په عربي کلتور کې تازه
في تحديث الثقافة العربية
ژانرونه
جئت بها من حيث اختزنتها وأعدت قراءتها فإذا هي في الصميم مما أردت أن أعرضه على الناس، وهو أن من أراد أن يراجع نتاجنا الثقافي الذي نعيش حياتنا في ظلاله؛ فلا بد له أن ينفذ ببصره إلى طبائع الرجال الذين صنعوه وأبدعوه، ليرى إن كان هؤلاء الرجال قد وضعوا أنفسهم وعقولهم حقا على الورق، صادقين منزهين عن الهوى، أو أنهم أظهروا للناس شيئا وأخفوا عنهم شيئا آخر هو الذي يحيون على أساسه، فإذا كانت الثانية، عرفنا لماذا هم يكتبون ويكتبون، ومع ذلك لا يكاد يتغير من أسس الحياة عند جمهور الناس شيء بدافع مما كتبوه؛ لأن هذا الذي كتبوه - إذا صدق الغرض الثاني - إنما كتبوه في غير صدق مع أنفسهم، وإنما هي بضاعة تقدم في أسواق الفكر والأدب؛ لأنها نافذة غير كاسدة، ومن ثم فهي بضاعة تعود عليهم بالمال، والشهرة، والمناصب، ورضا جمهور الناس. لكنها مع ذلك كله تمضي بغير أثر في استحداث التغيير المطلوب، وما الذي تغيره إذا كانت قد جاءت لتكون مرآة تعكس ما يستريح له الناس؟!
قال فيما قال صاحب المذكرات: ... لم أكن حدثا، ولا حديث عهد بالقلم، ولم أكن قصير الدراسة ولا قليل التحصيل، حين جلست لأول مرة مع جماعة ممن يضعون أنفسهم، ويضعهم الناس، في مكان الريادة من حياتنا الثقافية فرأيت من سلوكهم عجبا! لقد كنت أتخيل قبل أن أراهم حكما بالهالات الساطعة التي تحيطهم بها كل وسائل الإعلام، كنت أتخيل أن كل واحد منهم هو المشار إليه بقول الشاعر: «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته» فلما اقتربت منهم؛ وجدت ما يدعون إليه من حقوق الإنسان في واد وما يحيونه مع الناس بالفعل في واد آخر، ينادون في الناس بأعلى أصواتهم: المساواة، المساواة. وأما إذا كان الأمر أمر موقف عملي هم أطراف فيه؛ فوجدتهم وكأن لهم على الناس سيادة بالحق الإلهي الذي كان لملوك العصور الماضين، خصوصا إذا كان الواحد منهم ذا منصب له نفوذ وسلطان؛ فها هنا ينتقل ذلك النفوذ المتسلط - بقدرة قادر - من علاقته بالناس وهو يمارس منصبه، إلى علاقاته بهم في دنيا الحياة الجارية، فحين جلست مع جماعة منهم لأول مرة وكان بينهم من كان مثلي من غير ذوي المناصب، ولكنهم أصحاب علم وفكر وأدب، رأيت كيف يكون الصلف الغاشم والكبرياء الحمقاء؛ فأصحاب الجاه منهم يتبادلون أطراف الحديث أخذا وعطاء، حتى إذا ما تقدم بالرأي أحد من صنف غير صنوفهم؛ نظروا إليه نظرات متعالية في صمت، حتى إذا ما فرغ الدخيل من عرض رأيه؛ عادوا هم إلى ما كانوا فيه، وكأن أحدا لم ينطق بشيء.
