1 - صدر الكلام ومصادره
2 - تحية الأندلس
3 - تقويم الأندلس
4 - فتح الأندلس
5 - عمران الأندلس
6 - أهل الأندلس
7 - تسامح العرب
8 - العرب والإسبان
9 - العلم في الأندلس
10 - تفنن عرب الأندلس
11 - مدينة مجريط
12 - دير الأسكوريال
13 - قرطبة والزهراء
14 - مدينة إشبيلية
15 - مدينة غرناطة
16 - قصر الحمراء
17 - كتابات الحمراء
18 - ذكرى مؤلمة
19 - جلاء المسلمين وتنصيرهم
20 - سقوط الأندلس
21 - جبل طارق وطنجة
22 - علم المشرقيات في إسبانيا
1 - صدر الكلام ومصادره
2 - تحية الأندلس
3 - تقويم الأندلس
4 - فتح الأندلس
5 - عمران الأندلس
6 - أهل الأندلس
7 - تسامح العرب
8 - العرب والإسبان
9 - العلم في الأندلس
10 - تفنن عرب الأندلس
11 - مدينة مجريط
12 - دير الأسكوريال
13 - قرطبة والزهراء
14 - مدينة إشبيلية
15 - مدينة غرناطة
16 - قصر الحمراء
17 - كتابات الحمراء
18 - ذكرى مؤلمة
19 - جلاء المسلمين وتنصيرهم
20 - سقوط الأندلس
21 - جبل طارق وطنجة
22 - علم المشرقيات في إسبانيا
غابر الأندلس وحاضرها
غابر الأندلس وحاضرها
تأليف
محمد كرد علي
الفصل الأول
صدر الكلام ومصادره
زرت في الشتاء الماضي (1340 / 1922) بعض أمهات مدن الأندلس، فأرادني غير واحد من الأحباب على أن أحدثهم بطرف مما شاهدت في ربوعها من بقايا حضارة العرب، فأجبتهم إلى رغبتهم، شاكرا حسن ظنهم، وقد رأيت أن أشفع مشاهداتي بشيء من مطالعاتي عن هذا القطر؛ ليتعرف القارئ من الغابر، وجه الحاضر، ويقيس في الجملة ما كان هناك في عهد أمتنا، على ما هو كائن اليوم في عهد غيرهم، أذكر ما أثره العرب في تل القاصية من حضارة، وأثلوه من مجد خالد على جبين الدهر، والسبب الذي به ارتفعت الأندلس حتى عدت أرقى مملكة في عهد شبابها، والأعراض التي عرضت لها، فهرمت فزال سلطانها، وتداعى عمرانها، وانذعر سكانها، وربما نفعت في الأخلاف سيرة الأسلاف، خصوصا في أرض لم يكتفوا بأن فتحوها؛ بل عمروها وتديروها، وحكموها، ومدارسة حياة الأجداد، تربي أخلاق الأبناء والأحفاد، يصيبون فيها حكمة بالغة، وموعظة حسنة، والتاريخ يلقن الفكر الجديد، وينير الطريف بالتليد، والله وارث الأرض ومن عليها.
وهناك ما رجعت إليه من الكتب والرسائل في تأليف الفصول التالية، ومنه تعالى أستمد المعونة، ومن الراسخين في العلم تصحيح ما عساهم يعثرون عليه من الهفوات: (1)
طبقات الأمم لصاعد الأندلسي (طبع بيروت). (2)
نفح الطيب للمقري (مصر). (3)
المعجب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشي (ليدن). (4)
قلائد العقيان للفتح بن خاقان (مصر). (5)
مطمح الأنفس له (الآستانة). (6)
البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذاري (ليدن). (7)
الإحاطة في أخبار غرناطة للسان الدين بن الخطيب (مصر). (8)
رقم الحلل له (تونس). (9)
الحلل الموشية له (تونس). (10)
الذخيرة في شعراء الجزيرة لابن بسام (مخطوط). (11)
أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر (ميونيخ). (12)
التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمري (مصر). (13)
المسالك والممالك لابن حوقل (ليدن). (14)
أحسن التقاسيم للمقدسي (ليدن). (15)
كتاب البلدان لابن واضح اليعقوبي (ليدن). (16)
تقويم البلدان لأبي الفدا (باريز). (17)
أخبار مجموعة في فتح الأندلس، وذكر أمرائها - رحمهم الله - والحروب الواقعة بينهم (مجريط). (18)
الجزء الثاني والعشرون من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للثوري، وفيه أخبار ملوك الأندلس من العلويين والأمويين ومن ملك بعد بني أمية، إلى حين انقراض الدولة العبادية (غرناطة). (19)
الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية (الجزائر). (20)
كتاب محمد بن تومرت مهدي الموحدين (الجزائر). (21)
عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية للغبريني (الجزائر). (22)
المؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن أبي دينار (تونس). (23)
ديوان ابن حمد حمديس الصقلي السرقوسي (رومية). (24)
النجوم الزاهرة لابن تغري بردي (ليدن). (25)
العيون والحدائق في أخبار الحقائق (ليدن). (26)
تاريخ المسعودي (باريز). (27)
تاريخ الكامل لابن الأثير (مصر). (28)
تاريخ ابن خلدون (مصر). (29)
الحلة السيراء لابن الأبار (ليدن). (30)
كتاب القضاة بقرطبة للخشني (مجريط). (31)
تكملة التكملة لابن الأبار (مجريط). (32)
التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار (الجزائر). (33)
صبح الأعشى للقلقشندي (مصر). (34)
معجم البلدان لياقوت الحموي (ليبسيك). (35)
المكتبة العربية الأندلسية، وفيها ستة كتب: وهي الصلة لابن بشكوال، وبغية الملتمس لابن عميرة الضبي، والمعجم لابن الأبار، والتكملة لكتاب الصلة لابن الأبار، وتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي، وفهرست ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضروب العلم وأنواع المعارف أبو بكر بن خليفة الأموي الإشبيلي نشرها المستشرقان الإسبانيان كوديرا وريبرا (مجريط)
F. Codera et J. Ribera: Bibliotheca Arabico-Hispana (Madrid) . (36)
المكتبة العربية الصقلية لميشل آماري (ليبسيك)
M. Amari: Bibliotheca Arabo-Sicula (Leipzig) . (37)
محاضرة ابن زيدون لأحمد زكي باشا نشرت في السنة الثانية من مجلة البيان (مصر). (38)
السفر إلى المؤتمر لأحمد زكي باشا أيضا. (39)
قصيدة ابن عبدون وشرحها لابن بدرون (ليدن). (40)
رسالة ابن زيدون وشرحها للصفدي. (41)
ترجمة ابن عباد (ليدن). (42)
ترجمة ابن زيدون (ليدن). (43)
ترجمة ابن عبدون وملوك بني الأفطس (ليدن). (44)
قاموس الأعلام لشمس الدين سامي (تركي طبع الآستانة). (45)
مجلة المقتطف. (46)
مجلة المقتبس (مصر والشام). (47)
دائرة المعارف الإسلامية (ليدن)
Encyclopedie de l’Islam, Leyde . (48)
تاريخ مسلمي إسبانيا لدوزي (باريز)
d’Espagne, Paris: Dozy Histoire des Musulmans . (49)
التاريخ العام للأفيس ورامبو (باريز)
Lauisse et Rombaud: Histoire generale, Paris . (50)
تاريخ العرب والمغاربة في إسبانيا والبرتغال لنكوند (باريز)
J. Conde: Histoire de la do-mination des Arabes et des Maures en Espagne et en Portugal, Paris . (51)
تاريخ العرب العام لسيديليو (باريز):
Sedillol: Histoire generale des Arabes, Paris . (52)
تاريخ العرب لهوار (باريز):
C. Huart: Histoire des Arabes, paris . (53)
عجالة في تحليل نفوس الشعوب الأوروبية لفوليه (باريز)
Eouillee: Essai d’une psy-chologie des peoples europeens.
. (54)
المخطوطات العربية في الأسكوريال لهارتويغ دار نبورغ (باريز)
Hartiwig Derenbouig: Les manuscripts arabes de l’Escurial, Paris . (55)
الصنائع في إسبانيا لكوميز مورينو (مجريط)
Gomez-Moreno: El arte en Espana (Madrid) . (56)
الكتابات العربية في غرناطة لإميليو لافوانتي أي التكنترار (مجريط)
Emilio Lafuente y alcantrara: Inscriptiones arabes de Grenada. (Madrid) . (57)
دليل إسبانيا والبرتغال لبيدكر (ليبسيك)
Baedeker: Espagne et
. (58)
بحث وصفي لمصانع العرب تأليف رافائيل كونتروراس (مجريط):
Raphahel Contreras Etudes descriptiues des monuments arabes. Madrid . (59)
تاريخ الأديان العام لسلمون ريناخ (باريز):
Salomon Reinach Histoire generale des religions, Paris . (60)
إسبانيا في القرن العشرين لمارفو (باريز)
Maruaud: L’Espagne au XXe siecle. Pairs . (61)
الإسبانيون والبرتغاليون في بلادهم لكيلاردي (باريز)
Quillardet: Espagnols et Portugais chez eux,
. (62)
إسبانيا والبرتغال مصورتان (باريز)
L’Espagne et le Portugal illustres. Paris . (63)
دائرة المعارف الإفرنسية الكبرى (باريز)
La grande encyclopedie francaise, Paris . (64)
معجم لاروس المصور (باريز)
Nouueau Larousse illustere,
. (65)
بحث في حياة ابن زيدون لأوغست كور (الجزائر)
Augusle Cour: Ibn Zaidon. Alger . (66)
تعليم اللغة العربية في إسبانيا لميكائيل آسين بلاسيوس (الجزائر)
M. Asin Palacios: l’enseignement de l’arabe en Espagne. Alger . (67)
معجم الكل في واحد أو موسوعات العلوم البشرية:
Tout en un Encyclopedie des connaissances humaines . (68)
دستور الصنائع الإسلامية لسالادين وميجون
Saladin et Mgeon: Manuel d’art musulman .
الفصل الثاني
تحية الأندلس
عشقتها، ولم تسعدني الأيام بإمتاع النظر في جمالها، واستطلعت طلع أخبارها، فروى الرواة عنها عجائب أقلها مما يستهوي النفوس المتمردة، ويأخذ بمجامع القلوب الجافة العاصية، تفردت بين حيلها بما خصت به من معاني الحسن والإحسان، فكثر الخطاب والطلاب، وهي لا تفتأ تبدي لمن حماها صنوفا من اللطف والظرف، وتخاطب البعيد والقريب بثغر باسم، وترشقهم بنظرات، لا تخلو من غمزات، تريد بها الهزوء بنكبات الزمان، والاستخفاف بسخافة الإنسان.
عشقتها منذ عهد الصبا، وعشق الصبا شديد، لما قرأته الباصرة من وصف سجاياها وحملته إلى البصيرة ففكرت فيه، وتدبرت خوافيه وحواشيه، وزادني غراما بها ما سمعت من أن أناسا قبلي أصيبوا بما أصبت به، وعدوا النزول في حماها ولو ساعة سعادة العمر، وحسنة الدهر: العشق فنون وعشقي كان لأرض الأندلس ، عليها من كل عربي ألف ألف سلام، على مر العصور والأيام.
عشقتها لكثرة ما تلوت من آثار من درجوا على أديمها من أبنائها وغير أبنائها، وكانت المخيلة تتصورها في مظاهر صح بعضها يوم اللقاء، وآخر كان بالطبع كالخيال، في الأندلس تم نحو نصف مدنية العرب الباهرة، وقضوا في أرجائها نحو ثمانية قرون كانت بجملتها وتفصيلها عهد السعادة والغبطة، ودور ظهور النوابغ وأرباب الإبداع والقرائح، وكم من أمة من أمم الحضارة الحديثة على كثرة ما اقتبست وأوجدت، لم يتيسر لها حتى يوم الناس هذا أن تبلغ مكانة الأندلس، فكان هذا الصقع في منقطع أرض المغرب وآخر أرض العرب بين البحرين، المحيط والمتوسط، برهانا أزليا على فرط استعداد العرب للعلوم والصناعات، وناعيا على من أنكروا لإفراطهم في الشعوبية فضل هذه الأمة على الحضارة.
أقام الغربيون ضروبا من المصانع من بيع وأديار ومتاحف ومكاتب ومدارس وجسور وسدود وطرق ومعابر وتماثيل ونصب وبرك، لكنهم لم يصنعوا على كثرة تفننهم في هذا الشأن منذ عهد اليونان والرومان، طرزا من البناء يكلمك ولا لسان له فيقول، وينظر إليك فيعمل في شغاف قلبك ولا عين له فتنظر، ويطربك بتساوق نغماته من دون ما صناجة ولا وتر ولا ألحان. مصانع كثيرة بقيت بقاياها في طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة سلبتها الفتن تارة شطرا من بهائها، وسالمتها حينا فأبقت عليها، أو رممت شيئا مما أضرت به عوامل الأيام، وإن لم تعد إليها نضرتها الأولى.
سلام على أرض طيبة خصها الخالق بأجمل الهبات الطبيعية الطيبة، فلم ينقصها زكاء تربة في نجادها ووهادها، ولا مياها عذبة دافقة من هضابها على شعابها، ولا أشجارا باسقة وزروعا خصبة في سهلها ووعرها، ولا اعتدال مواسم وجمال إقليم، ومصحة أبدان زانها الصانع السماوي بإيجاده، كما زانها الصانع الأرضي بإبداعه، وما أجمل الطبيعي والصناعي، إذا تواعدا إلى الاجتماع في خير البقاع.
ليالي الأنس، في جزيرة الأندلس، وأيامها الغر، في سالف الدهر، فيك قامت سوق الآداب، بما ارتفعت له رءوس العرب على غابر الأحقاب، وكمل في ربوعك الذوق العربي حتى ظن بعضهم أنك نسيت كل شيء ما عدا الأدب، وما هذه الآثار الأبدية إلا ثمرة عملك وصناعاتك وزراعاتك: سلام على أرواح علمائك وفلاسفتك ونوابغك وأدبائك وأمرائك ما كان أرجح أحلامهم، يوم سنوا للعرب سنة الأخذ من السعادتين، وشرعوا لهم شرعة المدنية المثلى، حملوا فأجملوا من الشرق إلى الغرب تعاليم في الدين والدنيا كانت صفوة العقول إلى عهدهم فأدهشوا من عاصرهم، وخلفهم من الأجيال، ونسجوا لهم على غير مثال نسيجا رقيقا، كتبوا لهم فيه سجلا رقت حواشيه، ونظاما متقنا في حكم الإنسان للإنسان، يطبع في تاليه إذا تدبره، طبيعة حسن الذوق والطبع، وينشئه على أرق مثال من الخيال في الكمال والجمال مثال حي من حضارة العرب في القارة الأوروبية عامة وفي شبه جزيرة إسبانيا خاصة، يفتخر به العرب على اختلاف أصقاعهم، وحق لهم الفخر؛ لأن الأندلس العربية الإسلامية كانت - وما زالت - مدرسة الغرب المسيحي، نزل طلابه في قرونهم المظلمة على علماء العرب، فأوسعوهم من مكارم أخلاقهم، وأكرموا مثواهم بما علموهم، وما أسخى العربي على طلب قراه، والمعتصم بحماه، فلما جاء دور الانحطاط، وأزف رحيل ذاك الرعيل، من أرض كان الغرب كله يعدهم فيها أثقل دخيل، أبقوا لهم تلك المصانع ناطقة بفضلهم، معلمة لهم معاني ليست في معاجم نفائسهم، ومكذبة على غابر الأيام من ينكر المحسوس، ويغمط الحق لصاحبه، ويستهويه الغرض، فيشوه وجه الحق الجميل.
إلى اليوم لم يزل في الغربيين أناس يصعب عليهم الاعتراف بمزية للعرب بباعث من بواعث النفوس اللئيمة، فلا يكادون يصدقون حتى بما ورد عن هذه الأمة في كتبهم دع كتبها من أعمال هذه الحضارة الغربية، وما ذاك الأثر الضئيل الباقي من عاديات الأندلس العربية، إلا برهان جلي على ما كان هناك من عدل شامل، وعقل كامل، ونظر نافذ، ويد صناع، أربت على ما عمل من مثلها في سائر البقاع والأصقاع.
الفصل الثالث
تقويم الأندلس
أخذت العرب اسم الأندلس من اسم سكانها الأصليين الفنداليس
Vandales
فقالوا فاندالسيا أو فاندالوزيا
Vandalitia
أو
Vandalusia
وأطلقوا عليها اسم الجزيرة من باب التغليب ، فقالوا: جزيرة الأندلس، كما قالوا جزيرة العرب، وما هي في الحقيقة إلا شبه جزيرة؛ لاتصالها من أقصى الشمال بجبال البيرنات أو الثنايا كما كان يعرفها العرب، قدروا القسم الجنوبي من شبه جزيرة فانداليس أو أبيريا أو إسبانيا بمسيرة ثلاثين يوما طولا وزهاء عشرين يوما عرضا، يحدها البحر من أطرافها الأربعة إلا من الشمال الشرقي، وميزان وصف الأندلس كما قال ابن سعيد: أنها قد أحدقت بها البحار، فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جانب.
والأندلس في عرف أهلها اليوم عبارة عن ثماني ولايات: ولاية ألمرية، وولاية قادش، وولاية قرطبة، وولاية غرناطة، وولاية حولفا، وولاية جيان، وولاية مالقة، وولاية إشبيلية، ومساحتها السطحية 86687 كيلومترا مربعا، وسكانها زهاء أربعة ملايين، فهي نحو خمس إسبانيا الحالية بسكانها، ونحو سدسها بمساحتها السطحية. هذا ما يطلق عليه اليوم اسم الأندلس، بيد أن حكم العرب تجاوز ذلك إلى برشلونة، وما وراءها من الشرق وإلى لشبونة، وما جاوزها في الغرب، ولم يبق في أيدي الإسبانيين والبرتغاليين من هذه الجزيرة التي تبلغ مساحتها زهاء نصف مليون وأربعة آلاف كيلومتر مربع سوى أراض مصخرة ضئيلة من الشمال تعرف ببلاد الجلالقة وآستوريا.
فالعرب لم يملكوا إذا الجزيرة بأسرها حين افتتحوها، وإنما ملكوا معظمها، ولذلك لا تعرف مساحة الأندلس العربية على التحقيق، ويقول المسعودي: إن مسيرة عمائر الأندلس ومدنه نحو من شهرين، ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة، وقال غيره في أرض الأندلس العامر والغامر، فكانت من ثم مساحة الأندلس تختلف بحسب تغلب العرب على أعدائهم أو تغلب أعدائهم عليهم، وكم من الأقاليم والمدن في الشمال والغرب والشرق دخلت مرات في حكم العرب ثم خرجت عنهم، فقد كان عملها لعبد الرحمن بن معاوية في القرن الثاني ثلاثمائة فرسخ في ثمانين، ثم صغرت في القرن الثامن حتى أصبحت - كما وصفها العمري - كمفحص القطاة ضيقا، ومدرج النمل طريقا.
لا جرم أن مقام العرب في الأندلس كان غير طبيعي؛ لمجاورتها لأمم قوية الشكيمة، مخالفة لها في الجنس واللسان والدين، حتى إن عمر بن عبد العزيز لما ولى السمح بن مالك عليها أمره أن يكتب إليه بصفتها وأنهارها، وكان رأيه انتقال أهلها منها؛ لانقطاعهم عن المسلمين، قال المؤرخ: وليت الله كان أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم إلى بوار إلا أن يرحمهم الله.
وصف المراكشي ما كان في أيدي الإسبان والبرتغال من أرض الأندلس سنة 621ه فقال: أول المدن في الحد الجنوبي الشرقي على ساحل البحر الرومي مدينة برشنونة (برشلونة) ثم مدينة طركونة، ثم مدينة طرشوشة، والمدن التي على غير الساحل في هذا الحد المذكور مدينة سرقسطة ولاردة وأفراغة وقلعة أيوب هذه كلها يملكها صاحب برشنونة، وهي الجهة التي تسمى أرغن، وفي الحد المتوسط ما بين الجنوب والغرب مدينة طليطلة وكونكة وأقليج وطلبيرة ومكادة ومشريط (مجريط) ووبذ وأيلة وشقوبية هذه كلها يملكها الأدفنش وتسمى هذه الجهة: قشتال.
وتجاوز هذه المملكة فيما يميل إلى الشمال قليلا مدن كثيرة أيضا، وهي: سمورة وشلمنكة والسبطاط وقلمرية، هذه كلها يملكها رجل يعرف بالببوج، وتسمى هذه الجهة: ليون، وفي الحد المغربي الذي هو ساحل البحر الأعظم أقيانس، ومدن أيضا منها مدينة الأشبونة وشنترين وباجة وشنترة وشنتياقو ويابرة ومدن كثيرة يملكها رجل يعرف بابن الريق، ووراء هذه المدن مما يلي بلاد الروم مدن كثيرة. ثم ذكر ما يملكه المسلمون لعهده من الأندلس؛ فأورد حصن بنشكله وطرطوشة وبلنسية وشطبة وجزيرة الشقر ودانية ومرسية وغرناطة وحصون لرقة وبلش وقلية وبسطة ووادي آش وألمرية وحصن منكب ومالقة والجزيرة الخضراء.
وقوم القلقشندي الأندلس في المائة الثامنة، فقال: إن الأندلس أقامت بأيدي المسلمين إلى رأس الستمائة سنة من الهجرة، ولم يبق منا بيد المسلمين إلا غرناطة وما معها من شرق الأندلس عرض ثلاثة أيام في طول عشرة أيام، وباقي الجزيرة على سعتها بيد النصارى الفرنج، وأن المستولي على ذلك منهم أربعة ملوك؛ الأول: صاحب طليطلة وما معها، ولقبه الأدفونش سمة على كل من ملك منهم، وعامة المغاربة يسمونه ألفنس، وله مملكة عظيمة وعمالات متسعة تشتمل على طليطلة وقشتالة وإشبيلية وبلنسية وقرطاجنة وجيان وجليقية وسائر أعمالها. الثاني: صاحب لشبونة وما معها، وتسمى البرتغال، ومملكته صغيرة واقعة في الجانب الغربي، وهي تشتمل على لشبونة وغرب الأندلس. الثالث: صاحب برشلونة وأرغن وشاطبة وسرقسطة وبلنسية وجزيرة دانية وميورقة. الرابع: بيرة، وهي بين عمالات قشتالة وعمالات برشلونة، وقاعدته مدينة ينبلونة، ويقال لملكها: ملك البشكنس.
هذا في الجملة تقويم الأندلس في القديم، وكلما توغلت في سمت الشمال صعب المرور؛ لكثرة الجبال وترامي المسافات، وهي اليوم في الخطوط الحديدية سهلة في الجملة، فإذا جئت من مدينة باريز وهو الطريق الذي سلكناه تصل إلى مجريط في ست وعشرين ساعة وهي 1455 كيلومترا، ومن مجريط إلى قرطبة 442 كيلومترا، ومن قرطبة إلى إشبيلية 131 كيلومترا، ومن غرناطة إلى جبل طارق 301 كيلومتر، ويتأتى اختصار هذه المسافات إذا كانت القطر تقصد إلى البلد مباشرة بدون تنقل أو تعاريج، ولكن تقل فيها الخطوط المستقيمة والقاطرات.
الفصل الرابع
فتح الأندلس
لما فتح موسى بن نصير مولى بني أمية إفريقية وما حولها؛ أي تونس وما وراءها، سنة ثمان وسبعين للهجرة، وبلغ طنجة، سار يريد مدائن على شط البحر، وفيها عمال صاحب الأندلس قد غلبوا عليها وعلى ما حولها، وكان يليان أحد ملوك الأندلس لموجدة وجدها على بعض الملوك من قومه في تلك البلاد بعث بالطاعة لموسى، وأقبل به حتى أدخله المدائن بعد أن اعتقد لنفسه ولأصحابه عهدا رضيه، واطمأن إليه، ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها، فبعث رجلا من مواليه يقال له طريف، في أربعمائة رجل ومعهم مائة فارس، في أربعة مراكب، حتى نزل جزيرة سميت له لنزوله فيها، وكانت هذه الجزيرة معبر مراكبهم، ودار صناعتهم، فأغار على الجزيرة فأصاب شيئا ورجع سالما، وذلك سنة إحدى وتسعين.
ثم دعا موسى مولى له يقال له: طارق بن زياد، فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين جلهم من البربر والموالي ليس فيهم عرب إلا قليل، فدخل في تلك السفن الأربع سنة اثنتين وتسعين، وأخذت السفن الأربع تختلف بالرجال والخيل، وضمهم إلى جبل على شط البحر منيع فنزله، وسمي به جبل طارق، والمراكب تختلف حتى توافى جميع أصحابه .
ولما بلغت ملك الأندلس رذريق صاحب طليطلة غارة طريف على الأندلس جمع جموعه، قيل: مائة ألف أو شبه ذلك، فبعث موسى على سفن كثيرة كان عملها بخمسة آلاف مقاتل، فتوافى المسلمون بالأندلس عند طارق اثني عشر ألفا، ومعهم يليان في جماعة من أهل البلد يدلهم على العورات، ويتجسس لهم الأخبار. فالتقى رذريق صاحب طليطلة وطارق بن زياد بموضع يقال له البحيرة، فانهزم رذريق، ثم مضى طارق إلى مضيق الجزيرة، فمدينة أستجة، وحارب فل العسكر الأعظم وهزمه، ثم ورد طارق عينا من مدينة أستجة على نهرها على أربعة أميال فسميت العين عين طارق، وفرق جيشه؛ فأرسل فرقة إلى قرطبة، وأخرى إلى رية، وثالثة إلى غرناطة، وسار هو في عظم الناس يريد طليطلة ففتحت كلها، وكذلك مدينة تدمير، وأسر أحد ملوك الأندلس، ومنهم من اعتقد على نفسه أمانا، ومنهم من هرب إلى جليقية في الشمال، ثم سار طارق حتى بلغ طليطلة، وخلى بها رجالا من أصحابه، فسلك إلى وادي الحجارة، ثم استقبل الجبل فقطعه من فج يسمى فج طارق.
وفي سنة ثلاث وتسعين دخل موسى بن نصير في ثمانية عشر ألفا من وجوه العرب والموالي وعرفاء البربر، وقد بلغه ما صنعه طارق بن زياد فحسده، وخشي أن ينال شرف الفتح دونه أمام الخليفة من بني أمية. فلم يلبث أن فتح من المدن ما لم يفتحه طارق مولاه؛ فافتتح مدينة شذونة وقرمونة وإشبيلية، وحاصر هذه أشهرا، فهرب أهلها إلى مدينة باجة، فمضى موسى إلى مدينة ماردة، وقاتلهم عليها أشهرا، فصالحه أهلها على أن جميع أموال القتلى وأموال الهاربين إلى جليقية للمسلمين وأموال الكنائس وحليها له، ثم افتتح سرقسطة ومدائنها.
ذكروا أن المسلمين انتهوا إلى مدينة لوطون قاعدة الإفرنج، ولم يبق لأهل الإسلام شيء لم يتغلبوا عليه مما وراء ذلك إلا جبال قرقوشة وجبال بنبلونة وصخرة جليقية، فأما الصخرة فلم يبق فيها مع ملك جليقية إلا ثلاثمائة رجل تلفوا بالموت والجوع والحصار، فلما لم يبق منهم إلا ثلاثمائة رجل، ورأى ذلك المرتبون على حصارهم استقبلوهم ، فتركوهم فلم يزالوا يزدادون حتى كانوا سبب إخراج المسلمين من جليقية وهي قشتيلية.
هذه زبدة مما قاله المؤرخون في فتح الأندلس، ولا شك أن قرب سواحلها من شواطئ إفريقية قد ساعد العرب كثيرا على هذا الفتح، فإن المجاز أو الزقاق كما كان يسميه العرب بين البرين بر العدوة
1
وبر الأندلس قريب جدا يسهل معه نقل الذخائر والجيش من إفريقية؛ وذلك لأن الزقاق في موضع يعرف بجزيرة طريف من بر الأندلس يقابل قصر مصمودة بإزاء سلا في الغرب الأقصى، وعرضه اثنا عشر ميلا، ومن الجزيرة الخضراء في الأندلس إلى مدينة سبتة ثمانية عشر ميلا، والباخرة تقطع المسافة اليوم من الجزيرة الخضراء أو جبل طارق إلى طنجة فرضة الغرب الأقصى فى نحو ثلاث ساعات.
وأنت ترى أن معدات الفتح عند العرب كانت قليلة، ومع هذا استصفوا الأندلس في مدة وجيزة؛ وذلك لأن الاختلاط القديم المستحكم للجوار بين أهل الأندلس وبين أهل شمالي إفريقية، وتغلب الأندلسيين أحيانا على بلاد البربر أي المغرب الأقصى والأوسط، قد هيأ لسكان البلاد بل لقوادها وحكامها من العرب أن يعرفوا معالم الأندلس ومجاهلها، ويقفوا على مواطن الضعف من حكوماتها، فقد جاءوها والاختلاف بين ملوكها على أشده، والبلاد قد جاعت قبل مجيئهم ثلاث سنين (من سنة ثمان وثمانين إلى سنة تسعين) ثم وبئت حتى مات نصف أهلها أو أكثر، وإذا صح أن الملك الأعظم في طليطلة جيش على العرب مائة ألف مقاتل وهو مستبعد، فإن جيش موسى بن نصير البالغ اثني عشر ألفا قد تغلب عليه لا بعدده بل بما للعرب من الاضطلاع بأمور الحرب. هذا، وأهل البلاد كانوا في الجملة يريدون الخلاص مما هم فيه من سوء الحال ولا سيما اليهود، فإنهم كانوا قبل بضع سنين قد ذاقوا الأمرين من حكوماتهم ومواطنيهم المسيحيين، فلما جاء العرب الفاتحون كانوا أدلاءهم وأكبر ردء لهم لعلمهم بأنه ينفس خناقهم بالفاتحين، وكان المسلمون كلما دخلوا بلدا جعلوا نصف حاميته من اليهود والنصف الآخر منهم ثقة في أبناء إسرائيل وضعها المسلمون فيهم مدة كونهم في الأندلس.
