حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
والواقع أن الشخص الذي لديه استعداد لمواجهة العالم على ما هو عليه يذكرنا بالبطل عند نيتشه، فمن هذا المصدر استمد سارتر خروجه عن الإيمان الديني.
إن ما تنصب عليه معارضة سارتر هو مفهوم الضرورة العقلاني، كما نجده عند ليبنتس واسبنيوزا ، وكما توارثه الفلاسفة المثاليون. وينبغي أن نذكر أن هؤلاء المفكرين كانوا يرون أن كل ما يوجد يمكن أن ينظر إليه من حيث المبدأ على أنه ضروري، بشرط أن تكون نظرتنا واسعة بما فيه الكفاية. عندئذ لا يكون هناك مفر من أن تتخذ فكرة الحرية الصورة التي نجدها عند اسبينوزا أو هيجل، أي أن تكون الحرية هي التمشي مع مسار الضرورة. ولكن حين يرفض المرء هذه النظرة إلى الحرية كما فعل سارتر تتوالى بقية النتائج من تلقاء ذاتها. فالنظرة العقلانية إلى الضرورة تسود، كما لاحظنا من قبل، في ميدان العلم النظري. لذلك ينبغي رفضها بمجرد أن نأخذ بفكرة الحرية الوجودية. وبالمثل ينبغي التخلي عن اللاهوت العقلاني، وإن كان يبدو أن سارتر قد ذهب إلى أبعد مما ينبغي في محاولته أن يربط هذا الموقف بالإلحاد. ذلك لأننا لو كنا أحرارا بالمعنى الذي يؤمن به سارتر، لكان في استطاعتنا أن نختار ما نشاء. والواقع أن المفكرين الوجوديين المختلفين قد اختاروا في هذه المسألة مواقف متباينة كما رأينا من قبل.
والحق أن الوجودية في نقدها للنظرة العقلية إلى الضرورة، تلفت أنظارنا إلى مسألة هامة، ولكن ما تقوم به ليس نقدا فلسفيا بقدر ما هو احتجاج انفعالي قائم على أسس نفسية. فتمرد الوجودية على المذهب العقلي منبثق من حالة شعور بالاضطهاد، وهذا يؤدي إلى موقف غريب وشخصي إزاء عالم الواقع يشكل عقبة في وجه الحرية. فبينما يرى العقلاني حريته في معرفة الطريقة التي تعمل بها الطبيعة، يجدها الوجودي في الاستسلام لحالاته النفسية الباطنة.
أما النقطة المنطقية الأساسية التي تكمن وراء هذا كله فترجع إلى نقد شلنج لهيجل. فالوجود لا يمكن أن يستنبط من مبادئ منطقية عامة. وهذا نقد يمكن أن يرحب به أي تجريبي متمسك بمذهبه. ولكننا بعد أن نصدر هذا الحكم، لا نحتاج إلى أن نضيف إليه شيئا. بل إنه ليبدو أن المرء يهدم هذا النقد السليم إذا ما استنبط على أساسه علم نفس وجوديا كما تفعل نظرية سارتر، ففي هذه النظرية نجد ملاحظات طريفة وقيمة في وصف حالات نفسية متنوعة، ولكن سلوك الناس وشعورهم على هذا النحو ليس نتيجة منطقية للحقيقة القائلة إن الوجود ليس له ضرورة منطقية، ولو سرنا في الاتجاه الآخر لكان معنى ذلك قبول قضية شلنج ورفضها في الآن نفسه، وعلى ذلك فبينما يحق لنا الاعتراف بصحة الملاحظات النفسية ودقتها، فإن هذه المادة لا يصح تحويلها إلى مبحث في الوجود (أنطولوجيا). ولكن هذا بالضبط هو هدف دراسة سارتر المسماة: «الوجود والعدم» وهو كتاب يتمشى تماما مع الطريقة الألمانية في التأليف، من حيث غموضه الشعري وغرائبه اللفظية. أما محاولته أن يحول موقفا خاصا من الحياة إلى نظرية أنطولوجية فتبدو خارجة عن المألوف في التراث الفلسفي، سواء أكان هذا التراث منتميا إلى المعسكر العقلي أم التجريبي. وهي أشبه بتحويل روايات دستويفسكي إلى كتب مدرسية في الفلسفة.
