1
فتحيف من إحدى الصحاف قطعة من «البطاطس» مسلوقة مدقوقة، قد بالغوا في عركها، وألحوا في فركها، ولم يعالجوها بدهن ولا مرق، حتى إذا أساغها بعد طول مضغ وهرس وترديد على كل ثنية وكل ضرس، مضى يطلب لهضمها من العقاقير كل ما أخرج أطباء الإنجليز والألمان، والفرنسيين والأمريكان مما يدر عصير المعدة، ويحرك الأمعاء، ويشد المصران ، ويقوي «الضفيرة الشمسية» ويمنع التخمر، ويشتف الغازات، ويجتاز «الحجاب الحاجز » فلا يضغط القلب، ثم راح يشكو هؤلاء جميعا!
لا يغرنك سهولة المرتقى إذا كان المنحدر وعرا.
وعزيز باشا عزت كبير الرأس، له وجه شاحب طويل على جسم رفيع طويل، لو وقف أمامك ولم يتحرك لخلته عصى خيزرانة ركب عليها مقبض من العاج!
وقد نجم من بيت حسب وغنى، وتعلم في صدر شبابه في مدارس مصر، ثم شخص إلى إنجلترا فتلقى العلم في مدارسها، ثم دخل في جامعة «ولش» العسكرية حتى إذا طوى فيها سنين طالبا مجدا متفوقا، خرج منها ضابطا في الجيش البريطاني، ثم استقال وعاد إلى مصر، فانتظم في خدمة الحكومة المصرية حتى قلد وكالة الخارجية إلى أن كانت وزارة محمد باشا سعيد الأولى، فلم ير أن يبقى في وزارة الخارجية وكيلا، فنزح بأهله إلى لندن وأقام فيها كل هذه السنين.
وهو رجل وافر الذكاء، غزير العلم، جم الأدب، صادق النبل، وبهذه السجايا استطاع أن يحرز في بلاد الإنجليز مكانا رفيعا.
ولما جاء دور اختيار السفراء قلدته حكومة جلالة الملك فؤاد الأول سفارة لندن، وكان اختيارا موفقا من ناحية ما للرجل من سعة العلم وصدق النبل ووفرة الغنى والمنزلة في عظماء الإنجليز، إلا أن الرجل، مع الأسف، كما أسلفت عليك مريض، ولعل المرض هو الذي شغله عن متابعة الحركة المصرية ومدارسة قضيتها، وتفهم ظواهرها وخوافيها، فلم يكن ذلك المعوان الذي يتكئ عليه رجال السياسة في معالجة القضية المصرية كلما جدت عظيمات الأمور.
وفي الحق، إن عزت باشا في خطبه البديعة الرائعة عن السودان إنما كان رجلا وطنيا أكثر منه رجلا سياسيا، فإن مهمة السفير أن يخاطب الرجال الرسميين لا يتخطاهم إلى خطاب الشعوب. ولعل ظرفنا الخاص هو الذي بعث حرارة عزت باشا وأطلقه في الشعب الإنجليزي بتلك الخطب السوابغ. وكثيرا ما يغتفر في أمثال تلك الرجات القومية تجاوز ما يدعونه بالتقاليد.
ولقد أخذوا عزيز باشا عزت بطول إجازاته، وتركه مثوى عمله الأشهر الطوال إلى سويسرا للتداوي وتارات إلى مصر . والرجل لم يكن متجنيا ولا متبطرا، فإنه وأهله كليهما مريض ، وقد حدثتك أن الطبيعة ظلمته، وأي ظلم أشنع من ظلم المرض، وحدثتك أن الحكومة ظلمته إذ قلدته بادئ الرأي منصبا لا تضطلع صحته بأعبائه، وإنه ليقدم إليها الاستقالة بعد الاستقالة، وهي تأبى إلا أن تردها إليه وأن تمسكه في مركزه رغم أنفه، والناس له في هذا كذلك ظالمون.
ويجمل في هذا الموضوع أن نذكر أن الرجل لم يدل يده إلى تناول راتبه طول مدة إجازته، فهو يردها على خزانة الحكومة ردا.
ناپیژندل شوی مخ