تولى البلاد المفتوحة عمال الدولة الأموية في الشرق، وتعاقب عليها قوادهم ومواليهم منذ سنة 92ه، وخطب باسم خلفائهم على منابرها، ثم خطب مدة قليلة للعباسيين
2
بعد سقوط دولة الأمويين بالمشرق حتى إذا كانت سنة 138 جاء من الشرق هاربا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان المسمى بالداخل، فتغلب بواسطة جماعة من أهل بيته وموالي آل مروان، وبما له من العصبية في قبائل زنانة أخواله، وكانت والدته منهم، حتى استولى على الأندلسيين، وبذل أهلها له الطاعة؛ فأصلح من شأنها ورفع وأبناؤه وأحفاده من بعده شأن خلافتهم هناك، وأجمعت القلوب على حبهم، وقل المنتقضون على ملكهم المتوثبون على سلطانهم، ولقد أنصف المنصور العباسي عندما لقب عبد الرحمن الأموي بصقر قريش؛ لأنه «عبر البحر وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا مفردا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام سلطانا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره وشدة شكيمته.»
انقرض ملك بني مروان من الأندلس سنة 407ه على رأس مائتي سنة وثمان وستين سنة وثلاثة وأربعين يوما، بعد أن جمعوا الشمل، ورأبوا الصدع، وأحيوا المعالم، ونشروا العدل، وخدموا الحضارة، وكانت أيامهم أعراسا وأفراحا، فتفرق الملك بأيدي ملوك الطوائف فكان «كل ملك لما بيده، فضبط أشراف العمالات أزمة أمورهم، وركبوا ظهور غرورهم، وتنافسوا في انتحال الألقاب السلطانية، فأتوا من ذلك بكل شنيعة» إلى أن قام رأس المرابطين وأمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللمتوني صاحب المغرب الأقصى، وأعاد للبلاد مع ابنه علي بن يوسف سالف نضارتها، ودعا للخلافة العباسية على منابر الأندلس، ولم تزل الدعوة للعباسيين وذكر خلفائها على منابر الأندلس والمغرب إلى أن انقطعت بقيام ابن تومرت مع المصادمة في بلاد السوس.
تنفس خناق البلاد بالقوة الجديدة التي جاءت بها دولة المرابطين؛ لشد أزر المسلمين في الأندلس، كما عادت إليهم بعض القوة على عهد الموحدين، وكان هؤلاء لا يتوقفون عن نجدة إخوانهم في الأندلس حتى إن الخليفة المنصور من الموحدين لما دنت وفاته جمع بنيه والموحدين، ووصاهم وصايا؛ منها: أيها الناس أوصيكم بتقوى الله «وأوصيكم بالأيتام واليتيمة» أراد بالأيتام أهل جزيرة الأندلس وباليتيمة بلاد الأندلس، إلا أن أحوال الجزيرة اختلت في أواخر دولة أمير المسلمين علي بن يوسف، فأوجب ذلك تخاذل المرابطين، وتواكلهم وميلهم إلى الدعة، وإيثارهم الراحة، وطاعتهم النساء؛ فهانوا على أهل الجزيرة، وقلوا في أعينهم، واجترأ عليهم العدو، واستولى النصارى على كثير من الثغور المجاورة لبلادهم، وكادت الأندلس تعود إلى سيرتها الأولى بعد انقطاع دولة بني أمية، فاستدعى عقلاء الجزيرة بني مرين من بر العدوة فجاءهم أميرها سنة 658 في جيش ضخم فملك بالأندلس ثلاثة وخمسين مسورا ما بين مدن وحصون، وهو أول من ملك العدوتين من بني مرين، وجاهد الفرنج فدوخ بلادهم، وكانت قبل جوازه إلى الأندلس تستطيل على المسلمين، وملكوا قواعد الأندلس وأكثر حصونها مثل قرطبة وإشبيلية وجيان وشاطبة ودانية ومرسية ... وغيرها، ولم تنتشر للإسلام راية منذ وقعة العقاب
3
سنة 609 إلى أن جاءت رايته وكانت الحروب والغزوات متصلة بين العرب وأعدائهم في القرن الخامس والسادس والسابع، وكثيرا ما يؤدي ملوك العرب الجزية للإفرنج بعد أن كان هؤلاء في القرن الأول والثاني والثالث والرابع يؤدون إلى العرب الجزية، ولما أغلظ ابن تاشفين لألفونس الكلام في المكاتبة قال هذا: «بمثل هذه المخاطبة يخاطبني وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل ملته منذ ثمانين سنة! وكان ذلك سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
وبعد أن زال حكم الموحدين من إسبانيا دخلت في حكم محمد بن يوسف بن هود من بطليوس إلى مرسية وقرطبة وإشبيلية سنة 626، ولما هلك التف المسلمون حول محمد بن يوسف بن الأحمر من أسرة بني نصر، فاستولى على الأندلس سنة 629، فدام فيه وفي أعقابه نحو قرنين ونصف كان الضعف رائد دولتهم أولا حتى لقد صالح ابن الأحمر ألفونس ملك إسبانيا سنة 665 على أن أعطاه نحو أربعين مسورا من بلاد المسلمين من الشرق، فقال أبو محمد الرندي يرثي الأندلس، ويستصرخ أهل العدوة من بني مرين، قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
دهى الجزيرة خطب لا عزاء له
هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فامتحنت
حتى خلت منه أوطان وبلدان
فسل بلنسية ما شأن مرسية
وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم
من عالم قد سما فيها له شان
وعاد أمر المسلمين فضعف، وبنو الأحمر آخر ملوك الأندلس يستصرخون الموحدين من أهل العدوة فينجدونهم حتى رسخت أقدام الملوك من بني الأحمر أو بني نصر في بقعة صغيرة من البلاد، جعلوا غرناطة عاصمتها، ولما انقرضت دولة الموحدين اعتمد بنو الأحمر على قوتهم في حماية سلطانهم حتى ضعف أمرهم، وصحت نية الإسبان على إخراجهم من شبه جزيرة إسبانيا باتفاق إيزابيلا الكاثوليكية وفرديناند واتحاد ملوك أرغن وقشتالة ونافار تحت سلطان واحد، وكان خروج آخر ملك من بني الأحمر من بلاد الأندلس سنة 897ه، ويومئذ انتهى حكم العرب هناك.
هوامش
الفصل الخامس
عمران الأندلس
في أرض أندلس تلتذ نعماء
ولا يفارق فيها القلب سراء
وليس في غيرها بالعيش منتفع
ولا تقوم بحق الإنس صهباء
وأين يعدل عن أرض يحض بها
على الشهادة أزواج وأبناء
وأين يعدل عن أرض تحث بها
على المدامة أمواه وأفياء
وكيف لا يبهج الأبصار رؤيتها
وكل روض بها في الوشي صنعاء
أنهارها فضة والمسك تربتها
والحز روضتها والدر حصباء
وللهواء بها لطف يرق به
من لا يرق وتبدو منه أهواء
ليس النسيم الذي يهفو بها سحرا
ولا انتثار لآلي الطل أنداء
وإنما أرج الند استثار بها
في ماء ورد فطابت منه أرجاء
وأين يبلغ منها ما أصنفه
وكيف يحوي الذي حازته أحصاء
قد ميزت من جهات الأرض حين بدت
فريدة وتولى ميزها الماء
دارت عليها نطاقا أبحر خفقت
وجدا بها أو تبدت وهي حسناء
لذاك يبسم فيها الزهر من طرب
والطير يشدو وللأغصان إصغاء
فيها خلعت عذاري ما بها عوض
فهي الرياض وكل الأرض صحراء
ابن سفر المريني
كانت شبه جزيرة إسبانيا في عمرانها قبل الفتح العربي منحطة عن عامة الممالك الأوروبية. حكمها الرومان وكانوا من خير من شاد بنيانا، وأقام في المعمور عمرانا، ومع هذا لم ينلها من عنايتهم كبير أمر، فلما جاء العرب الفاتحون في العقد الأخير من المائة الأولى كان عهدهم الأول عهد الفتوح على نحو ما كان عهدهم في الشام قلما التفتوا فيه إلى تجويد البناء حتى إذا ورد على الأندلس من الشرق بل من دمشق عبد الرحمن الداخل الأموي سنة 138ه نقل مع جماعته أسلوب أمته في العمران، وكان سبقه إليها جمهور من الشاميين، نقلوا أسلوب بنائهم وعاداتهم وأصول معاشهم، فاعتمدوا في بناء قصورهم ودورهم على الهندسة الدمشقية في الغالب، وجعلوا في الدور فناء أو صحنا في وسطه بركة ماء، وعلى جانبها الأزهار والأشجار، وتقوم بعض طنوف الطبقة الثانية من البناء على عمد من الرخام وغيره، والدور طبقتان فقط؛ طبقة سفلية للصيف والطبقة العلوية للشتاء، ويدخل إلى الدار من دهليز. رسم خطط هذه الدور بادئ بدء مهندسون من الروم، ثم أصبحت مع الزمن هندسة خاصة للعرب على ما كان شأنهم في الشام.
يقول بعضهم: إن العرب لما وصلوا إسبانيا لم يكن لهم هندسة مخصوصة فقل فيهم كالإسبانيين الإبداع والإيجاد، ولكنهم تفننوا في النقش، وأقدم مصانعهم مسجد قرطبة أنشأه عبد الرحمن الداخل سنة 785م والنقوش فيه والفسيفساء من عمل صناع من الروم، ومن هنا نشأت الصناعة العربية، وتمثلت في المساجد والبيع والقصور والحمامات والأبراج والأبواب الحصينة، ومن أغرب المباني: مسجد طليطلة مثال الهندسة العربية، وقادة منارة مسجد إشبيلية، وكثير من الأرتجة والأبواب، ولما استولى الإسبان على إشبيلية جعل ابن الأحمر غرناطة عاصمته، فقام قصر الحمراء وظهرت بدائعه، وهو أجمل زهرة من زهرات الصنائع النفيسة التي تفتقت أكمامها بأيدي العرب، وظل صناع العرب في إسبانيا قرونا بعد ذهاب دولتهم يعملون في المصانع الإسبانية، ويدخلون في هندستها بعض أساليبهم، فأثروا بها تأثيرا عظيما في الأبنية المبنية على الأسلوب الغوطي والإيطالي (الرنيسانس).
ولقد كان لملوك الأندلس وأمرائها وقوادها وعامة من تولوا خطط الحكم والقضاء والحسبة غرام باستكمال فخامة الملك وتشييد القصور، وجلب المياه، وبناء الأرصفة، وإقامة القلاع والحصون. بدأ بذلك عبد الرحمن الأول، وجرى آل بيته وعظماء مملكته على قدمه في هذا الشأن ومنهم عبد الرحمن بن الحكم (238) الذي كان «أول من جرى على سنن الخلفاء في الزينة والشكل وترتيب الخدمة، وكسا الخلافة أبهة الجلالة فشيد القصور، وجلب إليها المياه، وبنى الرصيف، وعمل عليه السقائف، وبنى المساجد الجوامع بالأندلس، وعمل السقاية على الرصيف، وأحدث الطرز، واستنبط عملها، واتخذ السكة بقرطبة، وفخم ملكه، وفي أيامه دخل الأندلس نفيس الوطاء وغرائب الأشياء»، ومنهم عبد الرحمن بن محمد الذي قال فيه صاحب العقد: «إن الملوك لم تزل تبني على أقدارها، ويقضى عليها بآثارها، وإنه بنى في المدة القليلة، ما لم تبن الخلفاء في المدة الطويلة، نعم لم يبق في القصر الذي فيه مصانع أجداده، ومعالم أوليته، بقية إلا وله فيها أثر محدث؛ إما تزييد، أو تجديد.»
كانت البلاد نسقا واحدا في العمران حتى كان للقرى أيضا نصيب وافر من العناية، ولذلك كثر عددها حتى قالوا: إنه كان على الوادي الكبير فقط أربعة عشر ألف قرية، فكنت على رواية ابن سعيد إذا سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع، والصحاري فيها معدومة أي في القسم الذي تأصل فيه حكم العرب، ومما اختصت له أن قراها في نهاية من الجمال؛ لتصنع أهلها في أوضاعها وتبييضها لئلا تنبو العيون عنها، بل هي طراز من مناظر قد التفت بالبياض والزخرفة تخطف الأبصار، وعند وقوع شعاع الشمس عليها.
لاحت قراها بين خضرة أيكها
كالدر بين زبرجد مكنون
قويت حركة العمران بالطبع حيث كان يقيم الخليفة والسلطان، ولما ابتنى عبد الرحمن بن محمد في غربي قرطبة مدينة الزهراء خط فيها الأسواق، وابتنى الحمامات والحانات والقصور والمتنزهات، واجتلب إلى ذلك بناء العامة، وأمر مناديه بالنداء، ألا من أراد أن يبني دارا أو يتخذ مسكنا بجوار السلطان فله أربعمائة درهم؛ فتسارع الناس إلى العمارة فتكاثفت وتزايدوا فيها، فكادت أن تصل الأبنية بين قرطبة والزهراء والمسافة أربعة أميال.
كان بناء الأندلسيين بالآجر والحجر، وكان الحجر عندهم أنواعا منه الحموي والأحمر والأبيض والمجزع ، وكانوا ينحتون السواري والعمد من مقالعهم على الأغلب، وقيل: إن سواري جامع قرطبة جلبت من البيع القديمة من جنوبي فرنسا وإيطاليا ومن إفريقية والآستانة، وسواء قطعت من مقالع الأندلس أو جلبت من القاصية فإن في ذلك فضلا كبيرا للعرب يدل على معرفتهم الأشياء الحسنة، وقدرتهم على حمل هذه الأثقال في البر والبحر مع قلة الآلات الرافعة، وقصور علم الحيل عما هو عليه في عصرنا.
قال أحد الباحثين من الفرنجة: في إسبانيا ميدان لدرس الصناعة العربية المغربية منذ بدايتها، وكان التردد بادئ بدء باديا عليها إلى أن ظهرت في مظهرها هذا على غاية من الغرابة والظرف، وقال بعضهم: إن الهندسة العربية قد أفرغت جهدها في قصور الحمراء، وأتت ما وسعها الإجادة والظرف بأمثلة تأخذ بمجامع القلوب في العمران، ولو لم يكن جل الاعتماد على الخشب والجص في البناء وهما مما تقل متانته؛ لأتت منها آثار خالدة أكثر مما أتت، ولكن مجموعها مدهش غريب يمجد خيمة العرب الرحل في البادية، ومن أغرب ما اصطنعوه عمل المقرنص في القباب من عدة قباب صغرى متناسقة بدون أن ترى اللحمة بينها، والنقش فيها قليل إلا ما كان من جمل نقشت بالحروف الكوفية أو العربية المشتبكة الأندلسية.
قلنا: ومعظم الآثار التي بناها الإسبان بعد سقوط آخر دولة الأندلس كانت بأيدي صناع من العرب، أبقوا عليهم لقيام مصانعهم، وذلك لأن الإسبان كانوا متأخرين في الهندسة والصنائع النفيسة، وأهم ما يتنافس فيه الإسبان إلى اليوم القيشاني فإنك تراه في كل بيت وكنيسة وحائط ونزل ومدرسة ومتحف، وهو أنواع؛ منه ما يجعل على الأرض، ومنه ما يجعل على طول قامة الإنسان في الجدران المختلفة، وللآجر عندهم شأن عظيم في البناء، وقد يدوم قرونا كما شاهدنا ذلك في خرائب الفسطاط بمصر، وأكثره من بناء القرن الأول للهجرة.
يصعب تعداد المصانع التي شادها العرب في أوقات مختلفة في الأصقاع التي نزلوها، كما يصعب إعطاء حكم تام على معالمهم؛ لأن كثيرا من بنيان الأندلس عور بتداول الأيام، فصح في مدنها ودساكرها أحد الأندلسيين في بلنسية، وقد عاث العدو فيها:
عاثت بساحتك الظبا يا دار
ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر
طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها
وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها
لا أنت أنت ولا الديار ديار
الفصل السادس
أهل الأندلس
كان الجيش الذي فتح الأندلس بادئ بدء مؤلفا من قليل من العرب ومن البربر سكان الغرب الأقصى والأوسط وما إليهما. نزل كل فريق منهم في بقعة فأعمرها، وأقطعهم القواد ما رحل عنه أهله من المزارع والمداشر، وقد فرق الحسام بن ضرار الذي ولي إمارة الأندلس في سنة 125، وخضعت لسلطانه جميع العرب الشاميين الغالبين على البلد، وأبعدهم عن دار الإمارة قرطبة؛ إذ كانت لا تحملهم، وأنزلهم مع العرب البلديين أي السابقين إلى الأندلس في سنة الفتح سنة 92 للهجرة، والشاميون هم الذين دخلوا سنة 125. أنزلهم على شبه منازلهم في كور شامهم، وتوسع لهم في البلاد، فأنزل في كورتي أكشونبة وباجة جند مصر مع البلديين الأول، وأنزل باقيهم في كورة تدمير، وأنزل في كورتي لبلة وإشبيلية جند حمص مع الأول أيضا، وأنزل في كورتي شذونة والجزيرة جند فلسطين، وأنزل في كورة رية جند الأردن، وأنزل في كورة ألبيرة جند دمشق، وأنزل في كورة جيان جند قنسرين أي حلب، وجعل لهم ثلث أموال أهل الذمة من العجم طعمة، وبقي العرب البلديون من الجند الأول على ما بأيديهم من أموالهم لم يعرض لهم في شيء منها. فلما رأوا بلادا شبه بلادهم خصبا وتوسعة سكنوا واغتبطوا وتمولوا.
قال ابن الخطيب: أنزلوا القبائل الشامية في كور على شبه منازلهم التي كانت في كور شامهم، وجعل لهم ثلث أموال أهل الذمة طعمة، وبقي العرب والبلديون والبرابرة شركاءهم، وسكنوا واغتبطوا وكبروا وتمولوا إلا من كان نزل منهم لأول قدومه موضعا رخيا فإنه لم يرتحل وسكن به مع البلديين، وحكى غيره أنه نزل في ألبيرة من كان قدمها من جند دمشق من مضر، وجلهم قبس وأفناء قبائل العرب، ونزل رية جند الأردن، وهم يمن كلهم من سائر البطون، ونزل شذونة جند حمص، وأكثرهم يمن، وفيهم من نزار نفر يسير، ونزل مدينة الجزيرة البربر وأخلاط من العرب قليل في حيان جند قنسرين والعواصم، وهم أخلاط من العرب من معد واليمن، ونزل قبائل البربر مدينة بلنسية.
وما عدا قبائل العرب والبربر الذين تفرقوا في بلاد الأندلس على ما رأيت كان فيها أخلاط من الشعوب من رومان وغوط ومهاجرة من أقطار شتى، فامتزجوا كلهم في بودقة واحدة. قال هوار: ولما أصبح عبد الرحمن ملكا على جميع إسبانيا الإسلامية (320 / 932) استند لقتال طبقة الأشراف من نسل العرب المهاجرين على الإسبانيين الذين دانوا بالإسلام، وعلى كثير من الإسرائيليين والمسيحيين، فتوصل بذلك إلى جعل الكل أمة واحدة عرفت في الشرق باسم الأندلس.
ولقد استمرت قبائل العرب الشاميين «في غمار من الروم يعالجون فلاحة الأرض وعمران القرى يرأسهم أشياخ من أهل دينهم أولو حلكة ودهاء ومداراة ومعرفة بالجباية اللازمة لرءوسهم»، فاحتفظ العرب بسكان البلاد الأصليين، وهيئوا السبل لدخول المهاجرين إليها من المسلمين على اختلاف عناصرهم ومن غيرهم، فأسلم كثير من أهل البلاد، واختلطت أنسابهم بأنساب العرب، وكان المغلوبون يقلدون الغالبين لأول الأمر في مناحيهم وعاداتهم شأن المغلوب مع الغالب، قال فوليه: بعد أن حكم العرب إسبانيا قرونا دخلتها كمية وافرة من الدم الإفريقي، فكان ذلك من موجبات ارتقاء العقل في إسبانيا، ومزج الدم الإسباني بالدم العربي هو ولا شك من جملة الأسباب التي تحمل بالإسبان على اختلاف أصقاعهم إلى الطموح إلى العظائم ومراتب الشرف. ا.ه.
ولما دب الضعف في الأندلس أصبح العرب يتشبهون بجيرانهم من الإفرنج. روى المقري: أن بني الأحمر كثيرا ما يتزيا سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم، وذكر ابن خلدون أوائل المائة التاسعة أن أهل الأندلس يتشبهون باسم الجلالقة «في ملابسهم وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء»، فبعد أن كان القشتاليون والجلالقة - دع أبناء الأندلس من غير المسلمين - يتشبهون بالعرب أصبح هؤلاء في أواخر أيامهم يتشبهون بهم شأننا اليوم مع أمم الغرب نقلدهم في أزيائهم ولباسهم وعاداتهم، ونفسح المجال لكل ما ينفقونه علينا من بضائعهم العلمية والاجتماعية سنة الله في الضعيف مع القوي.
امتزج المستعربة
Lesmozarabes
أو المسيحيون الذين يتكلمون بالعربية في الأندلس بالقادمين عليها، فلقي المعاهدون منهم رعاية من الفاتحين اللهم إلا في الأدوار التي كانوا يكيدون فيها للمسلمين ويخرجون عن الذمة، فإن الفقهاء كانوا يفتون بتغريبهم وإجلائهم عن أوطانهم، وقد أجاز منهم يوسف بن تاشفين إلى بر العدة «عددا جما أنكرتهم الأهوار، وأكلتهم الطرق، وتفرقوا شذر مذر، على أنه لم يقع شيء من هذا القبيل إلا في النادر؛ لأن العرب كانوا يحرصون على بقاء أهل البلاد فيها ليعمل التطور عمله، فيسلم من يسلم مع الزمن منهم، أو يعطي الجزية ويتعلم العربية فتخف الفوارق بينه وبين عصبية الفاتح.»
فمن ثم ساغ لنا أن نقول: إن أهل الأندلس لم يكونوا كلهم من نسل العرب؛ بل كان منهم العرب، قال صاحب فرحة الأنفس: أهل الأندلس عرب: في الأنساب والعزة والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية ... هنديون: في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم. بغداديون: في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم وحدة أفكارهم ونفوذ خواطرهم. يونانيون: في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر؛ فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع، وأحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب، وقال ابن حزم: إن أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن الصورية. تركيون: في معاناة الحروب ومعالجة آلاتها والنظر في مهماتها، وقال ابن بسام: في جزيرة الأندلس أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوا، فبقي النسل فيها بكل إقليم على عرق كريم.
الفصل السابع
تسامح العرب
العرب من أكثر الأمم تسامحا مع المخالفين لهم في المعتقد والجنس واللسان، ولولا تسامحهم أيام عزهم بالإسلام، لم يبق بقية من الأمم المغلوبة في بلادها محتفظة بدينها ولسانها ومقدساتها، وذلك لأن الشريعة السمحاء تقضي بالرفق والرحمة، وعدم التعرض لدين المخالفين وأموالهم خصوصا إذا كانوا أصحاب دين سماوي، ولذلك اكتفوا من أهل الأندلس بجزية
1
وتركوا لهم حريتهم، فأعجب بهم مخالفوهم؛ لأنهم حملوا إليهم سلاما، وكفوهم مئونة فتن كانت عليهم غراما، تأتي على الأنفس والنفائس، وتدك معالم الأمن والأمان.
كره العرب التعصب، ولا سيما في الأندلس، وعمدوا إلى كل تسامح معقول، فاستمالوا بسيرتهم من نزلوا من الإسبانيين والبرتغاليين حتى إنهم كانوا (سيديليو) إذا شجر خلاف بين مسلم ومسيحي من الجند يعطى الحق غالبا للمسيحي، وجعلوا أيام الآحاد أيام عطلة بدل الجمع، ورخصوا أن يتعبد كل إنسان على الصورة التي يراها، فنشأت وحدة وطنية بين الغالب والمغلوب حتى لم يكد يشعر هذا إلا في النادر وبإغراء رجال الدين أنه مغلوب على أمره فاقد لاستقلاله، واعتمد الأمويون في أكثر أيامهم على جيش من الصقالبة يشترونهم أو يأخذونهم أسرى كما كان يفعل العثمانيون بجيش الإنكشارية، وصارت لأفراد من الصقالبة حظوة عند الملوك والأمة حتى إن حبيبا الصقلبي من فتيان الأموية بقرطبة ألف كتابا تعصب فيه لقومه سماه ب «الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضائل الصقالبة»، وربما كانت منزلة الصقالبة بقرطبة منزلة الشعوبية أعداء العرب في بغداد ولا من ينكر عليهم، ومن أثر التسامح شاعت اللغة العربية في كل أرض نزلها العرب، بل لم يمض أكثر من نصف قرن حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها المسيحيون؛ لأن هؤلاء زهدوا في اللغة اللاتينية، ونشأ لهم غرام بالعربية، فأخذوا يتقنون آدابها، ويتغنون بأشعارها، ويكتبون فيها كأبنائها، ويعجبون ببلاغتها إعجاب أهلها بها.
وكان كثير من أذكياء الجلالقة والقشتاليين والليونيين والنافاريين - دع من كانوا في البلاد التي فتحتها العرب من المسيحيين - يتعلمون العربية، ويقصدون الخليفة الأندلسي أو أحد رجاله يستخدمون في الإدارات، وتجري على سادات الإسبان أحكام الإسلام، فيختلطون بأشراف العرب ، ومن ظل محتفظا منهم بدينه نسي مبادئه، فصار يحجب نساءه كالمسلمين ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم وأنسهم، ومن المسيحيين والإسرائيليين من وزروا الأندلس لملوك المسلمين وهم مقيمون على دينهم، ومنهم من كان أبوه أو جده إسبانيا فأسلم،
2
والمسلمون لا يضنون بشيء على أهل ذمتهم يجرون عليهم الرواتب والأرزاق كما تجري على بطانتهم وأهل نحلتهم، ويؤمنون الأطباء منهم على أرواحهم وحرمهم، وشاع زواج العرب بالإسبانيات والبرتغاليات اللائي كن بجمالهن أجمل صلة لتمازج الفاتحين بخصومهم والتحام القرابات بينهم، بل إن ملوك المسيحيين على عهد توزع الأندلس بين ملوك الطوائف أمسوا يتزوجون من بنات الأمراء المسلمين؛ فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية، وعقد مثل هذا الزواج كثيرا، وكان عدد المتزوجات من الإسبانيات والبرتغاليات بالمسلمين وعدد المسلمات المتزوجات من الإسبانيين والبرتغاليين آخر أيام الأندلس كثيرا جدا حتى جرى لذلك كلام في الشروط التي تمت بين الغالب والمغلوب.
ومن العرب من آثر زي الإسبانيين من الملابس والسلاح واللجم والسروج وكلف بلسانهم مثل محمد بن مردنيش صاحب بلاد شرق الأندلس (561) وكثير من الوزراء كانوا يعرفون لسان جيرانهم مثل محمد بن الحاج (714) ويتشبهون بهم في الأكل والحديث، وكثير من الأحوال والهيئات.
هذا ما عمله الغالبون المسلمون من العرب مع المسيحيين المغلوبين من الإسبان والبرتغاليين، أما معاملاتهم للإسرائيليين: فكانت أيضا مما يدهش له، فأصبح لهؤلاء في الأندلس منزلة سامية في العلم والصنائع والتجارة، وكانت غرناطة في القرن العاشر تدعى مدينة اليهود؛ لكثرتهم ومكانتهم فيها.
أصبح أهل البلاد يتكلمون بالإسبانية والبرتغالية والعربية على السواء، وأخذوا بعد حين لا يتعاقدون بينهم إلا باللغة العربية، وقد وجد من عقودهم نحو ألفي صك من هذا القبيل كتبها المستعربة من الوطنيين الأصليين باللغة العربية، والعربية كانت لسان القائمين بالدولة الإسلامية هجر ما عداها في جميع الممالك، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب، وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك التي خفقت عليها رايات الفاتحين، وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة عنها، قاله ابن خلدون.
ولذا آلت ثلاثة قرون على بقايا الإسبانيين المتراجعين إلى الجبال الشمالية، وقد نسيت تقاليد البلاد إلا من أستوريا من الأصقاع، واضطرت الحكومات الصغرى التي اعتصمت في أقصى الشمال أن تصانع وتعاهد ولتعلم من أعدائها وهم أرقى منها نظاما ومدنية، وحكومات أوروبا الكبرى لذاك العهد تطلب رضاها وتتعلم منها وتتلطف معها حتى بلغ الأمر لعبد الرحمن الثالث الذي أشبه ملكا من ملوك هذا العصر لا ينقاد لأوهام العنصر والدين، ولا يتوقف في أمر فيه مصلحته، وتسير سياسته بحسب الأحوال، أن وجد له حلفاء من زعيم البربر إلى ملك إيطاليا إلى إمبراطور القسطنطينية، وكانت سفراء فرنسا واليونان والألمان تتوارد على قرطبة، وقد وضع هذا الخليفة حدا للحروب بين العرب والإسبانيين والبربر في الأندلس، وحصن حدود مملكته من ملوك ليون وقشتالة ونافار، واستولى بأسطوله على غربي البحر المتوسط، وبسط سلطانه على إفريقية الشمالية، فكان ميسين
3
العلوم والفنون، وحامي التجارة والصنائع، وقد أصبحت إسبانيا العربية على عهده وعهد أخلافه في القرون الوسطى أكثر البلاد مدنية وحسن إدارة. قالته دائرة المعارف الإسلامية.
