وإذا كان في المصريين قوم قد أسفوا أول الأمر على تقليد علي الشمسي وزارة المعارف، فإن هؤلاء اليوم أشد الناس أسفا على أن الوزارة قد حرمت هذه العبقرية من زمان طويل.
الشيخ أبو الفضل الجيزاوي
ألا من شاء أن يقدر مبلغ التطور الذي دخل على رجال الدين عندنا، ويعرف مدى الطفرة العظيمة التي طفروها في سبيل الحضارة «والرقي»، فليسمع القصة الآتية:
حدثني الثقة الصادق أنه كان في الأزهر من ستين أو سبعين سنة عالم جليل المقدار يدعى الشيخ الإسماعيلي، وكان يسكن جامع المؤيد، وله تلميذ خاص، على عادة كبار العلماء في ذلك الزمان، يقرأ بين يديه درسه إذا أقبل على حلقته، ويتلوه عليه إذا خلا لمذاكرته؛ ويعينه إذا سعى، ويصب له ماء وضوئه؛ ويحمل نعله إذا دخل المسجد ... إلخ. وهذا التلميذ كان يدعى الشيخ حسنا.
وكان الشيخ الإسماعيلي رجلا شديد الزهد في الدنيا قوي الرغبة عنها، لا يتعلق منها بسبب إلا ما كان من شأن دينه وتعليم طلبته، وكانت وظيفته كل يوم بضعة رغفان يتبلغ بها وتلميذه، وفي كل شهر ثلاثين قرشا يأتدم بها وصاحبه، ويتجمل بما فضل منها لسائر حاجاتهما. ويدعو أحد التجار ذلك الشيخ ليتغدى عنده التماسا لبركته فيأبى الشيخ ويعتذر، ويلح الرجل في الدعوة فيلح الشيخ في إبائه واعتذاره. فلما أيس الرجل من إسلاس الشيخ طلب وجه الحيلة في الأمر فاختلى بالشيخ حسن وقال له: إذا رضت لي نفس الشيخ وقدته إلى داري ليفطر عندي في رمضان، وقد أصبحوا من رمضان على أيام، اجتعلت لك على هذا نحيين من السمن، وغرارتين من القمح، وأربعة أعدال من السكر والصابون والشمع والبن. فجمع الشيخ حسن كل عزمه وانصب على شيخه يقبل يديه ورجليه ويسأله ألا يخيب رجاء داعيه، إذ الشيخ ما يزال في نفوره وإبائه، والشيخ يلح في الاعتذار محتجا بأنه ما زال في «خزانته» خبز كثير. ولما طال إلحاح التلميذ فطن الأستاذ إلى أن في الأمر شيئا فقال له: هل اجتعل لك الرجل على هذا جعلا؟ فقال: بلى يا مولاي! لقد جعل لي كيت وكيت وأنا رجل، كما تعلم، ذو زوجة وأولاد، وإني أرجو أن أعود بهذا على شملي وأوسع في النفقة دهرا على عيالي؛ وحينئذ طابت نفس الشيخ الأكبر بإجابة الدعوة رحمة بعيال الشيخ الأصغر، وعين يوما من أيام رمضان ليفطر فيه عند ذلك التاجر. ويطير عم الشيخ حسن إليه يبشره بقبول الشيخ. ويحتفل الرجل للأمر فيدعو بأجود الطهاة ويتقدم إليهم بطهي أزكى الأطعمة، كما يدعو لليوم المعين أعيان التجار والسراة وكل ذي خطر في الحي لينعموا بطلعة الشيخ ويتشرفوا بمؤاكلته. حتى إذا كان عصر ذلك اليوم لاحظ الشيخ حسن على أستاذه فتورا وإغضاء وتربد وجه وانقباضا عن الحديث، حتى إذا تهيأت الشمس للنزول قال لصاحبه: هلم بنا. وانطلقا يطلبان حي الجمالية، مثوى الداعي، وما كادا يتشرفان على حارته حتى أبصرا علائم الزينة من بنود خافقة، وثريات آلقة، ترتجف أثناء ذلك بطاطيخ الزجاج في ألوانها، ورأيا كبار الأعيارن وهم ميممون دار الداعي على أتنهم وبراذينهم الفارهة. فجمد الشيخ واصفر وجهه وتهدلت شفته وأرعشت يداه وصاح في تلميذه: كم اجتعل لك الرجل يا شيخ؟ فقال: جعل لي كيت وكيت. قال: فكم يبلغ ثمنها؟ قال: يا مولاي حول الاثني عشر جنيها. قال: فقسطها علي كل شهر ثلاثين قرشا! ودار على محوره وجرى طلقا إلى مثواه في جامع المؤيد حيث يبسط خوانه مما ادخر من الخبز في «خزانته».
