله، وأدى الجنود التحية العسكرية للسفينة الفرعونية، وصعد إلى سطحها رجال طيبة؛ وعلى رأسهم رئيس الوزراء حور، والقائدان محب وأحمس إبانا، ورئيس الحرس الفرعوني ديب، وكبير الحجاب سنب، وحاكم طيبة توتي آمون، ثم كاهن طاعن في السن محترق الشعر شيبا يتوكأ على صولجانه ويسير بخطى وئيدة منحني القامة، وسجد الرجال جميعا لفرعون وقال له حور: مولاي محرر مصر ومخلص طيبة وقاهر الرعاة، فرعون مصر وسيد الجنوب والشمال، إن طيبة جميعا في الأسواق تنتظر على شوق ولهفة مقدم أحمس ابن كاموس بن سيكننرع وأسرته المجيدة لتقرئهم جميعا أحر ما جمعت عليه صدرها من التحية والسلام.
فابتسم أحمس وقال: حياكم الرب أيها الرجال المخلصون، وحيا طيبة المجيدة مبدئي وغايتي ..
وأومأ حور إلى الكاهن الجليل وقال: مولاي .. ائذن لي أن أقدم إلى جلالتك نوفر آمون الكاهن الأكبر لمعبد آمون.
فنظر إليه أحمس باهتمام، ومد له يده مبتسما وقال برقة: يسرني أن أراك أيها الكاهن الأكبر!
فلثم الكاهن يده وقال: مولاي فرعون مصر وابن آمون، مجدد حياة مصر ومحيي سير الأعظمين من ملوكها، لقد كنت يا مولاي آليت على نفسي ألا أبرح حجرتي ما دام في مصر رجل من الرعاة الأشائم الذين أذلوا طيبة وقتلوا سيدها المجيد، وأهملت نفسي فغزر شعر رأسي وجسدي، وقنعت من الدنيا بلقمات أتبلغ بها وجرعات من الماء القراح كي أشارك قومنا فيما ابتلوا به من القذارة والجوع، وما زلت حتى قيض الله لمصر ابنه أحمس، فحمل على عدونا حملة صادقة ومزق شمله وطرده من بلادنا، فعفوت عن نفسي وأطلقت سراحي، لأستقبل الملك المجيد وأدعو له.
فابتسم الملك إليه، واستأذن الكاهن في السلام على الأسرة فأذن له، فقصد إلى توتيشيري وسلم عليها، وعدل إلى الملكة أحوتبي وكان من المقربين إليها على عهد سيكننرع، ثم قبل ستكيموس ونيفرتاري، ثم قال حور لمولاه: مولاي: إن طيبة تنتظر مولاها، والجيش مصطف في الطرق، ولكن لكاهن آمون الأكبر رجاء.
فسأل أحمس قائلا: وما رجاء كاهننا الأكبر؟
فقال الكاهن باحترام: أن يتفضل مولاي بزيارة معبد آمون قبل أن يذهب إلى القصر الفرعوني.
فقال أحمس مبتسما: يا له من رجاء في تحقيقه الغنم والسعادة.
33
وغادر أحمس السفينة تتبعه الملكات ورجال مملكته، فاستقبله ضباط وجنود ممن جاهدوا معه منذ اليوم الأول، فرد الملك تحيتهم، وصعد إلى هودج فرعوني جميل، واعتلت الملكات هوادجهن، ورفعت الهوادج وتقدمتها فرقة من الحرس الملكي، وسارت وراءها عجلات الحاشية تتبعها فرقة أخرى من الحرس الملكي، وتقدم الموكب الملكي نحو باب طيبة الجنوبي الوسيط، وكان مزينا بالأعلام والأزهار، يصطف على جانبيه الجنود الأشداء الذين اقتحموا بالأمس القريب.
اجتازت الهوادج الفرعونية باب المدينة بين صفين من الرماح الشاكية، وقد نفخ في الأبواق حرس الأسوار، وتساقطت على الداخلين الأزهار والرياحين، ونظر أحمس فيما حوله فرأى منظرا عجبا يذهل النفوس الرصينة، رأى أهل مصر جميعا في نظرة واحدة، رأى أجسادا تحجب السبل والجدران والمنازل، بل رأى أرواحا خالصة من العبادة والحب والحماسة، وضح الجو بالهتاف المتصاعد من القلوب، وفتن الناس لرؤية الأم المقدسة في مهابة الشيخوخة وجلال الكبر، وحفيدها الباسل في عنفوان القوة والشباب، وشق الركب طريقه كأنما يخوض بحرا لجيا، تتعلقه الأنفس والأبصار، فقطع السبيل إلى معبد آمون في ساعات.
