په عربي کلتور کې تازه
في تحديث الثقافة العربية
ژانرونه
ولعل كثيرين منا ما زالوا يذكرون قصة وردت في كتب المطالعة في المرحلة الابتدائية من مراحل التعليم، وهي قصة رجل يملك قطعة من الأرض الزراعية، ولكنها أهملت لما أصابه مرض أقعده عن العمل، وكان للرجل بنون لا يميلون إلى فلاحة الأرض؛ فلم يواصلوا عمل أبيهم في أرضه، ودنت من المريض ساعته فجمع بنيه هؤلاء حول سريره، وقال لهم اسمعوا يا أبنائي؛ فسأطلعكم على سر أخفيه عنكم، لكنني الآن أحس أن رحيلي قد اقترب، ولا بد أن أكاشفكم به، والسر هو أني خبأت في أرضنا كنزا نفيسا من الذهب دفنته على عمق؛ حتى لا ينكشف أمره لأحد، قال ذلك وأسلم الروح، فما كان من أولاده إلا أن أخذوا ينكتون الأرض نكتا لعلهم يعثرون على الكنز المخبوء، ولكنهم لم يعثروا من ذلك على شيء، ثم ما هو إلا أن تنبه أحدهم، فقال لإخوته: أرجح ظني أنه لا كنز مما تتصورون، وإنما أراد لنا أبي بهذه الحيلة أن نحرث الأرض، وما دمنا قد حرثناها؛ فماذا يبقى لزرعها سوى أن نبذر البذور وتسقى؟ إذن فهيا يا أشقائي ؛ فحصاد الزرع موسما بعد موسم وعاما بعد عام هو الكنز الموعود. وإني لأتخيل صحائفنا الموروثة عن آبائنا لو أن ناطقا نطق بلسانها لقال لنا نحن أبناء اليوم: لقد خبأت في هذه الصحائف كنزا بل كنوزا فابحثوا عنها، فلو صنعنا صنيع أولئك الأبناء؛ لقرأنا ثم قرأنا، ودرسنا ثم درسنا، ما قد ورد في تلك الصحائف، كل منا في مجاله، حتى تشرق علينا الفكرة الصحيحة، وهي أن الكنز الحقيقي هو ما سوف نتوجه إلى إبداعه نتيجة لما قرأناه ودرسناه.
كان الفيلسوف الألماني العظيم عمانوئيل كانط الذي يمكن القول عن مكانته في تاريخ الفلسفة إنه إذا كان أرسطو قديما قد ساد الفكر من بعده لعدة قرون، فإن كانط قد كانت له سيادة كهذه على من جاء بعده، فكأنما دار الفكر الإنساني حول قطبين؛ أرسطو قديما وكانط حديثا، فماذا صنع هذا الفيلسوف الكبير؟ إنه أدرك ما يدركه كل واع، بأن علمي الطبيعة والرياضة يأتيان للإنسان بعلم صحيح، حتى إذا ما نظرنا إلى المبحث الثالث وهو الميتافيزيقا؛ أي ما وراء الطبيعة، وجدناه قد وضع بين أيدينا ضربا من المعرفة، أقل ما يقال فيها هو أن ما يقبله منها هذا الإنسان من رجال الفكر قد يرفضه ذلك الإنسان؛ ما يدل على أنها معرفة لا تقطع بيقين. ولما كان ذلك المبحث الثالث - أعني ما وراء الطبيعة - هو ما يشغل به الفكر الفلسفي بصفة خاصة فقد أراد كانط أن يتعقب العلة التي تجعل نتائج ذلك المبحث معرضة للخلاف والاختلاف، وكان المنهج الذي اختاره لمهمته تلك هو أن يتوفر - أولا - على تحليل مستفيض للكيفية التي يعمل بها العقل في مجال العلم الطبيعي والعلم الرياضي، وكأنه يسأل ما الذي يجعل نتائج هذين العلمين مقطوعا بصحتها؟ حتى إذا ما وقع على جواب نقله إلى المجال الثالث، وهو المجال الذي يبحث فيه مسائل الميتافيزيقيا أو ما وراء الطبيعة، لكنه بعد أن أضنى نفسه في أشق عمل اضطلع به فيلسوف من حيث تحليلاته الدقيقة العميقة للعقل الإنساني، وكيف يعمل حين تكون فاعليته منصبة على موضوع في علوم الرياضة أو في علوم الطبيعة؛ أمعن النظر فيما قد وصل إليه تمهيدا للانتقال به إلى البحث فيما وراء الطبيعة، أشرقت عليه الفكرة العظيمة وهي أن الميتافيزيقا هي هي نفسها تلك التحليلات التي مارسها على عمليات العقل حالة انشغاله بعلم الرياضة وبعلم الطبيعة، وليس هناك شيء مستقل بذاته يصح أن يكون موضوعا لعلم ثالث. بعبارة أخرى فإن ما يطلق عليه اسم الميتافيزيقا إنما هو - أو يجب أن يكون - تحليل للعلم كما هو معروف في المجالين الأولين، إذن، فها هي تي قصة أخرى نأخذها من تاريخ الفكر في أعلى ذراه تشبه شبها قويا قصة الأبناء الذين حرثوا الأرض بحثا عن كنز مدفون فتبين لهم أن الكنز المنشود هو عملية الحرث نفسها تمهيدا لزرع جديد.
