Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence
ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
غير مشقة، فعرض على أحمد فرفض، فكرر العرض، فقال أحمد الشافعي وهو شيخه، وله منه التجلة والاحترام:(( يا أبا عبد الله إن سمعت منك هذا ثانية لم ترق عندك(١)
رفض أحمد من شيخه ذلك العرض الكريم؛ لأنه يريد إلا أن يكون للعلم وحده، وألا ينال من المال إلا ما كان خالياً من كل شبهة، ولأنه يرى أن المشقة في سبيل العلم يجب احتمالها، ولعله أيضاً كان لا يجيز لنفسه أن يتولى القضاء كأبي حنيفة.
٧٤ - وإذا كان أحمد لم ينل من المال إلا ما كان خالياً من الشبهات، فهو قد تعفف كذلك عن عطاء الخلفاء، وتشدد في ذلك، وهو في أعظم العسرة.
والحق أن الأئمة كانوا في ذلك منقسمين إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يتعفف عن مال السلطان والخلافة، ويرفض أن يأخذ، ويشدد في الرفض، ومن هؤلاء أبو حنيفة والثوري، فأبو حنيفة كان يعلم أن في الامتناع عن الأخذ تعريض نفسه للتلف، لأن المنصور كان يختبر بقبوله العطاء مقدار ولائه، ومع ذلك يمتنع، ويرجوه بعض رجال المنصور أن يأخذ المال ويتصدق، ولكنه يأبى أن يدخله في ملكه ساعة من زمان، مهما تكن العواقب.
والقسم الثاني يقبل عطاء الخلفاء، ويستعين به في سد حاجات المعوزين وإعانة من يحتاج إلى معونة من أهل العلم، وفي أن يعيش عيشة تليق بكرامة العلم وأهل الدين من غير إسراف أو تبذير.
وعلى رأس هذا القسم الحسن البصري، ومالك رضي الله عنه، فمالك كان لا يتحوب في الأخذ من الخلفاء؛ لأنه مال المسلمين، ومن أحق به من أهل العلم الذين وقفوا أنفسهم على تعليم الناس أمور دينهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهم في ذلك كالجند قد وقفوا أنفسهم لحماية الثغور من الأعداء لكيلا يثلموا فيها ثلمة ينفذون منها إلى الأمة، فإنه إذا كان الجند كذلك، فالعلماء لمنع الضلال ولئلا يثلم الدين الثلم الذي يصل إلى قلوب الأمة، فتزل قدم بعد ثبوتها، وتذوق السوء. وهذا بلا شك
(١) المناقب لابن الجوزي ص ٢٧١ وقد نص على أن الشافعي كان مكيناً عند الأمين
75