وظل الشيخ «المالي» مدرسا في الأزهر معروفا بشدة الاجتهاد والمطاولة في الدرس، وقوة الصبر على التفهم وتصيد الشكوك ومدافعتها، على عادة الأكثرين من علماء الأزهر في عهده، فكان درسه من أحفل الدروس بطلبة هذا النوع من التعليم.
وهو رجل معروف بحب القرآن وتلاوة القرآن، فلم يتبطر وهو عالم كبير، ومالي شهير، على أن يلي مقرأة السلطان الحنفي لقاء ريال في كل شهر، وعشرين رغيفا في كل أسبوع.
ثم ولي مشيخة معهد الإسكندرية وظل فيها إلى أن أفضت إليه مشيخة الإسلام في سنة 1916 أو 1917م، وبلغ من حب الرجل للقرآن واحتفاله للقرآن ألا يتنحى عن مقرأة السلطان الحنفي وهو في ذلك المنصب الجليل! ويأبى الله إلا أن يفسح له في الخير ويبسط له في الرزق، فبعد أن كان مرتب شيخ الإسلام ستين جنيها في الشهر أضحى ألفي جنيه في العام، وبعد أن كان ثلاثين رغيفا في اليوم أصبح ثلاثمائة، إلى ما أضيف إلى ذلك من وظائف عدة تجري على مولانا الشيخ الأكبر في كل شهر مكافأة على حضور مجلس إدارة مدرسة القضاء الشرعي، وأخرى لمدرسة دار العلوم، وثالثة على حضور مجلس الأوقاف الأعلى، ورابعة لمجلس البلاط، وخامسة وسادسة وسابعة وثامنة، إلى تلك الأوقاف الواسعة التي دخلت على مشيخة الأزهر والتي لا يعلم حسابها إلا الله تعالى. وما شاء الله كان.
والشيخ أبو الفضل الجيزاوي متوسط القامة بين الطول والقصر، قصير العنق، عريض الألواح، متوافر اللحم لولا أن رهل لحمه بحكم التسعين؛ أخيف العينين، خفيف شعر العارضين، كوسج اللحية، أرت اللسان، إذا تحدث تمتم فلا تكاد تستبين له إلا بالعناء قولا، وقد أصبح من المرض وتزاحم السنين أشبه بمومياء، حتى لو قد استدرجته يوما إلى دار الآثار ما استطعت أن تستخرجه منها إلا بعد جدال وجهد في الإثبات ... وهو وإن تهدم جسمه، وإن خمد ذهنه، ما يزال فتي الرغبة في المنصب. وإن الحفلة الرسمية لتعقد، وللشيخ كل عذره في التخلف عنها لمعالجة ما هو أشبه بالموت، ولكنه يأبى إلا أن يحمل إلى الحفل حملا إدحاضا لما يتقول على صحته المتقولون.
وللشيخ مزيته التي لا تنكر، فهو شديد الحرص على إطاعة كل ما يؤمر به ممن يستدرج الأمر منهم، إذ الرجل واسع العلم بأحكم الفقه وما تتغير عليه في كل حادث آراء الفقهاء، فلا يعجزه أن يبرئ ذمته في أي حادث بجواب، مهما اختلفت العلل وتنوعت الأسباب.
ومن طريف ما يذكر لمولانا الشيخ في هذا الصدد ويدل على عظيم تصرفه وحاضر حجته أن عالما يمت لنشأت باشا بالصهر، وقد نال إجازة التدريس من الأزهر على أنه شافعي المذهب، وبعد سنين تقدم إلى الامتحان في فقه أبي حنيفة توسلا إلى تقلد منصب القضاء الشرعي، فلما طرح اسمه على لجنة اختيار القضاة الشرعيين، ولم يكن لنشأت باشا في ذلك اليوم شأن ولا خطر، عارض مولانا الأكبر في تعيين ذلك الشيخ بحجة «أنه شافعي». وتدور الأيام ويقبض نشأت باشا على كل السلطة في الحكومة - كما تعرف - فيرد اسم الشيخ صهره على اللجنة، ويتبارى بعض الشيوخ من أعضائها في تزكيته وتبيين مزاياه، ويؤمن على شهادتهم فيه مولانا الأستاذ الأكبر هاتفا بهم: ولا تنسوا أنه مع كونه عالما حنفيا فهو يجيد «فقه الشافعي» أيضا!
والشيخ، على ما أفاء الله عليه من الثراء العريض والنعمة الواسعة، ما زال يتخذ دارا متواضعة في زقاق ضيق خلاف ميضأة الحنفي، على أنه طالما أتعب سماسرة البلد في المساومة على ما يعرض للبيع من قصور الزمالك، والجزيرة، وقصر الدوبارة، «وجاردن ستي»، فإذا جاءوه بالبيت وكان ثمنه عشرين ألفا طلبه بالخمسة عشر، وإذا كان بخمسة عشر صمم على العشرة، وهكذا ما زال الشيخ جاهدا نفسه وجاهدا معه سماسرة البلد من عشر سنين مضت، فلا هو يشتري ولا يقعد عن التماس القصور، على حد قول الشاعر: «فلا أمل ولا توفي المواعيدا!» وما له ولقصور الدنيا تلك التي تستفتح الخزائن وتستخرج الأموال وتجشم النفقات، وفي الجنة قصور من الزمرد ومن اليواقيت ومما تقوم اللبنة فيه من الفضة وأختها من الذهب وهي لا نفقة فيها؛ فالطيبات كلها وألوان الترف تجري على أصحابها من غير كلفة ولا عناء. ولمولانا الشيخ منها، بعد العمر الطويل، ما لا يحصى جزاء الزهد في الدنيا والرغبة عن قصورها ومتاعها «وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟»
نسأل الله جل وعلا أن يمط في عمر الشيخ أبي الفضل في الدنيا وأن يسعد في حاله، ويزيد في ماله؛ فلا تقوم بجانبه البنوك، ولا تجوز بغير توقيعه الصكوك، وأن يخصه بكل ما تجبيه الأوقاف والحوانيت والشركات والمصارف، من أول الإسكندرية إلى أقصى القضارف. آمين.
عزيز عزت باشا
مظلوم من الطبيعة، ومظلوم من الحكومة، ومظلوم من الناس، ومظلوم من نفسه. شاع فيه المرض أو توهم المرض «أو ما تراه أعظما وجلودا؟» فهو يخشى الطعام لئلا يدركه البشم، ويخشى الشراب لئلا يلح عليه السقم، ويخشى المشي خوف تعب القلب وخفقانه، والتلفت اتقاء وجع الجنب وضرباته، والحديث فإنه يرهف العصب، والكتابة فإنها مدعاة للكد والنصب. ولا بد له من أن يطعم ليعيش، فإذا قربوا إليه الطعام دفع صحاف اللحم أبيضه وأحمره، لأن أضراسه لا تقوى على قضمه، ومعدته لا تضطلع بهضمه، وإذا جاءوه بالخضر صدف عن هذا ففيه حديد، وهذا لكثرة ما يحوي من «الأسيد»، وهذا لأنه وشيك التحجر، وهذا لأنه سريع التخمر، وهذا لأنه يستحيل في الأمعاء غازا، وهذا لأنه لا يجد في «الاثنى عشري» مجازا، ثم مد يده في خوف ووهل
ناپیژندل شوی مخ