فقال برقة : إنها جوهرة ليست عروسك في حاجة إليها، على حين أنني في أشد الحاجة إليها.
فقال جلال بعتاب: هل قصرت في حقك؟
فربت على ظهره قائلا: أبدا ولكن مطالب الحياة كثيرة.
24
وجاءت الأيام الأخيرة من عام الحداد في خريف أبيض يتنفس في عذوبة فائقة. وامتلأت السحب الشفافة بالأحلام. وألمت وعكة برد بقمر، غير أنها لم تعطل الاستعدادات المتوثبة للزفاف. واندفعت الوعكة في طريق مجهول فارتفعت الحرارة واضطربت الأنفاس واشتدت الآلام وتسلل الذبول إلى الوردة الناضرة مثل عدو ماكر خسيس خائن. ولزمت الفراش بلا حول فخبت نظرتها واصفر لونها ووهن صوتها. توارت تحت الأغطية الثقيلة، متأوهة، تتغذى بالكراوية والليمون، وتعصب بمكمدات الخل. وسهدت ألفت هانم متشنجة الأفكار، وقلق جلال فنفد صبره في انتظار ساعة الشفاء.
وخيم على الدار شعور غامض لا يريد أن يفصح عن ذاته، وطافت بخيال ألفت اللحظات الأخيرة من حياة عزيز وعزيزة، وخيل إليها وهي تكاد تجن أن كائنا مهولا قد حل بالدار، وأنه يكمن في ركن من أركانها لا يريد أن يبرح.
وذات ليلة حلم جلال بأن والده يغني بطريقته الهمجية الساخرة في ساحة التكية. واستيقظ ثقيل القلب فتبين له أنه إنما استيقظ حقا على صوت يدوي في الخارج، صوت من نوع خاص لا علاقة له بالغناء ولا بالتكية. صوات في جوف الليل يعلن صعود روح إلى مستقرها!
25
شعر جلال بأن كائنا خرافيا يحل في جسده. إنه يملك حواس جديدة، ويرى عالما غريبا. عقله يفكر بقوانين غير مألوفة، وها هي الحقيقة تكشف له عن وجهها.
رنا إلى الجثة المسجاة طويلا. طوى الغطاء عن الوجه. إنه ذكرى لا حقيقة، موجود وغير موجود، ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع. غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أي معرفة له. متعال متعلق بالغيب. غائص في المجهول. مستحيل غامض مندفع في السفر. خائن، ساخر، قاس، معذب، محير مخيف، لا نهائي، وحيد. وغمغم بذهول وتحد: كلا!
ناپیژندل شوی مخ