ولست أنسى مواقف شهدتها من «المثقفين» أصحاب النفوذ المتسلط (فهؤلاء صنف من البشر قائم بذاته)، شهدت تلك المواقف فأذهلتني - هكذا كتب صاحب المذكرات - فقد أرسلت إلي يوما ما هيئة رسمية تضطلع بترجمة ما ترى وجوب ترجمته من مراجع علمية أو من عيون الأدب في شعوب أخرى، أرسلت إلي كتابا علميا كان قد قام بترجمته ومراجعته أستاذان فاضلان، أحدهما من أصحاب المناصب الذين أشرت إليهم. وكانت طريقة تلك الهيئة في ترجمة ما تعمل على ترجمته، أن يطلع «فاحص» على ما قد تمت ترجمته ومراجعته، ولم يكن «للفاحص» أي حق من الحقوق فلا اسمه يذكر على الكتاب كما يذكر اسم المترجم واسم المراجع، ولا هو يتقاضى مكافأة مالية على فحصه تزيد على مكافأة الحضور جلسة واحدة من جلسات إحدى اللجان؛ فالمسألة كلها - إذن - هي خدمة في سبيل الثقافة، لكي نسير بها في طريق مستقيم، إلا أنني أردت - كعادتي - أن أؤدي ذلك الواجب الثقافي على أكمل وجه مستطاع، فأثبت ما قد لحظته من تجاوزات في ترجمة المصطلحات العلمية، بل أكملت ترجمة فقرات استعصت على المترجم وعلى المراجع فتركوا مواضعها بياضا! فما إن علم صاحب المنصب بما قد ورد في تقرير «الفاحص» حتى استحل لنفسه توجيه لذعات جارحة إلى الفاحص بلغت حد الإهانة التي لا تجوز في التعامل بين إنسان وإنسان، ولم يكن هناك من حجة يستند إليها إلا أنه صاحب نفوذ وسلطان، فكيف يجترئ مجترئ على تصويبه؟! وكأن المادة الأولى في دستورنا الثاني هي: أنا مهم بمنصبي؛ إذن أنا معصوم من الخطأ! والعبرة في هذه الرواية هي أن الدعوة النظرية إلى احترام الحق شيء وتطبيق الدعوة على أصحاب المناصب الحاكمة شيء آخر.
واستطرد صاحب المذكرات يقول: إنني كلما قرأت قول الله تعالى في كتابه الكريم:
لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا (سورة النبأ) أو قوله تعالى:
لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما (سورة الواقعة)؛ إلا أحسست وكأن هامسا من نفسي يهمس لي: ألا يكون في هذا الذكر الحكيم ما يلفت أنظارنا إلى سوء الحياة الدنيا حين تسوء فتسري فيها أضداد تلك الحالات من النعيم في جنة الخلد؟ فإذا كان هنا لغو وتأثيم وكذاب (الكاف بالكسرة والذال بالفتحة المشددة) فهناك لا يسمع أصحاب الجنة شيئا من ذلك، فما اللغو الذي هو هنا وليس هناك؟ إنه هو الكلام إذا فرغ من المعنى، أو الكلام إذا قيل في غير موضعه المناسب، وماذا يكون «معنى» الكلام إذا لم يكن احتواؤه على ما يرشد السامع إلى خير يفعله مصلحا به حياته وحياة الناس معه؟! وعلى هذا الضوء فانظر إلى القناطير المقنطرة مما تجري به أقلامنا ونزعم له أنه ثقافة وتثقيف، وقل لي: كم فيه مما يعمل على تغيير حياتنا إلى ما هو أصلح؟ وأخشى أن تراجع كثرة غالبة مما يكتبه الكاتبون، وينطق به المذيعون، أدخل في باب «اللغو» منها في باب الكلام الذي يحمل في طيه معنى! وما «التأثيم»؟ أليس هو التقاذف بالتعييب والتجريح؟! ومرة أخرى فانظر إلى حياتنا الثقافية وكم فيها من تعييب وتجريح! بل من طعن وتقتيل، وأخيرا يجيء «الكذاب» أو المكاذبة بمعنى أن يكذب كل فريق فريقا آخر؛ فتكون الحصيلة كذبا في كذب (انتهت المذكرات).
وقفت طويلا عند هذه الكلمة الأخيرة من المنقول عن تلك المذكرات، وهي «الكذب» في ثقافتنا وعند فئة كبيرة من مثقفينا، وإنها لتهمة تستحق الروية والنذير، فماذا تعني؟
الثقافة صفحتان: صفحة معيشة بالفعل، في عادات وتقاليد ونظم وقوانين، وغير ذلك مما نراه مجسدا في حياة الناس يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة؛ فللأسرة روابط تنظم التعامل بين أفرادها، حتى إذا ما انحرف عنها والد أو ولد؛ عرفنا أنه قد أخطأ سواء السبيل، وللمولود صور من الاحتفال بقدومه، وللموالد صورها وصخبها، ولأولياء الله الصالحين كراماتهم وشفاعاتهم، وللمواسم المختلفة طقوسها وللموت رهبته، ولإحياء ذكرى من ذهب عنا سبل نعرفها جميعا؛ فنعرف كيف نعزي المحزون، وكيف نتقبل العزاء، وهكذا، وهكذا، إلى ما ليس له آخر من تلك الأوضاع، التي لقيناها جميعا منذ الطفولة والتي نعرفها جميعا ويعامل بعضنا بعضا على أساسها.
