وان انت ايضا سالتهم عن الحرارة الخارجة عن الطبيعة كيف معرفتهم بها ايزعمون ان هذه الحرارة تكون حمى عند ما تنتشر فى البدن كله او عند ما تكون محصورة فى القلب فقط لم تجد عندهم فى ذلك جوابا ملخصا. ولهذا قد ينبغى فى مثل هذه الحال لمن هو معلم بالحقيقة جيد نفاع ان لا يقتصر بهم على القائهم فى الحيرة والشك دون ان يرشدهم بعد ذلك الى الامر المحدد المفصل من غير ان ينقص عليهم ويبطل عندهم ما قد كان مصورا قديما فى انفسهم من معنى ذلك الشىء الذى سألهم عنه ولا يقطعه عليهم ويسلخه من انفسهم جملة بل يصلحه لهم ويمحصه ويذيعه عندهم. وهذا قول اريد به اصحاب الحق ليمتثلوه فى استعمال الاسماء على ما ينبغى. فاما متى ابتلى الانسان بالوقوع مع رجل من السوفسطائيين بفسد الحق ويستره ويزيل ما يجتمع عليه الناس كافة بالتعارف عن جهته فقد ينبغى له ان ينقم منه ويطرحه ويوقعه فى شبيه ما لم يزل من عادته ان يطرح الناس فيه ويضرهم به.
فانى انا مرارا كثيرة ادع الجواب الحق واجيب من اناظره منهم بكل شىء خلا ما يقرب من معنى ذلك الذى يسئل عنه. من ذلك ان رجلا من اصحاب اراسسطراطس سألنى ما الحمى، فأجبته كثرة من الماء الحار الشبيه بالاحمر. فجعل هو يقهقه ويومئ بنظره نحو من يقرب منه ثم خدف الى الوسط وصاح بصوت ليس باليسير «ومن من الناس سمى هذا الذى قلت حمى؟» فلما فعل ذلك رجعت انا عليه بالمسئلة فقلت «اخبرنى عن الصواب عندك فى الجواب عن هذا المعنى: هو ان يكون جميع اليونانيين يشهدون به ام ان يشهد به اكثرهم ام ان يشهد به بعضهم وآن كانوا قليلا فى العدد جدا؟» فأمسك عن ذلك وترك القهقهة عند ما ورد عليه من السؤال المنظوم. وذلك لانه لو قال ان الصواب فى ذلك ان يكون قد شهد به جميع اليونانيين او الاكثر منهم او اهل الثقة منهم لعلم علما بينا ان الامر يؤول به الى ان الحمى حرارة خارجة عن الطبيعة وهذا شىء لم يكن يهواه ولا يريده؛ ولو قال ايضا انه يكفى فى صحة الامر فى المعنى الذى يدل عليه اسم الحمى بان يشهد على ذلك قوم يسير لكان مما احسب سيظن بان الامر يضطره بان يخبر بهؤلاء القوم اليسير من هم، وكان لا يجد احدا ينسب اليه ذلك الا اراسسطراطس فقط. ولو كان ممن قد نظر فى علم البرهان وراض نفسه فى الكلام الذى به يكون البرهان لكان على حال سيعلم انه ليس لاحد من الناس — منذ ابتدأ كلامه — ما يقر به جميع الناس خلا الاشياء المعقولة المتصورة فى اوهام الناس عامة من قولهم حمى انما هو حرارة خارجة عن الطبيعة. وهذا هو الذى يعنيه كل واحد منهم اذا قال حمى وهو الذى يفهم عنه اذا سمع قوله حمى.
مخ ۸