ويدل عليه أيضا قول ابن مسعود رضي الله عنه: عجبت للناس وتركهم لقراءتي وأخذهم قراءة زيد بن ثابت، وقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت غلام صاحب ذؤابة. فأضاف ابن مسعود قراءته إلى نفسه، وأضاف قراءة زيد إلى نفسه، وأخبر أن قراءته أكمل من قراءة زيد؛ لأخذه لها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغاير بين القراءتين، ومعلوم عند كل عاقل أن المقروء والمتلو الذي يقرأه عبد الله هو المقرأة المتلو الذي يقرأه زيد، وإن كانت قراءة أحدهما غير قراءة الآخر.
ويدل عليه ما روى عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل يحدث: أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال: إني قرأت المفصل كله في ركعة، فقال عبد الله: هذا كهذا الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن. وعنه أيضا أنه قال له رجل: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله: هذا كهذا الشعر، إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع. ومعلوم أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يشبه كلامه الله تعالى بهذا الشعر، وإنما شبه قراءة القارىء دون كلام الباري. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد. وأيضا ما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن متثبتا أو بإعراب كان له بكل حرف فضل أربعين حسنة. فكل عاقل يعلم ويتحقق أن القراءة المعربة غير القراءة الملحونة؛ لأن من صحح قراءة الفاتحة صحت صلاته، ومن ترك ذل مع قدرته عليه بطلت صلاته. فأما كلام الله تعالى القديم فلا يتصف بالصحة وضدها بل هو صحيح على كل حال، وإن وقع الفساد في القراءة.
وأيضا ما روى قتادة قال: قلت لأنس بن مالك كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: يمد صوته مدا. وأيضا ما روى عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو على ناقته أو جمله وهو يسير وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة. فمعلوم عند كل عاقل عارف أن الترجيع والمد، إنما تقع في القراءة التي هي صفة القارىء دون كلام الله القديم الأزلي، ومن اعتقد أن الترجيع، والمد، واللين الذي هو صفة القارىء ومد صوته ولينه راجع إلى الكلام القديم الأزلي فقد جهل الله تعالى وصفات ذاته، وصرح بحدوث القرآن وخلقه. وأيضا ما روى النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن وعن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النظر في كتاب الله عبادة وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطوا أعينكم حظها من العبادة. قالوا يا رسول الله: وما حظها من العبادة ؟ قال: قراءة القرآن نظرا، والاعتبار والتفكر فيه وقال ابن مسعود: النظر في المصحف عبادة فقد اتضح بهذه الأخبار الفرق بين القراءة والمقروء، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل قراءتنا عبادة منا، والعبادة منا صفتنا التي نثاب عليها ونؤجر، وذلك أن الله تعالى وصف عبادته على الأعضاء، وكل عضو من ابن آدم مخصوص بنوع من العبادة، فالقلب مخصوص بالعلم بالله تعالى وبمعرفته وبحفظ كلامه، والإيمان به وبكلامه، ثم المعرفة غير المعروف، والعلم غير المعلوم، والإيمان غير المؤمن به، والحفظ غير المحفوظ، لأن العلم صفة العبد، والمعلوم الرب تعالى، وكذلك الإيمان صفة للعبد، والمؤمن به هو الله تعالى. وكذلك الحفظ صفة العبد لم يكن يحفظ ثم صار حافظا، والمحفوظ كلام الله القديم الذي لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان بل قديم موجود بوجود الحق سبحانه وتعالى، موجود قبل الحفظ وبعده، واللسان مخصوص من العبادة بالذكر لله تعالى والتسبيح له والدعاء له، وقراءة كلامه، ثم الذكر صفة الذاكر، والمذكور هو الله تعالى، والتسبيح صفة المسبح، والمسبح هو الله تعالى، والدعاء صفة الداعي والمدعو هو الله تعالى. كذلك القراءة صفة القارىء التي هي له عبادة وطاعة، والمقروء كلام الله القديم الموجود قبل القارىء وقبل قراءته. فافهم إن كان لك فهم.
مخ ۳۰