لا جرم أن خلفاء الأندلس كانوا من التسامح من الكافة بالمكان الذي يغبطون عليه، ويجب التنويه به؛ لأنه لم يسبق له نظير في عصورهم عند الأمم الأخرى، فقد جاء من خلفائهم من كانوا يبيحون لدعاة النصرانية أن ينشروا دينهم أحرارا، وبلغت الحال ببعض المتحمسين منهم أن كانوا يقفون على أبواب الجوامع؛ ليتسقطوا المسلمين بالدعوة إلى دينهم، وكان عبد الرحمن الثاني عزم أن يجمع مجمعا مقدسا من النصارى برئاسة رئيس أساقفة إشبيلية؛ لقمع عادية التعصب الإسباني إذ أخذ دعاة الدين المسيحي يسبون الإسلام جهارا حتى يقتلوا في سبيل دعوتهم، وتكتب لهم الشهادة بزعمهم، ولكن الخليفة مات قبل التئام هذا المؤتمر سنة 238.
ولطالما أرخى خلفاء الأندلس العنان لخطبائهم ووعاظهم ومؤرخيهم وكتابهم يوسعون المجال لأقلامهم وألسنتهم حتى في أعمال الخلفاء، ولا يجدون منهم إلا لطفا وعطفا، ذلك الناصر كان كلفا بعمارة الأرض وإقامة معالمها، وتكثير مياهها واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه وعزة سلطانه وعلو همته؛ فإنه لما ابتنى الزهراء، واستفرغ وسعه في تنجيدها، وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها، انهمك في ذلك حتى عطل الجمعة بالمسجد الجامع فقرعه القاضي منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة بخطبة على المنبر أمام جمهور المؤمنين ابتدأها بقوله تعالى:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم
ثم أفضى ذكر المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقا، وتلا فيه قوله تعالى:
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم
وأسرف الخطيب في ترويع الخليفة وتقريعه، ولم يحسن السياسة في وعظه؛ فاستشاط الخليفة غضبا، وأقسم ألا يصلي خلف الخطيب الجمعة أبدا، فقال له الحاكم: وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟ فزجره أبوه وانتهره وقال: أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه وحلمه لا أم لك يعزل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد؟
مثال آخر: شنع أحد المؤرخين على أحد الملوك المعاصرين في الأندلس، فخنق ابن الملك، وهم بقتل المؤرخ، فلما شعر أبوه بذلك قال له: إليك عن هذا الفكر الخبيث، ولئن قتلته لأكونن أنا المطالب بدمه. تقتله ليعيرنا الناس بأننا نقتل مؤرخينا. حتى إذا مضت أيام دخل المؤرخ الحمام ليستحم، فلما خرج ليلبس ثيابه رأى فيها صرة تضم ألف دينار ورقعة من الملك يقول فيها: إن الذي أوصل إليك هذه الدراهم وأنت لا تشعر قادر أن يرسل إليك من يقتلك فكف غرب لسانك عنا، وإذا عدت فأرخت ثانيا لا تشنع علينا أعمالنا. قال دوزي : إذا قيست حرية العرب بحرية الإفرنج تشبه هذه الاستبداد.
وما زال هذا التسامح المحمود حتى انتقل ملك العرب في الأندلس إلى المرابطين والموحدين، وكانوا إفريقيين لا يخلون من شيء من التعصب، وليس فيهم تسامح الأمويين العرب؛ فتبدلت الحال بعض الشيء، وذهبت أو كادت طلاوة تلك المدنية التي أقاموها، وكانت لا بالغربية ولا بالشرقية، فبهر خبرها ومخبرها لولا أن قام الملوك من بني نصر في غرناطة، ورأبوا الصدع، وجبروا الكسر، وكانوا كلما صغرت رقعة ملكهم زادت الرقعة الباقية ارتقاء فتنتقل القوة والنفوس من بلد زال عنها سلطانهم إلى بلاد يرفرف عليها علمهم، ويزيد ملوكهم تسامحا مع ذمتهم ومجاوريهم، وهمة في تعهد صناعاتهم وزراعتهم وعمران مدنهم التي حصنوها بالعدل والإحسان.
هوامش
الفصل الثامن
العرب والإسبان
قال بعضهم: لو لم يقم كلوفيس
1
بحروب دينية في القرن الخامس؛ لتعذر على المسلمين فتح إسبانيا، ونحن نقول: لو لم يفتح العرب الأندلس، ويحمل إليهم عبد الرحمن الأموي مدنية قومه؛ لتأخرت المدنية قرونا عن الظهور في ربوع أوروبا،
2
وقد أجمع المنصفون أن العرب لو لم ينجلوا عن الأندلس لكانت حال إسبانيا اليوم أرقى مما هي بمراحل، ولا يؤمل لهذا الشعب وقد رأى من صنوف العذاب من رجال الدين ورجال الحكم، وأكلت نوابغه الحروب والاستعمار وديوان التفتيش الديني أن تنشأ له نهضة كنهضة إيطاليا في القرن الخامس عشر تنتقل منها إلى أوروبا بأسرها.
وإن المرء إذا نزل إسبانيا اليوم ليشعر ولا سيما في القسم الجنوبي منها له أنه في بلاد عربية لو كان لسان القوم العربية، ويرى كثيرا من السحنات أشبه بوجوه العرب منها بوجوه الأمم اللاتينية، وبعض عاداتهم وطبائعهم تنم عن روح عربية على سعي رجال الدين في نزعها من بينهم منذ استعاد الإسبان أرض الأندلس أواخر المائة التاسعة. لا جرم أن أربعة قرون ونصفا لم تكتف لأن تنزع من القوم ما تأصل فيهم في ثمانية قرون وتمثلوه وتمثل بهم من مدنية العرب.
ذكر بعضهم أن في الأندلس أهم آثار إسبانيا والأندلس من إسبانيا بمثابة إقليم البروفانس في جنوبي فرنسا وصقلية من إيطاليا ، وقد جمعت الأندلس جميع المحاسن والغرائب المبعثرة في طول إسبانيا وعرضها ولهجة الأندلس مائلة إلى العربية كثيرا، والاحتفالات والأخلاق قد حفظت فيها الأساليب العربية.
نعم، لا تزال تسمع في اللغة الإسبانية كثيرا من الألفاظ العربية من أسماء البلاد والأنهار والنواحي وبعض المرافق والمصطلحات وكل كلمة تبدأ عندهم بأل التعريف العربية هي عربية لا محالة ومن الأسماء ما يبدأ ببني ومنها ما يبدأ بوادي، فدخلت مئات من الألفاظ في اللغة الإسبانية، وتأصلت فيها كما دخلت البرتغالية والإيطالية والفرنسية لغات الأمم اللاتينية، وهي ظاهرة كل الظهور في اللغة الإسبانية، وأقل منها في اللغة البرتغالية، وإلى اليوم تسمع بوادي الرامة ووادي الحجارة ووادي القنال ووادي البياضة ووادي الكبير وقلعة وقليعة والرملة وقصبة وقصر ومدينة وجنة والمدور والبطاقة والقنديل والأنبيق والساقية والمنارة والربض والمسجد والربع والشمعة والفندق والمحراب ومئات غيرها أفردها علماء منهم بالتأليف.
أخذ الإسبان عن العرب أشياء ظنوها بعد من مصطلحات أجدادهم، وبنات أفكارهم، وتأصلت فيهم من حيث يشعرون ولا يشعرون. حدثني الثقة أن أحد علماء المشرقيات من الإسبان، وهو موسيقار يحسن العربية، ويطبع الآن كتابا يثبت فيه بالأدلة التاريخية أن الموسيقى الكنائسية في القرن الثالث عشر كانت مقتبسة من الموسيقى العربية، ويخيل لمن يسمع الموسيقى الإسبانية والغناء الإسباني ويرى الرقص الإسباني أنها عربية إلا قليلا، بحيث ساغ لنا أن نقول: إذا كان الروسي شرقيا «تأوروب» واستغرب فالإسباني عربي شرقي «تأوروب» واستغرب أيضا.
ولا تزال إلى اليوم ترى كثيرا من النابهين من الإسبانية يدعون أن أصلهم عربي يذكرون ذلك مفاخرين، ويعدون ذلك من أمارات الشرف والتغني يذكرني القديم الجميل، وقد رأينا الإسبانيين في القرن التاسع عشر والعشرين نهضوا نهضة لا بأس بها للبحث عن ماضيهم أو ماضي إسبانيا الإسلامية، وصرفوا في ذلك وقتا ومالا، وتوفر على هذا العمل طائفة منهم حرصوا أجمل حرص على الأخذ من المدنية العربية؛ ليكفروا عن سيئات أجدادهم الذين عوروا بعملهم مصانع العرب وخططهم، وحرقوا ومزقوا أسفارهم وآثارهم.
أذكر مثالين من هذه النهضة يعدان في الباب الأول من أبواب تسلسل الفكر الراقي والدءوب المحمود وهو ما يقل الآن فينا بعد أن أورثنا الإسبانيين أخلاقنا وطباعنا، وإليكم البيان: قال لي الأستاذ الأب آسين بلاسيوس مدرس العربية في جامعة مجريط وأحد أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وأنا أنظر خزانى كتبه: جمع أكثر هذه الخزانة أستاذي ريبرا، وفيها كتب كثيرة مطبوعة، وأهمها الجزازات «الفيش» التي رتبها طول حياته، وفيها أسماء ثلاثين ألف عالم من علماء الأندلس، وقد استنسخها البرنس ليوني كايتاني الإيطالي صاحب تاريخ الإسلام الكبير؛ ليطبعه في جملة ما يطبع من آثار العرب. قال: لما كنت في بلدي وجئت مجريط لأعمل مع أستاذي أحمل ما تيسر لطالب جمعه من الكتب ضممت مجموعتي إلى مجموعته في هذه الدار، ولما حانت وفاته وكان عزبا أوصى لي بكتبه على أن أشتغل بها مدة حياتي وأفتح أبوابها لطلاب الاستشراق، ثم أتركها كما تركها هو لمن أرى فيه الكفاءة للعمل بعدي أو أجعلها في إحدى دور الكتب العامة.
هذا هو المثال الأول والمثال الثاني مجموعة السنيور أوسما
Osma
ناظر مالية إسبانيا سابقا وهي من الفسيفساء والقيشاني الإسباني والسلاح والرخام والسجاد والأدوات والأواني الفضية والزمرد والأواني الخزفية والبللورية والألبسة والنقوش والتصاوير والأعمال الخشبية والنقود العربية والإسبانية ذهبية وفضية ونحاسية من صنع عرب الأندلس وصنع إسبانيا المسيحية في القرون الوسطى، هذا عدا وثائق تاريخية وسجلات من القرن السادس عشر من الآثار النصرانية، وقد بدأ بجمع هذه المجموعة عم السنيور أوسما والد زوجته وأحد أشراف إسبانيا منذ زهاء خمسين سنة، ودامت ابنته بعده وزوجها يطرسان على آثار هذه المغالي بالآثار الإسلامية والنصرانية، ولما جاءتها الوفاة أوصت بالقسم الذي جمعته في حياتها، والذي ورثته عن أبيها لزوجها السنيور أوسما على أن تدعى المجموعة كلها باسم لقب والدها، فسميت مجموعة مجمع بلنسية للدوق خوان
Justituto de Valencia de Don Juan
وصحت عزيمة الوزير الإسباني أن يضيف إلى المجموعة ما جمعه في حياته، ويجعله في دارين بناهما في أهم أحياء مجريط الحديثة فبنى الدار الأولى على الطراز الأندلسي، والثانية على الطراز المسيحي في القرون الوسطى، وكلا الدارين متلاصقان جعلت كل مجموعة في الدار التي تناسبها، فأصبحت الداران متحفا مرتبا ترتيبا علميا راقيا لمعرفة صاحبها الآن، وإشارة من يختلف إلى داره من غلاة العاديات والآثار وحملة العلوم والفنون الذين يضمهم في ناديه مرة في الأسبوع يتفاوضون الصناعات والنفائس، وقد وقف الوزير المولع بالآثار مؤخرا مجموعته البديعة، وأقام عليها خمسة من الأمناء منهم الأستاذ آسين المشار إليه، ووقف عليها مبلغا من المال لا يقل عن خمسة ملايين بستاس أو نحو عشرة ملايين فرنك بحسابنا اليوم، وأعطاها خزانة كتبه البالغة ألفي مجلد على أن تبقى مجموعته ويزاد فيها ليدرس تاريخ الصنائع والفنون في إسبانيا، وقد توخى في وصيته تنشيط الطلبة الوطنيين والأجانب على درس هذا الفرع من العلم في إسبانيا، وخص المولعين بهذا الشأن من الإنجليز ممن يصرفون مدة في مجريط لهذا الغرض يدرسون مجموعته فيعاونهم معاونة مالية، وخص من الإنكليز طلبة جامعة أكسفورد؛ لأنه درس فيها في صباه فأراد أن يعنى عناية خاصة بمن يتخرجون فيها.
هذان مثالان من عناية الخلف بآثار السلف، ولو قام في أذهان خاصة الإسبان مثل هذه الأفكار منذ جلاء العرب عن بلادهم؛ لكانت اليوم مجاميعهم ومجموعاتهم أعظم ثروة خلفتها أمة مغلوبة لأمة غالبة، ولعدت في إسبانيا من أكبر موجبات فخرها كما تربح ولايات الأندلس اليوم من بقايا الآثار العربية التي يقصدها السياح من عامة أقطار الأرض.
هوامش
الفصل التاسع
العلم في الأندلس
قال لنا الدكتور روزيه
1
رئيس جامعة لوزان في سويسرا سابقا إنني طوفت بلاد الأندلس، ورأيت آثارها الباقية من عهد العرب، فأعجبت بها كل الإعجاب، ومما شهدته السدود القائمة إلى اليوم في ولاية بلنسية، فإن أهل هذه الولاية من الإسبان اليوم يعيشون بفضل هندسة مهندسي العرب لهذه السدود، ولم يتيسر لمدينة القرن العشرين أن تقيم أرقى مما أنشأه أبناء جنسكم في القرون الوسطى، ولحسن الحظ لم يقو التعصب الديني الذي دك كثيرا من المعالم في أرض أندلس على نسف هذه السكور على وادي الأحمر وغيرها، وإلا هلك أهل ذاك الإقليم عطشا، ومن الأسف أن مدينة هذه بعض آثارها تذهب ولا من يبكيها، فقبح من قضوا عليها وأوصلوكم إلى ما عليه من الانحطاط.
جملة لا يزال صداها يتردد في أذننا منذ أن فاوهنا بها العالم السويسري من بضع سنين، وقد ذكرنا بالأمس عهد الأندلس وعهد عمرانه الزاهر وارتقائه الباهر. ذكرنا بالأمس أمة عربية أوروبية تشبه الغربيين في تصوراتها وآدابها وعلومها، ولكنها شرقية عربية مسلمة بإقامة شعائر دينها وأخلاقها وعاداتها، وقلنا: إننا معاشر العرب على كثرة عنايتنا أيام عزنا بتقييد علوم ديننا ولساننا ... وما إلى ذلك، لم نكن في العناية بالعلوم التي هي اليوم العلوم الحقيقية كالرياضيات والطبيعيات والكيمياء والفلسفة والطب والفلك دون ذلك بكثير، وإلا لما قامت مصانع الأندلس على النظام الذي يرى الناس أثره، ويعجبون به على اختلاف العصور، ولما أعجب الأستاذ روزيه اليوم بهندسة العرب لسدود بلنسية الباقية لعهدنا بعد انقراض دولة العرب من تلك البلاد زهاء أربعة قرون.
ولقد حدث الثقات أن الغربيين من المجاورين للأندلس كالفرنجة أي الفرنسيين والألمان، وسكان بررومية أي الطليان، وكانوا أمثل الإفرنج مدنية لذاك العهد لم يكونوا إلا دون جيرانهم عرب الأندلس في العلم وأعمال العمران والصناعات والزراعة، ولولا علماء الكيمياء والهندسة والنبات والطب من العرب لتأخرت المدنية في أوروبا زمنا طويلا.
ولذلك كانت الأندلس في عهد العرب كعبة العلم يحج إليها أذكياء الطلاب من فرنسا وإيطاليا وغيرهما، كما يحج اليوم طلاب العلم إلى كليات فرنسا وألمانيا وإنكلترا والبلجيك وسويسرا وهولاندا.
أخذ عشرات من الإفرنج العلوم عن عرب الأندلس، وترجموها باللاتينية، ومنها ما فقد أصله العربي اليوم، وبقيت ترجمته فقط،
2
وأن العلوم التي تلقاها جربرت الذي أصبح بابا رومية باسم سلفستر الثاني عن عرب الأندلس كانت موضع إعجاب معاصريه حتى اتهموه بالسحر.
كانت الأندلس قبل تغلب بني أمية عليها سنة 92ه خالية من العلم لم يشتهر عند أهلها أحد بالاعتناء به إلا أنه يوجد فيها طلسمات قديمة في مواضع مختلفة وقع الإجماع على أنها من عمل ملوك رومية؛ إذ كانت الأندلس منتظمة بمملكتهم، ولما استقر الأمر لبني أمية عني جماعة من أهلها بطلب الفلسفة، ونالوا أجزاء كثيرة منها، وفي أيام الأمير الخامس من بني أمية وهو محمد بن عبد الرحمن، أي في أواسط المائة الثالثة، تحرك أفراد من الناس إلى طلب العلوم، أي غير علوم الشريعة واللغة، ولم يزالوا يظهرون ظهورا غير شائع إلى قريب وسط المائة الرابعة.
ذلك لأن رجال الدين كانوا أصحاب صولة وتأثير في النفوس، ومن عادة من جهل شيئا أن يعاديه، فتوهم بعضهم أن هذه العلوم الدنيوية مدرجة إلى الزهد في العلوم الأخروية، فكانوا يشددون النكير على من يتعاطونها، ولكن أكثر ملوك بني أمية ومن بعدهم من ملوك الأندلس كانوا أعقل من أن يطاوعوهم في النيل ممن يريدون الإيقاع بهم؛ لمخالفتهم لهم في العلوم التي يمتون بها.
اشتهر بين وسطي المائة الثالثة والرابعة من العلماء: أبو عبيدة مسلم البلنسي المعروف بصاحب القبلة، كان عالما بحركات الكواكب وأحكامها، وصاحب فقه وحديث، ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة من أهل قرطبة كان بصيرا بحساب النجوم والطب وغير ذلك متصرفا في العلوم متفننا في ضروب المعارف، وكان معتزلي المذهب، توفي سنة 315، ومنهم محمد بن إسماعيل المعروف بالحكيم، وكان عالما بالحساب والمنطق نحويا لغويا توفي سنة 331.
انتدب الأمير الحكم في أيام أبيه عبد الرحمن صدر المائة الرابعة إلى العناية بالعلوم؛ فاستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار الشرق عيون التواليف الجليلة في العلوم القديمة والحديثة، وجمع منها في بقية أيام أبيه، ثم في مدة ملكه ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، فكثر تحرك الناس في أيامه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلم مذاهبهم.
وقام بعده ابنه هشام فعمد إلى خزائن أبيه الحكم الجامعة للكتب المذكورة وغيرها، وأراد استخراج ما فيها من ضروب التآليف بمحضر خواص من أهل العلم بالدين، وأمرهم بإخراج ما في جملتها من كتب العلوم القديمة المؤلفة في علوم المنطق وعلم النجوم وغير ذلك من علوم الأوائل حاشا الطب والحساب، وأمر بإحراق ما عدا ذلك وإفسادها، فأحرق بعضها، وطرح بعضها في آبار القصر وهيل عليها التراب والحجارة، وغيرت بضروب من التغايير فعل ذلك تحببا إلى عوام الأندلس، وتقبيحا لمذهب الخليفة الحكم عندهم؛ إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم مذمومة بألسنة رؤسائهم، وكان كل من قرأها متهما عندهم بالخروج عن الملة، ومظنونا به الإلحاد في الشريعة، فسكن أكثر من كان تحرك للحكمة عند ذلك، واضمحلت نفوسهم، وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم، ولم يزل أولو النباهة من ذلك الوقت يكتمون ما يعرفونه منها، ويظهرون ما تحوز لهم فيه من الحساب والفرائض والطب ... وما أشبه ذلك، إلى أن انقرضت دولة بني أمية من الأندلس.
قال هذا القاضي صاعد وتؤيده رواية ابن سعيد في المغرب، قال: وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم، ولا يتظاهر بها خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان تقربا لقلوب العامة، وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان خاليا من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري.
قال ابن حزم: وأما كتب الفلسفة فإمامها في عصرنا أبو الوليد بن رشد القرطبي، وله فيها تصانيف جحدها لما رأى من انحراف منصور بني عبد المؤمن عن هذا العلم، وسجنه بسببها، وكذلك ابن حبيب الذي قتله المأمون بن منصور المذكور على هذا العلم بإشبيلية، وهو علم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره، وكان مطرف الإشبيلي قد اشتغل بالتصنيف في علم النجوم إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه إلى الزندقة بسبب اعتكافه على هذا الشأن، فكان لا يظهر شيئا مما يصنف.
وقال أيضا من رسالة أهل قرطبة: إنهم من التمكن في علوم القرآن والروايات فقط، وكثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء واسع العطن متنائي الأقطار فسيح المجال، وقد ذكر ابن حزم في رسالته هذه من نبغ في الأندلس من المؤلفين في علوم الدين والنسب والتاريخ والطب، وعد بعض كتبهم، قال: وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيونا مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي دالة على تمكنه من هذه الصناعة، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة، وقال: لم يؤلف في الأزياج مثل مسلمة وزيج بن السمح، وهما من أهل بلادنا، وكذلك أحمد بن نصر.
وقال آخر: وأما كتب علم الموسيقى فكتاب أبي بكر بن باجة الغرناطي من ذلك فيه كفاية، وهو في الغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد، وليحيى الخدج كتاب الأغاني الأندلسية على منزع الأغاني لأبي الفرج، وهو ممن أدرك المائة السابعة، قال صاعد: ولما افترق الملك في صدر المائة الخامسة من الهجرة بين ملوك الطوائف، واقتعد كل منهم قاعدة من أمهات البلاد، فاشتغل بهم ملوك الحاضرة العظمى قرطبة من امتحان الناس، واضطرت الفتنة إلى بيع ما كان بقصر قرطبة من ذخائر ملوك الجماعة من الكتب وسائر المتاع، فبيع ذلك بأوكس ثمن وأتفه قيمة انتشرت تلك الكتب بأقطار الأندلس، ووجد في خلالها أعلاق من العلوم القديمة كانت أفلتت من أيدي الممتحنين بحركة الحكم أيام المنصور بن أبي عامر، وأظهر أيضا كل من كان عنده من الرعية شيء ما كان لديه منها، فلم تزل الرغبة ترتفع من حين ذلك في طلب العلم القديم شيئا فشيئا، ثم أبيحت تلك العلوم إلى أن زهد الملوك فيها وفي غيرها فقل طلاب العلم، وصاروا أفرادا بالأندلس.
فمن أعلام هذه العلوم على ذاك العهد أبو غالب بن عبادة الفرائضي كان مشهورا بعلم العدد وأبو أيوب عبد الغافر بن محمد أحد المهرة بعلم الهندسة، وعبد الله بن محمد المعروف بالسري كان عالما بالعدد والهندسة، وكان ينسب إليه العلم بصناعة الكيمياء، ومنهم أبو بكر بن أبي عيسى كان مقدما في العدد والهندسة والنجوم وسائر العلوم الرياضية فكان يجلس لتعليم ذلك العلم في أيام الحكم، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن زيد المعروف بالإقليدي كان متقدما في علم الهندسة معتنيا بصناعة المنطق، وأحمد بن حماد القرطبي (331) عالم بالحساب والهندسة وأبو القاسم أحمد بن محمد العدوي كان معلما يعلم العدد والهندسة نافذا فيها، وأبو عثمان سعيد بن فتحون بن مكرم المعروف بالخمار السرقسطي كان متحققا إماما في علم النحو، وله تآليف في الموسيقى ورسائل في الفلسفة، وأبو القاسم مسلمة بن أحمد المعروف بالمرحيط كان إمام الرياضيين في الأندلس في وقته، وأعلم ممن كان قبله بعلم الأفلاك، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وله كتاب حسن في تمام علم العدد، وهو المعني المعروف بالمعاملات، وكتاب اختصر فيه تعديل الكواكب من زيج البتاني، وعني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي، وصرف تاريخه الفارسي إلى التاريخ العربي، ووضع أوساط الكواكب لأول تاريخ الهجرة، وزاد فيه جداول حسنة توفي في سنة 398، وقد أنجب تلاميذ جلة، ولم ينجب عالم بالأندلس مثلهم، فمن أشهرهم: ابن السمح، وابن الصفار، والزهراوي، والكرماني، وابن خلدون.
فأما ابن السمح القاسم أصبغ بن محمد بن السمح المهندس: فكان متحققا بعلم العدد والهندسة، متقدما في علم هيئة الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له مع ذلك عناية بالطب، وله تواليف حسنة في الهندسة وعمل الأسطرلاب والأزياج ومنها زيجه الذي ألفه على أحد مذاهب الهند المعروف بالسند هند توفي سنة 426.
وأما ابن الصفار فهو أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عمر، كان متحققا أيضا بعلم العدد والهندسة والنجوم، وقعد في قرطبة لتعليم ذلك، وكان له أخ يسمى محمدا مشهور بعمل الأسطرلاب لم يكن بالأندلس قبله أجمل صنعا لها منه.
وأما الزهراوي فهو أبو الحسن علي بن سليمان كان عالما بالعدد والهندسة معتنيا بعلم الطب.
وأما الكرماني فهو أبو الحكم عمرو بن عبد الرحمن من أهل قرطبة، أحد الراسخين في علم العدد والهندسة، رحل إلى الشرق وانتهى إلى حران من بلاد الجزيرة، وعني هناك بعلم الهندسة والطب، ثم رجع إلى بلاد الأندلس، وجلب معه الرسائل المعروفة برسائل إخوان الصفا، ولم يدخلها أحد من أهل الأندلس قبله، ومحله من العلوم النظرية المحل الذي لا يجارى فيه، توفي بسرقسطة سنة 458.
وأما ابن خلدون (هو غير عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ) فهو أبو مسلم عمرو بن أحمد بن خلدون الحضرمي من أشراف أهل إشبيلية في علوم الفلسفة، مشهور بعلم الهندسة والنجوم والطب، مشبها بالفلاسفة في إصلاح أخلاقه وتعديل سيرته وتقويم سياسته، توفي سنة 449.
ومن مشاهير تلاميذ أبي القاسم أحمد بن عبد الله الصفار: ابن برغوث والواسطي وابن شهر والقرشي والأمطش المرواني وابن المطار.
فأما ابن برغوث فهو محمد بن عمر بن محمد المعروف بابن برغوث كان متحققا بالعلوم الرياضية مختصا منها بإيثار علم الأفلاك وهيئاتها، وحركات الكواكب وإرصادها، وكان له مع ذلك تحقق بعلم النحو ومعرفة القرآن والفقه والوثائق وإشراف حسن على سائر العلوم، توفي سنة 444.
وأما الواسطي فهو أبو الإصبغ عيسى بن أحمد أحد المتمكنين من علم العدد والهندسة والفرائض، وقعد بقرطبة لتعليم ذلك، وله أيضا بصر بحمل من علم هيئة الأفلاك، وحركات النجوم.
وأما ابن شهر: فهو أبو الحسن مختار بن شهر الرعيني كان بصيرا بالهندسة في النجوم متقدما في اللغة والنحو والحديث والفقه شاعرا متكلما ذا دهاء ومعرفة بالسير والتواريخ.
وأما ابن العطار فهو محمد بن خيرة العطار، فكان من تلاميذ ابن الصفار متقنا لعلم العدد والهندسة والفرائض، وله بصر بصناعة النجوم وعناية بعلم حركاتها.
ومن مشاهير تلاميذ ابن السمح: أبو مروان سليمان بن محمد بن عيسى بن الناشئ، وهو بصير بالعدد والهندسة، معتن بصناعة الطب وأحكام النجوم، وأبو جعفر أحمد بن عبد الله المعروف بابن الصفار المتطبب.
ومن نظراء هذه الطبقة: عبد الله بن أحمد السرقسطي كان نافذا في علم العدد والهندسة والنجوم، وقعد لتعليم ذلك في بلده، توفي سنة 448.
ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم الإشبيلي، كان بصيرا بعلوم البرهان واللسان والمساءلة، متفننا في ضروب المعارف صنعا لطيف اليد، توفي سنة 420.
ومن مشاهير أصحاب ابن برغوث: ابن الليث وابن الجلاب وابن حي. فأما ابن الليث: فهو محمد بن أحمد بن الليث كان متحققا بعلم العدد والهندسة معتنيا بعلم حركات الكواكب وأرصادها، وكان مع هذا بصيرا بالنجوم واللغة والفقه، توفي سنة 405.
وأما ابن حي: فهو الحسن بن محمد التجيبي من أهل قرطبة كان بصيرا بالهندسة والنجوم كلفا بصناعة التعديل، وله فيها مختصر على مذهب السند هند، وخرج من الأندلس سنة 442 ولحق بمصر، ثم رحل إلى اليمن، واتصل بأميرها المسيحي، وكان له ملكه إذ ذاك يشتمل على بعض إفريقية وجميع مصر والشام وجزيرة العرب والحجاز وتهامة ونجد واليمن، حظي عنده، وتوفي سنة 456.