وعلى باب المعبد استقبل الملك وأسرته كهنة آمون، ودعوا له طويلا وساروا بين يديه إلى بهو الأعمدة، حيث قدمت القرابين على المذبح، وأنشد الكهنة نشيد الرب بأصوات رخيمة عذبة لبثت تتردد في القلوب فترة طويلة، ثم قال الكاهن الأكبر للملك: مولاي ائذن لي في الذهاب إلى قدس الأقداس لإحضار أشياء ثمينة تهم جلالتكم.
فأذن له الملك، ومضى الرجل ومعه نفر من الكهنة وغابوا زمنا يسيرا، ثم ظهر الكاهن مرة أخرى يتبعه الكهنة يحملون تابوتا وعرشا وصندوقا من الذهب، فوضعوها جميعا أمام الأسرة الفرعونية باحترام وإجلال، وتقدم نوفر آمون حتى وقف أمام أحمس، وقال بصوت ساحر نفاذ: مولاي، إن ما أعرض على أنظاركم لهي أنفس مخلفات المملكة المقدسة، عهد بها إلي لاثني عشر عاما خلت القائد الباسل الخالد الذكر بيبي؛ لتكون في مأمن من أن تصل إليها يد العدو الجشع، أما التابوت فهو تابوت الملك الشهيد سيكننرع يحفظ جثته المحنطة التي اشتملت أكفانها على جروح بالغة، سجل كل جرح منها صفحة خالدة للبسالة والتضحية، وأما العرش فهو عرشه المجيد الذي أدى حقه وأعلن عليه كلمة طيبة الأبية التي آثرت الابتلاء بأهوال الكفاح على السكون إلى ذل السلامة.
وأما هذا الصندوق الذهبي فيحتوي على تاج مصر المزدوج، تاج تيمايوس آخر ملوكنا الذين حكموا مصر المتحدة، وكنت أهديته لسيكننرع وهو خارج لقتال أبوفيس، فخاض غمار المعركة وهو على رأسه الكريم، ودافع عنه الدفاع الذي يعرفه جميع أهل الوادي .. هذه يا مولاي ودائع بيبي المقدسة، أحمد الرب أن مد في عمري حتى رددتها إلى أصحابها، داموا للمجد ودام المجد لهم.
وتحولت أبصار الجميع إلى التابوت الفرعوني، ثم سجدوا جميعا وفي مقدمتهم الأسرة الفرعونية وصلوا خاشعين.
ودنا الملك وأسرته من التابوت وأحاطوا به، وكان الصمت يشملهم جميعا ولكن خاطبت التابوت قلوبهم وسرائرهم، وأحست توتيشيري لأول مرة تخاذلا وخورا، فاستندت إلى ذراع الملك وقد حجبت مدامعها عن ناظريها التابوت المحبوب، وعزم حور على أن يرقأ دمع الأم المقدسة ويسكن آلام قلبها، فقال لنوفر آمون: أيها الكاهن الأكبر، احتفظ بهذا التابوت في قدس الأقداس حتى يودع في مقبرته باحتفال مهيب يليق بمقام صاحبه.
فاستأذن الكاهن مولاه وأمر رجاله برفع التابوت إلى مثوى الرب المعبود، وفتح الكاهن الصندوق واستخرج منه تاج مصر المزدوج، ودنا من أحمس في إجلال وتوج به رأسه المجعد، ورأى القوم ما فعل الكاهن فهتفوا جميعا: «يعيش فرعون مصر!»
ودعا نوفر آمون الملك والملكات إلى زيارة المثوى المقدس فساروا جميعا، وكانت توتيشيري ما تزال تتوكأ على ذراع أحمس، واجتازوا العتبة المقدسة التي تفصل بين الدنيا والآخرة، وسجدوا للرب المقدس ولثموا الستائر المسدلة على تمثاله، وصلوا صلاة الشكر والحمد أن هيأ لهم الفوز وردهم إلى وطنهم ظافرين.
