112

حديث عيسى بن هشام

حديث عيسى بن هشام

ژانرونه

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، وكم لصنعتي من منافع ومزايا، وليتني كنت شوهت خلقته، ومسخت سحنته، فنتفت شاربه، وحلقت حاجبه، تالله لآخذن بناصيتي هذا الثقيل البارد، ولأسدن عليه المصادر والموارد ولألزمنه صباح مساء، ولو حلق في الهواء.

كل هذا والخدم يكتمون وجود صاحب الدار، ويقسمون أنه لم يبق لديه درهم ولا دينار، وإذا هم أحد الغرماء بالدخول منعوه، أو دافعهم أحدهم دفعوه، وبينما نحن نتأمل ونتعجب، ونتقلى على الجمر ونتقلب، ونقابل بين سعد المكان، ونحس السكان، إذا برجل إفرنجي قد خرج من بيت الحرم، وهو يلتهب غيظا ويضطرم، ويقول للبواب برطانته، وسوء عبارته: لقد طالبته فأبان الإفلاس والعجز، فلم يبق إلا توقيع الحجز، وإليك قائمة البيان، وحذار من التلف والنقصان، وما كاد «محضر المختلطة» ينتهي ويذهب، حتى حضر «محضر الأهلية» يلهث من التعب، فسلم البواب ورقة إنذار، فأخذها وهو يدعو بالثبور والدمار، وبعقب ذلك انصرف المحضر، وتبعه جميع من حضر لاشتداد حر الظهيرة وأوارها،

6

ولفح الشمس للوجوه بنارها، فانتهزنا هذه الفرصة فتحرك مندوبنا وتقدم، وخاطب البواب وهو يتلعثم، فقال له: أنا مندوب المحكمة الشرعية، فقال له: لم يكن ينقصنا إلا هذه البلية، ثم دفعه في صدره، فرده إلينا بظهره، بعد أن أخرجنا من الجنان، وأغلق باب البستان، فأخذ المندوب بيد الشاهدين وهو يتظلم ويتضرر، ووقف بينهما ينادي في الهواء بالنداء المقرر: «يا فلان بن فلان بن فلان إن مولانا قاضي مصر يأمرك بأن تحضر إلى المحكمة في يوم الخميس الآتي للنظر في دعوى اغتصاب الوقف الموجهة عليك من قبل فلان بن فلان، وإن لم تحضر في اليوم المذكور ينصب عنك وكيلا ، ويسمع الدعوى في وجهه ويحكم عليك غيابيا.»

ثم ودعنا المندوب والشاهدين وانصرفوا إلى سبيلهم، وبقيت أنا والباشا في دهشة وذهول وحزن وأسف مما رأينا وسمعنا، ثم استند الباشا إلى سور البستان، وشرع يقول لي وهو في تأمله وتفكره:

الباشا :

ما زالت بواطن الأمور وحقائق الأشياء تتجلى لي على وجهها منذ غمرني الدهر في هذه المشكلات والخطوب، حتى تحققت اليوم بأن أمور هذه الدنيا إنما تجري كلها على التضليل والبهتان، وتدور على التمويه والبطلان، وتنطوي على الغش والتدليس، فبالله عليك من ذا الذي يرى هذا القصر بزينته وبهجته وخدمه وحشمه ولا يتولاه الحسد لساكنيه، والتطلع إلى حسن حظهم وسعادة عيشهم، ثم يرجع إلى نفسه فيسخط على حظه من الدنيا ويندب نصيبه من الحياة وسوء قسمته في العالم!

عيسى بن هشام :

لا زلت ترى الحق وتقول الصدق بما يتسع لك من سبيل الهداية والحكمة، نعم إن جل من نراهم من المنعمين المترفين والأغنياء الموسرين لو كشفت عن باطن أمرهم وحقيقة أحوالهم وخبايا معيشتهم من وراء الجداران لوقفت على ما يوجب الأسى والأسف، ويدعو إلى الرحمة والشفقة لا ما يدفع إلى الحسد والغبطة، ولأيقنت أن الرجل الأجير الذي يستخرج قوت يومه منغمسا بعرق جبينه هو أسعد منهم حالا وأنعم بالا، والغالب أنه كلما كان مظهر العيش زاهيا زاهرا كان باطنه مقتما مظلما، وأشد ما يكون من البلاء على أهل هذه الطبقة أنهم يقضون أوقات حياتهم في الظهور بين الناس على أغرب حالات التصنع، فيكون الواحد منهم غريقا في بحور الهموم والأكدار، وتراه يقسر نفسه بين الملأ على التظاهر بالسرور والانشراح، وأكثر ما يكون في الضيق والإفلاس تراه يتعرض للتبذير والإنفاق، فهو على الدوام يتقلب بين الضيقين ضيق العيش وضيق النفس، وإن كان عظيم الثروة كثير الغنى، فإنه لا غنى مع ازدياد الحاجات، ولا مال يكفي مع تجدد الرغبات.

الباشا :

ناپیژندل شوی مخ