عاشور الناجي
شمس الدين
الحب والقضبان
المطارد
قرة عيني
شهد الملكة
جلال صاحب الجلالة
الأشباح
سارق النغمة
التوت والنبوت
ناپیژندل شوی مخ
عاشور الناجي
شمس الدين
الحب والقضبان
المطارد
قرة عيني
شهد الملكة
جلال صاحب الجلالة
الأشباح
سارق النغمة
التوت والنبوت
ناپیژندل شوی مخ
الحرافيش
الحرافيش
تأليف
نجيب محفوظ
عاشور الناجي
الحكاية الأولى من ملحمة الحرافيش
1
في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا.
2
مضى يتلمس طريقه بطرف عصاه الغليظة، مرشدته في ظلامه الأبدي. مولاي يعرف مواقعه بالرائحة وحساب الخطوات ودرجة وضوح الأناشيد والإلهام الباطني. بين مسكنه عند مشارف القرافة وبين الحارة يخوض أشق مرحلة في طريقه إلى الحسين وأعذبها. على غير المعهود تناهى إلى أذنيه الحادتين بكاء وليد. لعله دوي أكبر من حجمه في ساعة الفجر. الحق قد جذبه من سكرة الرؤى ونشوة الأناشيد. في هذه الساعة تهيم أمهات بأطفالهن! ها هو الصوت يشتد ويقترب، وعما قليل سيحاذيه تماما. وتنحنح كي لا يقع ارتطام في مشهد الفجر. وتساءل متى يكف الطفل عن البكاء ليرتاح قلبه ويعاود خشوعه. الآن صار البكاء ينخس جنبه الأيسر. تباعد يمنة حتى مست كتفه سور التكية، وتوقف قائلا: يا حرمة، أرضعي الطفل!
ناپیژندل شوی مخ
ولكن لم يجبه أحد، وتواصل البكاء، فهتف: يا حرمة! يا أهل الله!
فلم يسمع إلا البكاء. ساور الشك قلبه فولت البراءة المغسولة بماء الفجر، واتجه نحو الصوت بحذر شديد جاعلا عصاه لصق جنبه. انحنى قليلا فوق الصوت، مد راحته برحمة حتى مس سبابته لفافة. هو ما توقعه القلب. جال بأصابعه في طياتها حتى لامس وجها طريا متشنجا بالبكاء. هتف متأثرا: تدفن القلوب في ظلمة الإثم.
وصاح بغضب: لعنة الله على الظالمين.
وتفكر قليلا ولكنه قرر ألا يهمله ولو فاتته صلاة الفجر في الحسين. النسمة باردة في هذه اللحظة من الصيف، والزواحف شتى، والله يمتحن عبده بما لا يجري له في حسبان. وحمله برفق، ثم عزم على الرجوع إلى مسكنه ليشاور زوجته في الأمر. وترامت إليه أصوات آدميين لعلهم ذاهبون إلى صلاة الفجر، فسعل منبها، فجاءه صوت يقول: سلام الله على المؤمنين!
فأجاب بهدوء: سلام الله عليكم.
وعرف المتكلم صوته فقال: الشيخ عفرة زيدان؟ ماذا أخرك؟ - إني راجع إلى البيت، ولله الأمر من قبل ومن بعد. - سلامتك يا شيخ عفرة!
فقال بعد تردد: عثرت على وليد تحت السور العتيق.
وانداحت همهمة بين الرجال حتى قال أحدهم: اللعنة على الآثمين.
وقال ثان: اذهب به إلى القسم!
وسأله ثالث: ماذا أنت فاعل به؟
ناپیژندل شوی مخ
فقال بهدوء لا يناسب المقام: سوف يهديني الله إلى مشيئته.
3
انزعجت سكينة لدى رؤيتها زوجها الشيخ على ضوء المصباح المرفوع بيسراها، وتساءلت: ماذا أرجعك كفى الله الشر؟!
وسرعان ما رأت الوليد فهتفت: ما هذا يا شيخ عفرة؟ - عثرت عليه في الممر. - يا رحمة الله!
تناولت الوليد برقة، جلس الشيخ على كنبة بين البئر المغطاة والفرن وهو يغمغم: لا إله إلا الله!
راحت سكينة تهدهد الطفل، ثم قالت بحنان: إنه ذكر يا شيخ عفرة!
فحرك رأسه صامتا، فقالت باهتمام: يلزمه غذاء. - وما درايتك بذلك وأنت لم تنجبي ذكرا ولا أنثى؟! - أعرف أشياء، ومن يسترشد يجد من يرشده. ماذا أنت فاعل به؟ - نصحوني بأن أذهب به إلى القسم. - هل يرضعونه في القسم؟! لننتظر حتى يظهر من يبحث عنه. - لن يبحث عنه أحد.
