قد كانت الحال في أيامنا على العكس، إن كان لا يسرك من الرجل ظاهر حاله فإنه يرضيك باطن أمره، وربما كان يجتهد في التظاهر بلباس الفقر إذا بلغ حد الغنى، ويبدي الشكوى إذا أسر الرضى.
قال عيسى بن هشام: وقضينا مدة في مثل هذا الحديث وأنا متهلل مستبشر بما أراه ينمو ويثمر في نفس الباشا من التعلق بالمباحث العقلية، والتعمق في معرفة الأخلاق النفسانية حتى صار من ديدنه أن يستنبط من كل حادثة يشاهدها ما يرتقي به إلى عالم الفضيلة والحكمة، وازددت يقينا بأن الرجل المرتفع القدر لا يزال غرا بالأمور غافلا عن حقائق الأشياء، فإذا وقع في أشراك الخطوب استنارت بصيرته واستضاءت قريحته، وعلم بطلان ما كان فيه بحقيقة ما وصل إليه.
ثم حانت منا التفاتة إلى ما وراء السور، فرأينا خدم البيت وحشمه قد اجتمعوا حلقة وهم يتحاورون ويتجادلون فسمعنا البواب يبتدئ فيقول:
البواب :
ليت أمي لم تلدني وليت أبي لم يعلمني رسم الخط، فقد كلت يدي وحفي قلمي من طول التوقيع بالاستلام على الإنذارات والمحاضر، فقلما يمضي يوم إلا ولي فيه من التوقيعات ما ليس لرئيس قلم في ديوان، فبئست المعيشة معيشتي وبئس الحظ حظي، وليتني كنت قادرا على الانضمام إلى صف هؤلاء المطالبين والغرماء، فأخلص بجزء من أجرة الشهور المتراكمة، ومن لي بالتباعد عن هذا البيت الذي انتشر فيه جراد الحجز، وأزعجت من فيه أصوات الغرماء، وأزعجني تردد المحضرين على صندوق ثيابي.
الكاتب :
لست أدري والله ما يصنع صاحب البيت، وماذا تحتال لحالته وكيف لنا بالمعيشة معه ولم يبق عنده كثير ولا قليل، وإن صدق ظني كانت عاقبته من أقبح ما تتصورونه في سوء العواقب، فقد أحسست من كثرة حركته واضطرابه في هذه الأيام أنه يدبر لنفسه أسوأ تدبير للخلاص من ضيقه ليختتم أمره بأقبح الخواتم، ويعلم الله أنه لولا ما ألتقطه في أشغاله من هنا ومن هناك لما تيسر لي القيام بقوت عيالي بعد أن انقطعت عنا أجور الشهور، وقد دعاني هذا الأمير أمس وأعطاني خاتما من الياقوت لأبيعه فذهبت به إلى الجوهري الذي كنا اشتريناه منه بأكثر من مائة جنيه فلم يدفع لي فيه إلا خمسة وعشرين، فبعته إياه وعدت للأمير بالدراهم فكأنما فككت الأسير من القيد وأنقذت الغريق من اللج.
الوصيف :
الآن انحل ما كان مشكلا وانكشف لي ما كان غامضا، فإني رأيت معه أمس ذهبا كثيرا لم أهتد إلى مورده أعطاني منه عشرة جنيهات، وأمرني أن أبتاع من أخيه هذا الكلب الذي ترونه مولعا بملاعبته منذ الصباح.
الفراش :
ناپیژندل شوی مخ