وأما ابن الجلاب فهو الحسن بن عبد الرحمن المعروف بابن الجلاب أحد المتحققين بعلم الهندسة وهيئة الأفلاك وحركات النجوم، وله مع ذلك عناية بالمنطق والعلم الطبيعي.
ومنهم أبو الوليد هشام بن أحمد بن هشام بن خالد الكناني المعروف بابن الوقشي من أهل طليطلة أحد المتفننين في العلوم المتوسعين في ضروب المعارف من أهل الفكر الصحيح، والنظر الناقد، والتحقيق بصناعة الهندسة والمنطق، والرسوخ في علم النحو واللغة والشعر والخطابة والأحكام لعلم الفقه والأثر والكلام، وهو مع ذلك شاعر بليغ ليس يفضله عالم بالأنساب والأخبار والسير، مشرف على حمل سائر العلوم.
ومن نظراء هؤلاء: أبو جعفر أحمد بن خميس بن عامر بن منيح من أهل طليطلة، أحد المعنيين بعلم الهندسة والنجوم والطب، وهو من لدات القاضي أبي الوليد هشام بن أحمد بن هشام وأبي إسحاق إبراهيم بن لب التجيبي المعروف بالقويدس، قعد للتعليم بذلك زمنا، وكان له بصر بعلم هيئة الأفلاك وحركات النجوم ونفوذ في العربية، توفي سنة 454.
ومنهم محمد بن عبد الله بن مرشد مولى ابن طلمس الوزير كان كاتبا كامل الصناعة، يجمع إلى ذلك النبوغ في علوم كثيرة من الحساب والتنجيم والهندسة، توفي سنة 448.
وكان في القرن الخامس للهجرة أفراد من الأحداث في الأندلس مشتغلون بعلم الفلسفة، ذوو أفهام صحيحة، وهمم رفيعة؛ فمنهم من سكان طليطلة وجهاتها: أبو الحسن علي بن خلف بن أحمر، وأبو مروان عبد الله بن خلف الأستجي، وأبو جعفر أحمد بن يوسف التهلاكي، وعيسى بن أحمد بن العالم، وإبراهيم بن سعيد السهيلي الأصطرلابي، ومن أهل سرقسطة: الحاجب أبو عامر بن الأمير المقتدر بالله، وأبو جعفر أحمد بن جوشن، ومن أهل بلنسية: أبو زيد عبد الرحمن بن سيد.
وأبرع هؤلاء في الهندسة: علي بن أحمر الصيدلاني، وأبو جعفر أحمد بن جوشن، وأعلمهم بحركات النجوم وهيئة الأفلاك: أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش المعروف بولد الزرقيال - والزرقيال نسبة لآلة سموها الزرقلة، وهي صحيفة لرصد الكواكب - فإنه أبصر أهل القرن الخامس بإرصاد الكواكب، وهيئة الأفلاك، وحساب حركاتها، وأعلمهم بعلم الأزياج، واستنباط الآلات النجومية.
وأحمد بن يوسف يعرف بابن كماد (حماد؟) كان من أهل المعرفة بالعدد وصناعة النجامة وبنى أزياجه ومنها القبس والمستنبط على إرصاد أبي إسحاق الطليطلي المعروف بالزرقالة.
وأما أبو عامر بن الأمير بن هود: فهو مع مشاركته لهؤلاء في العلم الرياضي منفرد دونهم بعلم المنطق والعناية بالعلم الطبيعي والعلم الإلهي.
وكان عبد الرحمن بن إسماعيل بن بدر المعروف بالإقليدس الأندلسي متقدما في علم الهندسة معتنيا بصناعة المنطق، وموسى بن ميمون الإسرائيلي الأندلسي قرأ علم الأوائل، وأحكم الرياضيات، وشد أشياء من المنطقيات، وأبو بكر بن الصانع المعروف بابن باجة عالما بعلوم الأوائل لم يبلغ أحد درجته من أهل عصره في مصره، وله تصانيف في الرياضيات والمنطق والهندسة أربى فيها على المتقدمين، قال القفطي: إلا أنه يتمسك بالسياسة المدنية، وينحرف عن الأوامر الشرعية، استوزره أبو بكر يحيى بن تاشفين مدة عشرين سنة، وكانت وفاته في سنة 533.
وممن اعتنى بصناعة المنطق خاصة من سائر الفلسفة: أبو محمد بن حزم القرشي، وكان أبوه أحد العظماء من وزراء المنصور محمد بن أبي عامر، ووزر لابنه المظفر، وكان ابنه أبو محمد وزيرا أيضا لعبد الرحمن المستظهر بالله، ثم نبذ هذه الطريقة، وأقبل على قراءة العلوم، وتقييد الآثار والسنن، وعني بعلم المنطق.
ومنهم أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأعمى، وكان أبوه أيضا أعمى، عني بعلوم المنطق عناية طويلة، وألف فيها تأليفا كبيرا ذهب فيه إلى مذهب متى بن يونس، وهو بعد هذا أعلم أهل الأندلس قاطبة بالنحو واللغة والأشعار، وله في اللغة تواليف جليلة؛ منها: المحكم، والمحيط الأعظم، والمخصص، وشرح إصلاح المنطق، وشرح كتاب الحماسة 458.
ومن أعاجيب النوابغ الأندلسيين الذين فقدوا بصرهم ولم يفقدوا بصيرتهم: ابن الحناط الكفيف، الذي قال فيه ابن حيان: إنه كان أوسع الناس علما بعلوم الجاهلية والإسلام، بصيرا بالآثار العلوية، عالما بالأفلاك والهيئة، حاذقا بالطب والفلسفة، ماهرا في العربية واللغة والآداب الإسلامية، وسائر التعاليم الأوائلية.
والداعشني ضعيف البصر متوقد الخاطر، فقرأ كثيرا في حال عشاه، ثم طفئ نور عينيه بالكلية فازداد براعة، ونظر في الطب بعد ذلك فأنجح علاجا، وكان ابنه يصف له مياه الناس المستفتين عنده فيهدي منها إلى ما لا يهتدي البصر، ولا يخطئ الصواب في فتواه ببراعة الاستنباط، وتطيب عنده الأعيان والملوك والخاصة، فاعترف له بمنافع جسيمة.
وأما العلم الطبيعي والعلم الإلهي فلم يعن أحد من أهل الأندلس بهما كبير عناية، ومن المشتغلين بهما: ابن النباش التيجان، وأبو عامر بن الأمير بن هود، وأبو الفضل بن حسداي الإسرائيلي، وأما صناعة الطب: فلم يكن بالأندلس من استوعبها، ولا لحق بأحد من المتقدمين فيها، وأول من اشتهر منهم بالأندلس أحمد بن إياس من أهل قرطبة، وحمد بن عبد الله الأوسط ويعرف بالحراني، ومنهم: يحيى بن إسحاق أحد وزراء الناصر لدين الله، وسعيد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد ربه مولى الأمير هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل، وهو ابن أخي أحمد بن محمد بن عبد ربه الشاعر صاحب العقد، وكان له بصر بحركات النجوم ومهاب الرياح وتغيير الأهوية.
ومنهم: عمر بن بريق، وأصبغ بن يحيى، وأحمد بن حكم بن حفصون، وكان هذا طبيبا نبيلا ودقيق النظر بالمنطق مشرفا على كثير من علوم الفلسفة.
ومنهم: محمد بن تمليخ، وأبو محمد بن الحسين المعروف بابن الكناني كان عالما بالطب حسن العلاج.
ومنهم: عبد الملك الثقفي كان عالما بالطب والهندسة، وكان الطب أغلب عليه.
ومنهم: عمر وأحمد ابنا يونس بن أحمد الحراني، ومنهم محمد بن عبدون الجبلي، وكان قبل أن يتطبب مؤدبا في الحساب والهندسة، ومنهم سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل، وعبد الله بن إسحاق المعروف بابن الشناعة المسلماني الإسرائيلي، وأبو عبد الله محمد بن الحسين المعروف بابن الكناني المظفر وكان بصيرا بالطب متقدما فيه ذا حظ من المنطق والنجوم من علوم الفلسفة، ومنهم أبو العرب يوسف بن محمد أحد المتحققين بصناعة الطب، توفي سنة 430.
ومن أشهرهم: أحمد بن إبراهيم الأنصاري من أهل بلنسية، كان من أهل العلم بالفرائض والحساب، لا يجارى في التعاليم، قعد لتعليم الحساب والهندسة 593، ومنهم: أبو عثمان سعيد بن البغونش عالم بعلم العدد والهندسة والطب 444، ومنهم: الوزير أبو المطوف عبد الرحمن اللخمي عن عناية بالغة بقراءة كتب جالينوس وأرسطاليس وغيرهما من الفلاسفة، وتمهر في علوم الأدوية المفردة حتى ضبط منها ما لم يضبطه أحد في عصره، وألف فيها كتابا جليلا لا نظير له، جمع فيه ما تضمنه كتاب ديسقوريدوس وكتاب جالينوس في الأدوية المفردة، وكان له في الطب منزع لطيف، وذلك أنه لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن التداوي بالأغذية أو ما كان قريبا منها، فإذا دعت الضرورة إلى الأدوية فلا يرى التداوي بمركبها من وصل إلى التداوي بمفردها، فإن اضطر إلى المركب لم يكثر التركيب، بل اقتصر على أقل ما يمكن منه.
ومنهم أبو مروان بن زهر الإشبيلي، وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الذهبي، وأبو عبد الله محمد البجائي المعروف بابن النباش معتن بصناعة الطب، ذو معرفة جيدة بالعلم الطبيعي، ومشاركة في الإلهي، وتحقق بعلم الأخلاق والسياسة، وبصر بصناعة المنطق، وممن عني بطلب الفلسفة والهندسة والمنطق: أبو الحسن عبد الرحمن بن خلف بن عساكر كان صنع اليدين متصرفا في ضروب من الأعمال اللطيفة والصناعات الدقيقة.
ولم تزل صناعة أحكام النجوم نافعة بالأندلس قديما وحديثا؛ فمن مشاهير المشتغلين بها: أبو بكر يحيى بن أحمد المعروف بابن الخياط، وأبو مروان الإستجبي أحد المتحققين بعلم الأحكام والمشرفين على كتب الأوائل والأواخر، وله في التسييرات ومطارح الشعاعات وتعليل بعض أصول الصناعة رسالة فاضلة لم يتقدمه أحد إليها، ومن المذكورين: أبو الإصبع عثمان القري من أهل قرطبة، وكان علمه الذي ينسب إليه ويغلب عليه التنجيم، ومنهم عبد الرحمن بن وافد اللخمي من أهل طليطلة رحل إلى قرطبة فلقي بها القاسم خلف بن عباس الزهراوي، وأخذ عنه علم الطب، وكان مع تقدمه في ذلك فقيها عالما متفننا، وله في الفلاحة مجموع مفيد، وكان عارفا بوجوهها، وهو الذي تولى غرس جنة المأمون بن ذي النون الشهيرة بطليطلة، توفي سنة 567.
وممن لم يشتهروا: محمد بن عيسى بن ينق أبو عامر من أهل شاطبة، لازم أبا العلاء بن زهر بإشبيلية، وأخذ عنه علمه، وبرع في الطب والأدب، وتوفي سنة 547.
ومن الأطباء بالأندلس: جواد الطبيب النصراني كان في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وله اللعوق المنسوب إلى جواد، وله دواء الراهب والشرابات والسفوفات، وكان خالد بن يزيد بن رومان النصراني بقرطبة صانعا بيده، عالما بالأدوية الشجارية، وابن ملوكة النصراني كان في أيام الأمير عبيد الله وأول دولة الأمير عبد الرحمن الناصر، وكان يصنع بيده، ويفصد العروق، وكان على بابه ثلاثون كرسيا لقعود الناس، وعمران بن أبي عمرو وإسحاق الطبيب المسيحي كان مقيما بقرطبة، وكان صانعا بيده مجربا يحكى له منافع وآثار عجيبة وتحنك فاق به جميع أهل دهره، ومنهم سليمان أبو بكر بن تاج كان في دولة الناصر، وابن أم المؤمنين، وأبو بكر أحمد بن جابر، وأبو عبد الملك الثقفي كان طبيبا أديبا بكتاب إقليدس وبصناعة المساحة، وهارون بن موسى الإشبيلي وعبد الرحمن بن إسحاق بن الهيثم، والرميلي كان بألمرية في أيام ابن معن المعروف بابن صمادح، ويلقب بالمعتصم بالله.
وسخم بن الفوال يهودي من سكان سرقسطة كان متقدما في صناعة الطب متصرفا في علم المنطق وسائر علوم الفلسفة، ومروان بن جناح كان يهوديا وله عناية بصناعة المنطق، وتوسع في علم لسان العرب واليهود ومعرفة جيدة بصناعة الطب ، ومنهم: إسحاق بن قسطار وكان يهوديا أيضا ، وكان بصيرا بأصول الطب مشاركا في علم المنطق مشرفا على آراء الفلاسفة، وله تقدم في اللغة العبرانية، وبراعة في فقه اليهود، وهو حبر من أحبارهم، ومنهم: حسداي بن إسحاق وكان من أحبار اليهود متقدما في علم شريعتهم، وهو أول من فتح لأهل الأندلس منهم باب عملهم من الفقه والتاريخ وغير ذلك، وكانوا قبل يضطرون في فقه دينهم، وشتى تاريخهم، ومواقيت أعيادهم إلى يهود بغداد فيستجلبون من عندهم حساب عدة من السنن، يتعرفون مداخل تاريخهم، ومبادئ سنيهم، فلما اتصل حسداي بالحكم ونال عنده نهاية الحظوة توصل به إلى استجلاب ما شاء من تآليف اليهود بالمشرق، فعلم حينئذ يهود الأندلس ما كانوا يجهلون، واستغنوا عما يتجشمون الكلف فيه.
ومنهم الفضل حسداي من ساكني مدينة سرقسطة، ومن بيت شرف اليهود بالأندلس، عني بالعلوم على مراتبها، وتناول المعارف من طرقها، فأحكم علم لسان العرب، ونال حظا جزيلا من صناعة الشعر والبلاغة، وبرع في علم العدد والهندسة وعلم النجوم وفهم صناعة الموسيقى، وحاول عملها، وأتقن علم المنطق، وتمرن بطرق البحث والنظر، واشتغل أيضا بالعلم الطبيعي، وكان له نظر في الطب، ومنهم: أبو جعفر بن أحمد بن حسداي، كان آية في الطب والمنطق، ومنهم: ابن سمحون أبو بكر حامد.
وكان أبو عبيد الله بن عبد العزيز البكري من مرسية، وأعيان أهل الأندلس وأكابرهم، فاضلا في معرفة الأدوية المفردة، وكان أبو جعفر الغافقي والشريف محمد بن محمد الحسني وخلف بن عباس الزهراوي وابن بكلارش من أكابر علماء الأندلس في صناعة الطب، وابن الصلت أمية بن عبد العزيز من بلد دانية من شرق الأندلس، وهو من أكابر الفضلاء في صناعة الطب وفي غيرها من العلوم، وكان أوحد في العلم الرياضي متقنا لعلم الموسيقى، وعمله جيد اللعب بالعود.
ومن أعظم فلاسفة الأندلس أبو بكر محمد بن يحيى الصائغ المعروف بابن باجة، وكان في العلوم الحكمية علامة وقته، متميزا في العربية والأدب والطب، متقنا لصناعة الموسيقى، جيد اللعب بالعود، قالوا: إنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإنه إذا قارنت أقاويله فيها بأقاويل ابن سينا والغزالي، وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم، ودونا فيها بأن لهذا الرجحان في أقاويله وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو، والثلاثة أئمة دون ريب، ومن حكمائهم الإلهيين أو المتصوفين: الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي صاحب الفتوحات دفين دمشق.
ومنهم: أبو العلاء بن زهر كان غاية في علوم الأوائل والطب، وأبو مروان بن أبي العلاء بن زهر وكان من كبار الأطباء، والحفيد أبو بكر بن زهر كان متميزا في العلوم ولم يكن في زمانه أعلم منه بصناعة الطب، ومنهم: أبو الحفيد محمد بن أبي بكر بن زهر، وأبو جعفر بن هارون الترجالي من أعيان أهل إشبيلية، وكان محققا للعلوم الحكمية متقنا لها معتنيا بكتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء المتقدمين فاضلا في صناعة الطب عالما بصناعة الكحل، وأبو الحجاج يوسف بن موراطير من شرقي الأندلس، وموراطير قرية من بلنسية، كان فاضلا في صناعة الطب، فالأمور الشرعية، أديبا شاعرا، ومنهم ابن أخته أبو عبد الله بن يزيد، وأبو مروان عبد الملك بن قبلال وأبو إسحاق إبراهيم الداني، وكان أمين البيمارستان، وطبيبه بالحضرة، وكذلك ولداه، وأبو يحيى بن قاسم الإشبيلي كان صاحب خزانة الأشربة والمعاجين التي يأخذها الخليفة المنصور من عنده.
وأبو الحكم بن غلندو الطبيب، وأبو جعفر أحمد بن حسان، وأبو العلاء بن أبي جعفر أحمد بن حسان، وأبو محمد الشذوني، وله معرفة جيدة بعلم الهيئة والحكمة والطب مشهور بالعلم، وأبو الحسين بن أسدون شهر بالمصدوم الطبيب، وعبد العزيز بن مسلمة الباجي، وأبو جعفر بن الغزال، وأبو بكر بن القاضي أبي الحسن الزهري، وابن الحلاء المرسي، وأبو إسحاق بن طلموس من جزيرة شقر من أعمال بلنسية، وأبو جعفر الذهبي، وأبو العباس بن رومية النباتي العشاب، وأبو العباس الكمبنازي، وابن الأصم ... وغيرهم من الأطباء الذين كانوا يجمعون إلى الطب أدبا وشعرا وحديثا وقرآنا وفلسفة ومنطقا أو نجوما أو كيمياء.
هذه جملة إجمالية في بعض رجال العلم غير الديني في الأندلس، ذاك القطر الذي إليه تنسب نحو نصف المدنية العربية الذي نقل أهله المدنية القديمة إلى أهل المدنية الحديثة، فكانوا خير صلة وعائد بين الرومان واليونان والفرس وبين الإنكليز والطليان والألمان والفرنسيين، وقد تم ما تم من ذلك بفضل عقول خلفاء العرب وملوكهم هناك، فقد كان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن أحد ملوك الأندلس عالما مفننا مكرما للعلماء والشعراء، ولم يزل يبحث عن العلماء، وخاصة أهل علم النظر، إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك المغرب، وكان ممن صحبه من العلماء والمتفننين: أبو بكر محمد بن طفيل أحد فلاسفة المسلمين، وكان هذا متحققا بجميع أجزاء الفلسفة يأخذ الجامكية مع عدة أصناف من الخدمة من الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد ... إلى غير هؤلاء من الطوائف، وكان يقول: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عندهم، ولم يزل أبو بكر يجلب إليه العلماء من جميع الأقطار، وينبهه عليهم، ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نبه إلى أبي الوليد محمد بن رشد، وأشار إليه بتلخيص كتب الحكيم أرسطاطاليس؛ لأن أمير المؤمنين كان يشكو من قلق عبارته أو عبارة المترجمين عنه، وغموض أغراضه.
ومن المتأخرين في هذه العلوم: أبو علي الصعلعل حسن بن محمد رئيس الموقتين بالمسجد الأعظم من غرناطة (716) قال لسان الدين: وكان فقيها إماما في علم الحساب والهيئة، أخذ عنه الجلة والنبهاء قائما على الأطلال والرخائم والآلات الشعاعية، ماهرا في التعديل مداوم النظر ذا استنباطات ومستدركات وتواليف، نسيج وحده ورجعة وقته، ومثل أبي جعفر أحمد بن حسن بن باضة السلمي الموقت بالمسجد الأعظم بغرناطة كان نسيج وحده وقريع دهره معرفة بالهيئة وإحكاما للآلة الفلكية، ينحت منها بيده ذخائر يقف عندها النظر، وتستدعي الحيرة جمال خط، واستواء صنعة وصحة وضع، وبلغ في ذلك درجة عالية، ونال عناية بعيدة حتى فضل بما ينسب إليه من ذلك كثيرا من الأعلام المتقدمين وأزرت آلاته بالحمائريات والصفاريات وغيرها من آلات المحكمين، وتغالى الناس في أثمانها أخذ ذلك عن والده الشيخ المتفنن شيخ الجماعة في هذا الفن، ومثل أبي العباس أحمد بن مفرج النباتي المشهور (638) وابن جابر الرياضي المشهور والوزير ابن الحاج (714) كان من العارفين بالحيل الهندسية بصيرا باتخاذ الآلة الحربية الجافية والعمل بها، انتقل إلى فاس، واتخذ الدولاب المنفسح القطر البعيد المدى والمحيط المتعدد الأكواب الخفي الحركة، ومنهم: ابن خاتمة الأديب الطبيب من أهل المائة الثامنة الذي كتب في الوباء
3
كتابا عرف فيه الميكروب والجراثيم، وأثبت العدوى بما لا يقل عن عالم من علماء هذا العصر، وفيه يقول ابن الخطيب: إنه حسنة من حسنات الأندلس، ومن رجالات الأندلس وأعلامها: ابن طملس الوزير كان كاتبا مهندسا إلى من ضارعهم في علمهم من الأطباء والفلاسفة والحكماء والكيماويين ممن لا يعدهم أناس من المؤرخين في صف العلماء جهلا وتعنتا.
هذا في العلوم الطبية والطبيعية والفلسفية والفلكية والرياضية، وقد نبغ في الأندلسيين من العلماء في التاريخ والجغرافيا والأدب والرحلات أفراد ما برحت كتاباتهم مرجعا إلى اليوم لكل عالم ومؤلف.
وقد أشبهوا علماء الغرب لهذا العهد في العناية بالعلوم المادية، وبرزوا فيها حتى نشأ لهم أئمة عظماء على ما رأيت سابقا، وألفوا فيها فأحسنوا إحسانهم في صنائع لا يحسنها إلا صنع الأيدي دقاق النظر، وكثيرا ما كانوا يبسطون المسائل، ويتوسعون في تحقيقها، ومنهم من يؤلف العشرة والعشرين مجلدا في علم واحد كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس؛ فألف كتابه في ستين مجلدا، وألف أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة كتاب السماء والعالم في مائة مجلد وموضوعه اللغة جعله على الأجناس في غاية الإيعاب بدأ بالفلك وختم بالذرة، وكثر فيهم المكثرون من التآليف المجودون فيها، ومنهم من كان له مائة تأليف جيد، وقالوا: إن تآليف ابن حزم بلغت نحو أربعمائة مجلد، وتواليف عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السلمي بلغت ألفا.
ومن مشاهيرهم: ابن جبير الكناني (614) الذي رحل إلى المشرق كما رحل كثير من علماء الأندلس قبله إلى مصر والشام والعراق والحجاز وغيرها في طلب العلم وأخذ الحكمة، ثم عادوا إلى بلادهم، وكتب رحلته المشهورة البديعة.
واشتهر في الجغرافيا أبو عبيد البكري المتوفى سنة 487ه صاحب كتاب معجم ما استعجم والمسالك والممالك ومحمد بن أبي بكر الزهري الغرناطي من أهل المائة السادسة، والشريف الإدريسي صاحب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ويقال له: كتاب رجار، وذلك لأنه صنفه باسم رجار الثاني صاحب صقلية وجنوبي إيطاليا سنة 548 وغيرهم.
ومن مؤرخيهم: الحميدي، وابن حيان، وابن خلدون، وابن الفرضي، وابن بسام، وابن بشكوال، وابن الأبار، وابن سعيد، وابن الخطيب.
ومن أدبائهم المشهورين: ابن جزي، وابن هاني، وابن سهل الإسرائيلي، ويحيى القرطبي، وابن رزين، وابن عمار، وابن ليون، والباجي، وابن الدباغ، وابن الجد، وابن القبطرنة، وابن عبد البر، وابن السيد، وابن عصام، وابن عطية، وابن خفاجة، وابن وهبون، وابن اللبابة، وابن الصائغ، وابن سارة الشنتريني، وعبادة، وابن وهبون، وابن خروف، وابن خاقان، والمصحفي، والأشجعي، وابن جهور، وابن سملة، واللماني، وابن برد، وابن أبي أمية، ومنذر بن سعيد، والزبيدي، وابن القوطية، وابن العربي (أبو بكر) وابن الأعلم، والرمادي.
ومن أديباتهم: حفصة بنت الحاج الكوبي، وعائشة بنت قادم، وفاطمة الشيلاري، وولادة بنت المستكفي بالله، ومريم الفيصولي (الفصولي) وصفية بنت عبد الله التربي، والغسانية، والبلشية، والوادي آشيه، ولبنى كاتبة الحكم بن عبد الرحمن ومزنة كاتبة الأمير الناصر لدين الله، وغالية المعلمة، وريحانة المقرئة، وفاطمة المغامي، وقمر البغدادية، وحسانة التميمية، وأم العلا بنت يوسف الحجازية، وأمة العزيز الشريف الحسنية، وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح المرية، والعروضية مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون، واعتماد جارية المعتمد المشهورة بالرميكية، والعبادية جارية المعتضد، وبثينة بنت المعتمد بن عباد، وحفصة بنت حمدون، وزينب المرية، وغاية المنى، وعائشة القرطبية، وأسماء العامرية، وأم الهناء بنت القاضي عبد الحق، ومهجة القرطبية، وهند جارية عبد الله بن مسلمة الشاطبي الشلبية، وحمدة بنت زياد المكتب، وأختها زينب. قال ابن سعيد: إنهما شاعرتان أديبتان من أهل الجمال والمال والمعارف والصون إلا أن حب الأدب كان يحملهما على مخالطة أهله مع صيانة مشهورة ونزاهة موثوق بها، وسعدونة ... وغيرهن.
هذه حالة العلوم في تلك المملكة التي بادت وباد سلطانها، وقد رأيت كيف كثر المهندسون في بلنسية وغرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها من حواضر الأندلس، وبأعمال هؤلاء الأعلام زخر بحر العمران، وقامت مدنية العرب على أمتن بنيان حتى دهش بها ابن القرن العشرين العلامة روزيه السويسري على ما تقدم بك آنفا.
هوامش
الفصل العاشر
تفنن عرب الأندلس
لم تقف همة الأندلسيين عند حد الإبداع في هندسة الدور والمصانع، وعمل النقش والتزويق، وتنجيد البناء والزخرف فيه، وبناء الجسور وتعبيد الطرق، وإنشاء السكور والسدود. فإن هذه الأعمال في العمران كانت نتائج لازمة للثروة العظيمة التي فاضت عليهم من زراعاتهم وصناعاتهم ومتاجرهم. فقد تفننوا أنواع التفنن في الزراعة، ونقلوا إلى الأندلس من الشام أنواعا من الأشجار والأزهار والغراس والبقول لم يكن لإسبانيا عهد بها، ومنها انتقلت إلى أوروبا الغربية، ومن جملة ما أدخلوه من أنواع الشجر والنبات الفستق والموز والنخيل والأرز والقطن والتوت وقصب السكر والزعفران والهيلون وزهر الكاميليا الحمراء والبيضاء والورد الياباني وغير ذلك، وتفننوا في هذا تفنن الغربيين لعهدنا بزروعهم وورودهم وثمارهم وبقولهم حتى كانت الأندلس المعتدلة الأقاليم الحسنة المناخ تعطي ثلاثة مواسم في السنة؛ لحسن استثمارها، فتدر على أهلها أخلاف الرزق والغنى سواء في العناية عندهم الأعذاء؛ أي الأراضي التي تسقى بالأمطار أو التي تسقى سيحا؛ أي بماء الأنهار؛ ذلك لأنهم حفروا آبارا، وأسالوا المياه من القاصية، وعملوا خزانات وسدودا.
وكان لهم بصر بالصنائع حملوا معهم من الشام أيضا صناعة صقل السيوف، وهي الصناعة التي نسبت إلى دمشق حتى اليوم فقيل لها بالإفرنجية
Damasquinure
أو
Damasquinerie
أو
Damasquinage
أي تنزيل الذهب والفضة في الفولاذ، وقد اشتق منه الفعل عندهم
Damasquiner
كما نقلوا صنعة الأقمشة من الحرير والكتان مزينة بالرسوم من دمشق أيضا فنسبت إليها عندهم، وقالوا في فعلها
Damasser
أي عمل ثيابا على النمط الدمشقي.
واختصت قرطبة بدبغ الأديم أي الجلود، وإشبيلية بالحرير (كان فيها سنة 1515 ستة عشر ألف نول يعمل فيها 130 ألفا من العملة، فأصبح عددها سنة 1673 أربعمائة نول فقط، وذلك بعد جلاء العرب والإسرائيليين) وكان بمالقة يعمل الزجاج كما «يصنع الفخار المذهب العجيب، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد» وإلى اليوم ينسبون هذا الصنف إلى مالقة، فيقولون في بلاد الشام المالقي للصحاف والأواني المعروفة، واشتهرت ألمرية بعمل الوشي والديباج والجوخ (كان فيها 6000 نول للأجواخ) و«لكورة باجة خاصية في دباغة الأديم وصناعة الكتان» وكان في ألمرية «لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللأسقلاطون
1
كذلك، وللثياب الجرجانية كذلك، وللأصفهانية مثل ذلك، وللعنابي والمغاجر
2
المدهشة والستور المكللة، ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف».
