وعبادة العين: النظر في المصحف، والتفكر في الآيات من كلام الله تعالى، فالناظر إنما يثاب على نظره الذي هو صفة لا على المنظور فيهن الذي هو صفة الله تعالى. ولهذا المعنى: أن من كان أكثر قراءة ونظرا وتفكرا كان أكثر ثوابا ممن نظر أقل من نظره، وقرأ أقل من قراءته؛ فالزيادة والنقصان إنما يكونان في أفعال العباد التي تتصف بالشيء وضده فأما القديم الذي هو كلام الله فلا يتصف بالشيء وضده. فاعلم ذلك وتأمله تهد إن شاء الله.
ويدل على الفرق بين القراءة والمقروء، ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من طرق عدة: أنه قال: خذوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وزيد بن ثابت. ومعاذ بن جبل ثم خص عبد الله بن مسعود فقال: من سره أن يقرأ القرآن غضا رطبا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد يعني ابن مسعود. فالدليل من وجهين: أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم خص هؤلاء الأربعة بجودة القراءة دون غيرهم من الصحابة، وإن كان المقروء بقراءة هؤلاء هو المقروء بقراءة غيرهم، ففاضل صلى الله عليه وسلم بين القراءة وقدم بعضها على بعض، وكلام الله القديم لا يجوز عليه الجودة والرداءة بل كله شيء واحد جيد لا يختلف، وإن اختلفت القراءة له.
الثاني من الدليلين: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أضاف القراءة إلى ابن مسعود دون القرآن الذي هو كلام الله تعالى فقال: من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن مسعود. فقراءة ابن مسعود صفة له، والمقروء كلام الله صفة له لا لابن مسعود. وأيضا فإنه وصف قراءة ابن مسعود بأنها غضة رطبة وهذه صفة لا تقع إلا على صفة المحدثين؛ لأن قراءة بعضهم تكون غضة رطبة، مستحسنة تميل إليها القلوب، وقراءة بعضهم فجة غليظة تنفر عنها الطبائع، والمقروء بهذه هو المقروء بهذه، وكذلك بعض القراءات مصححة معربة، وبعضها ملحونة معوجة مفسدة، والمقروء بهذه هو المقروء بهذه، لأن القديم لا يتصف بالصحة تارة وبالفساد تارة أخرى، إنما يتصف بالفساد تارة وبالصحة تارة أخرى صفة المخلوقين، وهي قراءتهم دون المقروء والمتلو الذي هو كلام الله القديم.
فصل
وأما الدليل على أن الحروف والأصوات من صفات قراءة القارئ، لا أنها من كلام الباري سبحانه وتعالى من الأخبار فكثير جدا، لكن إن شاء الله أذكر من ذلك ما يقع به الكفاية لكل عاقل محصل.
فمن ذلك: ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل فقرأ يخفض طورا ويرفع طورا. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا، فموضع الدليل من هذين الخبرين أنهما أضافا القراءة إليه صلى الله عليه وسلم، وأضافا الخفض والرفع بتفسير الحروف حرفا حرفا إلى قراءة القارئ لا إلى كلام البار، وكل حديث أذكره لك بعد هذين الحديثين فتأمله؛ فإني أذكرها سردا إن شاء الله، فتجد في كل حديث ما يدلك على صحة ما أقول، وهو: إضافة الصوت، والحرف إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري القديم الأزلي.
فيدل على صحة ذلك ما روى عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته آية آية، ولو شاء العاد أن يعدها أحصاها. وهذا يدلك على أن القراءة تنعد وتنحصر، والمقروء القديم لا ينعد ولا ينحصر فافهم ذلك.
ويدل على ذلك أيضا ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن ؟ قالت: ربما رفع وربما خفض.
ويدل عليه أيضا ما روى عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه.
مخ ۳۱