وهذا قول اول ما سمعته وانا فى ذلك الوقت حدث السن قد جرى فى مناظرة كانت بين ساطورس وبين فالبس فعجبت منه وبقيت علم الله مهموما. وذلك ان ساطورس كان يقول ان اكثر الناس لا يعلمون ما هو الدم فلما سأله فالبس «فهل تقول ان الناس لا يعلمون ايضا انه يجرى من الحيوان المذبوح دم ولا من الحيوان الذى ينحر فى الاضاحى وغير ذلك من الامور الاخر الشبيهة بهذه؟» جعل يخاصم ويدفع ذلك بنجدة وصرامة ويقول انهم لا يعلمون ذلك. واكثر تعجبى من هؤلاء الذين حالهم هذه الحال انهم قوم معهم غاية المحبة لاستماع كل ما يقال ولم يسمعوا مع هذا ان اصحاب الطبائع من الفلاسفة لما بحثوا عن طبيعة كل واحد من الاشياء الموجودة نسبه بعضهم الى عناصر غير منقسمة وقال ان الاشياء مركبة من هذه العناصر، وبعضهم نسب ذلك الى عناصر لا اجزاء لها، وبعضهم الى عناصر غير متواصلة، وبعضهم الى عناصر متشابهة الاجزاء، وبعضهم الى النار والهواء والماء والهواء والارض، وان كل واحد من هولاء الذى ظن به الناس انه قد استخرج من العلم بأمر الطبيعة اكثر مما يعرفه العوام اقر جميعهم بان العلم بذلك التركيب انما هو على غاية الحقيقة عند الله تبارك وتعالى. وذلك لانه ليس العلم بان اجزاء الماء واجزاء النار اغلب فى تركيب الدم فى المثل وان اجزاء الارض اغلب فى تركيب العظم بحقيقة الامر ان لم يستقر عند العالم به كم جزء فيه من النار وكم جزء فيه من الماء وكم من الارض وكم من الهواء. مثال ذلك ان يحصل على التحقيق بان فى الدم من النار اربعة اجزاء ومن الارض ثلاثة ومن الهواء اربعة ومن الماء ستة وان طبيعته مركبة من هذه الاجزاء بهذه المقادير؛ فان هذا هو العلم الحقيقى بطبيعة الشىء. وكذلك الامر عند هؤلاء ايضا ولكنهم من البعد عن ادراك ذلك وتيقن معرفته على مقدار لا يمكن ان تحيط به الصفة. واذ كان الامر على هذا فقد بان ان آل ساطورس لا يعرفون طبيعة الدم التى هى طبيعته بالحقيقة فضلا عن طبيعة ما سواه اذ كانوا ينكرون ان يكون اكثر الفلاسفة علما واجلهم يقدر ان يقف على معرفة ذلك بالحقيقة ويزعمون ايضا انهم ليس يطلبون معرفة هذه الطبيعة التى يعرفها الفلاسفة ولا علم لهم بها. وذلك ان ساطورس الذى لا يرضى ان يكون الناس يعرفون الدم ليس يبحث عن عناصر هذا العالم ولا عنده معرفتها فيلزمه من ذلك انه ان كان لا يطلق لجميع الناس ان يشيروا الى هذه الطبيعة ولا الى طبيعة الدم باسم تعرف به فهو اول ممنوع من ذلك بما جشم به نفسه.
ولكنه يقول انا اعلم بالحقيقة ان الدم يغذو البدن واما جل الناس فليس منهم واحد يعلم ذلك. ومتى قال هذا القول فقد جعل للانسان سبيلا الى التذمر والغيظ عليه. ولو كان ممن لا يغضب اصلا اذ كان انما هو انسان يثلب اصحابه ويعنفهم بالجهل بأشياء هو غير عالم بها ويظن بان المعرفة بالقحل مثلا هى العلم بالحال فى تغيير القحل لبدن الانسان اذا ورد عليه كيف يكون. وذلك لان المعرفة بالقحل هى معرفة تكون من ادراكه بالحس، والعلم بافعاله غير المعرفة به، وانما يكون ذلك بطول التجارب وتعقد الامارات والدلائل المناسبة. وانا احسب ان الجواهر اقدم عند الناس وان ما من شأنها ان تفعله مؤخر عندهم فى الزمان. فالقيصوم اذا فى المثل ينبغى ان يعرف اولا ثم من بعد ذلك ينبغى ان يبحث عن افعاله، وعلى هذا المثال يجرى الامر فى الافسنتين والخريق والقنطريون والمشكطرا مشيع والسليخة وكل واحد من الاشياء الموجودة. فالدم اذا ينبغى لهم ان ٮعرفوه اولا ثم يعلموا بعد ذلك انه يغذو البدن كما قد قال ذلك قوم من الاطباء، لكن الانسان لا يجد مساغا الى الرد عليهم ولا الى البرهان انه يغذو البدن بتة. وذلك لانه ينبغى ان يقع اولا الاجتماع على الشىء الذى فيه الكلام اى الاشياء الموجودة هو ثم من بعد ذلك ينظر فى قوته وفعله ما هو. فانك ان كنت انت تصرف هذا الاسم الى شىء ما وانا اصرفه الى شىء آخر لم يمكن ان نتفق انا وانت فى وقت من الاوقات.
مخ ۱۵