وكان الديباج والوشي يعمل أولا في قرطبة، ثم غلبت عليها ألمرية، فلم يتفق في الأندلس من يجيد عمل الديباج إجادة أهل ألمرية، وانفردت سرقسطة بصنعة السمور ولطف تدبيره وهي الثياب الرقيقة المعروفة بالسرقسطة خصوصية لأهل هذا الصقع «وفي جميع نواحيها يعمل الكتان والحرير الفائق» وكان في جيان 600 نول للحرير، ويعمل السجاد في رية والسلاح والحلي في قرطبة ومرسية وطليطلة وسرقسطة، وأخذت شاطبة تصدر الورق بكثرة منذ سنة 1009، قال ياقوت: وفي شاطبة يعمل الكاغد الجيد، ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس، وبالجملة فلأهل هذه الديار «خصائص كثيرة، ومحاسن لا تحصى، وإتقان لجميع ما يصنعون» قال ميجون: كانت في الأندلس عدة معامل مشهورة لصنع الفسيفساء، ويسمونه المفصص، ونقلت صناعة الفسيفساء عن الرومان.
وهكذا رسخت الصنائع في أمصار الأندلس برسوخ الحضارة، وطول أمدها، قال ابن خلدون: «فإنا نجد في الأندلس رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطبخ، وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص، وتنفيذ الفرش في القصور، وحسن الترتيب والأوضاع في البناء، وصوغ الآنية من المعادن والخزف، وجمع المواعين، وإقامة الولائم والأعراس، وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده، فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها، ونجد صنائعها مستحكمة لديهم، فهم على حصة موفورة من ذلك وحفظ متميز بين جميع الأمصار.»
وذكر سيديليون أن العرب من حيث الأخلاق والعلم والصناعة كانوا أرقى بكثير من الإسبان، وهم أمتن أخلاقا وطبائع، وفيهم الكرم والإخلاص والإحسان الذي لم يكن عند عداتهم، كما أن فيهم عزة النفس التي امتازوا بها في كل زمن، وكان الإفراط المضر فيها داعيا إلى إحداث البراز، وساعد على عظمة العرب في إسبانيا انتشار الآداب والعلوم والفنون على عهدهم انتشارا كبيرا، وكذلك الزراعة والصناعة، وعم الذوق في اللذائذ العقلية جميع طبقات المجتمع، والشعر يرقي النفوس، وغدت المنافسة الشريفة على أتمها في الأفكار، وكانوا يكتبون على جميع المصانع اسم من أمر ببنائها واسم بانيها، والأمة تمدح المحسن لبنائها، وارتقت عندهم الهندسة والموسيقى والرقص إلى درجة ذات بال، ولا يزال إلى اليوم في الغرب يدرس أسلوب بنائهم، ويعجب بما نقشوه فيها من النقوش، وكان لدولة الموحدين في الأندلس ذوق خاص في البناء؛ أنشئوا الجوامع والمآذن والأماكن العامة والمستشفيات والرباطات في كل بلد من بلادهم، وأقاموا الطرق والجسور والسدود، وحفروا الآبار، وأجروا الأنهار. ا.ه.
ولقد كانوا يستخرجون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، ويستقطرون السكر، ويعملون اللبود «المشهور في جميع الأرض بالجودة والصبغ والحسن. ولهم من الألوان والأصباغ والحشائش التي يلون بها الحرير وأنواع الصوف والثياب ما ليس في بلد من بلدان الأرض له نظير حسنا وكثرة»، ويحملون حاصلاتهم ومصنوعاتهم إلى أقطار المملكة العربية؛ بل إلى أقاصي البلاد الشرقية والغربية في البحار على سفن الأندلسيين التجارية، وكان لهم أساطيل في كل فرضة من فرضهم تقلع على الدوام من مواني الأندلس؛ لتحمل إلى شواطئ إفريقية وآسيا وأوروبا ما يروج فيها من سلعهم ومعادنهم وثمارهم وحبوبهم.
قال كاباتون: كانت مدنية العرب في إسبانيا ظاهرة في الأمور المادية، وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البائرة في الأندلس من الأساليب العلمية التي اتخذوها لريها، وهي أساليب إن لم تكن من اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها، وأحسنوا استخدامها، كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبللور وغزال الصوف والقطن والكتان والقصب، وأقاموا ما لا يحصى من المعاهد العامة، وفيها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من إنشائه. ا.ه.
وقال أحد علماء الفرنجة: كان في الأندلس على عهد الحضارة العربية أربعون مليون نسمة من أرباب الصنائع والعمل (سكان إسبانيا اليوم 21 مليونا، وسكان البرتغال 6 ملايين) وعلى ذلك العهد قامت فيها المدن المهمة التي يعجب الناس إلى اليوم بحرائبها، وعلى ذاك العهد كانت الزراعة ناجحة، وبفضل هندسة العرب كانت المياه تجري إلى كل مكان في بسائطها فتحمل الخصب والإمراع، وقال آخر: إن عهد استيلاء العرب على إسبانيا كان أسعد أيامها؛ لنجاح زراعتها بما قام فيها من أعمال السقيا، وبفضل غراسهم وزروعهم، وحسن استثمارهم لمعادن الأرض ومناجمها، ولما اغتنت البلاد كثر فيها سكان الدساكر والقرى كما كثر سكان المدن الكبرى.
ولا عجب - وحال البلاد من ارتقاء الصنائع والزراعة وتعدين المناجم واتساع التجارة قد بلغ هذا الحد - وإن كانت جباياتها من حقوقها وغير واجبها إلى سنة 340ه نحو عشرين ألف ألف دينار، قال ابن حوقل: ولست أشك على ما يوجبه النظر، وتوطأ به الخبر، فيما جمعه الحكم بعد هلاك أبيه من خدمة والمصادرين الذين كانوا في جملته عن أسباب الأندلس ولوازمها وجباياتها وخراجها وأعشارها وصدقاتها وجواليها تمام أربعين ألف ألف دينار، وبلغ خراج الأندلس على عهد عبد الرحمن الثالث عدا ما كانت دولته تستوفيه عينا 6245000 دينار، وحكى ابن خلدون عن الثقات من مؤرخي الأندلس: أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف ألف دينار، مكررة ثلاث مرات، يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار، وكان هذا الملك يقسم الجباية أثلاثا؛ ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن الستوق
3
والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين دينارا، وأما أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان، وانتهت جباية قرطبة أيام ابن أبي عامر إلى ثلاثة آلاف ألف دينار بالأنصاف.
كان للأندلسيين حذق باستخراج العلوم واستنباطها، من ذلك: أن عباس بن فرناس حكيم الأندلس صنع في بيته هيئة السماء، وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود ، وهو الذي استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال (؟) ليعرف الأوقات على غير مثال، واحتال في تطيير جثمانه، وكسا نفسه الريش، ومد له جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة، ثم سقط؛ فهو أول من حاول الطيران من بني الإنسان.
وكان أهل قرطبة أول من عني بتبليط المدن، وكذلك إنارة الطرق في الليل عرفت لأول مرة في قرطبة أيضا، ولما ارتقت العلوم على عهد بني الأحمر في غرناطة اكتشفوا بل اخترعوا بارود المدافع، وعرف منذ ذاك العهد، ولا تزال مدافعهم التي دافعوا بها عن غرناطة محفوظة إلى اليوم في أحد متاحف إسبانيا.
وفي الأندلس: عرف الطبع؛ فكان أحد أبنائها هو السابق في مضمار هذا الاختراع الذي لم تنتفع الإنسانية بأفيد منه. فكانت لهم فيه طريقة لم ينته إلينا خبرها بالتفصيل؛ بل عرف إجمالا أن عبد الرحمن بن بدر من وزراء الناصر من أهل المائة الرابعة «كان ينفرد بالولايات فتكتب السجلات في داره، ثم يبعثها للطبع فتطبع، وتخرج إليه، فتبعث في العمال، وينفذون على يديه» فإذا كان هذا هو الطبع المعروف وما نظنه إلا هو، فيكون ابن المنذر بدر العربي قد سبق الألماني مخترع الطباعة بنحو أربعة قرون.
وذكروا أن ملوك غرناطة فرضوا جوائز للمخترعين؛ لينشطوهم، ويلقوا المنافسة بينهم، وربما ميزوهم بامتيازات خاصة على نحو ما فعل لويز الرابع عشر وكولبر في فرنسا، وعني الأندلسيون بتأليف رسائل يفهمها كل إنسان تكون معوانا على الانتفاع بالأعمال العامة، وهم أنشئوا دساتير سهلة التناول يتدارسها الصناع والعملة، فتفيدهم فيما هم بسبيله.
واخترع الأندلسيون الخطوط المخصوصة بهم، كما اخترعوا الموشحات التي استحسنها أهل المشرق، وصاروا ينزعون منزعها، وكانت طبقاتهم في نظمهم ونثرهم لا تخفى على بصير، ولم يكن يخلو بلد من كاتب بليغ وشاعر مفلق، بل «كان من مدنهم مثل شلب قل أن ترى من أهلها من لا يقول شعرا، ولا يعاني الأدب، ولو مررت بالفلاح خلف فدانه وسألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه، وأي معنى طلبته منه» وخص أهل وادي آش بالأدب وحب الشعر، وعلل ذلك أحد العارفين بقوله: إن أهل الأندلس أشعر الناس؛ لما كثر الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكئوس لا ينازعهم أحد في هذا الشأن.
وكانت للأندلسيين عناية بنقد الشعر لا يجوز عليهم ساقطه، ونبغ كثيرون منهم في هذا المعنى، وألفوا فيه التآليف الممتعة، وكانت لهم مدارس لتعليم القرآن والكتابة والحساب وتعلم العلوم على اختلاف ضروبها في الجوامع من غير نكير يعلمون الفلك والجغرافيا واللغة والطب والنحو ومبادئ الطبيعة والكيمياء والمواليد الثلاثة. ذكروا أنه كان في قرطبة ثمانون مدرسة عامة، وسكانها مليون نسمة، وأن الموحدين أنشئوا في الأندلس مدارس عامة ومدارس عليا، وأغدقوا إحسانهم على العلماء، يريدون أن يعيدوا إلى الأندلس بهاءها على عهد الأمويين وأن الحكم أنشأ في قرطبة سبعا وعشرين مدرسة اتخذ لها المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن، وأجرى عليهم المرتبات، وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله العظيم، وفي ذلك يقول ابن شخيص:
وسماحة المسجد الأعلى مكللة
مكاتب لليتامى من نواحيها
لو مكنت سور القرآن من كلم
نادتك يا خير تاليها وواعيها
وأحدث رضوان النصري (760) المدرسة بغرناطة، ولم تكن بها، وكانوا كما قال ابن سعيد: يقرءون في جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرءون لأن يعملوا لا لأن يأخذوا جاريا، فالعالم منهم بارع؛ لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على ذلك أن يترك الشغل الذي يستفيد منه وينفق من عنده حتى يعلم.
وكثيرا ما كان ملوك الأندلس يقترحون على الناس حفظ الكتاب الفلاني من كتب الأدب والعلم، ومن حفظه فله كذا دينار، فما هو إلا أن يحفظه مئات طمعا في الجائزة، وعم التلذذ بالأدب جميع طبقات المجتمع عندهم، وكثير من الشعراء كانوا ينتجعون بشعرهم الملوك والأمراء يمتدحونهم فيصلونهم ويئونهم زمنا على نحو ما كانت الحال في القرون الوسطى في المتشاعرين المتغنين بالشعر المتكففين في بلاد الإفرنج، ويسمونهم بالإفرنسية: التروبادور والتروفير
Les Troubadours et les Trouueres .
4
وكان تعليم البنات شائعا عندهم، وكثير منهن يحفظن بضعة دواوين من دواوين العرب، وينظمن ويترسلن كالأوروبيات اليوم، وإذا عرفت أن المدارس كانت مبذولة في المدن والقرى فلا تستغرب بعد ذلك أن قال أحد مؤرخي الإفرنج: إن سكان إسبانيا الإسلامية إلا قليلا كانوا يقرءون ويكتبون على حين كان أهل الطبقة العليا في أوروبا المسيحية أميين لا يقرءون ما عدا أفرادا قلائل من الشمامسة جعلوا الكتابة من شأنهم.
وكان للأندلسيين غرام بتسبيل الكتب على المطالعة، ولهم خزائن كتب عامة وخاصة، وكانت قرطبة أكثر بلاد الأندلس كتبا، وأهلها أشد الناس اعتناء بخزائن الكتب صار ذلك عندهم من آلات التعيين والرئاسة، فلا يكاد يخلو دار من خزانة فيها كتب قيمة، وقد أنشأ الحكم الثاني عدة مكاتب للمطالعين فكان يرسل وكلاءه إلى المشرق يستنسخون الأسفار فما هو إلا أن يؤلف المؤلف تصنيفه حتى تستنسخ منه نسخة أو تنسخ لتحمل إلى خليفة الأندلس، ولا يفوت بلاده شيء من حركة العقول، وكانت دار كتبه تحتوي على أربعمائة ألف مجلد جاء فهرسها في أربعة وأربعين مجلدا، ولطالما أجزل ملوك الأندلس الصلات لبعض مؤلفي الشرق والأندلس حتى يذكروا في مقدمتها أنهم ألفوها برسم خزائنهم، ومن المؤلفين من كانوا يرضون بذلك، ومنهم من لا يرضون به يقصدون أن يكون لمن يستفيد منه.
وكان للعلماء والمؤرخين والشعراء والأدباء في الأندلس مجامع علمية وأدبية أشبه بالمجامع أو الأكاديميات في هذا العصر، وذلك لنشر العلم والمعارف، ومفاوضة الحكمة بينهم، فتنتج من اجتماعهم فوائد مهمة للعلم والمدنية، وكان المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس من أعلم الملوك بالأدب، وله التصنيف المترجم بالتذكرة، والمشتهر بالكتاب المظفري في خمسين مجلدا في الفنون والعلوم، واستأدب لبنيه أبا عبد الله بن يونس، وكان يحضره، وأبا الحزم بن عليم وأمثالهما للمذاكرة والمباحثة فيفيد ويستفيد، وكان لأبي عامر أمير الأندلس في دولة هشام المؤيد مجلس معروف في الأسبوع يجتمع فيه أهل العلوم للكلام فيها بحضرته.
وقد أنشأ الحكم مجمعا في قصر مروان وقلده غيره من أمراء الأندلس فأنشئوا مجامع لهم، وأنشأ أحمد بن سعيد النصري مجمعا في طليطلة فكان يجتمع عنده أربعون عالما من طليطلة والبلاد المجاورة ثلاثة أشهر في السنة؛ أي في شهر تشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني يعقدون اجتماعاتهم في ردهة فرشت أحسن فرش، فيبدءون عملهم بتلاوة آيات من الكتاب العزيز، ثم يتذاكرون في تفسير ما قرءوا، ويأخذ بهم الاستطراد إلى البحث في فنون شتى من العلم والحكمة.
وكان أمير المسلمين علي بن تاشفين لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء
5
فكان إذا ولى أحدا من قضاته كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، وأمير المسلمين هذا هو الذي اجتمع له ولأبيه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار، فانقطع إليهما من الجزيرة من أهل كل علم فحوله حتى اشتبهت حضرتهما حضرة بني العباس في صدر دولتهم، وكانت أيام بني المظفر بمغرب الأندلس أعيادا ومواسم، وكانوا ملجأ لأهل الآداب خلدت فيهم ولهم قصائد أشادت مآثرهم، وأبقت على غابر الدهر حميد ذكرهم.
كان أهل دانية أقرأ أهل الأندلس؛ لأن مجاهدا العامري كان يستجلب القراء، ويفضل عليهم، وينفق الأموال فكانوا يقصدونه ويقيمون عنده فكثروا في بلاده. قلنا: وإذا كان عرض للأندلس في بعض أدوارها ما فرق جامعتها السياسية فاستفاد من ذلك أعداؤها فقد كان لتفريقهم إلى ممالك صغرى داعيا إلى التنافس أحيانا حتى صار لكل إقليم مزية ليست لغيره، واختص كل ملك بشيء فاتخذ أسباب النجاح فيه، واستدعى أهل الأخصاء من رجاله.
ومن لطيف تدبيرهم في الإنفاق على الجند دون تحميل الأمة أعباءه وهو تحت السلاح ما عمله ابن جهود رئيس قرطبة من جعل أهل الأسواق جندا، وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم محصاة عليهم يأخذون ربحها فقط، ورءوس الأموال باقية محفوظة يؤخذون بها، ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، وأمرهم بتفريقه في الدكاكين وفي البيوت، حتى إذا هم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه.
ومن أجمل أعمالهم في إقامة قسطاس العدل: أن هشام بن عبد الرحمن الداخل كان يبعث إلى البكور قوما عدولا يسألون الناس عن سير العمال، ثم ينصرفون إليه بما عندهم، واعترض له يوما متظلم من أحد عماله فبدر إلى الشاكي، وقال له: احلف على كل ما ظلمك فيه فإن كان ضربك فاضربه أو هتك لك سترا فاهتك ستره أو أخذ لك مالا فخذ من ماله مثله إلا أن يكون أصاب منك حدا من حدود الله، فجعل الرجل لا يحلف على شيء إلا أقيد منه.
ولقد بنى الخليفة عبد الله بن محمد الساباط بين القصر والجامع بمدينة قرطبة، وكان يقف فيه قبل صلاة الجمعة وبعدها فيرى الناس، ويشرف على اجتهادهم وحركاتهم، ويسر بجماعاتهم، ويسمع قول المتظلم، ولا يخفى عليه شيء من أمور الناس، وكان يقعد أيضا على الأبواب في أيام معلومة فترفع إليه فيه الظلامات، وتصل إليه الكتب على باب حديد قد صنع مشربا مستطيلا؛ لذلك فلا يتعذر على ضعيف إيصال بطاقته بيده، ولا إنهاء مظلمة على لسانه، وفتح بابا في قصره سماه باب العدل، وكان يعقد فيه للناس يوما معلوما في الجمعة؛ ليباشر أحوال الناس بنفسه، ولا يجعل بينه وبين المظلوم سترا. فكانت سيرة عمالهم مع الرعايا أن يتحفظوا من كل أمر يوجب الشكوى منهم، وينقبضون عن التحامل على من دونهم.
وهكذا فإنه لا يكاد يخطر ببالك شيء من أدوات الحضارة ومقومات العمران وأساليب العلم والمعرفة إلا قام به أو ببعضه ملوك الأندلس وأهلها حتى التماثيل فإنها كانت في قصور العظماء والصور تزين بها غرفهم وردهاتهم؛ لذلك أبقوا على أكثر ما كان في البلاد قبل الفتح من التماثيل للاعتبار بها خصوصا بعد أن انغمسوا في الحضارة، قال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة:
بقية من بقايا الروم معجبة
أبدى البناة بها من علمهم حكما
لم أدر ما أضمروا سوى أمم
تتابعت بعد سموه لنا صنما
كالمبرد الفرد ما أخطا مشبهه
حقا لقد برد الأيام والأمما
كأنه واعظ طال الوقوف به
مما يحدث عن عاد وعن إرما
فانظر إلى حجر صلد يكلمنا
أشجى وأوعظ من قس لمن فهما
وقد أقاموا حدائق للحيوانات والنباتات، وعنوا حتى بصراع الثيران، فضارعوا الإسبانيين، وربما فاقوهم، وأولعوا بالرقص ولهم منه أنواع، وكذلك آلات الطرب كالخيال
6
والكرج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والقيشار والزلامى والشفرة والنورة والبوق، وكان في مدينة آبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة ما تظنهن فيه أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدكر، وإخراج القزى والمربط والفتوخة.
أما الموسيقى: فقد كان زرياب أدخلها الأندلس، فكان يجري عندهم مجرى الموصلي في الغناء، وله طريق أخذت عنه، وأصوات استفيدت منه، وعلا عند الملوك، وأحسنوا إليه حتى كادوا يفرطون، وشهر شهرة ضرب بها المثل، ولا عجب إذا قلنا إن تفرق الأندلس أصقاعا وممالك كان أشبه بتفرق ألمانيا وإيطاليا قبل وحدتهما إلى إمارات صغيرة تتنافس في مضمار العلم والصنائع والعمران.
هوامش
الفصل الحادي عشر
مدينة مجريط
سار بنا القطار من باريز إلى جنوبي فرنسا مارا بأرض عامرة بزراعتها دالة على سلامة ذوق أهلها، وتفننهم في ضرب الحياة المادية والأدبية، ولما اجتزنا جبال البيرنات «جبل الثنايا» دخلنا ليلا محطة إرون الإسبانية قاصدين إلى مجريط عاصمة إسبانيا الحديثة كثرت لواعج الأشواق إلى الصقع الأندلسي، واشتدت تباريح الذكرى.
وأكثر ما يكون الشوق يوما
إذا دنت الخيام من الخيام
تمثلت للعين تلك الأمة العربية الغربية، وما أثلته من الأمجاد في هذه البلاد، وظهرت فيه من مظاهر الحياة الراقية، تذكرت جيلا عظيما، لم يبق سوى التحدث بطيب أخباره، والتطلع إلى جميل آثاره، ذكرت عشرات الألوف من العظماء، ضمت الأندلس أعظمهم، وكان كل واحد أمة برأسه، ومنهم من لم ينبغ أمثال لهم في أمة في القرون المتواصلة، ووددت لو أمكن العمل بحكمة المعري حين قال:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
وحرام بنا وإن قدم العه
د هوان الآباء والأجداد
مدينة مجريط أو مدريد هي عاصمة إسبانيا منذ سنة 1560، وسكانها اليوم يقربون من سبعمائة ألف، وهي العاصمة التي اختارها فيليب الثاني؛ لتوسطها من البلاد، وكانت على عهد العرب حصنا أو بليدة، ولم ترزقها الطبيعة نهرا كبيرا، ولا ضاحية بديعة مشجرة مثمرة؛ بل كان قديما في أرباضها بعض الغابات فحطمت، ولم يبق منها إلا القليل. على أن فيها اليوم ما في جميع عواصم الغرب من المرافق والمصانع. زرت بعضها وهي لا تختلف عن مصانع الأمم اللاتينية إلا قليلا بل هي أقل عظمة من مصانع إيطاليا وفرنسا، وليس في مجريط أثر يعتد به من آثار العرب، وأما آثار الإسبانيين الحديثة: فليست مما يعجب به كثيرا؛ لأنها حديثة عهد على الأغلب، وتكاد تكون الصنعة الدينية متجلية في كل مصنع من مصانعهم.
وأكثر أحياء المدينة ضيقة، وبيوتها مزدحمة كسائر المدن المنحطة في أوروبا إلا أن بعض الأحياء والدور المستحدثة هي على الطراز الغربي الجديد، ولها حدائق وساحات على جانب من السعة مستوفاة شروط الصحة، وقد أنشئت في زمن الحرب العامة في مجريط وغيرها من مدن إسبانيا بيوت أقامها أغنياء الحرب؛ أي الذين اتجروا فيها وربحوا، وربحت بهم إسبانيا لحيادها، وقد أحسنت لنفسها بالتزامها خطة المسالمة، ومن هذه البيوت ما يقتضي ألوفا من الليرات. فلما اشتدت الأزمة على أوروبا عامة لحق إسبانيا من أثرها شيء بالطبع فوقف العمل في بعض تلك البنايات، وكذلك كثير من المشاريع والمعامل التي أحدثوها مغتنمين فرصة تقاتل جيرانهم.
في مجريط تسعون كنيسة من الكنائس التي لا شأن لها في نظر التاريخ وعلم العاديات، وليس لها مقام رفيع في باب البناء الحسن. المصانع التي من هذا القبيل ليست بالكثيرة العدد، وقد قام القصر الملكي اليوم محل القصر العربي، وكان هنري الرابع جعل هذا القصر محلا للصيد، وفي متحفها الوطني بعض آثار العرب التي أفلتت من أيدي الذين زهدوا فيها بصنع المتعصبين من رجال الدين وخربوها وأتلفوها. أما تاريخ هذا الحصن العربي أي مجريط فليس بعظيم، وخلاصته: أنه أخذ من العرب، ثم استعادوه إلى أن استولى الإسبان على طليطلة سنة 1086م فأصبحت مجريط يومئذ إسبانية ، وقد زادت مكانة مجريط فكبرت رقعتها في الجزء الثاني من القرن التاسع عشر؛ وذلك لاتصالها بالخطوط الحديدية مع الولايات ومع فرنسا والبرتغال، وقد أنشئ فيها في العهد الأخير ترامواي كهربائي
Metropolitain
تحت الأرض على مثال ترامواي باريز ولندرا وبرلين ونيويورك.
الفصل الثاني عشر
دير الأسكوريال
أهم ما في ضاحية مجريط دير الأسكوريال على واحد وخمسين كيلومترا منها بناء فيليب الثاني، ونجزت عمارته سنة 1584، وعمر فيه حفيده فيليب الرابع البانتيون مدفن العظماء من الآل الملوكي، وقيل: إنه أنفق على الدير خمسة عشر مليونا ونصف مليون من البستاس أي الفرنك الإسباني.
والأسكوريال كما قال عنه واصفوه من الإفرنج مثال مما تعمله الإدارة ومما لا تعمله، فقد قيل: إن الإدارة قادرة في بعض الأحوال وعاجزة عن إيجاد عمل واحد يدل على نبوغ وعبقرية، وهذه الشعلة الإلهية قد نقصت في عمل باني الدير. فمن شقائه أنه نشأ في عهد لم يشتهر بقوة الإيجاد ولا بسلامة الذوق فجاء بناؤه جافا رغم ما تعاوزه من أيدي المهندسين لم ينم عن لطف ولا حوى أسباب الجمال، وغلب على البناء تصنع الملك فيليب في مظاهر أبهته وعظمته، ولطالما ضيق صدور أسرته وحاشيته منه في هذا الشأن فلم يكن لهم هم إلا أن يدهنوه، وكان من طبعه أن يتدخل فيما لا يعلم حتى أفسد على المهندسين عملهم أو كاد، وجاء العمل الذي أبقاه للأعقاب حتى يفتخروا به، وليس فيه كبير أمر من جمال الهندام والنظام أشبه بسجن مظلم وديماس منحوت.
وأهم ما يلفت النظر في هذا الدير دار كتبه، وفيها خمسة وأربعون ألفا من المجلدات حوت كثيرا من المخطوطات والنقوش والرسوم، ومنها الكتاب المقدس الذي كان يقرأ فيه بعض ملوك إسبانيا في القرون الوسطى، وبعضها كتب باللاتينية، ومنها ما كتب بالإسبانيولية أو اليونانية، ومنها المزين بأجمل الرسوم، ومنها المذهب المكتوب على ورق، ويهمنا من هذه المكتبة مجموعة الكتب العربية وهي ألفا مجلد كانت السفن الإسبانية غنمتها من مركب لأحد ملوك مراكش المتأخرين، وكان في هذا الدير قبل القرن السابع عشر نحو ثلاثة آلاف مخطوط عربي، فالتهمتها النار في الحريق الذي نشب في الدير مع ما التهمت من الكتب الأخرى.
فليست الكتب العربية في خزانة الأسكوريال إسبانية المصدر كلها كما أكد لنا أحد علماء الإسبان، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، أخبرني أن الإسبان غنموا هذه الكتب من سفينة كانت لأحد سلاطين الغرب الأقصى فوقعت في أيدي الإسبان، وقال آخران: أصل هذه المجموعة كانت لأحد سفراء إسبانيا لدى الباب العالي، ولما غادر الآستانة أهداها لملكه فوضعها هذا في الدير الذي كان ملكا له ولآله من بعده، والرواية الأولى أصح.
وقد وصف هذه الكتب باللاتينية أحد رهبان الموارنة من سنة 1749-1753 وفيها 1955 مخطوطا رأيت نموذجات منها، وقرأت وصف الأخير فيما كتبه أحد علماء المشرقيات من الفرنسيس، ولا سيما القسم الذي يهمني منها.
عراني في هذا الدير ما عرا كثيرين قبلي من السويداء، ثم السكون والراحة والبرودة التي تدعو إلى العزلة والتفكر والانكماش والدروس، وإنك لتشعر وأنت تسير تحت قباب الأسكوريال العارية من التفنن والزينة بهواء بارد من حياة الأديار كما تشعر في مدارس أكسفورد وبيعها، والنازل هنا بطبيعته يرى دافعا من نفسه يدفعه إلى أن يشغل نفسه بشيء من ملجأ أوفق لنسيان العالم يحمل ساكنه على البحث عن الحقائق، وعلى الصبر في كشف المسائل المتعذرة المبهمة المجهولة مثل هذه المعاهد.
الفصل الثالث عشر
قرطبة والزهراء
بأربعة فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها
لم يكتب لي أن أزور مدينة طليطلة لأشهد فيها قصور العرب القديمة، ومساجدها القائمة إلى اليوم، وعادياتها المأثورة، وكانت من عظائم مدائن الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يوما فاكتفيت بزيارة ثلاث مدن من أمهات المدن الأندلسية قرطبة وإشبيلية وغرناطة، وهي العواصم الثلاث التي تأصل فيها حكم العرب وطالت أيامه.
وقرطبة كانت في عزها أعظم مدائن الأندلس، فأصبحت الآن ليس فيها من السكان سوى ثمانية وخمسين ألف ساكن، وقيل: إن مساجدها بلغت ألفا وستمائة مسجد وحماماتها ستمائة، وذكر آخرون أنه كان فيها مائتا ألف دار وثمانون ألف قصر دورها ثلاثون ألف ذراع، وكان بخارجها ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص
1
تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له يأتون كل جمعة للصلاة مع الخليفة بقرطبة، ويطالعونه بأحوال بلدهم.
قال المراكشي: بلغت قرطبة من القوة، وكثرة العمارة، وازدحام الناس مبلغا لم تبلغه بلدة. حكى ابن فياض في تاريخه في أخبار قرطبة، قال: كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي في هذا ما في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع جهاتها، وكان الماشي يستضيء بسرج قرطبة ثلاثة فراسخ لا ينقطع عنه الضوء.