وتجلى صمت مفعما بالانفعالات حتى تمتم الشيخ عفرة زيدان: أليس من الخطأ أن نبقيه أكثر مما ينبغي؟
فقالت بحماس وحرارة: الخطأ خطأ من ضيعه.
ثم قالت وهي تتلقى إلهاما بالرضا: لم يبق لي أمل في الإنجاب!
ناپیژندل شوی مخ
فحسر العمامة عن جبهته البارزة مثل قبضة الجندرة وتساءل: فيم تفكرين يا سكينة؟
فقالت ثملة بإلهامها: يا سيدنا الشيخ، وهبني الله رزقا فكيف أرفضه؟
مسح بمنديله عينيه المطبقتين ولم ينبس، فقالت بظفر: أنت نفسك تريد ذلك.
فتجاهلها يقول متشكيا: فاتتني صلاة الفجر في الحسين.
فقالت بثغر باسم وعيناها لا تفارقان الوجه المحتقن: الضوء شقشق والله غفور رحيم.
وقام الشيخ عفرة زيدان ليصلي، على حين هبط من السلم درويش زيدان مثقل الجفون من أثر النوم وهو يقول: جوعان يا امرأة أخي.
ورأى الوليد فذهل كما ينبغي لغلام في العاشرة من عمره وتساءل: ما هذا؟
فأجابته سكينة: رزق من الله العلي القدير.
فرنا إليه مليا، ثم تساءل: ما اسمه؟
فترددت المرأة، ثم غمغمت: ليكن اسم أبي اسما له؛ عاشور عبد الله، وليشمله الله ببركته ورضوانه.
ناپیژندل شوی مخ
وارتفع صوت الشيخ عفرة بالتلاوة.
4
وتتابعت الأيام على أنغام الأناشيد البهيجة الغامضة، وذات يوم قال الشيخ عفرة زيدان لشقيقه درويش: بلغت العشرين من عمرك فمتى تتزوج؟
فأجاب الفتى بفتور: عندما يشاء الله. - إنك حمال قوي، والحمال ذو رزق موفور. - عندما يشاء الله. - ألا تخشى على نفسك من الفتنة؟ - الله يحفظ المؤمنين.
فحرك المقرئ الضرير وجهه يمنة ويسرة وقال بأسف: لم تنتفع بالكتاب ولم تحفظ من كتاب الله سورة واحدة!
فقال بامتعاض: العمل هو ما يحاسب عليه، وإني أحصل على رزقي بعرق الجبين.
فتفكر الشيخ مليا وقال: في وجهك ندوب فما شأنها؟
فأدرك درويش أن امرأة أخيه قد وشت به، فرمقها مقطبا وهي عاكفة على إشعال الفرن بمساعدة عاشور، فقالت باسمة: أتتوقع مني يا درويش أن أخفي عن أخيك ما يضرك؟
وسأله الشيخ عفرة معاتبا: أتقلد أهل العنف والشر؟ - أحيانا يتحرش بي أهل الشر فأدافع عن نفسي. - يا درويش، لقد نشأت في بيت خدمة القرآن؛ شرفه وعزته، ألا ترى إلى سلوك أخيك الطيب عاشور؟
قال بحدة: ليس عاشور بأخي!
ناپیژندل شوی مخ
لاذ الشيخ بالصمت مستاء.
وكان عاشور يتابع الحديث باهتمام فصدم، صدمة متوقعة على أي حال، إنه يفعل ما بوسعه ولا يدعي أكثر مما له؛ يقوم بتنظيف البيت، وشراء الحوائج من السوق، ويمضي كل فجر بولي نعمته إلى الحسين، ويملأ الدلو من البئر، ويشعل الفرن، وعند الأصيل يجلس عند قدمي الشيخ فيحفظه ما يتيسر من القرآن، ويلقنه آداب السلوك والحياة. الحق أن الشيخ أحبه ورضي عنه، وكانت سكينة ترمقه بإعجاب وتقول: سيكون فتى طيبا وقويا.
فيقول الشيخ عفرة زيدان: لتكن قوته في خدمة الناس لا الشيطان.
