وهذا البيت: أنشده أبو عثمان المازني شاهدًا على جواز تقديم التمييز على العامل فيه، إذا كان العامل فعلًا متصرفًا، فأجاز قياسًا على هذا: عرقًا تصببت، وشحمًا تفقات ولا حجة فيه عند أصحابه؛ لوجهين: أحدهما: أن هذا لم يسمع إلا في الشعر، وما انفرد به الشعر ليس بأصل يقاس عليه، إنما يوجه إلى الضرورة، ويجب أن يقال له: إذا كنت تجعل هذا البيت حجة، فاجعل قول الآخر حجة على جواز تعريف التمييز، وهو:
رأيتك لما أنْ رأيت جِلاَدَنَا ... رَضِيتَ، وطبتَ النَّفءسَ يا بَكْرُ عنْ عَمْرِو
وكما أنا لا نرى هذا البيت حجةً، في جواز تعريف التمييز، إنما هو عندنا - وعندك - جرى مجرى الضرورة، وكذلك هذا البيت الاخر، وغلا فمن أين فرقت بينهما، وكل واحد منهما مما انفرد به الشعر؟! والوجه الثاني: أن أبا إسحاق الزجاجي - رحمه الله تعالى - قال: الرواية:
وما كان نفسي بالفراق تَطِيبُ
وأنشد أبو القاسم في باب التصغير:
قُدَ يْدِيمِةَ التَّجْيبَ والحْلْم إِنَّنيِ ... أرَى غَفَلاَتِ الْعَيْشِ قَبْل التَّجارب
هذا البيت: للقطامي، وقبله:
كأن قَضَيضًا مِنْ غريض غمامة ... عَلَى ظَمَأ جَاءَتْ بِهِ أمُّ غالِبِ
لمستهلك قد كاد من شدة الهوى ... يموت من طول العدَاة الكوارب
صَرِيعُ غَوَانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنهُ ... لَدْنْ شَبَّ حتَّى شَاب سُودُ الَّذوَائِبِ
القضيض ما انقض من المطر، أي تفرق وسقط، والغريض: الماء الطري، والظمأ: العطش الذي يعرض نفسه للهلاك.
والغواني: جمع غانية، وهي التي غنيت بزوجها عن غيره، وقيل: هي التي غنيت بجمالها عن الزينة، وقيل: هي التي غنيت في بيت أبويها؛ ولم تتزوج.
وراقهن: أعجبهن بجماله وشبابه، ورقنه: أعجبنه.
ولدن أي من عند وقت شبابه، إلى وقت شيبه، قبل أن يجرب الأمور، ويكون له حلم ينهاه عن القبيح والفجور، فإن غفلات العيش ولذاذته، إنما هي قبل التجارب، والفكرة في العواقب!! وقد يديمه: تصغير قدام: والعامل فيه: راقهن ورقنة.
ويروى: إنني - بكسر الهمزة - على الاستئناف، وأنني بفتح الهمزة، وهو مفعول من أجله، وقد تكون إن مكسورة الهمزة، وفيها معنى المفعول من أجله، كقوله ﷿: " ويصلى سعيرًا، إنه كان في أهله مسرورًا "، وأجاز ذلك، لأن إن داخلة على الجمل، والجمل قد يكون فيها معنى العلة، والسبب موجود، كما قال تعالى: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وانا ربكم فاتقون " فإن المعنى. ولن هذه أمتك، ولكوني ربكم فاتقون! وأنشد أبو القاسم في باب تصغير الأسماء المبهمة:
أَلاَ قُلْ لِتيَّا قَبْلِ مِرَّتْها اسْلَمي ... تحيَّة مُشْتاقٍ إلَيْها مُتَيَّمِ
هذا البيت: لأعشي بكر بن وائل، يهاجى به بسطام بن عبد الله.
وقوله: ألا قل لتيا، أراد: قل لهذه المحبوبة قبل مرورها ونهوضها: اسلمي؛ أي سلمك الله في سفرك!.
والمرة: هي هيئة المرور، كما أن الجلسة هيئة الجلوس، ويجوز أن يريد: لمرتها استحكام نيتها في النهوض، فيكون من قولهم استمرت مرته على كذا، أي قوي، والمرة: القوة، قال البعيث.
شددتُ له أزْري بمرَّة حازم ... عَلَى مَوقْع مِنْ أمْرِه مَا يُعَادِلُه
وتحية: مصدر مؤكد حمله على معنى الفعل لا على لفظه لأنه إذا قال: اسلمي، فقد حياها، وهو مصدر مؤكد، لأنه لو قال: اسلمي، واقتصر عليه، لعلم أنه قد حياها تحية مشتاق، وهو بمنزلة قول زهير:
تعلَّمنْ ها لعمر اللهِ ذَا قَسَمًا ... فَاقْدِرْ بذَرْعِكَ وانظر أين تَنْسَلِكُ
والمتيم: الذي استعبده الحب وتملكه.
وزعم بعض النحويين أن تيا اسم علم: واحتج بقول الأعشي:
أَلاَ قُلْ لِتياَّك مَابَالُهَا ... ألِلْبَيْن تَحْدجُ أَحمْالَها
وتوهم أنه مثل قول النابغة:
أَهاجَكَ مِنْ سُعْداكَ مَغْنَى الْمعَاهِد ... بِرَوْضَةِ نُعْمِيٍّ فَذَاتِ الأَسَاوِدِ
قال: ولو كان اسم إشارة، لم يجز أن يضيفه؛ لأن أسماء الإشارة لا تضاف. وهذا الذي قاله خطأ، لأن الكاف في قوله: تياك ليست اسمًا مضافًا إليه، إنما هي حرف للخطاب، لا موضع لها من الإعراب، كما يقال ذاك زيد: قال ذو الرمة:
1 / 62