فقال الفرزدق: ومن هؤلاء؟ فقال:
إلى النَّفَرِ الْبِيض الَّذينَ بحبِّهم ... إلى الله فيما نَابَنضا نَتَقَرَّبُ
فقال الفرزدق: أرحني، من هؤلاء؟! فقال: بني هاشم:
رهْطِ النبيّ فإنَّنِي ... بِهم، ولَهم أرْضي مِرَارًا وأغْضَبُ
خفضْتُ لَهمْ منِّي جناحَ مودّتَي ... إلى كَنَفٍ عَطْفاه أهْلٌ ومَرَحَبُ
يأيّ كتاب، أم بأيَّة سنةٍ ... ترى حبهم عاراَ عليَّ وتحسبُ
وماليّ الاّ آلَ أحمدَشِيعةٌ ... وَمَالِيَ الاّمشْعَبَ الحقِّ مِشعبُ
ومَنْ غَيْرُهُم أرْضَى لنفسي شيعةً ... ومن غَيْرهُمْ مِمَّن أجلّ وأرْهب
يُعَيُّيرني جُهَّالُ قوْمٍ بحُبِّهم ... وبَعْضهم أدْنى لِعَارٍ وأَعْطَبُ
يشيرون بالأيدي إليّ وقولهم ... أَلاَ خابَ هذا، والمشيرون أَخْيَب!
فطائفة قد كَفَّروني بحبِّهم ... وطائفةٌ قالوا: مُسِئٌ وَمُذْنِبُ!
فما ساءَنِي تكفير هَاتيكَ منهم ... ولاَعيْبُ هَاتِيكَ الَّتي هِيَ أعْيبُ
فلا زلتُ منهم حيثُ يتهمونني ... ولا زلت في أشياعهم أتقلَّبُ
ألم ترني في حب آل محمد ... أَرُوحُ وأغدو خائفًا أترقَّبُ
أناسٌ بِهم عَزَّتْ قُريْش فأصبَحُوا ... وفيهم حِبَاءُ المكرُمَاتُ المطَّنبُ
فقال الفرزدق: يا ابن أخي، أذع أذع هذا، فأنت - والله - أشعر من مضى وأشعر من بقى! وأنشد أبو القاسم في هذا الباب أيضًا:
وَمَالِيَ لإلاَّ اللهُ لا ربَّ غيره ... وَمَالِيَ إلاّ اللهَ غَيْرك ناصرُ
وهذا البيت للكميت أيضًا: والنصف الأول من هذا البيت لا شاهد فيه، على نصب المستثنى المقدم؛ لأن اسم الله مرفوع بالابتداء، لا يجوز فيه النصب؛ لن ليس قبله شيء يستثنى منه ولا يبدل، فهو بمنزلة قولك: ما في الدار إلا زيد، وإنما الشاهد في الثاني؛ لأن التقدير: ومالي ناصر إلا الله غيرك فلما قدم المستثنى نصبهما.
ويجوز في غيرك أن يكون مستثنى، كاسم الله تعالى، فيكون بمنزلة قولك: ما جاءني إلا زيد، إلا عمرا أحد.
ويجوز أن يكون حالا من نكرة تقدمت، كانه قال أو أراد: ومالي إلا الله ناصر غيرك، على الصفة، ثم قدم صفة النكرة عليها، فصارت حالًا كما تقول: فيها قائمًا رجل، ومثله قول الشاعر: الفرزدق
فأصْبَحُوا قَدْ أَعَادَ الله نعمتَهُم ... إِذ هُمْ قُريش، وإذْ مَا مَثلَهم بَشَرُ
ويجوز في هذا البيت وجه ليس بمعتاد عند النحويين، بل أكثرهم ينكره، وذلك أن القائل، إذا قال: ما جاءني أحد إلا زيد، فقد يجوز أن تكون إلا زيد صفة لأحد، بمنزلة غير، وكأنه قال: ما جاءنيمن أحد غير زيد، وإذا قدمت على هذا إلا فقلت: إلا زيدا أحد، كان قولك: إلا زيدا حالًا بمنزلة صفة النكرة، إذا تقدمت عليها، فيكون قول الكميت: إلا الله على هذا التقدير حالًا، فيجوز في قوله: ومالب إلا الله غيرك ناصر على هذا أربعة اوجه: أحدها: أن يكونا مستثنيين مقدمين.
والثاني: أن يكونا حالين، على أن تعتقد أنهما لو تأخرا بعد ناصر لكانا صفتين.
والثالث. أن تجعل إلا الله حالًا، وغيرك مستثنى مقدما.
والرابع: أن تجعل إلا الله مستثنى، وغيرك حالًا.
فإن قيل كيف يصح في قولنا: ما جاءني أحد إلا زيد: أن يكون إلا زيد صفة والحرف لا يوصف، ولا يوصف به؟ قلنا له: شرط الصفة أن تكون اسما، لأنها من خواص الأسماء وأن يكون في ذلك الإسم عموم ومعنى فعل؛ وكل واحد من هاتين الكلمتين على انفراده عارٍ من هذا الشرط، فإذا اجتمعا ادى ذلك معنى الإسمية، وأدت إلا معنى المغايرة، فقامت الصفة بمجموعهما مقام الحال، وإن كان ذلك لا يجوز في حال انفصالهما، وإذ اجتمعا يجوز لهما حكم، لا يجوز في كل واحد منهما على انفراده؛ ألا ترى أنك تقول: دخلت إلى رجل في الدار، فيكون الاسم مع الحرف في موضع الصفة لرجل، وكل واحد منهما على الانفراد لا يجوز أن يكون صفة؟ وأنشد أبو القاسم في باب الاستثناء المنقطع.
وقفتُ فيها أُصَيْلاَنًا أُسَائِلُها ... عَيَّتْ جَوَابًا، وما بالرَّبْع مِنْ أحدِ
1 / 58