5
جادت السماء ببركاتها على عاشور، فسعد به قلب الشيخ عفرة زيدان عاما في إثر عام، بقدر ما سخط على درويش شقيقه وربيبه. لم يا ربي وقد نشآ في حظيرة واحدة؟ ولكن درويش نأى عن ظل الشيخ سعيا وراء الرزق بعد أن رفض التعلم قلبه. انطلق إلى العالم غلاما طريا فتربى في أحضان المرارة والعنف قبل أن يستقيم عوده، قبل أن تتشرب روحه بالصلابة والنقاء. أما عاشور فتفتح قلبه أول ما تفتح للبهجة والنور والأناشيد، ونما نموا هائلا مثل بوابة التكية؛ طوله فارع، عرضه منبسط، ساعده حجر من أحجار السور العتيق، ساقه جذع شجرة توت، رأسه ضخم نبيل، قسماته وافية التقطيع، غليظة مترعة بماء الحياة. تبدت قوته في تفانيه في العمل، وتحمله لمشاقه، ومواصلته بلا ملل أو كلل، وفي تمام من الرضا والتوثب. وأكثر من مرة قال له الشيخ: لتكن قوتك في خدمة الناس لا في خدمة الشيطان!
وذات يوم أعلن الشيخ رغبته في أن يجعل منه مقرئا للقرآن مثله، فضحك درويش ساخرا وقال معلقا على رغبة شقيقه: ألا ترى أن هيكله الضخم جدير بأن يلقي الرعب في قلوب المستمعين؟!
ولم يحفل الشيخ بتعليق درويش، ولكنه اضطر إلى العدول عن رغبته عندما وضح له أن حنجرة عاشور لا تسعفه بحال، وأنها عاجزة عن تطويع النغم، لا حظ لها من الحلاوة والمرونة وكأنها بخشونتها ترن في جوف قبو، فضلا عن قصوره عن حفظ السور الطويلة.
وقنع عاشور بعمله كما قنع بحياته، وظن أنه سيبقى بالفردوس حتى آخر الأجل، وصدق ما قيل له من أن الشيخ تكفل به بعد وفاة والدين طيبين مقطوعين من شجرة، وحمد الله الذي قدر ولطف، فرعاه برحمة لا يستظل بمثلها مأوى آخر في الحارة. وفي ذات الوقت رأى الشيخ عفرة أنه استأثر به مدة كفت لتعليمه وتهذيبه، وأنه آن له أن يرسله لتلقن حرفة من الحرف، غير أن حتم الأجل كان أسرع؛ فمرض الشيخ بحمى لم تنفع في علاجها الوصفات الشعبية، فانتقل إلى جوار ربه ، ووجدت سكينة نفسها بلا مورد أو قدرة على العمل، فرحلت إلى قريتها بالقليوبية. كان الوداع بينه وبين سكينة مؤثرا ودامعا. قبلته ورقته ومضت، وسرعان ما شعر بأنه وحيد، في دنيا بلا ناس، اللهم إلا سيده العنيد درويش زيدان.
وأسبل جفنيه الغليظين متفكرا. شعر بأن الخلاء يلتهم الأشياء، وأنه يود أن يتسلق شعاع الشمس، أو يذوب في قطرة الندى، أو يمتطي الريح المزمجرة في القبو، ولكن صوتا صاعدا من صميم قلبه قال له إنه عندما يحل الخلاء بالأرض فإنها تمتلئ بدفقات الرحمن ذي الجلال.
6
ناپیژندل شوی مخ
تفحصه درويش وهو مقرفص على كثب من الفرن منكسر القلب. يا له من عملاق! له فكا حيوان مفترس، وشارب مثل قرن الكبش. قوة بلا حيلة ولا عمل ولا رزق. من حسن الحظ أنه لم يتعلم حرفة، ولكنه لا يمكن الاستهانة به. ترى لم لا يحبه؟ تذكره صورته المغروسة في الأرض بصخرة مدببة تعترض الطريق، بهبة من هبات الخماسين المثقلة بالغبار، بقبر يتجلى في الأعياد متحديا، يجب الانتفاع به، عليه اللعنة!
سأله دون أن ينظر نحوه: كيف ستحصل على لقمتك؟
ففتح عينيه العميقتين العسليتين وقال باستسلام: في خدمتك يا معلم درويش.
فقال ببرود: لست في حاجة إلى خدمة أحد. - علي أن أذهب.
ثم مستدركا في رجاء: هلا تركتني آوي إلى البيت الذي لا أعرف سواه؟ - إنه بيت لا فندق.
تبدت فوهة الفرن خامدة مظلمة، وندت عن الرف خشخشة رجل فأر ترتطم بأعواد الثوم الجاف.
وسعل درويش، ثم سأله: أين تذهب؟ - دنيا الله واسعة.
فقال متهكما: ولكنك لا تعرف عنها شيئا، وهي أقسى مما تتصور. - سأجد على أي حال عملا أرتزق منه. - جسمك أكبر عائق، لن يقبلك بيت، ولا معلم حرفة، ثم إنك تقترب من العشرين! - لم أستغل قوتي قط فيما يضر.
