علم المشرقيات في إسبانيا
كان على إسبانيا، وتاريخها مرتبط بتاريخ العرب ثمانية قرون، أن تكون أول دولة غربية تعنى باللغة العربية، ولكنها تعد من الأواخر؛ لأن الارتقاء يتبع بعضه بعضا، ولا تنفق أمة إلا مما عندها، ومع هذا حدثنا التاريخ أن أول مدرسة
1
عربية أنشئت في طليطلة أوائل القرن الحادي عشر، ومن هذه المدرسة نشأت تربية الإسبانيين على مناحي العرب، وفي سنة 1130 أنشأ رئيس أساقفة مدرسة للتراجمة في هذه المدينة، وبها رسخت اللغة العربية والأفكار العربية في إسبانيا المسيحية، وكان من نتائج وقعة العقاب أن حررت إسبانيا من رق العبودية للمسلمين، وأدرك ملوك قشتالة أن ليس من العقل مقاطعة الماضي القديم، وأنهم في حاجة بعد إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء ومنافسيهم الألداء من العرب، فحاول ألفونس العاشر أن يعمل لإسبانيا المسيحية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام، وذلك بالأخذ بأحسن ما في الحضارتين ومزجهما بالحضارة الإسبانية؛ فأسست سنة 1354 في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية عربية، وحفظ لمدينة مرسية رونقها العربي الصرف، واستدعى إلى عاصمته العلماء من جميع الملل والنحل؛ ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية وقوامها اختيارا حسن المعارف النافعة، وهي أقرب إلى التسامح من المدرسة الأولى؛ إذ كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية الحضارة العربية والعلم العبراني.
كان لليهود يد طولى في نقل العلوم من العربية إلى اللاتينية؛ لأن المرابطين والموحدين الذين استولوا على الأندلس بعد الأمويين كانوا إلى التعصب. بددوا كتب الفلسفة وأحرقوها؛ ليرضوا بذلك العامة والفقهاء، ولولا تراجم الإسرائيليين؛ لضاع كثير من أوضاع مدنية العرب في الأندلس.
ثم بدا لرجال من الإسبان أن يسعوا في نشر دينهم بين المسلمين، فأخذوا يعنون باللغة العربية؛ ليتعلمها الرهبان، ويجادلوا مخالفيهم بالبرهان، فوضع أحد الدومنيكيين أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة 1230 وفي سنة 1311-1312 امتدح البابا كلمنضس الخامس في أحد المجامع الدينية من إنشاء درس لتعليم العربية في مدرسة صلمنكة، وفي أواسط القرن الثالث عشر كان الدومنيكيون مثال الغيرة في نشر اللغات الشرقية بين أبناء رهينتهم ومنها العربية، وأنشأ صاحب أراغون مدرسة لتعليم اللغات الشرقية في ميرامار، وأنشأ المجمع الديني في طليطلة ينفق على طغمة من الرهبان مؤلفة من ثمانية أشخاص انقطعوا لدراسة العربية، وعلى هذا ظلت الجمعيات الدينية ولا سيما الفرنسيسكانية إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا هي القائمة بدعوة المستشرقين إلى دس آداب الشرق ولغاته وتاريخه.
ولم تنل مدرسة صلمنكة شهرة طائلة في أوروبا حتى غدت إحدى المراكز العلمية الأربعة، وهي: باريز وأكسفورد وبولون، إلا أنها بتأثير العلم العربي أقامت على أساس معقول تعليم العلوم الطبيعية والطب، ولم يكن في مدرسة صلمنكة في أواخر القرن الثالث عشر غير خمس وعشرين حلقة للتدريس؛ منها حلقة لليونانية، وأخرى للعبرانية، وثالثة للعربية، فأصبحت في القرن السادس عشر سبعين حلقة فيها سبعة آلاف طالب.
ولما أعلن الإسبانيون الحرب على جنسية العرب ومدنيتهم ودينهم ضعفت العناية باللغة العربية، ولم يكتف باستصفاء جميع الجوامع، وجعلها كنائس؛ بل أخذوا ينصرون المسلمين بالإكراه، وفي سنة 1501-1502 طردوا من مملكتي قشتالة وغرناطة كل من ظلوا محافظين على الإسلام، ولم يعد للدومنيكيين والفرنسيسكانيين من حاجة لتعلم العربية ليتمكنوا من مجادلة الفقهاء عن علومهم؛ لأنها أفسدت أفكارهم، وزهد المسيحيون في علوم المسلمين، وقام في أذهانهم أنها خطر عليهم.
صدر أمر الكردينال كسيمنس سنة 1511 بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من الكتب العربية أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة فتم ذلك في نصف قرن، ولولا المترجمات منها إلى العبرية واللاتينية لبادت مدنية العرب من تلك البلاد، وأخذ ديوان التفتيش الديني على نفسه إبادة كل أثر للعرب، وما كان متنصرة المغاربة الذين دانوا بالنصرانية مكرهين ليستطيعوا إبداء أسفهم إلا سرا، وفي الكتب العربية المكتوبة بالعجمية، أي المكتوبة بحروف إسبانية، دليل على تعلق أولئك المتنصرة بقديمهم.
وفي سنة 1556 منع فيليب الثاني متنصرة المسلمين من استعمال اللغة العربية، وأراد بهم على أن تنتزع من أسمائهم التراكيب العربية، وعن أجسامهم الألبسة الشرقية؛ ليمزجهم بزعمه في سواد أبناء المذهب الكاثوليكي، ثم طردوا على عهد فيليب الثالث، وكان عددهم نحو مليون نسمة على صورة قاسية سخيفة، ولم يبق من الحضارة العربية واللغة العربية في إسبانيا غير ذكراهما، وزهد القوم في القرنين السابع عشر والثامن عشر في تعليم العربية في إسبانيا اللهم إلا على طريقة أفرادية، وغدا الاطلاع على العربية نقصا، ولربما اتهم من يتعلمها بالإلحاد بعد أن كان أهل الطبقة العليا من الإسبان أيام عز العرب يحلون بأقوال فلاسفة العرب كلامهم، ويدرسون الفلسفة العربية درس مستبصر مستفيد لا درس ناقد عنيد، ويعدون الاطلاع على الآداب العربية من أمارات الظرف والكياسة.
ناپیژندل شوی مخ