وفينا اليوم علماء كبار، ولنا اليوم شيخ إسلام جليل المقدار، لم يمنعهم علمهم، ولا دينهم، ولا شدة ورعهم عن أن يفقهوا الدنيا ويجاوروها في مظاهر حضارتها ورقيها حتى لا يطلقوا فينا القالة ولا يبعثوا الألسن بتنقص الدين والقول بأنه يدعو إلى الجمود ومناهضة عوامل الرقي والتقدم في الدنيا إلى حد أن يحيوا ليلة القدر المباركة في «دار الوكالة الإنجليزية في شهر رمضان الماضي!» ولو قد رأيتهم يهرولون في «فروجياتهم» إلى دار الوكالة الإنجليزية إجابة لدعوة العميد وذكرت مرجع ذلك الشيخ الجامد وهربه من تناول طعام لعله قد دخله ما لا يحل - لعرفت حق العرفان مبلغ التقدم الذي بلغه رجال الدين عندنا في مدى ستين أو سبعين من الأعوام.
الحمد لله! لم يبق إلا مائة ألف جنيه و5000 سهم بنك عقاري قديم حتى أنقطع إلى عبادة الله والزهد في الدنيا!
ولو قد استشرفت لك ليلة القدر فكشفت لك عن «خزانة» الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الإسلام لما وقعت عينك فيها على فقار من الخبز، بل لوقعت على الآلاف من «البنك نوت» إلى أمثالها من أسهم الدين الموحد، وشركة السكر، والرنت الفرنسي، والقونسوليد الإنجليزي، وقناة بناما، «ويانصيب» بلدية باريس، إلى وثائق الرهون، والغاروقات، والامتيازات العقارية، والاختصاصات، وأحكام نزع الملكيات، وإن شئت إجمالا قلت إن «خزانة» شيخ إسلامنا - والحمد لله - لا تقل عن خزائن ثلاثة «بنوك» مجتمعات!
وما لنا لا نغتبط بهذا ولا نباهي به وقد كانت كل «العمليات المالية» في أيدي الإفرنج واليهود والأروام والأرمن، وها هي تي الآن تستخلصها من براثن أولئك الأقوام، أيدي سادتنا العلماء الأعلام. •••
والشيخ أبو الفضل الجيزاوي رجل عصامي حقا؛ فقد خرج من بلدته الوراق من أعمال مركز إنبابة إلى الأزهر، وجد في طلب العلم، وكدح في ذلك كدحا عنيفا قام عنده مقام شدة الذكاء وقوة الاستعداد، وانتهى أمره، لا أدري بأية وسيلة، إلى المرحوم الشيخ العباسي المهدي الذي كره له لقبه فدعاه «أبا الفضل» فذهب له هذا اللقب من ذلك اليوم. ولما استوى عالما مدرسا كان المرحوم العباسي يعتمد عليه في بعض وسائل امتحان العالمية في الأزهر. ورأى الشيخ «أبو الفضل» أن «يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا كما يعمل لآخرته كأنه يموت غدا» فحرص على جمع المال وجد في تثميره من أيسر الوسائل، وكم واسى به عاتيا، وكم فرج به كربة محتاج؛ على أن الله تعالى، الذي لا يذهب العرف بينه وبين الناس، قد أنعم عليه وجازاه فيما أعطى أضعافا مضاعفة. وله في هذه المكارم أحاديث مأثورة، وصحف لا تزال مقروءة منشورة.
ناپیژندل شوی مخ