فضحك عاليا وقال: لن تحوز ثقة أحد؛ الفتوة يظنك متحديا، والتاجر يحسبك قاطع طريق.
ثم بهدوء وعمق: ستهلك جوعا إذا لم تعتمد على قوتك.
ناپیژندل شوی مخ
فقال بحرارة: أهبها عن رضا لخدمة الناس والله شهيد. - لا فائدة من قوتك إن لم تغسل مخك من الغباء!
فمد إليه بصرا حائرا، ثم قال: شغلني حمالا معك.
فقال ساخرا: لم أشتغل حمالا ساعة واحدة من حياتي. - ولكن ... - دعك مما قلت، أكان بوسعي أن أقول غيره؟ - فما عملك يا سيدي؟ - صبرك، سوف أفتح لك باب الرزق، لك أن تدخل ولك أن تذهب.
ترامى من القرافة صوات يشي بتشييع جنازة، فقال درويش: كل من عليها فان.
فقال عاشور وقد نفد صبره: إني جوعان يا معلم درويش!
فمد له يده بنكلة وهو يقول: إليك آخر هبة مني.
غادر عاشور البيت والمغيب يهبط على القبور والخلاء. أمسية من أماسي الصيف، وثمة نسمة رقيقة تتهادى حاملة أخلاط التراب والريحان. مضى في الممر حتى بلغ ساحة التكية. بدا لعينيه القبو مظلما، وترامت أشباح أشجار التوت من فوق الأسوار. تصاعدت الأناشيد بغموضها فصمم على طرح الهم جانبا وقال لنفسه: لا تحزن يا عاشور؛ فلك في الدنيا إخوة ليس لعدهم حصر.
ومضى تلاحقه الأناشيد:
أي فروغ ماء حسن
إز روى رخشان شما
ناپیژندل شوی مخ
ابروى خوبي از جاه
رنخسدان شما
7
امتلأ عاشور بأنفاس الليل. انسابت إلى قلبه نظرات النجوم المتألقة. هفت روحه إلى سماء الصيف الصافية. قال ما أجدرها ليلة بالعبادة؛ كي يجثو فوق الأعتاب، كي يناجي رغبات نفسه الكظيمة، كي ينادي الأحبة وراء سياج المجهول.
وثمة شبح يقف منه على بعد شبرين يعكر عليه صفوه، ويشده إلى عالم القلق، فرفع صوته الأجش متسائلا: ماذا تنتظر يا معلم درويش؟
فلكزه درويش في صدره وهمس بحنق: أخفض صوتك يا بغل!
كانا يلبدان وراء تعريشة عند طرف القرافة بمشارف الصحراء. الجبل في أقصى اليمين والقبور إلى اليسار. لا نأمة، لا عابر سبيل، حتى أرواح الموتى مستكنة في مقر مجهول. في تلك الساعة من الليل، والخواطر تتجسد في الظلمة كالنذر، ويخفق القلب الطيب في غير ما ارتياح، همس عاشور: نورني نور الله قلبك.
فنهره هامسا: انتظر، أليس عندك صبر؟
ثم وهو يميل نحوه: لا أطالبك بعمل، سأقوم بكل شيء، عليك أن تحمي ظهري إذا اقتضى الأمر حماية.
ولكني لا أدري عما تنوي شيئا. - اسكت، سيكون لك الخيار.
ناپیژندل شوی مخ
وتمخض جانب الصحراء عن نأمة. وحمل الهواء عطر حي، وارتفع صوت موسوم بالشيخوخة يقول: توكلي على الله.
وعند القرب وضح أن العجوز يمتطي حمارا. وعندما حاذاهما تماما وثب عليه درويش. ذهل عاشور وتحققت مخاوفه. لم ير شيئا بوضوح، ولكنه سمع صوت درويش وهو يقول متوعدا: هات الصرة وإلا ...
فتردد صوت مرتعشا بالكبر والذعر: الرحمة ... خفف قبضتك!
اندفع عاشور إلى الإمام بلا وعي وهتف: دعه يا معلمي!
صرخ به درويش: اخرس! - قلت لك دعه!
وطوقه بذراعيه وحمله بلا جهد، فضربه الآخر بكوعه قائلا: الويل لك!
لم يتحرك في درويش بعد ذلك إلا لسانه، أما عاشور فخاطب العجوز قائلا: اذهب بسلام!
حتى إذا اطمأن إلى نجاة الرجل أطلق درويش وهو يقول معتذرا: اغفر لي خشونتي.