وفي تواريخ الإفرنج أن قرطبة كانت منقطعة القرين بين مدن الغرب؛ أي أوروبا، وليس ما يشبهها بعمرانها وسكانها، فكان فيها خمسمائة ألف ساكن و287 ربضا، وهي مكتظة بالسكان، وقد قامت المتنزهات البهجة المغروسة بأنواع الأشجار على طول الوادي الكبير والقصور والمصايف مغطاة بالخضرة، وكان في هذا الوادي الكبير أربعة عشر ألف قرية.
فقرطبة كانت أعظم مدينة بالأندلس ليس بجميع المغرب «لها شبه كثرة أهل وسعة رقعة وفسحة أسواق ونظافة محال وعمارة مساجد وكثرة حمامات وفنادق» ووصفها المقدسي فقال: «وصف ما شئت من طيبها ورحبها فإنها جنة الأندلس على ما حكي لي وهي مصر الأندلس، وقد دلت الدلائل، واتفقت الآراء على أنه مصر جليل رفيق طيب، وأن ثم عدلا ونظرا وسياسة طيبة ونعمة ظاهرة ودينا، وهي في جهاد ونفير أبدا مع علم كثير، وسلطان خطير، وخصائص وتجارات وفوائد» وذكروا أن لأهل قرطبة رئاسة ووقارا لا تزال سمة العلم والملك متوارثة فيهم.
ليس في قرطبة اليوم من آثار العرب سوى قطعة من مسجدها الأعظم بناه عبد الرحمن الداخل، وكان معبدا للويزغوت على اسم القديس منصور، وقد ملكه المسيحيون، وأخذ المسلمون نصفه سنة 785م، ولما شرع بالبناء ابتاع عبد الرحمن النصف الآخر منهم كما فعل الوليد الأموي في دمشق يوم بنى جامعها، واستصفى النصف الآخر من أربابه المسيحيين، وعوضهم عنه كنائس أخرى.
وزاد الناصر عبد الرحمن بن محمد في المسجد الجامع بقرطبة زيادته المشهورة، وفيها القبو الكبير الذي يصطف المؤذنون أمامه يوم الجمعة للآذان، وهو من أعجب البنيان، وحبس المستنصر بالله على الجامع بقرطبة لما كملت زيادته ربع جميع ما جرته إليه الوراثة عن أبيه أمير المؤمنين في جميع كور الأندلس وأقاليمها على ثغور الأندلس كافة، تفرق غلات هذه الضياع عاما بعد عام على ضعفائهم، إلا أن تكون بقرطبة مجاعة فتفرق فيهم.
ومما قيل في آثار مدينة قرطبة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية: أن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة: مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار، ومساجدها: ثلاثة آلاف، وعدة الدور التي بقصرها الزهراء: أربعمائة دار، وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته.
وقالوا: إن المسلمين لما فتحوا قرطبة وجدوا بها آثار قنطرة فوق نهرها على حنايا وثائق الأركان من تأسيس الأمم الدائرة قد هدمها مرور النهر على الأزمان فتقدم إلى فضيلة النظر فيها عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عندما اتصل به خبرها، فأمر السمح بابتنائها؛ فصنعت على أتم وأعظم ما بني عليه جسر من حجارة سور المدينة، وربما كان هذا أول عمل في العمران قام على أيدي عرب الأندلس في القرن الأول للهجرة.
قال بعضهم: لم يكن للعرب هندسة خاصة لما دخلوا قرطبة، وكانوا يعتمدون على هندسة أهل البلاد التي تغلبوا عليها، فنسجوا في بناء المسجد على مثال مساجد مصر ومسجد القيروان، وكان هذا من أعظم مساجد الإسلام، وقيل: إنه بني على شكل مسجد دمشق، وكان فيه 1418 سارية تشبه غابة ملتفة، والباقي منها الآن 860، وهي أدق من سواري الجامع الأموي اليوم، وقال آخر: إن الباني وأخلافه جلبوا هذه السواري من أبنية قديمة وبيع مسيحية في القاصية كجنوبي فرنسا وإفريقية؛ أي قرطاجنة والآستانة، وتبين أن أكثرها من مقالع أندلسية، ومحراب هذا المسجد الجامع لا يزال محفوظا، وهو دهشة إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم، وعلو قبته تسعة أمتار، حفر في قطعة واحدة من المرمر، وعمل بالفسيفساء، وزبرت عليه آيات كريمة، وله اثنان وعشرون بابا معمولا بالنحاس، بقي الآن منها 12 بابا، وعلى بعضها صورة نقوشها الأصلية، وقد قام البرج الذي هناك مقام المنارة التي أنشأها عبد الرحمن الناصر. يقول جوسيه: لو أقيمت البيعة التي أقاموها وسط الجامع على عهد شارلكان في مكان آخر لصار لها شأن، وهي هنا من أبشع آثار الهندسة إذا أحدث بانوها بها ضررا على بناء وحيد من نوعه في العالم.
وكان في جامع قرطبة سبعة آلاف مصباح تنعكس أنوارها على النقوش المذهبة والزمرد والياقوت والمفصص ... وغيرها، فتزيد في جماله، وعلى ما أصيب به هذا المسجد من الأضرار بقي إلى اليوم من أغرب أبنية الأرض.
وقال غوتيه: لا سبيل إلى وصف التأثر الذي يشعر به المرء عند دخوله هذا المسجد الإسلامي القديم، فيتراءى لك أنك تسير في غابة مسقوفة لا في بناء مصنوع، وحيث اتجهت يضيع بصرك في صفوف من السواري تلتقي وتمتد على مرمى البصر مثل غراس من المرمر ظهرت من تلقاء نفسها على أديم الأرض. ا.ه.
نعم، إن البيعة التي أقيمت وسط جامع قرطبة والبيع الصغرى التي جعلت في أكثر زواياه قد شوهت من محاسنه، وأبدلته عن أصله، وفي نية ديوان الآثار فيما بلغني أن يرجع القديم كما كان، وينقل الآثار المسيحية من جامع قرطبة؛ ليبقى بدون زيادة ولا نقصان طرازا في البناء منقطع القرين في الأرضين، إلا أن البيعة الوسطى شارلكان يصعب نقل أنقاضها؛ لما فيها من الزخرف، ولما صرف عليها من المال.
هذا ما بقي من آثار الأجداد في قرطبة، وقد زرتها وأرباضها فرأيتها وهي على منبسط من الأرض تشبه ضاحيتها ضواحي دمشق وهندسة أكثر بيوتها الجديدة على الطراز العربي البديع، ولأهلها إلى هذا العهد حرمة له، وغرام به، وحرص عليه يعدونه من جملة مقدساتهم.
وعلى أربعة أميال من قرطبة بنيت مدينة الزهراء سنة 325ه بناها الناصر لدين الله الأموي في ست عشرة سنة، وطولها ألف وستمائة ذراع، وعرضها ألف وسبعون ذراعا، وجعل في سورها ثلاثمائة برج وخص قصورا للخلافة وثلثها للخدم وثلثها بساتين، وكان يدخل فيها كل يوم من الحجر المنحوت ستة آلاف صخرة سوى الآجر وغيرها، وحمل إليها الرخام من أقطار الغرب، ودخل فيها أربعة آلاف وثلاثمائة سارية، وأهدى ملك الإفرنج لبانيها أربعين سارية رخام، وأما الوردي والأخضر فمن إفريقية، والحوض المذهب جلب من قسطنطينية، والحوض الصغير على صورة أسد وصورة غزال وصورة عقاب وصورة ثعبان ... وغير ذلك والكل بالذهب المرصع بالجوهر، وكان ينفق عليها ثلث دخل الأندلس، وكان دخلها يومئذ خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف درهم.
وقال أحد المؤرخين: إن مباني الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية جلبت من رومية وقسطنطينية وقرطاجنة وتونس وإفريقية، فيها خمسة عشر ألف باب ملبس بالحديد والنحاس المموه، وكان عدد الفتيان فيها ثلاثة عشر ألف فتى وسبعمائة وخمسين فتى، وعدد النساء بقصر الزهراء ستة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة امرأة، وكان على الحجر الذي جلب من مقالع الأندلس أو حمل من القاصية نقوش وتماثيل وصور على صور الإنسان، ولما جلبه أحمد الفيلسوف، وقيل غيره، أمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، ونصب عليه اثني عشر تمثالا، وقال بعضهم: عمل في الزهراء عشرة آلاف عامل خمسا وعشرين سنة، وفي الشرق من الوادي الكبير مدينة الزاهرة التي بناها المنصور بن أبي عامر التي يقول فيها ابن عربي لما دخلها ووجدها متهدمة:
ديار بأكفاف الملاعب تلمع
وما إن بها من ساكن فهي بلقع
ينوح عليها الطير من كل جانب
فتصمت أحيانا وحينا ترجع
فخاطبت منها طائرا متفردا
له شجن في القلب وهو مروع
فقلت على ماذا تنوح وتشتكي
فقال على دهر مضى ليس يرجع
وقد حرقت الزهراء وهدمت في حدود سنة 400ه وبقيت رسومها، وخربت قرطبة وما فيها من القصور والمرافق في حرب البربر، وسقطت في أيدي العدو سنة 633ه بعد أن كانت مدة خمسة قرون وخمس قرون في أيدي العرب، ولم يعد حكمهم إليها بعد ذلك، ولما خلت قرطبة من سلطان يرجع إلى أمره صار كل من قويت يده عمر مدينة فخربت قرطبة وعمرت إشبيلية.
هوامش
الفصل الرابع عشر
مدينة إشبيلية
على شاطئ الوادي الكبير في أجمل بقاع الأندلس وأعدلها هواء وأزكاها تربة قامت هذه العاصمة التي كانت من أعظم مدن الأندلس بعد سقوط قرطبة في أيدي الإسبان، وكانت مدينة الحظ والسرور على اختلاف الدهور والعصور، وليس اليوم في إشبيلية بقايا كثيرة من آثار العرب إلا الجيرالد أو منارة الجامع الأعظم وهي أعجوبة إشبيلية ترى من مكان بعيد، بناها مهندس عربي من سنة 1184-1196 لأبي يوسف بن يوسف من دولة الموحدين، وهي من الآجر، يدق حجمها كلما ارتقت في الهواء، وقاعدتها عبارة عن مربع ذي 13مترا و55 سنتيمترا، ويزيد سمك الجدران على مترين، وقد تشوهت بما زاد عليها الإسبان بعد خروجها من أيدي العرب، وهي الآن قبة جرس البيعة الكبرى.
قال في ذيل اللباب: فدخل (يعني أمير المؤمنين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن) إشبيلية في غرة صفر سنة 593 فأخذ في إتمام بناء الجامع، وتشييد منارة، وعمل التفافيح من أملح ما يكون من عظمة لا أعرف له قدرا إلا أن الوسط منها لم يدخل على باب المؤذن حتى قطع الرخامة من أسفلها، وزنة العمود الذي ركب عليه أربعون ربعا من الحديد، وكان الذي صنعها ورفعها في أعلى المنار المعلم أبو الليث الصقلي، وموهت تلك التفافيح بمائة ألف دينار ذهبا. ا.ه.
ومن أجمل ما في كنيسة إشبيلية اليوم والجامع أمس ناووس من الصلب فيه بقايا خريستوف كولمبس الملاح الجنوبي الذي اكتشف أميركا يحمله من أربعة أطراف ملك قشتالة وملك أرغون وملك ليون وملك نافار، وهو من صنع ميليدا سنة 1892 كان في كنيسة هافان، ثم نقل إلى إشبيلية سنة 1898 بعد أن تحررت كوبا من إسبانيا.
تقرب إشبيلية من البحر، ولا ترتفع عن سطحه أكثر من ثمانية أمتار، وقد قال الفرنجة فيها: ليست الجيرالدا ولا سائر مصانع إشبيلية، ولا كنوز آثارها وجميل نقوشها على الحيطان هي التي اشتهرت بها إشبيلية البديعة، ورددت المثل الذي سار فيها : «من لم ير إشبيلية لم ير غريبة.» بل إن ما اشتهرت به في جميع إسبانيا مظاهر سرور الحياة فيها من مراقص وأفراح ومواسم وحركة البهجة الدائمة التي تنبعث من سكانها على الدوام.
جرت مناظرة بين يدي منصور بن عبد المؤمن بين العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر؛ فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه: ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية، وبهذا عرفت أن إشبيلية بلدة طرب وسرور في معظم أدوارها، ولطبيعة الإقليم دخل كبير في هذا الشأن.
في إشبيلية قصور كما في قرطبة مصايف زرتها وزرت حدائقها، وطوفت في أعطافها، وهي ملك لأناس من أغنياء البلاد تتناقل من سيد فيهم إلى سيد، ومنها ما جعل كما هو بيت بيلاتوس على الداخل إليه جعل يتقاضاه الحارس؛ ليصرف على الفقراء، كما جعلت الحكومة على كل داخل إلى معهد من معاهد العرب وغيرهم جعلا من النقود؛ لتصرف منه على الترميم، فليس في البلاد ما يعفي الناظر إليه والزائر له من دفع النقود من متاحف وآثار إلا إذا كان بعض المغاور والحصون والسدود الخربة التي قامت في كل ناحية من أنحاء البلاد التي ظل فيها حكم العرب نافذا دهرا طويلا.
كانت إشبيلية تعد من العواصم بكثرة سكانها، ولما سقطت في أيدي الأعداء هاجر من مسلميها فقط زهاء ثلاثمائة ألف مسلم إلى قرطبة وجيان وبلنسية وغرناطة؛ حيث كانت راية بني نصر تخفق، وناهيك ببلدة يهاجر من سكانها هذا العدد، وسكانها اليوم 148 ألفا، وتعد من المدن المتجددة، وليس لها مسحة من القديم إلا ما كان من بعد عهد العرب، وقد سقطت من بعد جلائهم عنها إلى الحضيض.
الفصل الخامس عشر
مدينة غرناطة
بلد تحف به الرياض كأنه
وجه جميل والرياض عذاره
وكأنما واديه معصم غادة
ومن الجسور المحكمات سواره
هذا ما قاله ابن الخطيب في هذه العاصمة آخر ما حكمته العرب من أرض الأندلس من عواصمها وحواضرها جمعت فيها بقاياهم وجالياتهم، فظلوا فيها نحو قرنين ونصف قرن، وعمروها فأدهشوا العالم بعمرانها. جاءها جميع المسلمين الذين لم يحبوا أن يبقوا في البلاد التي وقعت في قبضة العدو يحتمون بملوكها من بني نصر جاءها ألوفا ألوفا من قرطبة وإشبيلية وبلنسية يحملون إليها ما كان مبعثرا من الصنائع والثروة في تلك الأرجاء.
قالوا: إن غرناطة قاعدة بلاد الأندلس، وعروس مدنها، وخارجها لا نظير له في بلاد الدنيا، وهو مسيرة أربعين ميلا يخترقه نهر شنبل المشهور وسواه من الأنهر الكثيرة والبساتين والجنات والرياضات والقصور والكروم محدقة بها من كل جهة، وحكى ابن سعيد: أن غرناطة تسمى دمشق الأندلس؛ لسكنى أهل دمشق بها عند دخولهم الأندلس، وقد شبهوها بها لما رأوها كثيرة المياه والأشجار، وقد أطل عليها جبل الثلج
Sierra-Nevada
كما أطل جبل الثلج أو جبل الشيخ أو جبل حرمون على دمشق. وفي ذلك يقول ابن جبير:
يا دمشق الغرب
هاتيك لقد زدت عليها
تحتك الأنهار تجري
وهي تنصب إليها
قال ابن سعيد: أشار ابن جبير إلى أن غرناطة في مكان مشرف، وغوطتها تحتها تجري فيها الأنهار، ودمشق في وهدة تنصب إليها الأنهار، وقد قال الله تعالى في وصف الجنة:
تجري من تحتها الأنهار . أما غوطة غرناطة اليوم فليست كغوطة دمشق بأشجارها الملتفة، ولا كما كانت كذلك على عهد العرب، بل هي جرداء؛ ولذلك كان منظرها أشبه بمنظر سهل البقاع إذا أطلت عليه من سفوح لبنان الغربي.
وغرناطة في كورة ألبيرة من أشرف كور هذا الإقليم نزلها جند دمشق.
قال الرازي: وفحص ألبيرة، أي سوادها وريفها، لا يشبه بشيء من بقاع الأرض طيبا ولا شرفا إلا بالغوطة غوطة دمشق.
وقال ابن الخطيب: وفحصها، أي فحوص غرناطة، الأفيح المشبه بالغوطة الدمشقية حديث الركاب وسمر الليالي قد دحاه الله في بسط سهل تخترقه المذانب، وتخلله الأنهار والجداول، وتزاحم فيه الغرف والجنات في ذرع أربعين ميلا، ونحوها تنبو العين فيها عن وجهه، ولا تتخطى المحاسن منها مقدار رفعه الهضاب والجبال المتطامية منه بشكل ثلثي دائرة قد علت منه المدينة فيما يلي المركز من جهة القبلة مستندة إلى أطواد سامية، وهضاب عالية، ومناظر مشرقة؛ فهي قيد البصر، ومنتهى الحسن، ومعنى الكمال.
وينزل الثلج شتاء وصيفا على جبل غرناطة، وينبجس منه ستة وثلاثون نهرا، كما تنبجس من سفوحه العيون. قال أبو الحجاج بن حسان:
أحن إلى غرناطة كلما هفت
نسيم الصبا تهدي الصبا وتسوق
سقى الله من غرناطة كل منهل
بمنهل سحب ماؤهن هريق
يدور الحسن بين خيامها
وأرض بها قلب الشجي مشوق
أغرناطة العلياء بالله خبري:
أللهائم الباكي إليك طريق؟
وما شاقني إلا نضارة منظر
وبهجة دار للعيون تروق
تأمل إذا أملت حوز مؤمل
ومد من الحمرا عليك شقيق
وأعلام نجد والسكينة قد علت
وللشفق الأعلى تلوح بروق
وقد سل شنيل فرندا مهندا
نضى فوق در ذر فيه عقيق
إذا تم منه طيب نشر أراكه
أراك فتيت المسك وهو فتيق
ومهما بكى جفن الغمام تبسمت
ثغور أقاح في الرياض أنيق
ولما غدت غرناطة عاصمة ابن الأحمر من دولة بني نصر بالسيف تارة، وبحسن السياسة مع الأحزاب المعادية أو بمحالفة القشتاليين الإسبانيين وبني مرين المراكشيين تارة أخرى، جعلها العرب الذين طردوا من المدن المجاورة وطنا لهم، ونشط ملوكها الصنائع والتجارة، وعمروا الطرق والمجاري، وتسلسل ذلك فيها فأتم الثاني ما بدأ به الأول، وزينوا البلاد بأبنية بديعة؛ فأصبحت غرناطة أغنى مدينة في شبه جزيرة أيبيريا، وبحكمة أمرائها انبعثت منها شعلة المدنية المغربية في إسبانيا، وأنست عنايتهم بالزراعة والصناعة عهد قرطبة وما كان فيها من العلوم والصناعات وجمال البناء، وأصبحت قصورهم مثابة العلماء والأدباء والفلاسفة «فصارت المصر المقصود، والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود.»
ولما استولى عليها الإسبان سنة 1491م بعد أن حاصروها سبعة أشهر فنيت خلالها أزواد المحاصرين من العرب، وفنيت خيلهم كما فني كثير من نجدة الرجال بالقتل والجراحات، كان سكانها نصف مليون نسمة (نفوسه اليوم 76 ألفا) فانحطت على عهد الإسبان بعد حين، وأقفرت من السكان بما أصدره الملوك الكاثوليك من الأوامر الخرقاء، ولما اشتدت فيها وطأة ديوان التفتيش الديني ظل الحكام والرهبان يستأصلون شأفة العرب حتى لم يبقوا منهم باقية، وكان لها على عهد العرب 1030 برجا متزاحمة بالبيوت، وقال ابن الخطيب: إن الأبراج بلغت إلى ما يناهز أربعة عشر ألفا، وكان في جوارها ما ينيف على ثلاثمائة قرية عدا ما يجاور الحضرة من قرى الإقليم، أو ما استضيف إليها من حدود الحصون المجاورة «وكان أكثرها أمصارا فيها ما يناهز خمسين خطبة تنصب فيها لله المنابر، وترفع الأيدي، وتتوجه الوجوه، ويشتمل سورها وما وراءه من الأرحاء الطاحنة بالماء ما ينيف على مائة وثلاثين رحى.»
الفصل السادس عشر
قصر الحمراء
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم
ملك محاه حوادث الأزمان
إن البناء إذا تعاظم شأنه
أضحى يدل على عظيم الشان
الحمراء، ويقال لها القصبة الحمراء، ومعنى القصبة عندهم القلعة، وتسمى حمراء غرناطة، وهي مطلة على مدينة غرناطة أطلال الصالحية من سفح قاسيون على دمشق. سميت بالحمراء لاحمرار جدرانها، بل للون التربة التي قامت عليها في سفح جبل غرناطة، ومعظمها مبني بالخزف والكلس والحصباء، وفي قصبة الحمراء قصور العرب، وهي ثلاثة قصور منفصلة عن القلعة، وتدخل فيها المدينة الصغرى القائمة على تلك الأكمة، وقد بني كل قصر منها في زمن غير زمن القصر الآخر، وبقي من القصر الأول شيء قليل، وهي المقصورة والكنيسة، وكان جامعا بناه محمد الثالث من ملوك بني نثر، قال فيه ابن الخطيب: إن أعظم مناقبه المسجد الجامع بالحمراء على ما هو عليه من الظرف والتنجيد والترفيش وفخامة العمل وإحكام أنواع الفضة وإبداع أثرها، أنفق عليه من مال الجزية، فظهر بها منقبة له يتيمة فاق بها من تقدمه ومن تأخره من قومه.
والقصر الثاني: قصر الآس، وفيه الآس الكثير كان مقر السلطان، ومجلس الحكم، أو دار السلطنة، يقعد فيه للمظالم، ويستقبل السفراء، وكبار رجال المملكة.
والقصر الثالث: منعزل عن القصرين الآخرين قليلا، وكان فيه دائرة حرمه، ومساكنه الخاصة، وفي هذا القصر صحن الأسود، وهو في الجزء الأوسط منه.
فقاعة السفراء عبارة عن مربع مساحته 11مترا بعلو 18 كان الملك يستقبل بها وفيها عرشه إلى الشمال أمام المدخل، وهي تطل على ربض البيازين، ومدينة غرناطة، وقد ركبت في كل نافذة وسطى أعمدة صغيرة من العجمي أو الشمسية تدفع حرارة الشمس، ونقش هذه القاعة من أجمل ما حوت الحمراء، وكان فيها 152 صورة مختلفة طبعت بالجص الطري على الجدران في قوالب من حديد، وهي إلى الحمرة والزرقة المشبعة.
أما فناء الأسود فهو صحن واسع فيه اثنا عشر أسدا رابضا من الرخام، تحمل الإناء العظيم القائم وسط الدار، ويخرج الماء من أفواهها، وتسيل الفوارات من أعلى الصحن الذي جعل قطعة واحدة كبيرة كأنه حوض واسع من أحواض بيوت دمشق القديمة، وكأن ابن حمديس الصقلي وصف هذه الدار عندما وصف دار المنصور ببجاية فقال:
واعمر بقصر الملك ناديك الذي
أضحى بمجدك بيته معمورا
قصر لو انك قد كحلت بنوره
أعمى لعاد إلى المقام بصيرا
واشتق من معنى الحياة نسيمه
فيكاد يحدث للعظام نشورا
نسي الصبيح مع المليح بذكره
وسما ففاق خورنقا وسديرا
ولو ان بالإيوان قوبل حسنه
ما كان شيئا عنده مذكورا
أعيت مصانعه على الفرس الألي
رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا
ومضت على الروم الدهور وما بنوا
لملوكهم شبها له ونظيرا
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا
غرفا رفعت بناءها وقصورا
فالمحسنون تزيدوا أعمالهم
ورجوا بذلك جنة وحريرا
والمذنبون هدوا الصراط وكفرت
حسناتهم لذنوبهم تكفيرا
فلك من الأفلاك إلا أنه
حقر البدور فأطلع المنصورا
أبصرته فرأيت أبدع منظر
ثم انثنيت بناظري محسورا
وظننت أني حالم في جنة
لما رأيت الملك فيه كبيرا
وإذا الولائد فتحت أبوابه
جعلت ترحب بالعفاة صريرا
عضت على حلقاتهن ضراغم
فغرت بها أفواهها تكبيرا
فكأنها لبدت لتهصر عندها
من لم يكن بدخوله مأمورا
تجري الخواطر مطلقات أعنة
فيه فتكبو عن مداه قصورا
بمرخم الساحات تحسب أنه
فرش المها وتوشح الكافورا
ومحصب بالدر تحسب تربه
مسكا تضوع نشره وعبيرا
يستخلف الأصباح منه إذا انقضى
صبحا على غسق الظلام منيرا
وضراغم سكنت عرين رئاسة
تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها
وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك
في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما
أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها
نارا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول
ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه
درعا فقدر سردها تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها
عيناي بحر عجائب مسجورا
شجرية ذهبية نزعت إلى
سحر يؤثر في النهى تأثيرا
قد صولجت أغصانها فكأنما
قنصت لهن من الفضاء طيورا
وكأنما تأبى لواقع طيرها
أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل واقعة ترى منقارها
ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت
جعلت تغرد بالمياه صقيرا
وكأنما في كل غصن فضة
لانت فأرسل خيطها مجرورا
وتريك في الصهريج موضع قطرها
فوق الزبرجد لؤلؤا منثورا
ضحكت محاسنه إليك كأنما
جعلت لها زهر النجوم ثغورا
ومصفح الأبواب تبرا نظروا
بالنقش بين شكوله تنظيرا
تبدو مسامير النضار كما علت
فلك النهود من الحسان صدورا
خلعت عليه غلائلا ورسية
شمس ترد الطرف عنه حسيرا
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه
أبصرت روضا في السماء نضيرا
وعجبت من خطاف عسجده التي
حامت لتبني في ذراه وكورا
وضعت به صناعة أقلامها
فأرتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقة
مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأن ماء اللازورد مخرم
بالخط في ورق السماء سطورا
وكأنما وشوا عليه ملاءة
تركوا مكان وشاحها مقصورا
يا مالك الأرض الذي أضحى له
ملك السماء على العداة نصيرا
كم من قصور للملوك تقدمت
واستوجبت لقصورك التأخيرا
فغمرتها وملكت كل رياسة
منها ودمرت العدا تدميرا
وهناك قاعة الحكم وقاعة بني سراج والمقصورة. تخرج من واحدة فتدخل في أخرى، فتخالك في جنة عالية، قطوفها دانية، لا تستطيع وصفها لبدائعها الكثيرة، وهناك قاعة اسمها قاعة الأختين كانت على ما يظهر لجلوس نساء الملك في الشتاء، ونقشها من أقصى ما بلغه النقش العربي من الإتقان، وأهم ما فيها المقرنص الذي حوى نحو خمسة آلاف شكل مختلف بعضها عن بعض، تألف منها مجموع يصعب لجماله وقبتها أعجوبة البناء، ومثال الصبر والعمل، وكأنها كانت في يد صانعها كالعجين يعمل فيها ما شاء من الصور، أو كأنها خلقت خلقة ولم تمسها يد بشر.
وبالقرب من قصور الحمراء جنة العريف، وهي حديثة كبرى، فيها جميع أشجار القطر وأزهاره قاست هندستها في منحدراتها وأكماتها وبسائطها على أسلوب يأخذ بمجامع القلوب، وفيها سطوح ومغاور ومخابئ وفوارات وسياج تشبه المصايف الإيطالية في عهد النهضة، وفيها كثير من شجر السرو، ومن جملتها سروة يدعونها سروة السلطان عمرها نحو ستمائة سنة، وتحتها فيما يقال تواعدت امرأة أبي عبد الله مع ابن سراج.
ولقد كان للسلطان أوائل المائة الثامنة في غرناطة ما يناهز مائة جنة مثل جنة العريف على ما روى صاحب الإحاطة بمدينة فيها مثل هذا العدد الدثر من الجنان، وذلك في الحقيقة من أمارات المدنية والرفاهية.
ورد ذكر الحمراء لأول مرة في واقعة حدثت سنة 277ه فاعتصم بها القيسيون من العرب، وقد أسرتهم عصابة من الإسبانيين فنجا الأمير الأموي بحيلة غريبة، وخرج مخرجا مدهشا مع رجاله، ولما استولى الموحدون على غرناطة التجأ المرابطون إلى هذا القصر، واشتهرت الحمراء على عهد دولة بني نصر أو بني الأحمر الذين استقلوه بإمارة غرناطة بعد سقوط قرطبة وإشبيلية، وجعلوها عاصمتهم، فأنشأ محمد بن الأحمر قصره الملكي بالقرب من السور والقلعة، وفي عهد الإمبراطور شارلكان جعل جامع الحمراء كنيسة، فأبدلت صورة القصر الملكي القديم، وأنشئ باب المدخل الذي يجتاز منه السور الذي طوله 3500 متر، وفيه عدة أبراج.
وقالوا: إن فرديناند وإيزابيلا الكاثوليكية عنيا كل العناية بالحمراء لما اغتنما فرصة اختلاف العرب وأمرائهم، وعزما على إخراج جميع العرب من إسبانيا، وقد أمرا بترميم نقوشها الداخلية، ورمما جدرانها، وكان شارلكان على شدة حرصه على آثار الحمراء والإبقاء عليها عمر مباني؛ ليخلد اسمه، ولكنها لم تتم، وأوردوا في معرض البرهان على ولوعه بالآثار العربية ما نسب إليه من القول عندما وقع بصره على آثار الحمراء: بالشقاء من أضاع كل هذا.