تلك هي الثقافة المعيشة بالفعل، وإلى جانبها «ثقافة» تجري ألفاظا بين الشفاه وعلى الأقلام وأنغاما على أوتار العازفين وغناء وألوانا على لوحات المصورين ومسرحا، ووسائل إذاعة مرئية ومسموعة، وهكذا إلى آخر ما نعرفه من منتجات الفن، والأدب، وقبلهما يجيء علمنا بالعقيدة الدينية عقيدة وشريعة، وهو علم يتجدد ويتسع بما يكتبه أو يذيعه العلماء في هذا المجال، وإذا نحن عددنا جوانب «الثقافة» في صورتها، وهي في الكلمات والأصوات والألوان؛ فالأصوب ألا نذكر «العلوم» لأنها صنف قائم بذاته، فبينما يجوز للشعوب، بل للأفراد من أبناء الشعب الواحد، أن يختلفوا قليلا أو كثيرا فيما هو «ثقافة»؛ فلا يجوز لأحد أن يختلف فيما هو «علم» ثبتت صحته بمناهج البحث العلمي، ومع ذلك فهنالك جانب مستصفى من مجال العلوم ليضاف إلى ما هو «ثقافة»، وأعني به أمرين: أولهما أن يتشرب «المثقف» من العلم «نظرته» العامة عند رؤية الأشياء والمواقف، والمقصود بتلك «النظرة» إحكام الرابطة بين الأسباب ومسبباتها؛ إذ «الخرافة» ما هي إلا خلل يصيب الإنسان في إدراكه للروابط السببية على حقيقتها، وأما الأمر الثاني فهو أن يكون «المثقف» على وعي باتجاهات العلم في عصره، فلئن ترك تفصيلات ذلك العلم لرجاله المتخصصين؛ فإنه مطالب بأن يعرف صورة تقريبية تبين له في أي اتجاه يسير العلم في عصره، تانكم إذن صفحتان للثقافة صفحة معيشة، وأخرى منطوقة مرقومة مرسومة، والفرق بينهما هو - أو ينبغي له أن يكون - فرق في طريقة الإخراج، وليس في طبيعة المضمون؛ ففي الحياة السوية تجيء الثقافة المعيشة منطوية على مجموعة من قيم وأفكار، هي نفسها القيم والأفكار التي يعرضها الدين والفن والأدب والاتجاه العام لعلوم العصر، وفي الوقت نفسه تجيء الثقافة المنطوقة والمرقومة والمرسومة مشيرة إلى صور من الحياة المعيشة كما هي قائمة بالفعل.
ففي فترات الحياة المستقرة، يغلب أن يكون بين الصفحتين تناسق يجعل كلا منهما تعبيرا عن الأخرى وموازية لها؛ فالثقافة المعيشة تجسد القيم والتصورات التي ينشغل بها رجال الفكر والأدب والفن، وكذلك هذا الذي يشغل هؤلاء إنما يكون ضربا من المرآة التي تنعكس عليها صورة الحياة كما هي قائمة، أو قل إنها تكون بمنزلة الصدى الذي يردد تموجات الحياة كما هي واقعة في دنيا الناس، على أن ذلك الاستقرار الذي يؤدي إلى تناغم بين الصفحتين ليس هو بالضرورة استقرار على ارتفاع؛ إذ قد يكون استقرارا على انخفاض وجمود، وقارن - إذا شئت - صورة الحياة العربية في القرن العاشر الميلادي بصورتها في القرن الثامن عشر، فبينما نرى قوة الدفع وتوثب الطموح في الحالة الأولى، حياة واقعية وحياة فكرية وأدبية؛ نجد صورتها في الحالة الثانية راكدة وكأنها يوم واحد يتكرر! فالفرق بعيد بين الحالتين ولكنهما معا حالتان من حالات الاستقرار في تصورات الناس لحياتهم وما ينبغي لها أن تكون.
ناپیژندل شوی مخ