اليوم الآخر تبين مما سلف ان الله تعالى خلق الخلق ولم يتركهم سدى بل ارسل اليهم الرسل وانزل اليهم الكتب وكلفهم بتكاليف وحد لهم حدودا ورسم لهم معالم وأوكل الى أنفسهم أمر الاختيار فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها. وليس من المعقول ولا من الحكمة أن يخلق خلقه ويرسل اليهم رسله وينزل اليهم كتبه ويكلفهم بتكاليف ويسن اليهم السبل لأجل حياة لا تتجاوز في الغالب للفرد مائة سنة. فلابد اذا من يوم غير هذا اليوم ولابد من حياة غير هذه الحياة يكافئ فيها المحسن لاحسانه، ويعاقب المسيء لاساءته. ولو لم يكن هنالك يوم يوفي فيه كلا كيله غير منقوص لما كلف خلقه بشيء بل ولا خلق فيهم قابلية للتكليف من العقل والمواهب الانسانية، وانما يخلفهم كالعجماوات لا عقل ولا مواهب، ولا تكليف فلا بعث ولا نشور ولا نعيم ولا جحيم ، وحيث كان العقل وحيث كان التكليف وحيث كان العمل فلابد اذا من الجزاء، ولابد لذلك الجزاء من يوم، ذلك هو اليوم الاخر. فقبل أن ينكر الانسان ذلك اليوم يلزمه ان ينكر عقله واستعداده وان يزج نفسه في اصطبل الحيوانات العجماء. والا فكيف يعقل الجمع بين الاعتراف بالعقل والاستعداد والتكليف، وبين الانكار للجزاء على ذلك. وليس يوم الحرث الا مقدمة ليوم الحصاد، وليس يوم الحصاد الا نتيجة طبيعية ليوم الحرث. ومن ذا الذي يبلغ به البله الى حد اعتقاد انه انما يحرث لاجل الحصاد، وانه يفتح دكانه ويشحنه بأنواع البضائع ويتحمل صرف الالاف لاجل التجارة نفسها لا لأجل ذلك اليوم، يوم التقويم، يوم ظهور الارباح الوفيرة ان احسن ادارة دكانه أو الخسائر الفادحة ان أساء.
فبين اليوم الأول واليوم الأخير من العلاقة والارتباط مثل ما بين المقدمة الصحيحة والنتيجة الطبيعية، بل مثل ما بين العمل والفائدة ومنكر اليوم الاخر كمنكر النتيجة الملموسة من المقدمة والفائدة المحسوسة من العمل.
مخ ۱۷