جاء في دائرة المعارف الإسلامية: وإذا ما وقع التنظير بين قصر الحمراء والقصور والجوامع التي بنيت على ذاك العهد في القاهرة مثلا كجامع السلطان حسن الذي بني سنة 1356م تبين الفرق العظيم بين البنائين؛ فإنك ترى لهندسة جامع القاهرة أمثالا كثيرة، في حين بني قصر الحمراء على غير محتذى، ولا يوجد في مملكة من الممالك قصر إسلامي مثل الحمراء، وبقدمه لم يبن له شبيه مع أنه شيد بمواد سريعة الانحلال اللهم إلا أبنية العصر الأموي التي عثر عليها الباحثون في بادية الشام شرقي بلاد موآب، وبعض الخرائب من العصر العباسي في سامراء والرقة.
وقصارى القول: إن الحمراء مصيف تحف به حدائق واسعة ومتنزهات، وفيه المياه الجارية والنبات والحيوان الكثير، ونقوشه تبهر الأبصار، وفي مسالك الأبصار: إن الحمراء كثيرة المباني الضخمة والقصور ظريفة جدا يجري الماء تحت بلاط كما يجري في المدينة فلا يخلو منه مسجد ولا بيت، وبأعلى برج منها عين ماء، وجامعها من أبدع الجوامع حسنا، وأحسنها بناء، وبه الثريات الفضية معلقة، وبحائط محرابه أحجار ياقوت مرصعة في جملة ما نمق به من الذهب والفضة، ومنبره من العاج والأبنوس.
ولما استولى ملوك قشتالة على الحمراء سلموها إلى مهندسين من العرب بلغ من حذقهم أنك لا تعرف ما أدخلوه فيها من الإصلاح، ولا تميزه عن الأصل الذي كانت عليه من قبل، ودام هذا الترميم في الحمراء إلى ثورة العرب سنة 1569، وفي سنة 1522 أصيب بهزة أرضية، وفي سنة 1590 بحريق في مطحنة بارود سببت خراب أقسام منها، ثم تركت وشأنها في القرن السابع عشر والثامن عشر، وقد نسف جنود نابليون سنة 1812 قسما منها بالمواد الملتهبة معتبرين الحمراء حصنا، وذلك عند جلائهم عن إسبانيا، ثم أخذت همة حكومة إسبانيا تتجدد لإعادة الحمراء إلى حالتها الأولى.
ويقول جوسيه: إن ملوك إسبانيا لما دخلوا الحمراء لم يعاملوا آثار خصومهم معاملة أعداء؛ بل معاملة أصحاب، وبعد أن ذكر كيف كانوا يتعهدونها، وكيف عهدوا إلى مهندسين من العرب استخدموهم لترميمها ، قال: وأهملت الحمراء من بدء القرن السابع عشر إلى أواسط القرن الثامن عشر، فأخذ يسكنها جنود بياطرة، وأرباب حرف وحاكة وفاخرانيون وأسرات فقيرة، فكانت الأوساخ فيها وفي جدرانها، والناس يعبثون بما فيها، وربما أصابها شيء من البارود والقذائف فتبدلت محاسنها، وبليت بعض حيطانها ونقوشها ورسومها ومعالمها، ثم صحت نية حكومة إسبانيا على تعهد تلك القصور وإرجاعها إلى حالها، وكانت الهمة في هذا الشأن تفتر ثم تتجدد بحسب سلطان ملوك إسبانيا، ودرجتهم من العقل والفهم.
وفي هذا القصر أو المدينة البديعة ما عدا الآثار العربية قصر شارلكان أراد أن يوسع به دائرته سنة 1526 بناه من الجزية التي كان يتقاضاها من العرب؛ للسماح لهم بإجراء بعض شعائرهم. من أعمال شارلكان أبنية لم تتم؛ لقلة المال فيما يظهر، والغالب أنه حاول بما أنشأه من الأبنية أن يطمس آثار العرب؛ ليجعل لبنائه الرجحان، فلم يتم له ما أراد، وبقيت الحمراء أجمل مثال في القصور على مر العصور والدهور.
وليس في الحمراء من الفرش والأواني الباقية من عهد العرب سوى جرة طولها أكثر من متر، صنعت من تراب بالميناء، ولها لمعان لازوردي وذهبي، رسم عليها حيوانات ونقوش عربية، وهي من صنع معامل غرناطة في القديم.
هذه صورة مصغرة من وصف هذا القصر، وما طرأ عليه إلى يومنا هذا، وهو مقصد السائحين من أهل الأرض، وكأن ابن حمديس وصفه إذ قال:
قصر يقصر وهو غير مقصر
عن وصفه في الحين والإحسان
وكأنه من درة شفافة
تعشي العيون بشدة اللمعان
لا يرتقي الراقي إلى شرفاته
إلا بمعراج من اللحظان
عرج بأرض الناصرية كي ترى
شرف المكان وقدرة الإمكان
في جنة غناء فردوسية
محفوفة بالروح والريحان
وتوقدت بالجمر من تاريخها
فكأنما خلقت من النيران
وكأنهن كرات تبر أحمر
جعلت صوالجها من القضبان
إن فاخر الأترج قال له ازدجر
حتى تجوز طبائع الأيمان
لي نفحة المحبوب حين يشمني
طيبا ولوم الصب حين تراني
مني المصبغ حين يبسط كفه
فبنان كل خريدة كبناني
والماء منه سبائك فضية
ذابت على درجات شاذوران
وكأنما سيف هناك مشطب
ألقته يوم الحرب كف جبان
كم شاخص فيه يطيل تعجبا
من دوحة نبتت من العقيان
عجبا لها تسقي الرياض ينابعا
نبعت من الثمرات والأغصان
خصت بطائرة على فنن لها
حسنت فأفرد حسنها من ثان
قس الطيور الخاشعات بلاغة
وفصاحة من منطق وبيان
فإذا أتيح لها الكلام تكلمت
بخرير ماء دائم الهملان
وكأن صانعها استبد بصنعة
فخر الجماد بها على الحيوان
أوفت على حوض لها فكأنها
منها إلى العجب العجاب رواني
فكأنها ظنت حلاوة مائها
شهدا فذاقته بكل لسان
وزرافة في الجوف من أنبوبها
ماء يريك الجري في الطيران
مركوزة في الرمح حيث ترى له
من طعنة الحلق انعطاف سنان
وكأنها ترمي السماء ببندق
مستنبط من لؤلؤ وجمال
لو عاد ذاك الماء نفطا أحرقت
في الجو منه قميص كل عنان
في بركة قامت على حافاتها
أسد تذل لعزة السلطان
نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها
فلذلك انتزعت من الأبدان
وكأن برد الماء منها مطفئ
نارا مضرمة من العدوان
وكأنما الحيات من أفواهها
يطرحن أنفسهن في الغدران
وكأنما الحيتان إذ لم تخشها
أخذت من المنصور عقد أمان
كم مجلس يجري السرور مسابقا
منه خيول اللهو في ميدان
يجلو دماه على الخدود ملاحة
فكأنه المحراب من غمدان
فسماؤه في سمكها علوية
وقبابه فلكية البنيان
الفصل السابع عشر
كتابات الحمراء
تقرأ في قصر الحمراء كثيرا من الآيات والمواعظ والأشعار زبرت على الحجر أو بالجص بالخط الأندلسي المشبك، وهو أقرب إلى النسخ المتعارف في هذه البلاد الشرقية منه بالخط المغربي، ومما تقرؤه على أحد الأبواب: «أمر ببناء هذا الباب المسمى بباب الشريعة أسعد الله به شريعة الإسلام كما جعله فخرا باقيا على الأيام مولانا أمير المسلمين السلطان المجاهد العادل أبو الحجاج يوسف ابن مولانا السلطان المجاهد المقدس أبي الوليد ابن نصر كافي الله في الإسلام صنائعه الزاكية، وتقبل أعماله الجهادية، فشيد ذلك في شهر المولد المعظم من عام تسعة وأربعين وسبعمائة، جعله الله عزة واقية، وكتبه في الأعمال الصالحة الباقية.»
ومنها : «الملك الدائم والعز القائم» ومنها: «الحمد لله على نعمة الإسلام» ومنها: «عز لمولانا، أي عبد الله» ومنها: «ولا غالب إلا الله » ومنها:
وما بكم من نعمة فمن الله
ومنها: «النصر والتمكين والفتح المبين لمولانا أبي عبد الله أمير المسلمين» ومنها:
وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم
ومنها:
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .
ومن الأبيات التي رسمت على إحدى القباب في مدح أبي الحجاج يوسف الأول:
تبارك من ولاك أمر عباده
فأولى بك الإسلام فضلا وأنعما
فكم بلدة بالكفر صبحت أهلها
وأمسيت في أعمارهم متحكما
وطوقتهم طوق الإسار فأصبحوا
ببابك يبنون القصور تخدما
وفتحت بالسيف الجزيرة عنوة
ففتحت بابا كان للنصر مبهما •••
ولو خير الإسلام فيما يريده
لما اختار إلا أن تعيش وتسلما
إلى أن قال:
فأمنت حتى من نفحة الصبا
وأرهبت حتى النجم في كبد السما
فإن رعشت زهر النجوم فخيفة
وإن مال غصن البان شكرك يمما
ومنها:
ومن قبلها استفتحت عشرين معقلا
وصيرت ما فيها لجيشك مغنما
وكتب في قاعة السفراء:
أنا محلاة عروس
ذات حسن وكمال
فانظر الإبريق تعرف
فضل صدقي في مقالي
واعتبر تاجي تجده
مشبها تاج الهلال
وابن نصر شمس فلك
في ضياء وجمال
دام في رفعة شأن
آمنا وقت الزوال
وكتب أيضا:
وحكيت كرسي العروس وزدته
إني ضمنت سعادة الأزواج
من جاء يشكو الظماء فموردي
صرف الزلال العذب دون مزاج
فكأنني قوس الغمام إذا بدا
والشمس مولانا أبو الحجاج
لا زال محروس المثابة ما غدا
بيت الإله مثابة الحجاج
وكتب على القبة:
تحييك مني حين تصبح أو تمسي
ثغور المنى واليمن والسعد والأنس
هي القبة العليا ونحن بناتها
ولكن لي التفضيل والعز في جنسي
جوارح كنت القلب لا شك بينها
وفي القلب تبدو قوة الروح والنفس
وإن كان أشكالي بروج سمائها
ففي عدا ما بينها شرف الشمس
ومما كتب أيضا على بركة صحن الأسود، وهو من نظم الوزير أبي عبد الله محمد بن يوسف بن زمرك تلميذ لسان الدين بن الخطيب:
تبارك من أعطى الإمام محمدا
مغاني زانت بالجمال المغانيا
وإلا فهذا الروض فيه بدائع
أبى الله أن يلفى لها الحسن ثانيا
ومنحوتة من لؤلؤ شف نورها
تحلى بمرفض الجمان النواحيا
يذوب لحين سال بين جواهر
غدا مثلها في الحسن أبيض صافيا
تشابه جار للعيون بجامد
فلم ندر أيا منهما كان جاريا
ألم تر أن الماء تجري بصفحها
ولكنها مدت عليه المجاريا
كمثل محب فاض بالدمع جفنه
وغيض ذاك الدمع إذ خاف واشيا
وهل هي في التحقيق غير غمامة
تفيض إلى الآساد منها السواقيا
وقد أشبهت كف الخليفة إذ غدت
تفيض إلى أسد الجهاد الأياديا
فيا من رأى الآساد وهي روابض
عداها الحيا عن أن تكون عواديا
ويا وارث الأنصار لا عن كلالة
تراث جلال تستخف الرواسيا
عليك سلام الله فاسلم مخلدا
تجدد أعيادا وتبلي أعاديا
ومما كتب في إحدى القاعات أيضا من نظم الوزير ابن زمرك:
أنا الروض قد أصبحت بالحسن حاليا
تأمل جمالي تستفد شرح حاليا
أباهي من المولى الإمام محمد
بأكرم من يأتي ومن كان ماضيا
ولله مبناه الجميل فإنه
يفوق على حكم السعود المبانيا
فكم فيه للإبصار من متنزه
تجد به (؟) نفس الحليم الأمانيا
تبيت له خمس الثريا معيذة
ويصبح معتل النواسم راقيا
به القبة الغراء قل نظيرها
ترى الحسن فيها مستكنا وباديا
تمد لها الجوزاء كف مصافح
ويدنو لها بدر السماء مناجيا
تهوي النجوم الزهر لو ثبتت بها
ولم تك في أفق السماء جواريا
ولو مثلت في ساحتيها وسابقت
إلى خدمة ترضيه منها الجواريا
ولا عجب إن فاقت الشهب في العلى
وإن جاوزت فيها المدى المتناهيا
فبين يدي مولاي قامت لخدمة
ومن خدم الأعلى استفاد المعاليا
بها البهو قد حاز البهاء وقد غدا
به القصر آفاق السماء مباهيا
وكم حلة قد جللته بحليها
من الوشي تنسي السابري اليمانيا
وكم من قسي في ذراه ترفعت
على عمد بالنور بانت حواليا
فتحسبها الأفلاك دارت قسيها
تظل عمود الصفح إذ لاح باديا
سواري قد جاءت بكل غريبة
فطارت بها الأمثال تجري سواريا
به المرمر المجلو قد شفت نوره
فيجلو من الظلماء ما كان داجيا
إذا ما أضاءت بالشعاع تخالها
على عظم الأجرام منها لآليا
فلم نر قصرا منه أنعم نضرة
وأعطر أرجاء وأحلى مجانيا
مصارفه النقدين منه بمثلها
أجاز بها قاضي الجمال التقاضيا
فإن ملأت كف النسيم مع الضحى
دراهم نور ظل عنها مكافيا
فيملأ حجر الروض حول غصونها
دنانير شمس تترك الروض حاليا
ومن الأبيات اللطيفة:
وجاد بها برد الهواء نسيمها
فصحت هواء والنسيم قد اعتلا
وقد حزت من كل المحاسن غاية
تقبس عنها الشهب في الأفق الأعلا
وإني بهذا الروض عين قريرة
وإنسان تلك العين حقا هو المولى
وفي الأندلس إلى اليوم على كثرة ما انتاب مصانعها وقلاعها ومدارسها وتربها وجسورها وسدودها من التخريب لا تزال ترى بعض كتابات من النظم والنثر، وبعضها مثال البلاغة والفصاحة؛ لأن الأندلسيين عاشوا وتنعموا في أرض معتدلة الهواء جميلة الطبيعة فلا بدع أن جادت القرائح على تلك النسبة، وظهرت في كتابهم وشعرائهم آثار الإبداع والإعجاب.
الفصل الثامن عشر
ذكرى مؤلمة
مضت أعوام تلتها أعوام، والنفس تتحدث بالارتحال إلى الأندلس المحبوبة، تستنفض معالمها، وتستبطن معاهدها ومصانعها، فتتدبر، وتدكر، وتستفيد، وتفيد، ولما أتاحت لها الأقدار، بلوغ تلك الأمصار، عرض لها ما كدر صفو تلك الذكرى، ذكرى التطواف في الأندلس بعد عزها للاعتبار، بالدمى والأحجار، واستنطاق الآثار، واستقراء الأخبار؛ لمعرفة عمل العرب في تلك الديار.
اتفق نزولي غرناطة في اليوم الثاني من كانون الثاني، اليوم الذي خرج فيه أبو عبد الله آخر ملوك بني الأحمر من عاصمة الأندلس، وانتقلت أحكامها إلى أيدي الغالبين من الإسبانيين، والجرس يدوي في كنيسة الحمراء دويا متواصلا لا متساوفا مدة أربع وعشرين ساعة، احتفالا بهذا اليوم الذي يعده أهل إسبانيا عامة وسكان غرناطة من بينهم خاصة من أسعد أيامهم الغر. احتفلوا به ضروب الاحتفال، ومن جملة مظاهر سرورهم: مأدبة أدبها يومئذ شيخ مدينة غرناطة في النزل الذي حللته في جوار الحمراء، واسمه نزل «واشنطون» على اسم واشنطون محرر أميركا الشمالية ، وقد حضر المأدبة عظماء المدينة، وشربوا وطربوا على ذكر استيلاء أجدادهم على آخر أرض احتلتها العرب من شبه جزيرتهم.
تذكرت ذاك اليوم المشئوم، وقد رفع الصليب الفضي على أعلى برج في الحمراء إشارة إلى ظفر الإسبان الأخير، وخروج العرب من هذه الديار، وقد أخذ أبو عبد الله بن الأحمر يتحفز في حاشيته؛ ليخرج من الحمراء قبل أن يبغته العدو فيها، ويتلفت وهو يجتاز جبل الثلج إلى غرناطة البديعة فيتنهد ويبكي، وأمه ترافقه وتقول له: لا تبك كالنساء ملكا لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال.
كل سنة يبالغ القوم بعيد غرناطة السنوي، وقد احتفلوا به حتى اليوم أربعمائة وثلاثين سنة يتذكرون كل مرة نصرتهم على أعدائهم ويوما تمت لهم فيه وحدتهم القومية والدينية، وقد مثلوا أفظع مأساة ارتكبتها أنفس متعصبة جاهلة، وسلكوا للخلاص من مخالفيهم طرقا بشعة، لم يسلكها هؤلاء معهم يوم استصفوا أرضهم وحلوا دياراتهم، وهم في رفعة ومنعة، وغبطة وسعة. يحشدون يوم الحفل رجالهم ونساءهم وذراريهم يحفزون أرواحهم ليوقظوها، ويهيجون كوامن الصدور؛ ليعتبروا بما وقع لهم في سالف العصور، وليعلموهم أن غلبة سنة 1492 وإن كانت من باب تسلط الجهل على العلم إلا أنها دلت على أن الثأر لا ينسى ولو بعد ثمانية قرون.
وما كان أجدر بالعرب أن يعدوا آخر يوم خرجوا فيه من الأندلس من أيام البؤس، المشتملة بالحزن، المملوءة بالاستعبار، يتناشدون فيه التعازي والمراثي، ويتطارحون حديث محنة مضت، وتذكارها المؤلم لم يبرح يتجدد، وشرر شرها لم يزل يتولد ويتوالد.
قيل: إن أناسا من جالية الأندلس في بر العدوة ما برحوا إلى اليوم وقد انقضت أربعة قرون على مغادرتهم بلدا نبت لهم فيه العز، وأثمر المجد والسعد، ويخلف الوالد منهم لبنيه في جملة مخلفاته، مفاتيح داره في الأندلس على أمل أن يعود أولاده إليها ذات يوم ويفتحوها وينزلوها. تذكار أن عدة بعضهم في باب الهزل، في سجل المستحيلات يحوي ولا جرم في مطاويه أجمل العظات، وأعظم التذكارات.
وحقيق بكل بلد للعرب فقد استقلاله أن يقيم كل سنة المآتم على ما حل به خصوصا في البلاد التي يعبث فيها المتغلبون بمشخصات المغلوبين، فإن بعض العناصر الأوروبية كالإسبان لم يكتفوا بطرد العرب من بلادهم؛ بل يحاولون اليوم في الريف من بلاد مراكش أن يجلوهم عنها بعد أن تأصلت كلمتهم فيها منذ ثلاثة عشر قرنا أقاموا خلالها مدنيات، وأنشئوا أمجادا لهم ودولات.
إن العرب الذين أنشئوا من العدم مدينة الأندلس، وقاموا في عصور الظلمات بأعمال لا يكاد يصدق الناظر إليها أنها بنت قرائحهم، وثمرة عقولهم، لو لم تتناصر على ذلك أصدق الروايات، لا يعجزهم اليوم، والعصر عصر النور، إن يقوموا بمثل ما عمله أجدادهم، لو نفس خناقهم، وملكوا زمنا قياد أنفسهم. بعض أهل الغرب اليوم حرب على الشرق، وسوف تكون لهذا الغلبة للاحتفاظ بدياره وآثاره، وأمامه إسبانيا والبرتغال اللتان ثأرتا لنفسهما من مستعبديهما بعد قرون، ولم تكونا في رقي العرب اليوم عددا وعددا، ومضاء وغناء.
أضعف أمة في الغرب لا يبلغ عدد أهلها عدد أهل إقليم واحد من أقاليم العرب أو قطر من أقطارهم تتناغى الليل والنهار بآثارها، وتتحدث بمفاخر أجدادها، وتقدس أعمال نوابغها ورجالها، ولا تنسى يدا للمحسن إليها، ولا إساءة مجرم جان عليها، العرب توغلوا يوم اشتد سلطانهم في جنوبي أوروبا، ونشأت لهم حكومات في شبه جزيرة أيبيريا وجزيرة صقلية وسردانية، فارتكبوا بذلك جناية في عرف أهل تلك الديار، أفليس من العدل أن تغتفر لهم هذه الهفوة أو الغزوة، في جانب ما حملوه إلى من غلبوهم من ضروب المعارف والصناعات، ومستحسن الآداب والأخلاق. العرب حملوا إلى الأندلس حضارة رائقة، ونظاما محكما، أحلوها محل الفوضى والتوحش، والسخافات والخرافات.
تود كل أمة اليوم مهما بلغ من تراجع الحضارة بينها أن تحكم نفسها بنفسها، وتمثل مشخصاتها ومقدساتها، فهل ينال العرب هذه الأمنية، وهم ليسوا دون بعض الأمم الأوروبية التي أخذت تتمتع الواحدة تلو الأخرى باستقلالها منذ قرن من الزمن، فليس كل أمم أوروبا بحضارتهم الإنكليز والألمان والفرنسيين، ولا كل الشعوب العربية على مستوى واحد في الحضارة والنور.
الفصل التاسع عشر
جلاء المسلمين وتنصيرهم
لما استولى العرب المسلمون على الأندلس لم يكرهوا أحدا من سكان البلاد الأصليين على الدخول في دينهم؛ بل أظهروا التسامح المقبول الذي يأمرهم به الدين الحنيف، وأطلقوا للناس حريتهم في ذلك، فكان الإسبانيون يدينون بالإسلام برضاهم.
فعهد العرب إذا في الأندلس كان عهد تسامح وحرية، لم تعهده من قبل ولا من بعد، ولم يمنع عن بث الدين المسيحي إلا دعاته المفرطون، ممن كانوا يقفون على أبواب المساجد والجوامع، ويدعون المسلمين إلى دينهم، ولا جوزوا أخذ مال أحد من أهل ذمتهم؛ بل اكتفوا بجزية بسيطة، وساووهم في جميع الأمور بأنفسهم.
مثال من لطف الحكم تعلمه الفاتحون من كتابهم فلم يحيدوا عنه قيد غلوة، وهم في عز سلطانهم، والقول الفصل في الأرض كلها لهم ولقومهم مدة قرون طويلة.
هكذا فعل العرب في إبان قوتهم، فانظر ماذا صنع الإسبان يوم قوي سلطانهم، وكيف عاملوا العرب نقلا عن شاهد العيان قال: لما استولى صاحب قشتالة على مدينة بلش عام اثنين وتسعين وثمانمائة، ودخلت في ذمته جميع القرى التي تلي بلش وقرى جبل منتميس وحصن قمارش خرج أهل بلش من بلدهم مؤمنين، وحملوا ما قدروا على حمله من أموالهم؛ فمنهم من جوزه العدو إلى أرض العدوة، ومنهم من أقام في بعض تلك القرى، ومنهم من صار إلى أرض المسلمين التي بقيت بالأندلس.
ولما استولى الغالبون على مدينة مالقة وبلش وجميع الجهات لم يبق للمسلمين في تلك الناحية ملجأ، وفي عام ثلاثة وتسعين وثمانمائة خرج العدو نحو حصون الشرقية، وكانت في صلحه فاستولى على تلك الحصون كلها، وفي سنة 894 خرج نحو حصن موجر فاستولى عليه وعلى الحصون القريبة منه ومن مدينة بسطة.
وكان صاحب قشتالة كثيرا ما يستعين بالمرتدين والمدجنين على قتال المسلمين يدلونه على عوراتهم، ولطالما أمر بهدم المدن والقرى التي يستولي عليها يبني بأنقاضها مسورات في بضعة أيام كما فعل في غرناطة، ومن جملة الشروط التي شرط أهل غرناطة على ملك قشتالة: أن يؤمنهم في أنفسهم ونسائهم وصبيانهم ومواشيهم ورباعهم وجناتهم ومحارثهم وجميع ما بأيديهم، ولا يغرمون إلا الزكاة والعشر لمن أراد الإقامة ببلدة غرناطة، ومن أراد الخروج منها يبيع أصله بما يرضاه من الثمن لمن يريده من النصارى والمسلمين من غير غبن، ومن أراد الجواز لبلاد العدوة بالغرب يبيع أصله، ويحمل أمتعته، ويحمله في مراكبه إلى أي أرض أراد من بلاد المسلمين من غير كراء ولا شيء يلزمه لمدة ثلاث سنين، ومن أراد الإقامة من المسلمين بغرناطة فله الأمان على نحو ما ذكر، وكتب لهم بذلك كتابا، وأخذ عليه عهودا ومواثيق في دينه مغلظة، وبعد ذلك أخلى المسلمون مدينة الحمراء كما أخلوا غرناطة، ودخلها الإسبانيون، ولما سمع أهل البشرة أن أهل غرناطة دخلت تحت ذمة النصارى أرسلوا بيعتهم إلى ملك الروم، ودخلوا في بيعته، فلم يبق للمسلمين موضع بالأندلس.
ولقد صرح صاحب قشتالة للمسلمين بالجواز إلى الساحل، فصار كل من أراد الجواز يبيع ماله ورباعه ودوره، فكان الواحد يبيع الدار الكبيرة الواسعة المعتبرة بالثمن القليل، وكذلك يبيع جنانه وأرض حرثه وكرمه وفدانه بأقل من ثمن الغلة التي كانت فيه، فمنهم من اشتراه منه المسلمون الذين عزموا على الدجن، ومنهم من اشتراه منه النصارى، وكذلك جميع الحوائج والأمتعة، ومن المسلمين من ظلموا في عناية ملك النصارى بهم فاشتروا أموالا رخيصة وأمتعة، وعزموا على المقام في الأندلس.
ثم إن الملك أمر الأمير محمد بن علي بالانصراف من غرناطة إلى قرية أندرش من قرى البشرة، فارتحل بعياله وحشمه وأمواله وأتباعه، ثم ظهر له أن يصرفه فبعث للمراكب تأتي لمرسى عذرة، واجتمع معه خلق كثير ممن أراد الجواز، فركب الأمير محمد ومن معه في تلك المراكب حتى نزلوا مدينة مليلة ففاس من عدوة المغرب.
وأخذ ملك الإسبان بعد حين ينقض الشروط التي اشترطها عليه المسلمون، وشرع يفرض عليهم الفروض، وثقلت عليهم المغارم، وقطع لهم الأذان، وأمرهم بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى، وبعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليه، وذلك سنة أربع وتسعمائة فدخلوا في دينه كرها، وصارت الأندلس كلها نصرانية، وامتنع بعض أهل الأندلس من التنصر كأهل قرية ونجر والبشرة وأندرش وبلفيق فأحاط بهم ملك قشتالة وقتل رجالهم وسبى نساءهم وأخذ صبيانهم وسلب أموالهم ونصرهم واستعبدهم، وامتنع أناس في غربي الأندلس من التنصر، وانحازوا إلى جبل وعر منيع، فلما امتنعوا عليه وقاتلهم فلم ينل منهم منالا أعطاهم الأمان على أن يجوزهم لعدوة المغرب مؤمنين على أن لا يسرح لهم شيئا من أموالهم غير الثياب التي كانت عليهم، وجوزهم لعدوة المغرب كما شرطوا، ولم تقم للإسلام والمسلمين بعد ذلك قائمة.
قال السلاوي: التزم أهل غرناطة طاعة صاحب قشتالة لما استولى عليها سنة سبع وتسعين وثمانمائة، والبقاء تحت حكمه، ولما نقض الشروط وهي سبعة وستون شرطا عروة عروة ومنها شريعة المسلمين على ما كانت، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، إلى أن آل الحال لحملهم على التنصر فتنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وكان أهل الأندلس كثيرا ما يهاجرون إلى بلاد الإسلام غير أن عامتهم كانوا قد تخلقوا بأخلاق العجم (غير العرب من الإسبان) وأثر فيهم ذلك أثرا ظاهرا؛ لطول صحبتهم لهم، ونشأة أعقابهم بين أظهرهم إلى أن كانت سنة ست عشرة وألف فهاجر جميع من لم يتنصر منهم إلى بلاد المغرب وغيرها، وفي خلال ذلك منع العرب من التكلم بالعربية.
1
قال المقري: كان النصارى بالأندلس قد شددوا على المسلمين بها في التنصر حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرا بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغير فضلا عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا، ولم يقيض الله لهم ناصرا إلى أن كان إخراج النصارى إياهم أعوام سبعة عشر وألف؛ فخرجت ألوف بفاس، وألوف أخر بتلمسان ووهران، وخرج جمهورهم بتونس، وخرج طوائف بتطاوين وسلا والجزائر، وعمروا القرى، واغتبط بهم الناس، وتعلموا حرفهم، وقلدوا ترفهم
2
ووصل جماعة منهم إلى القسطنطينية وإلى مصر والشام، وغيرها من بلاد الإسلام.