فصاح به: أيها اللقيط الجاحد! - لقد أنقذتك من شر نفسك. - أيها البغل الخسيس المخلوق للتسول. - فليسامحك الله. - أيها اللقيط القذر.
فصمت عاشور محزونا، فعاد الآخر يقول: لقيط، ألا تفهم؟ هذه هي الحقيقة. - لا تستسلم للغضب، لقد قال الشيخ المرحوم كلمته.
ناپیژندل شوی مخ
فقال بحقد: الحقيقة هي ما أقول، لقد وجدك في الممر مهجورا من أم فاسقة! - رحم الله الطيبين. - بشرفي ورحمة أخي إنك لقيط ابن حرام! لماذا يتخلصون من وليد بليل؟!
فاستاء عاشور وصمت، فراح درويش يقول: ضيعت جهدي! أغلقت باب الرزق في وجهك، إنك قوي ولكنك جبان، وهاك الدليل.
وهوى بكفه على وجهه بجامع قوته، فبوغت عاشور بأول لطمة يتلقاها في حياته، وصاح درويش بجنون: أيها الجبان الرعديد!
عصف الغضب بعاشور. اجتاحت عاصفته جدران معبد الليل. وجه من راحته الكبيرة ضربة إلى رأس معلمه هوى على أثرها فاقد الوعي. لبث يصارع غضبته حتى تراخت للسكون. أدرك خطورة ما أقدم عليه. غمغم: غفرانك يا شيخ عفرة.
انحنى فوق الرجل فحمله بين يديه. مضى به يشق سبيله بين القبور حتى دخل به البيت. أنامه على الكنبة. أشعل المصباح. مضى ينظر إليه في قلق وإشفاق. تتابعت دقائق ثقيلة حتى فتح عينيه وحرك رأسه.
تطاير من عيني درويش شرر ينم على التذكر. ترامقا مليا في صمت. خيل إلى عاشور أن عفرة وسكينة حاضران ينظران في وجوم.
غادر عاشور البيت مغمغما: توكلت على خالق السموات والأرض.
8
هام عاشور على وجهه. مأواه الأرض، هي الأم والأب لمن لا أم ولا أب له. يلتقط الرزق حيثما اتفق. في الليالي الدافئة ينام تحت سور التكية، في الليالي الباردة ينام تحت القبو. ما قاله درويش عن أصله قد صدقه. طاردته الحقيقة المرة وأحدقت به. لقد عرف من حقائق الدنيا على يد درويش في ليال ما لم يعرفه طيلة عشرين عاما في كنف الشيخ الطيب عفرة زيدان. الأشرار معلمون قساة وصادقون. خطيئة أوجدته، توارى الخطاة، ها هو يواجه الدنيا وحده، ولعله يعيش الآن ذكرى محرقة في قلب مؤرق.
ومن شدة حزنه استمع إلى أناشيد التكية بحب. معانيها المترنمة تختفي وراء ألفاظها الأعجمية كما يختفي أبواه وراء وجوه الغرباء. وربما عثر ذات يوم على امرأة أو رجل أو معنى، وربما فك ذات يوم رمزا، أو أرسل دمعة رضا، أو تجسدت إحدى رغائبه في مخلوق حنون. ويتأمل الحديقة بأشجارها الرشيقة الحانية، ووجهها المعشوشب، وعصافيرها المعششة الشادية، ويتأمل الدراويش بعباءاتهم الفضفاضة، وقاووقاتهم الطويلة، وخطواتهم الخفيفة.
ناپیژندل شوی مخ
وساءل نفسه مرة: لماذا يقومون بالخدمة كالفقراء؟ لماذا يقومون بالكنس والرش والسقي؟ أليسوا في حاجة إلى خادم أمين؟! - البوابة تناديه، تهمس في قلبه أن اطرق، استأذن، ادخل، فز بالنعيم والهدوء والطرب، تحول إلى ثمرة توت، امتلئ بالرحيق العذب، انفث الحرير، وسوف تقطفك أيد طاهرة في فرح وحبور.
وملكه الهمس الناعم فمضى إلى الباب المغلق وهتف بخشوع وأدب: يا أهل الله.
وكرر النداء مرات.
إنهم يتوارون، لا يردون، حتى العصافير ترمقه بحذر، يجهلون لغته ويجهل لغتهم. الجدول كف عن الجريان، الأعشاب توقفت عن الرقص، لا شيء في حاجة إلى خدماته.
فتر حماسه، انطفأ إلهامه، جلله الحياء، عاتب نفسه، عنف عشقه، شد على إرادته، قبض على شاربه الشامخ، قال لنفسه: لا تجعل من نفسك حديث كل من هب ودب.
