ولما كان الإنسان لا يجازى في الشر إلا على الكبائر، دون الصغائر، والصغائر معفو عنها، غير مجازى بها، استعمل معها اللفظ الذي لا يكون إلا للكثير، وإنما يكون هذا في الأفعال التي تستعمل بالتاء تارة، وبغير التاء تارة: وأما الأفعال التي لا تستعمل إلا بالتاء، فخارجة عن هذا الحكم، لأنها لا تصلح لما قل وكثر، كقولك: استويت على الشيء، واجتويت البلد، إذا كرهته، واكتريت الدابة، فهذا الضرب من الأفعال لا يقال فيه: إنه للكثير خاصة لأنه لم يستعمل غير مزيد، وكذلك قول من قال: احتملت فجار، وعليها ما أكتسبت: إن افتعل إنما يستعمل في الشر: خطأ لا وجه له، ألا ترى أنك تقول: استويت على ظهر الفرس، واكتريت الدار، وارتويت من الماء، واعتذبت بالطعام؟ وقال الله تعالى: " الرحمن على العرش استوى "، وقال الراجز:
قدْ اسْتَوَى بِئْر عَلى العِراق ... من غير سيف ودم مهراقِ
فإن زعم هذا: أن الذي ذكر إنما هو فيما يستعمل بزيادة، وبغير زيادة مما يتعدى، انتقض عليه ما قال، بقولهم: كسب المال وأكتسبه، وقدرت عليه واقتدرت عليه، ورميت وارتميت، مع أنا لا نعلم أحدًا من النحويين قال إن فعل للخير، وافتعل للشر، وإنما قالوا: إن الزيادة تدل على المبالغة، لا غير! وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
فقلْتُ امكُثي حتّى يسارٍ لعلَّنَا ... نَحُجُّ مَعًا، قالتْ أَعَامًا وقابلَه؟!
لا أعلم قائل هذا الشعر غير أنه وصف أن رفيقه حبه - أوامرأة من محارمه، سألته أن يحج بها، فقال لها: لست الآن في ميسرة من المال، فامكثي حتى يسارٍ، أي حتى يكون لنا من المال ما نحج به! فقالت: أأمكث عامًا وقابله، وكأنها رأت أن الميسر لا تتهيأ له إلا بعد عامها الذي هي فيه، والعام الذي بعده.
ومعًا ينتصب على الحال، وإن شئت كان ظرفًا.
والهمزة في قوله: أعامًا همزة الإنكار.
وأنشد أبو القاسم في باب الاستثناء:
ولا أَرى فاعِلًا في النّاس يُشبِهُهُ ... وَلاَ أُحَاشِي مِنَ الأْقوام مِن أَحَدِ
هذا البيت: من مشهور شعر النابغة الذبياني.
وقوله: يشبهه: جملة في موضع نصب على الصفة لفاعل.
وقوله: الناس: في موضع نصب على المفعول الثاني لأرى، فلحرف الجر موضع لتعلقه بمحذوف.
ومن - الأولى - متعلقة أحاشي، ومن - الثانية - زائدة للتأكيد، فلا موضع لها، ولا تتعلق بشيء.
وفي هذا البيت شاهد على أن أحاشي: تكون فعلا، لأن النابغة صرفها، واشتق منها فعلًا مضارعًا، والحروف لا تصرف لها، ولا اشتقاق فيها، وقد قالوا: حاشيته من الأمر محاشاة، واشتقاقه من الحاشية، كأن المراد أنك أخرجته منهم وعذلته!.
وقوله: من أحد في موضع نصب مفعول وفاعله مضمر.
وأنشد أبو القاسم في باب الاستثناء - المقدم -:
وَمَا لِيَ إلاَّ آلَ أَحْمَدَ شيعَةٌ ... وَمَا لِيَ إلاّ مَشْعَبُ الحقّ مَشْعَبُ
وهذا البيت: للكميت بن يزيد الأسدي، ويكنى: ابا المسهل وكان أصم أصلخ، لا يسمع الرعد، وكان من الشيعة، وهذا البيت من شعر يمدح به بني هاشم.
وشيعة الإنسان: من يشايعه على أمره، ويغضب له.
ومشعب الحق: طريقته.
ويروى أن الكميت قال هذا الشعر أول انبعاثه، وقيل شهرته، فأتى الفرزدق، فقال: يا أبا فراس، إني نفثت على لساني شعر، فأردت عرضه عليك، فإن كان حسنًا أمرتني بإذاعته في الناس، وإن كان قبيحًا كنت أول من ستر علي!.
فقال له الفرزدق: اما عقلم فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني!.
فقال:
طربت وما شوقًا إلى البيض أَطْربُ ... ولا لَعبًا مِنِّي، أذو الشيب يَلْعَبُ؟
فقال الفرزدق: وما يطربك يا ابن أخي إذن؟ فقال:
ولم يُلْهشني دَارٌ ولا رسْمُ مَنْزِلٍ ... ولم يُلْهِني ثغْرٌ وكفُّ مخَضَّبُ!
فقال الفرزدق: وما ألهاك؟! فقال:
ولا أنا مِمّن يَزْجُر الطَّير: هَمُّه ... أَصاخَ غُرابٌ، أم تَعَرَّضَ ثَعْلَب؟!
ولا السَّانِحَات الْبَارِحَات عَشِيَّةً ... أَمَرَّ سضلِيمُ القَرْن، أمْ مَرَّ أَعْضب؟!
فقال الفرزدق: أجل! - فلا تنظر!! فقال:
ولكنْ إلى أهْلِ الْفَضائِل والنُّهَى ... وخَيءرِ بَنِي حَوَّاءَ، والخْيرُ يُطْلَبُ
1 / 57