هذا ما رواه مؤرخو العرب، وإليك ما قاله مؤرخو الإفرنج في هذه الكارثة: جاء في التاريخ العام للأفيس ورامبو: صحت النية سنة 1609 على نفي العرب
Les morisques
وكانوا يؤلفون عنصرا خاصا عصي على التمثل، ولم ينزل عن مشخصاته ومميزاته على كثرة ما بذل فيليب الثاني من الجهد فوقع الاتفاق على التذرع بكل ما يمكن لإهلاكهم، فعمدت الحكومة إلى الخروج عن القانون بدعوى قيامها بما فيه سلامتها، ولإنجاز وحدة إسبانيا، وإنقاذ البلاد من أولئك المخالفين سرا للأتراك والإنجليز والفرنسيين، على حين اشتدت شوكة قرصان البحر من البربر، وهنري الرابع يضع خططه السرية؛ فحاذت إسبانيا العواقب، وقام رئيس أساقفة بلنسية يدعو إلى طرد العرب مدعيا أن منهم تسعين ألفا يستطيعون حمل السلاح، وإذا غار على إسبانيا عدوها تسوء حالها، ويحرج موقعها، وإذ كان القشتالي كسلانا فقيرا كان يكره من العرب منافستهم الشديدة له التي أكسبتهم غنى بفضل اقتصادهم، نادى رئيس الأساقفة أن مما يخشى منه أن يحتكر هؤلاء العرب جميع ثروتنا، ويؤدوا بالمسيحيين إلى العدم والشقاء، وقال غيره: إنهم يدخرون على الدوام، وعملهم عبارة عن سرقتنا، فهم الدودة التي تقرض إسبانيا.
وعلى هذا كان من التعصب الديني أن قضي على العرب، ولما تعذر تنصيرهم رأوا أن الطريق الوحيد إلى الخلاص من خطرهم المادي والمعنوي يكون بطردهم، فقوي نفوذ رجال الكهنوت على ممثلي طبقات الأشراف في البلاد، وكانت عقول هؤلاء أكثر استنارة يحرصون على الاحتفاظ بالعرب في بلادهم؛ لأنهم عاملون ينفعونهم بعملهم، ويدرون عليهم ريعا كبيرا، فقاموا ينكرون الشدة التي ارتأى أن يعمد إليها المجلس والحبر نديم الملك، فلم يلبث بقايا العرب في بلنسية والأندلس ومرسية وقشتالة وأرغون وكتلون أن غربوا (أيلول 1609-تموز 1610) وحملوا إلى إفريقية حيث هلك عدد كبير منهم، وثار أربعون ألفا منهم فاعتصموا في جبال بلنسية فذبحوا أو استعبدوا، ففقدت إسبانيا بهم على أقرب تقدير من خمسمائة إلى ستمائة ألف من أحسن العاملين في الزراعة والصناعات، وعجلت بذلك خرابها، وبعملها هذا ابتاعت وحدتها الدينية بالثمن الغالي، وفرح الرأي العام الإسباني إذ ذاك بما تم في هذا الشأن، وعدوه من أعظم الأعمال التي قامت في عهد ملكهم، ومنهم من رأوه نعمة من السماء! وقال مؤرخ إسباني: يا لسعادة ملك توفق إلى أن يعمل هذا العمل من طرد العرب، ولكن الأمم خارج إسبانيا عدوا عمل الإسبانيين من تغريب العرب جنونا؛ بل وصفه ريشليو بأنه أفظع عمل بربري ذكره تاريخ القرون.
وفي التاريخ العام أيضا أن خضوع العرب في إسبانيا قد أقلق ملوك الكاثوليك
3
وفتح أمامهم مسألة تطالوا إلى حلها بما عهد في عنصرهم من المضاء الوحشي، وبما اشتهرت به قرون التدين من التعصب، وعدم التسامح، فرأوا أن بعض مئات الألوف من الإسرائيليين والمسيحيين يكثرون سواد المخالفين، وهم كثير نسلهم لا يعلم ماذا يكون منهم، وهم على ما هم فيه من النمو يغتنمون ويعملون، فاشتد القلق من قوم يخالفون الإسبانيين بحضارتهم؛ بل يعجبون بها ولهم ميول وعقائد وعواطف تخالف ما عليه الجمهور، فبدءوا بالإسرائيليين حتى إن مايكل لوكاس أعظم سادات قشتالة ذبحه سكان حيان أمام المذبح في الكنيسة سنة 1473 لاتهامه بالعطف على الإسرائيليين.
وكان من مذابح سنة 1390 أن اضطرت ألوف من اليهود في معظم مدن قشتالة أن يتنصروا، ومنهم من دام على نصرانيته، ومنهم من رجع إلى دينه الأصلي أو كان ظاهره مسيحيا وقلبه وعاداته قلب إسرائيلي وعاده، وكان منهم طبقة غنية محترمة، وفي سنة 1481 وقع تخييرهم بين التنصير والجلاء فآثروا الثاني إلا أن ديوان التفتيش لم تأخذه بهم رحمة كما لم يشفق على المسلمين سنة 1492 فشقوا عصا الطاعة بما رأوه من تعصب الكاردينال كسيمنس
4
الذي عمد إلى تنصيرهم بأبشع الطرق من الحبس والشدة، وأخذ الأولاد، ولما فرغ صبرهم وعمدوا إلى السلاح نقض ما أعطوه من الشروط يوم تسليمهم غرناطة، ولئن فضلوا أن يتنصروا على أن يهجروا بلادهم فإنهم لم يسلموا أيضا، واشتد ديوان التفتيش في مراقبتهم، وكان الإسبانيون يرون في عمل هذا الديوان الديني سلامة عنصرهم وسلامة دينهم، ولذلك كانوا شاكرين لعمله مهما قسا وغرم.
وقال ريناخ: لم تكتف إسبانيا بما قامت به من المظالم باسم الدين وإحراق البشر وقتلهم وتعذيبهم؛ بل رأت أن توهم الناس أنه لا سبيل إلى قيام وحدتها إلا بنفي اليهود سنة 1492 ونفي العرب (1609) فسار مئات الألوف منهم يهجرون بلادهم، وهلك منهم في الطرق عشرات الألوف، فحرمت إسبانيا من أحسن العاملين فيها ، وفقدت تجارها الماهرين، وأطباءها الحاذقين، وقد قتل في إسبانيا وحدها بفعل ديوان التفتيش الديني نحو مائة ألف إنسان على الأقل، ونفي منها مليون ونصف، وبذلك خربت مدنية تلك البلاد الجميلة.
وقال سيديليو: كان طرد العرب من إسبانيا من موجبات تأخرها كما وقع لمدينة نانت يوم طرد منها من كان مخالفا للكثلكة فأضر ذلك بالصناعة الفرنساوية، وقد تمكن الكردينال كسيمنس من تعوير جميع آثار المسلمين، وأمر بإحراق ثمانين ألف مخطوط عربي في ساحات غرناطة.
هوامش
الفصل العشرون
سقوط الأندلس
كان العرب في الأندلس في جهاد دائم مع أعدائهم منذ وطئ طارق بن زياد وموسى بن نصير أرضها، ورفعوا علم الأمويين على ربوعها، ودفعوا بأعدائهم إلى أقصى الشمال. يسكن الجلالقة وغيرهم إذا وجدوا العرب مستمسكين بعروة الوحدة، ومتى شاهدوا اختلاف أمور العرب أو آنسوا من بعضهم ميلا إليهم أو نزوعا إلى الاحتماء بهم؛ لينالوا من خصومهم يحملون حملات منكرة، ويقاتلون أعداءهم بكل ما فيهم من قوة؛ ولذلك قلت غارات الإسبانيين والبرتغاليين على البلاد التي نزلها العرب على عهد دولة بني أمية أوائل المائة الخامسة، وإن كان الثوار لم ينقطعوا تماما في الداخل عن مجاذبة الأمويين حبل السلطة.
ثم فسدت عصبية هذه الدولة من العرب، واستولى ملوك الطوائف على الأندلس، واقتبسوا خطتها، وتنافسوا بينهم، وتوزعوا ممالك الدولة، وانتزا كل واحد منهم على ما كان في ولايته، وشمخ بأنفه، وبلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك، ولبسوا شارته، واستبد كل واحد منهم بجانب من الأندلس، ودعا نفسه ملكا فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمعتضد والمظفر، وأمثالها حتى نعى عليهم ابن شرف عملهم بقوله المأثور:
مما يزهدني في أرض أندلس
أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد
أو كما قال ابن حزم: فضيحة لم يقع في الدهر مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد؛ أحدهم في إشبيلية، والثاني بالجزيرة الخضراء، والثالث بمالقة، والرابع بسبتة ، وأصبح العرب والبربر في خصام مستديم، والجميع في خلاف مع أهل المغرب الأقصى من الجنوب، وفي حروب مع بقايا الأمم الإسبانية والبرتغالية من الشمال والغرب.
سقطت الأندلس؛ لتشتت أهواء أمرائها، وأصبح بعضهم «ولا هم له سوى كأس يشربها، وقينة تسمعه، ولهو يقطع به أيامه» واسترسلوا إلى اللذات، وركنوا إلى الراحات، وأغفلوا الأجناد، واحتجبوا عن الناس، ولم يعودوا ينظرون في الملك، ومنهم من قتل كبار قواده، ووسد الأمر إلى الضعاف، فكثرت المظالم والمغارم، وكثر الثوار مرات بشرق الأندلس وغربها من القضاة وغيرهم، وهكذا تبدد شمل الجماعة «فضبط أشراف العمالات أزمة أمورهم، وركبوا ظهور غرورهم، فأتوا من ذلك بكل شنيعة.»
وقال ابن حزم: كانت طرطوش وسرقسطة وأفراغة ولاردة وقلعة أيوب في يد بني هود، وبلنسية في يد عبد الملك بن عبد العزيز، والثغراي ما فوق طليطلة من جهة الشمال في يد بني رزين، وطليطلة في يد بني ذي النون، وقرطبة في أيدي أبناء جهور، وإشبيلية في يد بني عباد، ومالقة والجزيرة في يد بني برزال من البربر، وألمرية في يد زهير العامي ثم ابن صمادح، ودانية وأعمالها والجزائر الشرقية (الباليار) في يد مجاهد العامري، وبطليوس ويابرة وشنتين ولشبونة في يد بني الأفطس، وأصبح كل امرئ وما اختار من الألقاب والأسماء حتى إن المستعين لما جلس على عرش الخلافة قال للناس أجمعين: ارتعوا كيف شئتم، وارتسموا بما أحببتم من الخطط، فتسمى بالوزارة في أيامه منفردة ومثناة (أي الوزير وذو الوزارتين) أراذل الدائرة، وأخابث النظار، فضلا عن زعانف الكتاب والخدمة.
قسمت الأندلس بعد سقوط الأمويين، إلى تسع عشرة مملكة منها قرطبة وإشبيلية وجيان وقرمونة والغرب والجزيرة الخضراء ومرسية وبلنسية ودانية وطرطوشة ولاردة وسرقسطة وطليطلة وباجة ولشبونة ... وغيرها، ولقد كان يخشى بعد هذا التفرق وتراجع أمر الدولة الأموية أن تسقط الأندلس دفعة واحدة، ولكن قدر الله أن يكون ملوك الجلالقة وقشتالة وغيرهم مشتتة كلمتهم متفرقة أهواؤهم، وقيض للبلاد دولة أخرى جديدة قوية جاءتها من الجنوب أي من المغرب الأقصى، وهي دولة المرابطين، فأفرج بها عن العرب بعض الفرج، فجاء يوسف بن تاشفين وقاتل الأدفنش سنة 480، وانتصر عليه، وكانت البلاد إلى البوار بسبب استيلاء النصارى عليها وأخذهم الإتاوة من ملوكها قاطبة.
ثم عادت أحوال الأندلس فاختلت اختلالا مفرطا آخر دولة أمير المسلمين علي بن يوسف أوجب ذلك «تخاذل المرابطين وتواكلهم، وميلهم إلى الدعة، وإيثارهم الراحة، وطاعتهم النساء، فهانوا على أهل الجزيرة، وقلوا في أعينهم، واجترأ عليهم العدو، فاستولى على كثير من الثغور المجاورة لبلادهم.» حتى جاء الموحدون كما كان المرابطون من قبل بدعوة عقلاء الأندلس وأمرائها، وقد كانوا يدعونهم إلى نصرتهم بضروب الفصاحة من الشعر والنثر، ويستنفرون الناس من العدوة.
لما اشتد الحصار على أهل إشبيلية سنة 645 صنع إبراهيم بن سهل الإسرائيلي قصيدة يستنفر بها الغزاة من العدوة، ويستنصر بأمراء العرب، وذلك إذ كان العدو عليها، قال فيها:
يا معشر العرب الذين توارثوا
شيم الحمية كابرا عن كابر
إن الإله قد اشترى أرواحكم
بيعوا ويهنئكم وفاء المشتري
أنتم أحق بنصر دين نبيكم
وبكم تمهد في قديم الأعصر
إلى أن قال:
والخيل تضجر في المرابط عرة
ألا تجوس حريم رهط الأصفر
كم نكروا من معلم، كم دمروا
من معشر، كم غيروا من مشعر
كم أبطلوا سنن النبي، وعطلوا
من حلية التوحيد صهوة منبر
إلى أن قال:
عند الخطوب النكر يبدو فضلكم
والنار تخبر عن ذكاء العنبر
لو صور الإسلام شخصا جاءكم
عمدا بنفس الوامق المتحير
ولو انه نادى النصير لخصكم
ودعاكم يا أسرتي يا معشري
نعم، كانت التفرقة بين أمراء العرب في الأندلس مما علم أعداءهم كيف يتحدون ليدفعوهم عن أرضهم، كما وقع للعرب في صقلية سنة 413 فإنهم بعد أن دافعوا عنها جيوش البيزنطيين والنورمانديين والروسيين والفاكريكيين قسموا صقلية إلى إمارات صغرى؛ فأنشئوا جمهورية في بلرم، وأخرى في سرقوزة، وكان ذلك من أكبر الدواعي في زوال سلطانهم. لا جرم أن ضعف الوازعين الديني والمدني من ميل القوم إلى الراحة والدعة، وضعف الأخلاق الحربية فيهم، وانتشار الفوضى في أحكامهم كان منه أن تأذن الله بذهاب ريحهم لا كما يدعي بعض العامة من أن رواج سوق الشعر كان السبب في زوال الأندلس، وتبديد شمل أهلها، فقد كان الشعر عندهم من جملة المسليات؛ لأن للعرب عامة غراما به، والأدب وسيلة إلى العلوم كافة، والعرب أمة أولعت منذ عرف تاريخها بالفصاحة والبلاغة.
ومن تدبر سير الحروب بين العرب والإسبان والبرتغاليين في المدة التي ارتفعت فيها أعلام المسلمين على الأندلس يدرك أن القوتين قوة الغالب والمغلوب كانت متعادلة في أكثر الأيام، ولكن تكتب الغلبة للفريق الذي كان جنده منظما أحسن من جند خصمه، وكان بعض خلفاء الأندلس يعتمدون على جنودهم من الرقيق كالصقالبة وغيرهم، ويعفون رعاياهم من التجنيد، على حين كان زعماء الإسبان يصرفون أيام شبابهم في تعلم الضرب بالسيف والرمح؛ لقتال أعدائهم،
1
والعرب لا يجوزون أن يستبدلوا العادات الحربية بأعمال الزراعة وما في المدنية الراقية من التمتع والهناء، فكان الناس في الممالك النصرانية يضطرون إلى الخدمة في الجندية، ويرافق الأشراف ملوكهم إلى الحرب مع أتباعهم.
أما العرب فلا يخرج أحدهم إلا إلى الجهاد، وإذا خرج فيكون خروجه على الأغلب متكارها لمدة معينة، فكانت أوضاع الإسبان حربية محضة تكون لهم بها الغلبة في القتال، أما في البحر فكان العرب أشد بأسا وأقوى أساطيل، ولهم في كل فرضة من فرض الأندلس سفن معدة، وقد أقاموا لهم دور صناعة في ألمرية وطرطوشة وطرخونة، وكانت معامل إشبيلية وقرطاجنة تخرج كل سنة سفنا جديدة تمخر في عرض البحار.
استولى الملوك من بني الأحمر قرنين ونصف قرن كما تقدم لنا الكلام في ذلك، وهم الذين استولوا على بقايا مجد العرب بعد أن انتصر سلطانهم سنة 663ه على الفرنج، واسترجع منهم اثنين وثلاثين بلدا من جملتها مرسية، ثم عاد العدو وأخذ بمخنقهم، ولكن لم ينل منهم لاجتماع كلمتهم في الداخل على الجملة، ولما دب الهرم في جسم دولتهم وقوي الإسبان باتحاد إيزابيلا ملكة قشتالة وفرناند ملك الأراغون ، أي باتحاد المملكتين الرئيسيتين في الشمال، تأذن الله بفناء الأندلس، فلم يبق أمامهم إلا التسليم والاستسلام، وفي ذلك كان هلاكهم وبوارهم.
هوامش
الفصل الحادي والعشرون
جبل طارق وطنجة
كان جبل طارق الذي نسب إلى طارق بن زياد فاتح الأندلس، وهو المكان الذي بلغه في جيشه أواخر المائة الأولى بأيدي العرب مدة استيلائهم على الأندلس، فلما دالت دولتهم عاد إلى الإسبان، ولبث في حكمهم إلى القرن الثامن عشر، واستولى الإنكليز عليه في سنة 1704 واحتفظوا به رغم محاولة الإسبان في سنة 1704-1779 بمعاضدة الأسطول الفرنسوي للاستيلاء عليه فلم يستطع الأسطولان الفرنساوي والإسباني تخليص هذا الحصن من أيدي الإنجليز.
يعلو جبل طارق عن سطح البحر 425 مترا، وهو متصل مع القارة الأوروبية بسهل من الرمل فيه بطائح، ويشرف على المدينة، وقد جعل الإنجليز فيه قلعة شحنوها بالمدافع، فجاءت من أحصن ما في العالم من الحصون. فهو في الحقيقة قطعة من أرض إسبانيا، ولكنه إنجليزي الحكم والنظام، يشرف على البحرين المحيط والمتوسط، ويأخذ بمخنق السفن الغادية والرائحة بين القارات الثلاث؛ أوروبا وأميركا وإفريقية.
يبلغ سكان جبل طارق اليوم 22 ألفا ما عدا الحامية الإنجليزية، وأهلها مزيج من شعوب أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقية، وكذلك أبنيتها مزيج من طراز الأبنية عند الأمم الكثيرة، واللغتان الشائعتان هنا الإسبانية والإنكليزية، ولا يحق اليوم لغير الإنجليزي التبعة أن يقتني ملكا في هذا المرفأ الضيق النطاق، ويراقب الأجانب فيه مراقبة شديدة، والمدينة كلها عبارة عن شارع واحد ضيق بني في الغالب منذ قرنين، وعلى مقربة من جزيرة طريف، وهي أشبه بقلعة كبيرة مشرفة على البحر.
جئت جبل طارق من غرناطة، وانتهيت بالجزيرة الخضراء آخر عمل إسبانيا، والمسافة بين هذه الجزيرة وجبل طارق بضع دقائق يجتازها المجتاز على ظهر سفينة.
وعلى بضعة أميال من جبل طارق ترى مدينة طنجة قائمة على البحر في بر العدوة من ثغور الغرب الأقصى، وأول أرض إفريقية يقع نظر الخارج من القارة الأوروبية عليها فينتقل السائح انتقالا فجائيا من مدنية راقية إلى مدنية مشعثة منحطة، وليس بين القارتين الأوروبية والإفريقية إلا مجاز صغير كان العرب يسمونه الزقاق.
اغتنمت فرصة انتظار الباخرة الإنكليزية التي تسافر من جبل طارق إلى مارسيليا في يومين فزرت طنجة، وطوفت في أرجائها، وسكانها اليوم نحو أربعين ألفا، فيهم كثير من الإسبانيين والبرتغاليين والفرنساويين، وهي من المدن التي استعمرها الفينيقيون فيما مضى، ولا تزال محتفظة بطرازها الشرقي على كثرة ما تداول عليها من الأمم بعد الإسلام؛ فقد استولى عليها البرتغاليون سنة 1471م، والإنجليز سنة 1622، وحاصرها الفرنسيون سنة 1884، وبقيت منذ ذاك الحين في يد المراكشيين، وهي الآن مشاع لكل الدول أو تحت حمايتهم، وينازعها الفرنسيون والإسبان كما يتنازعون على السبق في حماية بلاد الغرب الأقصى، ويقيم فيها كثير من معتمدي الدول والسلاطين المخلوعين من أمراء المسلمين في الغرب الأقصى أمثال مولاي عبد العزيز ومولاي الحفيظ.
نعم، إن المراكشيين ما زالوا في هذا الثغر وما وراءه من البلدان على تصلبهم في عاداتهم رغم التيار الشديد الهاجم عليهم من أوروبا، وهم منها على ثلاث ساعات بحرا لا يفصلهم عنها إلا بحر الزقاق، وبين طنجة والجزيرة الخضراء اثنا عشر ميلا «وهو أضيق موضع فيه، وأوسع موضع فيه نحو ثمانية عشر ميلا» قال الفقيه المرادي المتكلم القيرواني بعد خلاصه من بحر الزقاق ووصوله إلى مدينة سبتة:
سمعت التجار وقد حدثوا
بشدة أهوال بحر الزقاق
فقلت لهم قربوني إليه
أنشفه من حر يوم الفراق
فلما فعلت جرت أدمعي
فعاد كما كان قبل التلاق
الفصل الثاني والعشرون
علم المشرقيات في إسبانيا
كان على إسبانيا، وتاريخها مرتبط بتاريخ العرب ثمانية قرون، أن تكون أول دولة غربية تعنى باللغة العربية، ولكنها تعد من الأواخر؛ لأن الارتقاء يتبع بعضه بعضا، ولا تنفق أمة إلا مما عندها، ومع هذا حدثنا التاريخ أن أول مدرسة
1
عربية أنشئت في طليطلة أوائل القرن الحادي عشر، ومن هذه المدرسة نشأت تربية الإسبانيين على مناحي العرب، وفي سنة 1130 أنشأ رئيس أساقفة مدرسة للتراجمة في هذه المدينة، وبها رسخت اللغة العربية والأفكار العربية في إسبانيا المسيحية، وكان من نتائج وقعة العقاب أن حررت إسبانيا من رق العبودية للمسلمين، وأدرك ملوك قشتالة أن ليس من العقل مقاطعة الماضي القديم، وأنهم في حاجة بعد إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء ومنافسيهم الألداء من العرب، فحاول ألفونس العاشر أن يعمل لإسبانيا المسيحية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام، وذلك بالأخذ بأحسن ما في الحضارتين ومزجهما بالحضارة الإسبانية؛ فأسست سنة 1354 في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية عربية، وحفظ لمدينة مرسية رونقها العربي الصرف، واستدعى إلى عاصمته العلماء من جميع الملل والنحل؛ ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية وقوامها اختيارا حسن المعارف النافعة، وهي أقرب إلى التسامح من المدرسة الأولى؛ إذ كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية الحضارة العربية والعلم العبراني.
كان لليهود يد طولى في نقل العلوم من العربية إلى اللاتينية؛ لأن المرابطين والموحدين الذين استولوا على الأندلس بعد الأمويين كانوا إلى التعصب. بددوا كتب الفلسفة وأحرقوها؛ ليرضوا بذلك العامة والفقهاء، ولولا تراجم الإسرائيليين؛ لضاع كثير من أوضاع مدنية العرب في الأندلس.
ثم بدا لرجال من الإسبان أن يسعوا في نشر دينهم بين المسلمين، فأخذوا يعنون باللغة العربية؛ ليتعلمها الرهبان، ويجادلوا مخالفيهم بالبرهان، فوضع أحد الدومنيكيين أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة 1230 وفي سنة 1311-1312 امتدح البابا كلمنضس الخامس في أحد المجامع الدينية من إنشاء درس لتعليم العربية في مدرسة صلمنكة، وفي أواسط القرن الثالث عشر كان الدومنيكيون مثال الغيرة في نشر اللغات الشرقية بين أبناء رهينتهم ومنها العربية، وأنشأ صاحب أراغون مدرسة لتعليم اللغات الشرقية في ميرامار، وأنشأ المجمع الديني في طليطلة ينفق على طغمة من الرهبان مؤلفة من ثمانية أشخاص انقطعوا لدراسة العربية، وعلى هذا ظلت الجمعيات الدينية ولا سيما الفرنسيسكانية إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا هي القائمة بدعوة المستشرقين إلى دس آداب الشرق ولغاته وتاريخه.
ولم تنل مدرسة صلمنكة شهرة طائلة في أوروبا حتى غدت إحدى المراكز العلمية الأربعة، وهي: باريز وأكسفورد وبولون، إلا أنها بتأثير العلم العربي أقامت على أساس معقول تعليم العلوم الطبيعية والطب، ولم يكن في مدرسة صلمنكة في أواخر القرن الثالث عشر غير خمس وعشرين حلقة للتدريس؛ منها حلقة لليونانية، وأخرى للعبرانية، وثالثة للعربية، فأصبحت في القرن السادس عشر سبعين حلقة فيها سبعة آلاف طالب.
ولما أعلن الإسبانيون الحرب على جنسية العرب ومدنيتهم ودينهم ضعفت العناية باللغة العربية، ولم يكتف باستصفاء جميع الجوامع، وجعلها كنائس؛ بل أخذوا ينصرون المسلمين بالإكراه، وفي سنة 1501-1502 طردوا من مملكتي قشتالة وغرناطة كل من ظلوا محافظين على الإسلام، ولم يعد للدومنيكيين والفرنسيسكانيين من حاجة لتعلم العربية ليتمكنوا من مجادلة الفقهاء عن علومهم؛ لأنها أفسدت أفكارهم، وزهد المسيحيون في علوم المسلمين، وقام في أذهانهم أنها خطر عليهم.
صدر أمر الكردينال كسيمنس سنة 1511 بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من الكتب العربية أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة فتم ذلك في نصف قرن، ولولا المترجمات منها إلى العبرية واللاتينية لبادت مدنية العرب من تلك البلاد، وأخذ ديوان التفتيش الديني على نفسه إبادة كل أثر للعرب، وما كان متنصرة المغاربة الذين دانوا بالنصرانية مكرهين ليستطيعوا إبداء أسفهم إلا سرا، وفي الكتب العربية المكتوبة بالعجمية، أي المكتوبة بحروف إسبانية، دليل على تعلق أولئك المتنصرة بقديمهم.
وفي سنة 1556 منع فيليب الثاني متنصرة المسلمين من استعمال اللغة العربية، وأراد بهم على أن تنتزع من أسمائهم التراكيب العربية، وعن أجسامهم الألبسة الشرقية؛ ليمزجهم بزعمه في سواد أبناء المذهب الكاثوليكي، ثم طردوا على عهد فيليب الثالث، وكان عددهم نحو مليون نسمة على صورة قاسية سخيفة، ولم يبق من الحضارة العربية واللغة العربية في إسبانيا غير ذكراهما، وزهد القوم في القرنين السابع عشر والثامن عشر في تعليم العربية في إسبانيا اللهم إلا على طريقة أفرادية، وغدا الاطلاع على العربية نقصا، ولربما اتهم من يتعلمها بالإلحاد بعد أن كان أهل الطبقة العليا من الإسبان أيام عز العرب يحلون بأقوال فلاسفة العرب كلامهم، ويدرسون الفلسفة العربية درس مستبصر مستفيد لا درس ناقد عنيد، ويعدون الاطلاع على الآداب العربية من أمارات الظرف والكياسة.
وعلى هذا لم يبق لمدرسة الفرنسيسكان في إشبيلية من أساليب تعلم العربية إلا أثر ضئيل ، وأراد شارل الثالث أن يعيد إلى إسبانيا عهد الآداب العربية، فاستدعى لذلك رهبانا موازية من سورية؛ ليعلموا الإسبانيين لغتهم الأصلية الثانية، ويحق للنصف الثاني من القرن الثامن عشر أن يباهي بأساتذة متمكنين من أسرار العربية في إسبانيا.
ولما دخل الإصلاح إلى الكليات القديمة في أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر عادت العربية تدرس في جامعات إسبانيا رسميا، ولما استلمت الحكومة الإسبانية سنة 1857 زمام إصلاح التعليم من دون رجال الدين أو الملك أو الأشراف ربحت اللغة العربية حتى كادت تعود إليها حياتها التي كانت لها في شبه جزيرة إسبانيا من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر، فأخذت معرفة اللغات والآداب العبرية والعربية تدخل من تلقاء نفسها في قائمة دروس التعليم العالي، وأخذ المستعربون ينتفعون من المخطوطات العربية المحفوظة في مكتبة الأسكوريال ومكتبة الأمة ومكتبة المجمع العلمي التاريخي، ومن المخطوطات العربية المكتوبة بحروف عبرية المحفوظة في كاتدرائية طليطلة. دع مكتبة خزائن كايانكوس وكودرا ورينرا وآسين وغيرهم من رجال المشرقيات.
والعربية اليوم تدرس رسميا في كلية مجريط وغرناطة وبرشلونة وصلمنكة وبلنسية وإشبيلية وغيرها، ولكن التدريس فيها مهمل، والمدرسون غير كفاة إلا في العاصمة وبعض الولايات، وقد نشر المستشرقون من الإسبان منذ أواخر القرن التاسع عشر كتبا عربية كثيرة متعلقة بتاريخ الأندلس، وتراجم رجاله، وبعض العلوم التي اشتغلوا بها، ومنها الجيد وأكثره مملوء بالأغلاط والتحريف، وهو دون ما نشره الهولانديون والجرمانيون والبريطانيون والطليان من هذا القبيل من حيث الصحة والإتقان.
وأنت ترى أن الاستشراق العربي كان الدين هو الداعي إليه كما كان في معظم بلاد أوروبا، ثم امتزج الدين بحب المدنية، ثم امتزج كلاهما باسم الاستعمار، ولكن المحصول في شبه جزيرة أيبيريا أي في إسبانيا والبرتغال قليل، وفي جامعة لشبونة عاصمة البرتغال درس عربي اليوم، ومدرسة الأستاذ لويس الذي نشر بعض الكتب العربية، فهو المرجع في البرتغال اليوم، كما أن الأستاذ آسين مرجع الإسبان في مجريط، وكلاهما عضو في المجمع العلمي العربي.
هوامش
ناپیژندل شوی مخ