ومن هذه الأمثلة التي قدمناها تستطيع أن ترى كيف يحدث للإنسان أن يتخذ وسيلة ما ليبلغ بها غاية وراءها، فإذا به قد وجد غايته في تلك الوسيلة نفسها، شريطة أن يتوجه بها وجهة جديدة ما كانت لتخطر لأحد على بال.
وعلى ضوء هذه الحقيقة انظر إلى الثقافة العربية كما هي كائنة؛ تجد جماعتين في طرفين متضادين (وجماعة ثالثة تتوسطهما نترك أمرها الآن) فإحدى تينك الجماعتين تدعو إلى إحياء التراث، والأخرى تجهل ذلك التراث بل تتنكر له، فأما الجماعة الأولى فموضع الخطأ في موقفها هو أنها قرأت ما قرأته من كتب التراث: في علوم اللغة والفقه والفلسفة والأدب والنقد وغيرها، فتوهمت أن تلك هي رحلة الحياة الفكرية قد انتهت بهم إلى غايتها التي لا غاية بعدها، ثم جاوزوا الحد فنادوا بوجوب العودة بحياتنا إلى صورة يكون فيها ذلك الماضي هو حاضرها؛ فهم بهذا الذي توهموه بمنزلة من وقف عند الوسيلة، وكأنها هي نفسها الغاية فلا هم توجهوا بها وجهة جديدة، ولا هم جاوزوها إلى مرحلة أخرى بعدها، فهم في ذلك كراكب قطار لبث في موضعه من القطار لا يبارحه، وكأن ذلك القطار لم يكن وسيلة توصيل إلى شيء آخر غير القطار، وأما الجماعة المتطرفة الثانية فقوامها أفراد من رجال ونساء تعلموا ما تعلموه في معاهدهم وجامعاتهم، فكان كل ما تعلموه منقولا عن علم الغرب وفنه وأدبه، ولولا أن لغة هؤلاء هي اللغة العربية لانقطعت كل صلة تصلهم بالثقافة العربية، وحتى هذه اللغة التي بقيت لهم يندر جدا أن يتقنوا منها ما يقترب بهم من لغة عربية صحيحة، وبهذا تكون هذه الجماعة بمنزلة من بلغ غاية بغير وسائلها، فجاءت تلك الغاية كالمسخ الذي لم تكتمل أعضاؤه، ولن يرجى من هؤلاء أن يثمروا ثمرة يحسبون بها على الثقافة العربية، وهاتان هما الطائفتان اللتان تقتتلان فيما يسمى بالمعارك بين قديم وجديد كلتاهما تمضي بها الحياة لا تترك خلفها ما يصح أن يكون إضافة تزدهر بها الثقافة العربية وتنمو.
والأمل في ازدهار ونماء معقود على جماعة ثالثة اهتدت بفضل الله إلى موقع وسط، لا بمعنى أن نصلح بين خصمين بحل وسط يتنازل فيه كل طرف منهما عن شيء من خصائصه التي يتمسك بها، بل بمعنى أن يتوجه بوحي من التراث وجهة جديدة تشيع فيها روح عصرنا بهمومه ومشكلاته وتقدمه ونجاحه، فكما عرفت الثقافة العربية في ماضيها رجالا من أمثال الجاحظ وأبي العلاء تقرأ لهم فإذا بك تقرأ ثمرة عربية تغذت شجرتها من كل ما عرفته الإنسانية حتى عهدهم من معارف وأذواق، فكذلك نجد اليوم في هذه الجماعة الثالثة من يقدم لنا مثل تلك الثمرة العربية الجديدة، فما الذي ينقصنا إذن؟ ينقصنا أن هذا الذي تحقق في أفراد الجماعة الثالثة يتسع به المدى ليصبح هو الرؤية الشعبية السائدة في الأمة العربية طولا وعرضا حتى إن اختلف الأفراد بعد ذلك تفاوتا في درجات الصعود.
