وأما الدليل من جهة العقل هو: أن يعلم أن القراءة تارة تكون طيبة مستلذة، وتارة فجة تنفر منها الطباع، وتارة رفيعة عالية، وتارة منخفضة خفية، وتارة يلحقها اللحن والخطأ، وتارة تصح وتقوم، وما جازت عليه الأشياء فلا يجوز أن يكون إلا صفة الخلق دون صفة الحق. وكذلك أيضا الكتابة تارة تكون مرتبة جيدة حسنة يمدح كاتبها. وتارة وحشية يذم كاتبها، والإنسان إنما يمدح ويذم على فعله، فصح أن الكتابة صفة الكاتب، والمكتوب بها كلام الله تعالى، وأيضا فإن الكتابة يلحقها المحو ويتصور عليها الغرق، والحرق، والتواء، والتلف، وكلام الله القديم لا يتصور عليه شيء من ذلك. وكذلك الحفظ، والسمع تارة يوجد، وتارة يعدم، وما يجوز عليه الوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود فليس بصفة الله تعالى، وإنما هو صفة المخلوق المربوب، لكن المسموع من القرآن، والمحفوظ منه، والمقروء منه، والمكتوب منه كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا مربوب. فافهم تصب إن شاء الله.
وأيضا فإن من حلف بالطلاق الثلاث أن لا يقوم من مقامه حتى يفعل فعلا يكون عبادة وطاعة لله تعالى؛ فقرأ عشر آيات من القرآن ثم قام ولم يفعل شيئا غير ذلك لم يحنث في يمينه بإجماع المسلمين، فصح أن قراءته فعله وعمله الذي صار به فاعلا، عابدا، طائعا، وأن المقروء بقراءته كلام الله تعالى القديم الذي ليس بفعل لأحد فافهم.
وأيضا: فإن قراءة القارىء تارة تكون طاعة وقربة، وتارة تكون معصية وذنبا. فأما الطاعة فهي إذا قرأها وهو طاهر غير جنب وغير مرائي بها أحدا من الخلق، ويكون معصية إذ قرأها وهو جنب مرائي، وما يكون تارة طاعة وأخرى معصية كيف يكون صفة الحق ؟ تعالى عن ذلك بل هو صفة الخلق، لكن المقروء في الحالتين شيء واحد، وهو كلام الله تعالى القديم لا يتصف بالشيء وضده. فافهم، وفي بعض هذا مقنع لمن لم يكن يكابر الضرورات.
### || مسألة
ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة كما قال: " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون " وهو في مصاحفنا مكتوب على الوجه الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " لكن نحن نعلم وكل عاقل أن كلام الله الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ هو القرآن المكتوب في مصاحفنا شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، وأن اللوح غير أوراق مصاحفنا، وأن الخط الذي فيه غير الخطوط التي في مصاحفنا، وأن القلم الذي كتب في اللوح المحفوظ غير أقلامنا، وكذلك ما اختلف وغاير غيره واختص بمكان دون مكان وزمان دون زمان، فهو مخلوق مربوب، وكل ما هو على صفة واحدة لا يختلف ولا يتغير ولا يجوز عليه شيء من صفات الخلق، فكذلك هو كلام الله تعالى القديم وجميع صفات ذاته قديمة وكذلك القرآن محفوظ بالقلوب على الحقيقة، كما قال تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " لكن نعلم قطعا أن زيدا الحافظ غير عمرو الحافظ، وأن قلب هذا غير قلب هذا، وأن حفظ هذا غير حفظ هذا. لكن المحفوظ لهذا بحفظه هو المحفوظ للآخر بحفظه، وهو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، إذ هو صفة الله تعالى قديم غير مخلوق، وكذلك نقول إنه مقروء بألسنتنا نتلوا بها على الحقيقة لكن نعلم أن زيدا القارىء غير عمرو القارىء، وأن لسان زيد غير لسان عمرو، وأن قراءة زيد غير قراءة عمرو، ولكن المقروء لزيد هو المقروء لعمرو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، بل هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يجوز عليه صفات الخلق وهذا كما قال تعالى: " إنما أنزل الله " يعلمه زيد بعلمه ويعلمه عمرو بعلمه، ويعبده زيد بعبادته، ويعبده عمرو بعبادته، ويدعوه زيد بدعائه، ويدعوه عمرو بدعائه ويذكره زيد بذكره، ويذكره عمرو بذكره، ويسبحه زيد بتسبيحه، ويسبحه عمرو بتسبيحه، فزيد غير عمرو. وذكره غير ذكر عمرو، وعبادته غير عبادة عمرو، ولكن المعبود لهذا هو المعبود لهذا، والمذكور لهذا هو المذكور لهذا، والمسبح لهذا هو المسبح لهذا، والله تعالى القديم الواحد الذي " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
مسألة
ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القارىء.
مخ ۳۳