وهذا البيت: فيه خطأ من وجهين: أحدهما: أنه نسبه إلى الأخطل، وإنما هو للفرزدق، وكذا وقع في كتاب سيبويه منسوبًا إلى الفرزدق.
والثاني: أنه نشده: عرفت - بضم التاء - وإنما هو بفتحها؛ لأنه رثى بهذا الشعر عبد الله بن معمر، وقبله:
أما قريش وأعلاها فقد رزئت ... بالشام إذ فارقتك السمع والبصرا
كم من جبان إلى الهيجا دنوت به ... يوم اللقاء، ولولا أنت ما صبرا
والمراد بالصدق - ههنا -: الشدة، يقال: رجل صدق، وحمار صدق، ونظر صدق، ومنه اشتق الصدق في المنطق؛ لأن صاحبه قوي النفس.
وأنشد أبو القاسم في باب: المعدول على فعال:
ولَنِعْمَ حَشْوُ الدَّرْع أَنْتَ إذَا ... دُعِيَتْ نَزَالِ وَلُجَّ في الذُّعْرِ
هذا البيت: من مشهور شعر زهير بن أبي سلمى.
وجعل لابس الدرع حشوًا لها؛ لا شتما لها عليه، كما يشتمل الإناء على ما فيه.
ومعنى لج: تمودى فيه، والذعر: الفزع.
وأنت: خبر مبتدأ مضمر، كأنه قال: هو أنت، ويقبح أن يكون مبتدأ، ونعم حشو الدرع خبره؛ لدخول اللام على نعم، وهذه اللام إنما حكمها أن تدخل على المبتدأ، لا على خبره، ولكن كون الخبر جملة يسهل ذلك؛ لأنه لو قيل: زيد لهو قائم لجاز، كما تقول: زيد والله إنه لقائم، وإنما يتعذر ذلك إذا كان الخبر مفردا: كقولك: زيد لقائم - قال الراجز:
أم الحُلَيْس لَعَجُوزٌ شَهْرَبة ... تَرْضَى مِن الشَّاةِ بِعظْمِ الرَّقَبَة
وقد أجاز أبو اسحق الزجاج، في قوله تعالى: " إن هذان لساحران " إن يكون هذان مبتدأ، ولساحران خبره، وقال تقديره: لهما ساحران، فأضمر مبتدأ، وجعل ساحران خبرا ليصير الكلام جملة يصح دخول اللام عليها.
وإذا: ظرف، والعامل فيه معنى الثناء، الذي قد جعل في نعم، وأما في حشو الدرع من معنى الفعل.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
إِنّضا اقْتَسَمْنَا خُطَّتَيْنَا بَيْنَنَا ... فَحَمَلْتُ بَرَّة، واحتملْتَ فَجَارِ
هذا البيت: من مشهور شعر النابغة، يخاطب به زرعه بن عمرو الفزاري، وأراد ب فجار الغدر، سمى الغدر فجار، كما تسمى المرأة: حزام.
فإن قلت: لم جعلته اسما للغدر، وما دليلك على هذي الدعوى؟ قلنا: لنا على ذلك دليلان: أحدهما: أن فعال المعدول، لا يعدل إلا عن مؤنث، ألا تراه قال: دعيت نزال، فألحق، الفعل علامة التأنيث، وليس هذا في بيت زهير وحده، بل هو مطرد في فعال حيثما وقعت، ألا ترى إلى قول زيد الخيل:
وقد علمتْ سَلاَمَةُ أنَّ سَيْقى ... كَريهٌ كلَّما دُعِيتْ نَزَالِ
وقال آخر:
لحقَتْ حَلاقِ بِهم على أكْسَائهم ... ضَرْبَ الرَّقاب وَلاَيُهمُّ المْغنَمُ
والدليل الثاني: أن النابغة سمى الوفاء: برة، وهو يريد البر، وكذلك سمى الغدر: فجرة، وهو يريد الفجور.
وأراد بالخطتين البر والفجور.
وقوله في البر: حملت، وقال في الفجور: احتملت، فإن العرب إذا استعملت فعل، وافتعل - بزيادة التاء، وبغير زيادة - كان الذي لا زيادة فيه، يصلح للقليل والكثير، والذي الزيادة فيه للكثير خاصة، نحو: قدر واقتدر، كسب واكتسب، ونهب وانتهب، وأراد النابغة أن يهجو زرعه بكثرة غدره، وإتيان الفجور، فأتى باللفظة التي يراد بها الكثير خاصة، لتكون ابلغ في الهجو، ولو قال: وحملت فجلر، لأمكن أن لا يكون غدر إلا مرة واحدة، ومن ذلك قوله تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت "، فالوجه فيه: أنه لما كان الإنسان يحازى على قليل الخير وكثيره، استعمل فيه اللفظ الذي يصلح للقليل والكثير.
1 / 56