201

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

لنعد الآن قرنا إلى الوراء، ولنتناول تيارا آخر في الفكر الفلسفي. كانت الفلسفة المثالية ونقادها قد تطوروا في عالم أخذت ظروفه المادية تتغير تغيرا جذريا، وقد نجمت هذه التطورات عن الثورة الصناعية التي بدأت في إنجلترا في القرن الثامن عشر، ولقد سار إدخال الآلات في البداية بخطى متدرجة إلى أقصى حد. وأدخلت تحسينات على تركيب الأنوال فزاد إنتاج النسيج، ولكن الخطوة الحاسمة كانت تطوير الآلة البخارية، التي أتاحت مصدرا للطاقة لا حد له، من أجل تشغيل الآلات في الورش التي ظهرت بأعداد هائلة. وكانت أكثر الطرق فعالية في إنتاج البخار هي استخدام الغلايات التي تعمل بالفحم. وهكذا حدث تطور كبير في استخراج الفحم، وذلك في ظل ظروف كانت شديدة القبح والقسوة في كثير من الأحيان. والواقع أن الأيام الأولى من عصر التصنيع كانت، من الناحية الإنسانية فترة قاسية كئيبة بحق.

وخلال القرن الثامن عشر، بلغت حركة التسييج

Enclosure

1

في إنجلترا ذروتها. صحيح أنه كانت هناك، طوال عدة قرون، حالات قام فيها النبلاء بوضع سياج حول أرض مشاع من أجل استخدامهم الخاص، مما خلق مصاعب لسكان الريف الذين كان رزقهم يتوقف إلى حد ما على المنافع التي يجنونها من الأرض المشاع. ومع ذلك فإن هذا التعدي على تلك الامتيازات لم يسبق له، قبل القرن الثامن عشر، أن أدى إلى اقتلاع أعداد كبيرة من سكان الريف من جذورهم ودفعهم دفعا إلى المدن الكبيرة والصغيرة بحثا عن طرق جديدة للارتزاق. وهؤلاء الناس أعينهم هم الذين استوعبتهم المصانع الجديدة. ونظرا إلى ضآلة أجورهم وقسوة استغلالهم فإنهم كانوا يعيشون في أفقر أحياء المدن وضواحيها، واضعين بذلك أسس الأحياء الصناعية الرثة الضخمة

Slums

التي انتشرت في القرن التاسع عشر.

ولقد قوبل اختراع الآلات في البداية بقدر كبير من الشك، من جانب أولئك الذين شعروا بأن الآلات الجديدة ستجعل مهاراتهم في الصناعات اليدوية شيئا لا أهمية له. وبالمثل كان كل تحسين في أداء الآلة يلقى مقاومة من العمال الذين كانوا يخشون أن يؤدي ذلك إلى قطع أرزاقهم، وما زال هذا النوع من الخوف قائما حتى يومنا هذا، إذ إن نقابات العمال تنظر بعين الارتياب إلى إدخال الآلات التي تدار إلكترونيا، تماما كما كان يحدث في القرن الماضي بالنسبة إلى القول الذي يسير بطاقة البخار. ولكن المتشائمين كانوا، في هذه المسألة، مخطئين على الدوام. ذلك لأن الدول الصناعية في العالم، بدلا من أن تعاني من هبوط مستوى معيشتها، أخذت ثروتها ورخاؤها يرتفعان بالتدريج على كافة المستويات. ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن تعاسة الطبقة العاملة في أول العصر الصناعي في إنجلترا كانت شديدة حقا. وكان الجهل من الأسباب التي أدت إلى بعض من أسوأ النتائج، إذ إن المشكلات التي ظهرت كانت جديدة، ولم يكن أحد قد صادف مثلها من قبل. فالليبرالية القديمة، المرتكزة على الحرف اليدوية وعلى الملكية الزراعية، لم تكن مرنة بالقدر الذي يكفي لمواجهة المشكلات الضخمة الجديدة للمجتمع الصناعي. وعندما جاء الإصلاح سار ببطء، ولكنه استطاع بمضي الوقت أن يصحح هذه الأخطاء القديمة. أما في الحالات التي بدأ فيها التصنيع متأخرا، كما حدث في بقية بلدان القارة الأوروبية، فإن بعض المصاعب التي واجهت تطور المجتمع الصناعي كانت أقل قسوة، لأن المشكلات كانت عندئذ قد فهمت على نحو أفضل.

ومنذ أوائل القرن التاسع عشر، بدأ اتجاه تدريجي إلى التفاعل بين العلم والتكنولوجيا، وبالطبع فإن مثل هذا التفاعل كان موجودا، بقدر ما على الدوام، ولكن المبادئ العلمية بدأت تطبق بطريقة منهجية، منذ عهد التصنيع، في تصميم المعدات التكنولوجية وإنتاجها، مما أدى إلى نمو متسارع للتوسع المادي، ولقد كانت الآلة البخارية هي مصدر القوة الجديدة، وشهد النصف الأول من القرن التاسع عشر حركة بحث علمي شامل للمبادئ التي تنطوي عليها تلك الآلة، مما أدى إلى قيام علم جديد هو الديناميكا الحرارية، وأدى هذا العلم بدوره إلى تعليم المهندسين كيف يصممون آلات أعظم كفاءة.

وفي الوقت ذاته بدأت الآلة البخارية تحل محل كل أشكال الطاقة الأخرى في ميدان المواصلات. وما إن حل منتصف القرن التاسع عشر، حتى كانت شبكة واسعة من السكك الحديدية تنمو في أوروبا وأمريكا الشمالية، كما بدأت السفن البخارية تحل محل المراكب الشراعية. وقد أحدثت هذه التجديدات كلها تغيرات هائلة في حياة الناس الذين تأثروا بها، وفي نظرتهم إلى العالم. وإذا كنا نرى الإنسان، على وجه العموم، حيوانا ميالا إلى المحافظة، فإن قدراته التكنولوجية أخذت تفوق حكمته السياسية، مما أدى إلى اختلال في التوازن لم نبرأ منه حتى اليوم.

ناپیژندل شوی مخ