ولنلاحظ أن الوجوديين سيرفضون نقدنا، على الأرجح، على أساس أنه خارج عن الموضوع، قائلين إننا نستخدم في هذا النقد معايير عقلانية. فبدلا من أن نتصدى للمشكلات الوجودية، نتحرك في ميدان المنطق العقلي. وقد يكون الأمر كذلك بالفعل. ولكن من الممكن استخدام هذا الاعتراض ضد من يوجهونه؛ إذ إن هذا تعبير آخر عن القول إن أية معايير، مهما كان نوعها، تدور في إطار الميدان العقلي. وهذا ينطبق على اللغة بدورها ومن ثم كانت هنالك خطورة في استخدامها من أجل دعم النظريات الوجودية. وفي مقابل ذلك ففي وسع المرء بالطبع أن يكتفي بنوع من التدفق الشاعري يستخدمه كل شخص كما يشاء.
أما وجودية جابرييل مارسيل
Gabriel Marcel (1889-1973م) فهي على خلاف وجودية سارتر؛ ذات اتجاه ديني، وهي في ذلك تشبه نظريات ياسبرز إلى حد ما. ولقد تركز اهتمام مارسيل، شأنه شأن سائر المفكرين الوجوديين، على الفرد، وعلى تجربته العينية في مواقف إنسانية محددة. أما في ميدان الفلسفة بوجه عام، فإن ما يؤكده مارسيل هو الحاجة إلى تجاوز النوع العادي من التفكير، الذي يشرح ويحلل؛ فلكي نرى حقيقة الواقع بأكمل معنى، ينبغي أن نعيد تجميع تلك الشرائح الجزئية التي يوصلنا إليها تشريحنا العقلاني، وتتم عملية إعادة التركيب هذه عن طريق ما يسميه مارسيل بالتفكير ذي المرتبة الأعلى (الثانية) الذي يقصد به نوعا أعلى وأشد حدة وكثافة من التفكير، فعلى حين أن التفكير ذا المرتبة الأدنى (الأولى) موجه إلى الخارج، نجد أن هذا التفكير الأعلى، ذا المرتبة الثانية، ينعكس داخليا ليتأمل ذاته.
ومن المشكلات التي يهتم بها مارسيل، مشكلة العلاقة بين الجسم والذهن. وقد برزت هذه المشكلة نتيجة لانشغاله بمحنة الإنسان، كما تصيب الفرد في موقف واقعي معين. ويذكرنا النقد الذي وجهه إلى ثنائية ديكارت بنقد باركلي لأولئك الذين يخلطون بين الإبصار وبين علم البصريات الهندسي، ونستطيع أن نقول إن فصل الذهن عن الجسم يفترض مقدما صورة مجازية تنظر إلى الذهن على أنه يحلق على نحو ما فوق الشخص، ويرى نفسه والجسم على أنهما شيئان متميزان. هذه على ما يبدو، هي وجهة نظر مارسيل، وهي صحيحة إلى حد بعيد، غير أنه يربط حل المشكلة بممارسة التفكير التركيبي، على حين أننا نميل إلى القول بأن قليلا من التحليل اللغوي يكفي للكشف عن موضع الخطأ.
لقد كانت الوضعية التي ظهرت حوالي نهاية القرن الماضي ممثلة بمفكرين مثل ماخ، الذي تحدثنا من قبل عن أعماله في ميدان الميكانيكا. وخلال الأعوام العشرين التالية، نما بالتدريج اهتمام أوسع بالمنطق الرمزي. وقد أدى تجمع هذين العاملين إلى ظهور حركة جديدة كان محورها شليك
M. Schlick
ناپیژندل شوی مخ