هذه ثقافتنا من رجالها
عندما أعددت نفسي صباح اليوم، لأكتب هذه الكلمات عن تحديث الثقافة العربية؛ قفزت إلى ذهني من ظلمات الماضي البعيد صورة لم أكن أريدها، ولا هي مما يتصل بموضوع الثقافة العربية وتحديثها بسبب قريب أو بعيد، وتلك هي صورة قيصر، في مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير حين أخذ أحد أصدقائه المخلصين يصرفه عن الذهاب إلى مبنى الكابتول؛ خوفا عليه من نبوءة عراف تنذر بالخطر! فرده قيصر في عنف، قائلا له: عني، أو تزحزح الجبل! تركت قلمي حيث كان، وطالبت نفسي أن تبحث عن الخيط - حتى لو كان خيطا واهيا - الخيط الذي ربط في خواطري المنسابة، بين قيصر في عناده الراسخ رسوخ الجبل، وبين ما كنت هممت بكتابته. رحت أتحسس دخائل نفسي من جهة، وأتحسس ما اعتزمت أن أدير حوله هذا الحديث من جهة أخرى، حتى بدت أمامي رابطة يحتمل أن تكون هي الخيط الذي جذب قيصر في صلابته حتى مثل أمامي في سيل خواطري، وذلك أني كنت اعتزمت أن أبرز ما يغلب على المصري - وعلى العربي بصفة عامة - من حب السيطرة والتسلط، حتى لو كانت السيطرة سيطرة على أشباح، وكان التسلط تسلطا على ذوي قرباه، وهذا الميل القوي فينا نحو سيطرة وتسلط، هو نفسه الذي أمدنا بالقدرة على الرضوخ والإذعان؛ لأن الخاضع لمن هو فوقه بدرجة يعوض كرامته ما قد فقدته بخشوعه ذاك، يعوضها بأن يلزم من هو دونه بدرجة أن يذل له ويخشع، ولست أنسي خادمة نشأت معنا منذ طفولتها، وكانت على درجة من البساطة والاستقامة والإخلاص، بحيث كان محالا على خيالي أن تجد الوقت الذي تستأسد فيه أو تتنمر، وللحقيقة أقولها صادقا، إن أحدا من أسرتنا لم يكن يبدي في معاملتها تكبرا ولا تجبرا، ربما لأن طبيعة البنية لم تكن لتستثير في أحد الرغبة في تكبر وتجبر، حتى إذا ما جاء يوم اضطررنا فيه أن نستخدم معاونة أخرى تختص بالوقوف على حاجات أمي في مرضها (عليها رحمة الله) أرادت فتاتنا الأولى أن تكون لها على الثانية إدارة وإمارة على صورة لم يتوقعها أحد، إذن فالظاهرة مغروزة فينا جميعا، تختفي مجبرة، فإذا زالت العوائق خرجت من مكمنها، أو قل إنها مغروزة في طبيعة البشر جميعا، إلا أن أقواما عرفت كيف تهزمها بثقافة عامة يعيش الشعب كله في ظلها، وأقواما أخرى - ونحن منهم - عجزت عن تحقيق ذلك؛ لأنها في حقيقة أمرها لم ترد له أن يتحقق مكتفية بكلام عن «المساواة» تقوله وتعيده، لكنها لا تريد له أن يجاوز حدود الكلام.
كان في نيتي - إذن - أن أدير جانبا من هذا الحديث، حول رغبتنا الجامعة في التسلط بعضنا على بعض، من استطاع منا أن يضع نفسه في مكان يمكنه من ذلك التسلط، وإذا كان هذا هكذا، فلا تحديث للثقافة العربية إلا إذا اتجهت بجهودها، إبداعا وغير إبداع، نحو أن تبث في الناس روحا جديدة، من حيث القيم الإنسانية، وعلاقة الإنسان بالإنسان، ولا يقلل من ضرورة هذه الجهود، أن تكون تلك القيم وهذه العلاقة بين الناس، واردة في كتاب الله الكريم، وفي الأدب العربي كله شعرا ونثرا؛ لأن ذلك كله لم يزحزح العربي عن طبعه الراسخ رسوخ الجبل.
وهنا نجد التعليل الذي ربما يفسر لماذا قفزت إلى ذاكرتي عبارة قيصر «عني أو تزحزح الجبل.» فكأنما تخيلت رغبتنا الكامنة في تسلط بعضنا على بعض جبلا من ثوابت الجبال وأردت أن أقول لنفسي: من أنت، وماذا يكون جهدك المبذول إزاء ذلك الجبل الرابض ربوض الوحش فوق صدورنا؟
فلما حملت القلم لأكتب، بعد أن استراحت نفسي للتعليل الذي فسرت به ورود قيصر إلى تيار خواطري، دون أن أستدعيه وجدتني أمام خاطر آخر لم أكن قد دبرت أمري لظهوره ثم لم أستطع له دفعا، والحق أني رحبت به؛ لأنه فتح لي بابا لم أكن قد فكرت في أن أدخل منه إلى موضوعي الذي أتحدث فيه، وذلك أني كنت يوما ما تلقيت فيما تلقيته من بريد مذكرات كتبها صاحبها عن بعض خبراته في شبابه، بل بعد أن اجتاز مرحلة الشباب، ولعله أرسلها إلي ظانا أني قد أكون وسيطا لنشرها؛ فهو بالطبع لا يعلم عني أنني أسير وحدي في واد غير ذي شباب ينفتح عليها أو تنفتح عليه، إلا أنني حفظت مذكراته تلك مع ما أحفظه من أوراق، لا حاجة لي بها، ولكن يصعب علي تمزيقها، ربما لصلة حميمة بيني وبين مضمونها، وربما لجودة أسلوبها وعمق فكرتها. وأذكر أني إزاء تلك المذكرات، قد حرصت على حفظها لسبب آخر أضيفه إلى تلك الأسباب، وهو أن كاتبها قد أعلن في عنوانها أنه كتبها في مناسبة يوم ميلاده؛ إذ أثارت فيه تلك الذكرى هذه الذكريات.
ناپیژندل شوی مخ