ويدل عليه أيضا ما روى عن أنس أنه قال: ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، وحسن الصوت وكان نبيكم صلى الله عليه وسلم حسن الوجه وحسن الصوت إلا أنه كان لا يرجع. وأيضا ما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: مالك إذا قرأت لا ترفع صوتك قال: إني أسمع من أناجي. وقال لعمر: مالك إذا قرأت ترفع صوتك جدا قال أوقظ الوسنان وأنفر الشيطان. وقال لعمار: مالك إذا قرأت تأخذ من هذه السورة ومن هذه السورة ؟ فقال: سمعتني أخلط به ما ليس منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكله طيب فموضع الدليل: أن الرسول عليه السلام أضاف قراءة كل واحد وصوته إليه، وذكر أنها قراءة مختلفة، وأضاف إلى كل واحد صفته من القراءة والصوت، ولم يضف إلى كلام الله تعالى شيئا من ذلك فافهم.
وأيضا ما روى عن أم هاني رضي الله عنها قالت: كنت أسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على عريشي. وأيضا ما روى جبير بن مطعم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه المغرب، فسمعته وهو يقرأ، وقد خرج صوته من المسجد: " إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع " فكأنما صدع قلبي، ويقال إن هنا كان سبب إسلامه، لأنه جاء يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فلما سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن صوته قال: فكأنما صدع قلبي، وكأني بالعذاب قد أحاط بي، فصدقت وآمنت من ساعتي. وهذا الحديث أدل دليل على الفرق بين القراءة والمقروء، وأن الصوت صفة الصايت والقارئ دون كلام الباري، لأن الذي صدع قلبه وهداه إنما هو الذي فهمه من كلام الله تعالى الذي أوعد به المستكبرين؛ فعلو الصوت من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة للرسول عليه السلام، والذي صدق به قلبه هو ما فهمه من كلام الله تعالى الذي سمعه بواسطة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلو صوته، لأن الأصوات والحروف لا تهدى ولا تشقى، إذ لا تأثير لها في إحياء القلوب وإقبالها، إنما الذي يحيي القلوب ويهديها كلام الله القديم الأزلي يدل عليه قوله تعالى: " ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا " فالهادي الشافي المقروء لا القراءة، والمفهوم من الصوت لا الصوت.
يدل على ذلك أيضا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا، قالوا يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات ؟ قال: أجل. ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن فبين لك صلى الله عليه وسلم أن كلام الله الذي هو القرآن هو الذي يهدي ويشقى لا قراءة القارىء.
وأيضا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا في الجنة إذ سمعت صوت رجل بالقرآن فقلت من هذا ؟ فقالوا: حارثة بن النعمان. كذلك البر. كذلك البر. وكان حارثة من أبر الناس بأمه، وأضاف صلى الله عليه وسلم الصوت إلى الرجل الصايت دون القرآن. ولو أني استقصي الأخبار والآثار في الفرق بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء لاحتاج إلى مجلدات عدة؛ لكن ذكرت من ذلك ما فيه كفاية بحمد الله لمن له عقل سليم وفهم صحيح، فإذا تقرر هذا صح لك أن القراءة صفة القارىء، والمقروء على الحقيقة كلام الباري، وكذلك الحفظ صفة الحافظ، والمحفوظ كلام الله تعالى، وكذلك الكتابة صفة الكاتب وصنعته، والمكتوب كلام الله تعالى، كما أن الذكر صفة الذاكر، والمذكور هو الله تعالى. وكذلك العبادة من الصلاة، والصوم، والحج صفة للعابد وهي في أنفسها مختلفة الصفات متغايرة، والمعبود بها واحد أحد ليس بمختلف ولا متغاير وهو الله تعالى. وفي هذا كفاية لمن سلم له التصور والفهم.
مخ ۳۲