وتراجع وهو يقول: انصرف عن الذين يرفضون يدك لأنهم في غير حاجة إليها، وابحث عمن هم في حاجة إلى خدماتك.
ذهب وجاء وراء اللقمة. يجد زفافا فيتطوع للخدمة، أو يصادف مأتما فيتطوع أيضا. يتقدم لمن يريد حمالا أو رسولا، يرضى بالمليم أو بالرغيف أو حتى بكلمة طيبة.
وصادفه رجل ربعة قبيح الوجه كأن أصله فأر، فناداه قائلا: يا ولد!
فذهب إليه عاشور بأدب واستعداد للخدمة فسأله: ألا تعرفني؟
فأجابه مرتبكا: اعذر غريبا جهلك.
ناپیژندل شوی مخ
ولكنك من أبناء حارتنا؟ - ما عشت فيها إلا منذ قريب. - كليب السماني من رجال فتوتنا قنصوه. - تشرفنا يا معلم.
وتفحصه مليا، ثم سأله: تنضم إلينا؟
فقال عاشور بلا تردد: لا قلب لي على ذلك.
فضحك كليب ساخرا ومضى وهو يقول: جسم ثور وقلب عصفورة!
وكان يرى حمير المعلم زين الناطوري وهي ترابط في الحظيرة عقب يوم طويل في قضاء المشاوير، يتطوع بتنظيفها وتقديم العلف لها وكنس الفناء ورشه على مرأى من المعلم، ثم يذهب دون أن يسأله شيئا.
وذات يوم ناداه المعلم زين وسأله: أنت صبي المرحوم الشيخ عفرة زيدان؟
فأجاب بخشوع: نعم، رحمه الله رحمة واسعة. - بلغني أنك رفضت الانضمام لرجال الفتوة قنصوه؟ - لا مأرب لي في ذلك.
فابتسم المعلم وعرض عليه أن يعمل عنده مكاريا، ومن فوره قبل وقلبه من الفرحة يرقص.
ومضى بحماره متحمسا لعمله بكل قواه وحيويته، وكلما مضى يوم اطمأن المعلم إلى سلوكه وأدبه وتقواه، وأثبت عاشور بدوره أنه أهل للثقة.
وكان وهو يعمل في فناء البيت يتجنب النظر إلى الناحية التي يحتمل أن يلمح فيها زوجة المعلم، ولكنه رأى ابنته زينب وهي ذاهبة إلى الطريق فخانه طرفه لحظات خاطفة ولكنها جديرة بالندم. وتفشى الندم أكثر عندما اجتاحته شعلة ألهبت الصدر والجهاز الهضمي واستقرت في الجوهرة الحمراء المشعة للرغبة الجامحة. غمغم وهو ثمل بنشوة دسمة نهمة: ليحفظنا الله!
ناپیژندل شوی مخ
ولأول مرة يردد اسم الله بطرف لسانه وفكره مشدود إلى غيره؟ وحضرته تجاربه الجنسية البدائية المحدودة في رجفة من الحيرة والقلق والغربة.
واقتنع المعلم زين الناطوري بمزاياه كحارس أمين فسأله: أين تسكن يا عاشور؟
فأجاب ببساطة: سور التكية أو تحت القبو. - يسرك ولا شك أن تنام في الحظيرة؟
فأجاب بسرور: نعمة أشكرها لك يا معلم.
9
يستيقظ في الفجر. إنه يألف ظلمته المشعشعة بالبسمات، ودبيب أهل التقوى والفجور، وأنفاس الكون النقية المسربلة بالأحلام. ينفض عن قلبه صورة زينب المتحدية ويصلي. يلتهم رغيفا مع الزيتون المخلل والبصل الأخضر. يربت على ظهر حماره، ثم يسوقه أمامه نحو الميدان مستقبلا يوم الرزق والعمل. يفيض بحيوية متدفقة، يمتلئ بثقة غير محدودة في قدرته وصبره وامتلاكه للمجهول، تكتنفه دوامة تكاد تقتلعه من جذوره، دائما تتقدمه زينب فتغلبه بنداء غامض. وجهها مشوب بشحوب، أنفها بارز، شفتاها غليظتان، جسمها صغير ومدمج، ولكنها تستمد تأثرها عليه من مصدر مسحور، دائما تشعل جذوة في أعماقه، وأحيانا لا يرى الحمار وراكبه.
