فإنا نحن قد سلكنا هذا المسلك فى تعليمنا الناس من اصناف الحميات واصناف النبض واصناف الامراض واصناف الاعراض وغير ذلك من جميع امور الطب. وذلك انا استخرجنا اولا عدد اصناف كل واحد من هذه الامور بطريق صناعى ثم بينا بعد ذلك ان تلك الاصناف ليست اكثر مما استنبطنا ولا اقل ثم سمينا كل صنف منها باسم وتحرينا فى الاسم ان يكون مما الناس اكثر اعتيادا له وهو عندهم ابين. ومتى اعوزتنا الاسماء الجامعة للامرين اخترنا الاسماء التى كانت القدماء اكثر اعتيادا لها ومتى لم نقدر على هذه ايضا استعملنا جميع الاسماء التى استعملها من كان قبلنا ممن نقل الاسماء على طريق الاستعارة او على طريق الاشتقاق او على طريق ازالة الاشتقاق فصرنا بذلك الى ما اردنا ولم نضطر الى اختراع اسم الا فى الندر. فهذا هو المذهب الصواب فى استعمال الاسماء فان غيره احد فسمى الاشياء باسماء مستعارة على طريق التشبيه او اخترع من نفسه اسماء فسمى بها امورا لم تزل لها اسماء وضعها من كان قبله او اختار وآثر الاسماء التى استعملها من قرب عهده على الاسماء القديمة او آثر الاسماء التى كان القدماء يستعملونها على الاسماء التى جميع الناس لها اكثر اعتيادا فانه يفسد ويثرب رتبة الاسماء.
مثال ذلك انه ان ارغم انسان على استنباط اصناف الحميات فلا بد له ضرورة من ان يبتدئ من المعنى الذى يدل عليه اسم الحمى ويتناول ذلك بما قد جرت به عادة الناس كلهم عامة. فان اسم الحمى ليس هو اسما لا يدل على شىء كما لا يدل قول اليونانى بليطورى وسقندابسس ولا هو ايضا اسم يدل دلالة غير بينة كقول اليونانى سفافيلوس وهو فساد جوهر العضو بل هو اسم دال على شىء ودلالته ظاهرة لجميع الناس. فانك لن تجد احدا يسمى الحرارة المنتثرة على غير المجرى الطبيعى باسم غير الحمى وتجد ان ذوى الغباء من الناس وعوامهم يبعثون الى الاطباء فيدعونهم لمعالجتهم وهم يشكون علة ربما كانوا مرارا كثيرة لا يقدرون على تسميتها باسمها وربما كانوا يعرفون اسمها فيقولون انهم محمومون او ان بهم قرحة او ورما فى الغدد، وان رأوا انسانا يسمى ورم الغدد قرحة او يسمى الكسر حمى او يغير اسم شىء من امثال هذه الامراض ضحكوا منه كما يضحك من المجنون. واذا كانوا كذلك فهم اذن يعلمون اى الاشياء هم عارفون باسمائها وايها لا معرفة لهم باسمائها. وذلك انك ان سألتهم عن قول اليونانى سفاقيلوس وهو فساد جوهر العضو ما معناه اقروا بانهم لا يعلمون. وان سألتهم عن الحمى وجدتهم يعلمون ان هذا اسم واقع على الحرارة الخارجة عن الطبيعة وانهم لا يحملون ولا يصبرون لأحد ممن يصرف هذا الاسم على شىء آخر.
وكما ان قولنا انسان هو اسم يعرفه جميع الناس ويعلمون الى ماذا يصرف ولكن ليس عندهم فيه شىء على تحديد وتمييز مثل ما عند اصحاب علم المنطق كذلك الحال فى قولنا حمى: نجد الناس يعرفون هذا الاسم ويعجزون عن تحديده وتلخيص معناه. وانا ملتمس تلخيص هذا الباب لمن تتوق نفسه لى امعرفة الحق.
فأقول: ان الاثينيين قد يسمعون لا محالة ما يلفظ به الناس من مقاطع حروف الهجاء ولكنهم لا يعلمون هل ذلك الملفوظ به من تلك المقاطع نغمة مفردة ام صوت مركب وان هم تخيلوا فى بعض الاوقات من المقاطع التى هى اكثر ما تكون بمنزلة قول اليونانى سطرابطيس انه مقطع من مقاطع النفس فى الالفاظ مركبا اطول كثيرا من النغمة التى يوجبها فى اللفظ كتابة الالف، لانهم لا يقدرون على تقطيعه حروفا وافراد كل حرف منه على حدته ولا يعلمون كم مبلغ الحروف التى هو منها مؤلف واى حروف هى ولا يمكنهم تحديد ذلك اصلا. وكذلك الحال فى الانسان ان جميع الناس يعلمون انه حيوان وانه حيوان ناطق، ولكنهم ان تعنتهم متعنت فاحتج عليهم بالاطفال ليس هم ناطقون فهم اذن غير الناس التماسا للتريب عليهم ولإزالتهم عما قد تصور فى انفسهم من المعرفة بالانسان ارتابوا بذلك وفسد عليهم ما قد كانوا عرفوه. وذلك لانه ليس عندهم من العلم بالامر شىء على تحديد.
مخ ۷