Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence
ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
بل ظهرت المحنة والأذى، وكان الابتلاء بالبلاء لا بالعطاء، وبالمحنة لا بالنعمة، ويظهر أنه كان بذلك النوع من الاختبار طيب النفس راضياً مطمئناً مستسلماً لقضاء الله سبحانه وتعالى، مستعيناً به، راجياً رحمته دون سواه.
٧٦ - ولما ذهبت دولة المحنة والبلاء، وجاءت دولة الاطمئنان والقرار، إذ جاء عصر المتوكل اختبر أحمد اختباراً آخر قاسياً على النفس، وله عقباه في الجسم، ذلك أن المتوكل عرض عليه المال الكثير، والدر الوفير، وألحف في العرض، وشددت حاشيته على أحمد فيه، فأصر أحمد على الامتناع إصراراً شديداً، ولم يقبل أن يأخذه ويتصدق به، وكان الخليفة يطلب إليه ذلك، ولكن أحمد لم يرد أن يدخل ذلك المال في ملكه ساعة من الزمان، إلا مضطراً، فهو في نظره المال الذي لا يقار به أهل النزاهة لأن غيره أولى، إذ هذا المال لسد الثغور وإعداد العتاد والقوة، ومد الجند، وإغاثة المحتاج، والبائس والمعتر، وما كان أحمد يعد نفسه بفضل ما من الله به عليه من الغلة القليلة من أهل الفقر والحاجة.
رد أحمد مال المتوكل، ولم يقبله، وإن أكره على قبوله وزعه بين المحتاجين إليه من ذوي الفاقة والتجمل، وقد كان ذلك الإكراه يحدث أحياناً في أول عصر المتوكل، إذ ألسنة أهل السوء لا تني عن تحريضه عليه، وإغراء العداوة بينهما، حتى لقد فتشت داره بسعاية كاذبة، أساسها أنه آوى علوياً خارجاً على الخلافة في بيته، فكان في مثل هذا الجو الذي تسود فيه الريبة يأخذ المال مكرهاً، ويوزعه على أهل الحاجة المتجملين المستترين.
يروى أن وزير المتوكل كتب له: ((إن أمير المؤمنين قد وجه إليك جائزة، ويأمرك بالخروج إليه، فالله الله أن تستعفي، أو ترد المال، فيتسع القول لمن يبغضك))(١) فأحمد يضطر ليبدد ظلمات السعاية إلى القبول، ولكنه لا يمسه، ويأمر ولده صالحاً بأخذه ثم يوزعه في اليوم التالي على أبناء المهاجرين والأنصار، وغيرهم من أهل التجمل والحاجة، وكأنه يرى أنهم أولى بمال المسلمين منه، وقد حرموا عطاءهم.
(١) المناقب لابن الجوزي
77