وفي أويقات الراحة يقف أمام البيت يتابع تيار السابلة. ما أكثر العاملين في الدكاكين أو وراء عربات اليد والسلال والمقاطف! وما أكثر المتشردين من الحرافيش بلا عمل! من أبوه بين هؤلاء الرجال؟ من أمه بين هؤلاء النسوة؟ رحلا عن الدنيا أم يبقيان؟! هل يعرفانه أم يجهلان؟ من الذي أورثه هذا الكائن الهائل المفعم بمعروف الشيخ عفرة زيدان؟ ويطرد عن رأسه الأفكار العقيمة المضنية، فتبادر إليه زينب زين الناطوري بندائها الغامض. وقال لنفسه: كل شيء يتحرك فلا بد أن تحدث أمور.
وقال لنفسه أيضا: ليكن الطيب حليفي جزاء نيتي البيضاء.
وترامى إليه صوت زين الناطوري وهو يحتدم غضبا. رآه في الفناء مشتبكا في معركة لفظية مع أحد العملاء، وبعنف صاح به: أنت لص لا أكثر ولا أقل!
فصاح العميل: احبس لسانك القذر!
ناپیژندل شوی مخ
وإذا بالمعلم يصفعه فيمسك الرجل بتلابيبه. هرع عاشور إليهما وهو يهتف: وحدوا الله!
رمى نفسه بينهما فركله العميل وهو يسبه. ضمه عاشور إلى صدره بقوة حتى صرخ. تركه يفلت وهو يقول له: اذهب بسلام فهو خير لك.
سرعان ما خلا منه الفناء، وتكأكأت النساء في النافذة، وصاحت الأم: لم يبق إلا أن يعتدي علينا في بيتنا!
ورمق زين الناطوري عاشور بامتنان، وقال مداريا حياءه: الله يفتح عليك.
ومضى المعلم إلى الداخل، ولم يبق في النافذة إلا زينب، عاد عاشور عند موقفه عند الباب وهو يقول لنفسه: لم يبق إلا أن نتبادل النظرات!
واستند إلى الجدار فلمح قطة تتوثب لتخويف كلب أسود يتنحى تجنبا للمعركة، وقال لنفسه: حذار يا عاشور، هذه وصية والديك!
واستسلم لأنامل الأحلام الناعمة حتى حرقته أشعة الصيف.
10
قالت عدلات لزوجها زين الناطوري: إنك تؤكد أنه أهل للثقة؟ - أجل، صار لي به ابن.
فقالت بنفاد صبر: عظيم، زوجه لزينب ...
ناپیژندل شوی مخ
فقطب زين الناطوري متفكرا، ثم قال: آمل فيمن هو خير منه! - طال الانتظار، وكلما جاء عريس لإحدى أخواتها رفضته إكراما لسنها، فقال باستياء: لو كانت من لحمك ودمك ما قلت ذلك. - أصبحت عقبة في سبيل بناتي، وهي في الخامسة والعشرين ولا جمال لها، وطباعها تسوء يوما بعد يوم.
فكرر عابسا: لو كانت من لحمك ودمك ما قلت ذلك. - ألا يكفي أنك تثق به؟ وأنت في حاجة إلى من تثق به في كبرك. - وزينب؟ - ستفرح، أنقذها من يأسها.
11
سمع عاشور المعلم زين يناديه من المنظرة. ولما ذهب إليه أفسح له مكانا إلى جانبه على الأريكة الخشبية المفروشة بفروة خروف. تردد عاشور، ثم جلس. عند ذاك سأله المعلم برقة: ألا تفكر يا عاشور في ضمان نصف دينك؟
12
الفرحة والنور. عندما يصير الحلم نعمة تشدو في الأذن والقلب. عندما تشرق وجوه العباد بضياء السماح، وحتى الحشرات تمسك عن ارتكاب الأذى.
ذهب عاشور إلى حمام السلطان فأزال الشعر والعرق، مشط شعره وهذب شاربه، تطيب بالجلاب، ونظف أسنانه بالسواك، رفل في جلباب أبيض ومركوب فصل خاصة لقدميه الضخمتين.
احتفل بزفاف مناسب في بيت الناطوري، ثم أقام العروسان في بدروم مكون من حجرة ودهليز يقع أمام بيت الناطوري. واندلق عاشور في الحب حتى قمة رأسه، وكان بعض أهل الفجور عقب انطلاقهم من الغرز في النصف الثاني من الليل يقرفصون في الظلام لصق شباك البدروم يتنصتون ويحلمون.
وأنجب مع الأيام حسب الله ورزق الله وهبة الله. وفي أثناء ذلك توفي المعلم زين وزوجه، وتزوجت البنات.
تمتع عاشور بحياة زوجية سعيدة. ظل يعمل مكاريا وأصبح مالكا للحمار الذي وهبه إياه الناطوري ليلة زفافه. وعملت زينب من ناحيتها بتربية الدجاج وبيع البيض، فتيسرت المعيشة وفاح الدهليز برائحة التقلية.