وغادر الملك إلى هودجه وكذلك الملكات، وحمل العرش على عربة كبيرة، واستأنف الموكب سيره إلى القصر بين الجموع الهاتفة الداعية، المهللة المكبرة، الملوحة بالأغصان الناثرة للزهور، فبلغوا القصر القديم عند الأصيل، وكان التأثر قد بلغ من نفس توتيشيري مبلغا كبيرا فاشتد خفقان قلبها واضطربت أنفاسها، فحملت في هودجها إلى جناحها الملكي، ولحقت بها الملكات والملك، وجلسوا بين يديها قلقين، ولكنها استعادت هدوءها وعادت بقوة إرادتها وإيمانها، فاستوت جالسة ونظرت في الوجوه الحبيبة بحنان وقالت بصوت ضعيف: معذرة يا أبنائي، لقد خانني قلبي لأول مرة، ولشد ما تحمل هذا القلب ولشد ما صبر، فدعوني أقبلكم جميعا، ففي مثل سني يعجل بلوغ الأمل بالنهاية.
34
وجاء المساء وخيم الليل وطيبة لا يعرف النوم إلى أجفانها سبيلا، فلبثت ساهرة تلوح المشاعل في طرقاتها وضواحيها، ويجتمع الناس في ميادينها ينشدون ويهتفون، وتسجع ديارها بالأغاني والألحان، في تلك الليلة لم ينم أحمس على ما به من تعب ونصب، ونبا به الفراش فخرج إلى الشرفة المطلة على حديقة القصر الفيحاء، وجلس على أريكة وثيرة في ضوء مصباح خافت، وساحت روحه في الظلام الجاثم، وكانت أنامله تعبث بسلسلة ذهبية بحنو وإشفاق، ينظر إليها بين الفينة والفينة كأنما يستمد منها أفكاره وأحلامه.
ولحقت به على غير انتظار الملكة الشابة نيفرتاري وكان الفرح ينفي الكرى عن عينيها، فظنت أن زوجها في مثل سرورها، فجلست إلى جانبه جذلة منشرحة الصدر، وانعطف الملك إليها مبتسما فوقع بصرها على السلسلة في كفه فتناولتها بدهشة وقالت: أهذا عقد؟ .. ما أجمله! ولكنه مبتور.
فقال وهو يجمع أشتات فكره: نعم ... فقد قلبه. - وا أسفاه .. وأين فقد؟
فقال: لا أدري إلا أنه ضاع على غير إرادتي.
فنظرت إليه بمودة وسألته: أكنت تنوي أن تهديه إلي؟
فقال: إني أدخر لك ما هو أثمن منه وأجمل.
فقالت: فكيف تأسف عليه إذن؟
فقال وهو يجهد أن يخرج صوته طبيعيا هادئا: إنه يذكرني بأيام الكفاح الأولى، حين خرجت أطلب طيبة متخفيا في ثياب التجار داعيا نفسي إسفينيس، فكان فيما أعرض على الناس للشراء .. فيا للذكرى الجميلة .. نيفرتاري، أود أن تدعيني إسفينيس، فهو اسم أحبه وأحب عهده وأحب من يحبه.
وأدار الملك وجهه ليخفي ما ارتسم عليه من التأثر والحنين، فابتسمت الملكة بسرور، ولاحت منها نظرة إلى الأمام فرأت على البعد ضوء مشعل يتحرك في بطء، فقالت وهي تشير بيدها: انظر إلى هذا المشعل!
فألقى أحمس بصره إلى حيث تشير، ثم قال: هذا مشعل في قارب يسبح قريبا من الحديقة.
وكأن صاحب القارب تعمد أن يدنو من حديقة القصر ليسمع أهله القادمين جمال صوته، فيحييهم وحده بعد أن حيتهم طيبة جميعا، فرفع عقيرته متغنيا في سكون الليل يردد سجعه مزمار: «كم رقدت في غرفتي منذ سنين» «أعاني ألم داء وجيع» «فعادني الأهل والجيران» «وزارني العرافون والأطباء» «فأعيا الداء أطبائي وجيراني» «حتى جئت أنت يا حبيبي» «فبرع سحرك الطب والرقى» «لأنك أنت تعرف سر دائي»
وكان صوته جميلا يأخذ السمع، فأنصت أحمس ونيفرتاري، وكانت الملكة ترنو إلى ضوء المشعل بعطف وحنان، وكان الملك ينظر إلى ما بين قدميه بعينين شبه مغمضتين، تنوح في قلبه الذكريات.
ناپیژندل شوی مخ