وروى عنه صلى الله عليه وسلم: من قرأ حرفا من كتاب الله فأضاف القرآن إلى الله تعالى لأنه صفة من صفات ذاته، وأضاف التلاوة إلى التالي لأنها صفته يؤجر عليها كما يؤجر على جميع أفعال طاعاته. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: استقرئوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وهذا يدلك على الفرق بين القراءة والمقروء، والتلاوة والمتلو، لأنه صلى الله عليه وسلم حضهم على أخذ القراءة للقرآن عن هؤلاء الأربعة لأنهم قد باينوا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم في جودة القراءة وصحتها والعلم بها، وهذا المعنى صحيح لأن الغلط، واللحن، والتحريف، والتصحيف إنما يقع في القراءة والتلاوة التي هي صفة القارىء؛ فأما القرآن المقروء فهو كلام الله تعالى الذي قد أخبر أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأن القراءة تتعوج فيقومها القارىء الماهر، لأنها يجوز عليها التعويج والتغيير؛ فأما كلام الله القديم فليس يوصف بالتعويج. دليله: قوله تعالى: " ولم يجعل له عوجا قيما " وأيضا ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، وأبو بكر؛ وعبد الله ابن مسعود يقرأ؛ فاستمع لقراءته، فلما ركع أو سجد قال صلى الله عليه وسلم: سل تعطه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد. فأضاف القراءة إلى عبد الله، لأنها صفته وعبادته عليها يثاب ويؤجر؛ والمقروء بها كلام الله القديم الأزلي، وقد روى: من سره أن يقرأ القرآن رطبا وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، وعمر وإني أقرأ سورة النساء، فكنت أسجلها سجلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل تعطه، ومعلوم عند كل عاقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم المتلو المقروء، لأنه لا يوصف بالشيء وضده، فاعلم ذلك وتحققه؛ ولأن صفة القراءة تارة تكون غضة رطبة من قارىء دون قارىء إنما ذلك راجع إلى صفات المحدثين الذين يتفاضلون في قراءتهم وأصواتهم فتكون قراءة بعضهم غضة رطبة، وقراءة بعضهم فجة سمجة، ويكون صوت أحدهم حادا حسنا، وصوت آخر فجا جهورا عاليا، فأما القرآن المقروء المتلو فلا يختلف في ذاته بأي قراءة قرىء، وبأي تلاوة تلى، وبأي صوت سمع. بل الأدوات، والأصوات واللغات تختلف في الجودة والرداءة والخفاء والجهارة.
فصل
وقد روى من الأخبار والآثار عن سيد الأولين والآخرين وصحابته رضي الله عنهم في الفرق بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء ما لا يحصى عددا ونحن نذكر شيئا من ذلك يقوي جميع ما تقدم.
فمن ذلك ما روى عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعجمي، والأعرابي. قال: فاستمع وقال. اقرؤه فكل حسن، سيأتي قوم يقومونه كما يقومون القدح، يتعجلونه ولا يتأملونه.
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقترىء يقرئ بعضنا بعضا فقال: الحمد لله كتاب الله واحد فيه الأحمر والأسود اقرؤا اقرؤا قبل أن يجيء قوم يقومونه كما يقومون القدح، ولا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأملونه، ففصل صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء، لأنه صلى الله عليه وسلم عنى بالأحمر العربي الفصيح، وبالأسود الأعجمي، فالعجمي يقع في قراءته اللكنة والتمتمة ويسلم من ذلك العربي الفصيح فاستمع صلى الله عليه وسلم قراءتهم المختلفة وحثهم ورغبهم في القراءة وأخبر أن كتاب الله واحد ليس بمختلف ولا متغاير، ثم أعلمهم بمجيء قوم من بعدهم ممن يقوم القراءة تقويم القدح، فعلم كل عاقل أن كلام الله القديم الأزلي ليس مما يعوج فيقوم، وإنما العوج يقع في قراءة القارىء فيقوم.
مخ ۲۹