وهذا قول قد قلته وانا لم انفع الطب بقولى اياه شيئا من المنافع ولا نفعت به الناس فى متقلبهم وما يتصرفون فيه من معاشهم، وكذلك هم ايضا لا ينفعون الطب ولا ينفعون الناس بتعليمهم ايانا كلاما لهم خاصة لا يعرفه اهل واحدة من اللغات اليونانية الاربع ولا اهل اللغة الخامسة المعروفة بالعامة. ولكن القوم المغربين من المعرفة بالامور لما تاقت انفسهم الى القول قالوا اقوالا بلغ من هذيانهم فيها اننى مرارا كثيرة اذا رأيت الواحد فالواحد منهم تذكرت الشاعر صاحب القوموذيا وعجبت من قوله حيث يقول فى رجل ما اراد ان يهجوه انه لمن اقوى الناس على الهمز ومن ابعد الناس من القدرة على النطق. فمن اى الفريقين ينبغى ان يتعجب الناس اكثر: من القوم الذين يقبلون من هؤلاء ويذعنون لهم او من هؤلاء الذين يفرغون انفسهم لاستخراج مثل هذه الاشياء ام التعجب لازم للانسان منهما جميعا على مثال واحد؟ ونتعجب ممن يقبل ذلك ويذعن له لسرعة قبوله اياه واذعانه له ونتعجب ممن يستخرج هذه الاشياء الحسنة الجميلة وهم السوفسطائيون لبراعة حكمتهم.
فلنضرب الآن عنهم ايضا ونذكر انفسنا انه متى ذكر الانسان اسما من الاسماء فالناس يختلفون فى استخراج معناه من دلالة نفس تلك اللفظة، وبعضهم يزعم انه انما يقف على ذلك من العادة الجارية اما فى عصره واما فى عصر القدماء، وبعضهم يزعم ان ذلك لا يستنبط من هذه الوجوه ولا من شىء آخر بل يحكم على معنى الاسم حكما مطلقا. فنحن الآن نبين ما قلناه من هذا بيانا نيرا بأن نتمثل فى ذلك باسم من الاسماء ثم نقطع هذه المقالة. وليكن هذا الاسم اسم الحمى فانه اسم قد جرت به عادة الناس فى كلامهم وهو عند العوام معروف.
فأقول: انا نستدل على معنى هذا الاسم فى لغة اليونانيين من دلالة نفس اللفظ انه اسم مشتق من اسم النار، والمعنى الذى يدل عليه اسم النار هو انها حرارة كثيرة محترقة.
واما من استعمال الناس لهذا الاسم فانا استدل على معناه من انه انما يقول الانسان انه محموم عندما يكون يحترق بالحرارة. وهذا هو المعنى الاول الذى قلناه.
واما من استعمال القدماء لهذا الاسم فانا نستدل على معناه بان ننظر من الذى ذكره من القدماء وهذا باب فيه طول ولكن الضرورة تدعو الى استعمتاله بسبب السوفسطائيين. فان قلت «ومن اى القدماء ينبغى للانسان ان يقتدى؟» قلت لك: من واحد من كثير من القدماء الذين لم يعانوا صناعة الطب ولا الفلسفة ولا غيرهما مما يجرى مجراهما وانما يحفظون من معانى الاسماء المعانى الساذجة المطلقة فقط التى كان يعرفها جميع الناس فى ذلك الوقت. وان شئت جعلت اول من اذكره انه منهم ارسطوفانس الشاعر من اصحاب القوموذيا فان هذا رجل ما كان ليتعاطى ان تجرى الاسماء التى يستعملها فى كلامه وهو يقف فى ملعب يجتمع فيه من الناس ذلك المقدار الكثير على غير المجرى الذى يعلم ان جميعهم سيفهمه. فأقول ان ارسطوفانس هذا لما وقف فى بعض الاوقات على رأس الملأ وهو الذى يريد ان يعانى شعره سأل جماعة من اهل اثينية ان يتجاوزوا له عن تقصير ان ظنوه فى قوله ولم يستحسنوه بسببه، فانه زعم انه منذ اربعة اشهر متعذب ببحوحة دائمة وعلة يقال لها ايبيالوس وحمى. ثم قال بعد ذلك فى العلة التى يقال لها ايبيالوس انها كانت ببرودة يجدها وانه كانت تأخذه بعقبها حمى وان الحمى ليست بمشبهة البرودة فى شىء بل هى فى طبيعتها على غاية المضادة لها. وذلك زعم لان البرودة كان يحتاج منها الى التدثر بالوبر من حيث شاء ان يحمى له والحمى كانت تأخذه بحرارة ونار تشتعل فتدعوه الى شرب الماء. وانا ناسخ لك قوله لتسمعه منه فيكون الامر فيما حكيت لك عنه ابين عندك.
مخ ۱۷