فأقول انك فى المثل تعنى بقولك دم الخلط الاحمر الذى فى البدن وان انسانا آخر من سائر الناس يعنى بقوله دم الخلط الابيض من اخلاط البدن، اقول انه متى جرى الامر على هذا فلا بد ضرورة من ان تبقى المنازعة بينكما واقعة الى ما لا انقضاء له ولا غاية ما دمتما تتحكمان فى معنيين مختلفيين. واذ كان الامر على هذا فالواجب اذا ان يقدم اولا الشرح عن الذى يريده كل واحد من الخصمين بقوله دم ما هو ثم يصيران الى البحث عن فعله من بعد ذلك. فأما ان يترك الانسان موافقة المناظر له على الشىء الذى فيه المناظرة والاجتماع معه عليه فأخذه فى تحديد لقب ذلك الشىء واسمه الذى يعرف به من الوجوه التى شأنه الضحك فيها. وانا اقول ان هذا انما يصير الى البحث عن الامور انفسها مصير انسان يتراجع الى خلفه تراجعا يحيد به عن الاستقامة وانه انما يحتاج فى ذلك الى رجل من اصحاب القوموذيا يصلح لمثل هذا ان يهزأ بمثل هؤلاء السوفسطائيين لا الى رجل من اهل الوقار والفهم. واما انا فاكتفى فى الرد على هؤلاء بان يكون ما يتناقضون به يبلغ بهم الى حد التراجع الحائد عن الاستقامة المأخوذ من القوموذيا، وذلك لانى لست ارى ان فيما اقوله لهم منفعة بتة اذ كانوا اقواما حالهم هذه الحال فى الخروج عن الامور التى قد اجتمع الناس عليها كافة. فانا بهذا السبب ادع مناظرتهم وارجع الى ما كنت فيه فعساه ان ينتفع بذلك احد منهم اذا فهم ولو هذه الواحدة: اعنى ان المعانى التى يقصد اليها بالاسماء قد اختلف الناس فيها بعضهم جعل الاستدلال عليها من دلالة الالفاظ انفسها وبعضهم جعله من استعمال القدماء الاسماء او من استعمال اهل دهره وانه ليس يمكن يخطر بالبال ولا يقع فى الوهم فضلا عما سوى ذلك شرح آخر بعبر به عن معانى الاسماء، كما فعل اولئك الذين يزعمون ان اسم الدم ليس ينبغى ان يصرف الى الخلط الاحمر الخلو من الاخلاط التى فى البدن بل انما ينبغى ان يصرف الى الخلط الذى يغذو بدن الحيوان فقط.
فيجب بحسب رأيهم ان يكون للسرطان البحرى والحيوان المعروف بكثير الارجل دم وكذلك لجميع ذوات الجبن حتى النمل ايضا والدود وبالجملة لا يكون فى العالم حيوان لا دم له. ولكنا نجد ارسطوطاليس قد قال فى كتابه الذى اقتص فيه امر الحيوان مرارا كثيرة لا نهاية لها ان من الحيوان ما له دم ومنه ما لا دم له. فليس يخلو هؤلاء القوم من واحد من اثنين اما ان يكونوا لم يفهموا هذا عندما سمعوه منه واما ان يكونوا فهموه واستخفوا به من طريق انه عندهم كاذب مع انه ينبغى لنا نعلم اذا نحن سمينا الخلط الغاذى للبدن دما من اين نقول ان هذا الاسم اخذ امن دلالة اللفظ نفسه كما فعل فروديقوس فى صرفه اسم البلغم باليونانية على المرة ام من العادة الجارية بين الناس فى هذا الوقت ام من عادة القدماء.
وقد كان تبين انه ليس ههنا وجه آخر تؤخذ منه الاسماء، فلم يبق اذا الا ان تنقل الاسماء عن مواضعها الى اى شىء شئنا، وان ساغ لنا هذا فلنسم الشجر الذى يثمر العنب دلبا ونسم الشجر الذى ثمرته التين زيتونا ونسم الحيوانات ذات القرون شقائق النعمان ونسم ما يتخذ للانتقام من الاعداء حلى ونسم الطست الذى يغسل فيها الرجل خمرا. يا هذا اليس جميع ما هذا سبيله من نقل الاسماء عن معانيها يؤدى الى الدمار ويفسد على الناس متقلبهم فيما يتصرفون فيه ويورث فساد الكلام ويفنى عمر الانسان فى الخسارة متى تشاغل بالتفوه بمثل هذا او باستماعه ممن يتفوه به كما قد عرض لنا نحن فى هذا الوقت من هؤلاء السوفسطائيين الارجاس عندما يضطروننا الى ان نسمع منهم هذا القول؟ وهم قوم لم يعانوا شيئا من محاسن صناعة الطب بل انما شأنهم التقنع فقط. وليس منهم واحد يعلم كيف يتعرف الامراض ولا كيف يتقدم فيعلم ما سيكون منها ولا كيف يداوونها مداواة صواب ولا علما يقينا ولا علما يقارب اليقين، وانما يقتصرون على ان يعلموا ان للنمل دما. واذ قد اقتصرنا على هذا وهو ان شجرة التين والدلب والزيتون والسرو وجميع انواع الشجر ومع الشجر ايضا ما دونه من النبات الذى يلحق بالشجر ومن الخضر الذى دون هذا وفى جملة القول ان جميع انواع النبات كله له دم وكذلك ايضا الحجارة التى فى فروفونتيس اذ كان الدم انما هو جسم جعل مهيئا لغذاء الاجسام التى يجرى امرها على التدبير الجارى فى الطبع وكان كل واحد من هذه الانواع التى ذكرناها قد جعل له فى طبيعته خلط معد يغتذى به فالشجر فى جميع المواضع على هذا واما فى فروفونتيس فالحجارة ايضا كذلك لان الحجارة فى هذا الموضع تنمو نماء ليس بدون نماء النبات ومتى كان الشىء ينمو فهو لا محالة يغتذى فما ارى ان هؤلاء السوفسطائيين العجيب امرهم مجمعون عليه مقرون به.
مخ ۱۶