ناپیژندل شوی مخ
وتقدم الأولاد صوب الشباب فعملوا في مختلف الحرف؛ عمل حسب الله صبي نجار، ورزق الله مبيض نحاس، وهبة الله صبي كواء بلدي. ولم يرزق أحدهم عملقة أبيه، ولكنهم كانوا أشداء لدرجة تستوجب الاحترام في الحارة.
ورغم ما عرف به عاشور من دماثة الخلق فإن واحدا من رجال قنصوه الفتوة لم يتحرش به. ولم تكن زينب تماثله في دماثته؛ كانت عصبية، سيئة الظن، طويلة اللسان، ولكنها كانت مثالا طيبا للجد والاجتهاد والوفاء.
وكانت تكبره بخمس سنوات، وبقدر ما حافظ هو على حيويته وشبابه سارع إليها التغير والنضوب قبل الأوان؛ على ذاك لم تزغ له عين، ولم يزهد في حبها.
وبمرور الزمن ابتاع بنقوده ونقود زينب كارو فترقى من مكار إلى سواق. وقالت له زينب بنبرة وعيد: كان زبائنك من الرجال، ومن الساعة لن تحمل إلا النساء!
فضحك متسائلا: وهل يقصدني إلا زائرات الأضرحة والقبور؟!
فهتفت به: بيني وبينك ربنا!
وأحزنه أنه مضى ينسى ما حفظه من القرآن فلم تبق له إلا السور الصغيرة التي يتلوها في الصلوات، ولكن حبه الخير لم يفتر قط. وتعلم أن درويش زيدان ليس الشرير الوحيد في الحياة. تعلم أن الحياة حافلة بالمكر والعنف ورذائل لا حصر لها، ولكنه واظب على الاستقامة ما وسعه ذلك، وكان يحاكم نفسه محاكمة قاسية كلما تورط في خطأ. ولم ينس أنه استولى على جميع مدخرات زينب وبعض أجور أبنائه لكي يبتاع الكارو، وأنه في سبيل ذلك قسا عليهم بعض الشيء وغضب غضبات كاسرة!
وكان يشاهد ما يصيب بعض جيرانه من عنت الفتوة ورجاله، فيكظم غيظه ويطيب خاطر المظلومين بكلمات لا تغني، ويدعو للجميع بالهداية، وحتى قال له جار ذات يوم: إنك لقوي يا عاشور، ولكن ماذا أفدنا من قوتك؟!
علام يلومه الرجل؟! علام يحرضه؟ أليس حسبه أنه رفض الانضمام إلى الطغاة؟ أليس حسبه أنه لا يستغل قوته إلا فيما ينفع الناس؟!
رغم ذلك هفت في ضميره الوساوس كما يهفو الذباب في يوم قائظ، وقال إن الناس لا يرونه بالعين التي يرى بها نفسه، وتساءل في حزن: أين صفاء البال؟ أين؟!
ناپیژندل شوی مخ
13
كان يتربع في الساحة أمام التكية مودعا الغروب، مستقبلا المساء، ينتظر انسياب الأناشيد ونسمة من نسائم الخريف معطرة بالبرد والأسى، تنزلق من فوق السور العتيق، تشد بذيلها طيفا من أطياف الليل. بدا عاشور متخما بالسكينة ولم تشب له شعرة واحدة. كان يحمل فوق كاهله أربعين عاما وكأنها هي التي تحمله في رشاقة الخالدين.
همسة في باطنه جعلته يحول عينيه نحو ممر القرافة فرأى رجلا يخرج منه يسير في تكاسل. لم يستطع أن يسترد عينيه، عرفه في بقية ضوء المغيب، دق قلبه، وخمد سروره. أقبل الرجل نحوه حتى وقف أمامه حاجبا عنه التكية، ومضى ينظر إليه باسما.
تمتم عاشور: درويش زيدان!
قال درويش معاتبا: هلا بدأت بالتحية؟ مساء الخير يا عاشور!
فنهض باسطا يده وهو يقول بنبرة محايدة: أهلا بك يا درويش. - لم أتغير كثيرا فيما أظن.
مؤسف هذا الشبه بينه وبين المرحوم عفرة، ولكن غلظت قسماته وتحجرت، قال: بلى.
فحدجه بنظرة ذات معنى وقال: رغم أن كل شيء يتغير!
فتجاهل عاشور ملاحظته متسائلا: أين غبت طوال ذاك العمر؟
فقال باستهانة ساخرة: في السجن!
ناپیژندل شوی مخ