ولذلك نرى شيخ الإسلام يقف موقف المتريث، ويشكك في المصالح المرسلة، ويتردد في القول والأخذ بها إلا بعد التثبت وعن بينة، وهو لهذا يقول بعد الفقرة الأخير التي نقلناها عنه: «وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإنه من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه ...
وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا، بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.
وحجة «الفريق» الأول، أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة «الفريق» الثاني، أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا.»
يتبين من هذا أن الشيخ رحمه الله وأرضاه لم يتردد في الواقع في قبول «المصالح المرسلة»، وفي اعتبارها من أصول الشريعة واستخراج أحكام ما يجد من الحوادث والوقائع، شأنه في هذا شأن إمامه وجميع الحنابلة الذين أخذوا بها.
ولكنه كان يدعو إلى الوقوف حتى يظهر بجلاء أن ذلك من المصالح المرسلة حقيقة أو ليس كذلك، وبخاصة أنه يرى بحق أن أحكام الشرع كلها تقوم على تحقيق المصالح ودفع المفاسد؛ ولذلك نراه أخيرا يقول: «والقول الجامع: إن الشريعة لا تهمل مصلحة، بل الله تعالى قد أكمل الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي
صلى الله عليه وسلم ، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
لكن ما اعتقده العقل مصلحة إن كان الشرع لم يرد به، فأحد أمرين لازم له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، وإما أنه ليس بمصلحة واعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة، أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر:
قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس .» •••
والآن، وقد وفقنا الله للكلام على أصول فقه شيخ الإسلام نأخذ في الكلام على فقهه نفسه، وسنرى إن شاء الله أثر هذه الأصول في آرائه الفقهية التي تزخر بها فتاويه ورسائله، وكم هو فقه خصب فيه توسعة على الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم.
ولا عجب في ذلك، فإن مرجعه الأول والأخير في هذه الآراء هو كتاب الله وسنة رسوله
ناپیژندل شوی مخ