په عربي کلتور کې تازه
في تحديث الثقافة العربية
ژانرونه
ولكن قد تعترض العقل حالات ليست فيها معرفة سابقة للإنسان؛ فها هنا يفرض هو من عنده فرضا أو فروضا تصلح أن تكون مرتكزا للوثوب إلى النتائج التي يبحث عنها، ومن أهم الأمثلة التي تساق في مثل هذه الحالة، ما فعله الرياضي العملاق «إقليدس» (وهو من أهل الإسكندرية في عهدها القديم) حين أقام بناءه الرياضي في علم الهندسة، وليس فينا واحد لم يدرس في المدرسة الثانوية قليلا أو كثيرا من هندسته تلك في فروضها وفي نظرياتها، فلقد بدأ إقليدس إقامة بنائه، بأن فرض فروضا من ضروب ثلاثة، رأى أنها تكفي لتعينه على أن يستدل منها نتيجة - هي النظرية الأولى في البناء الهندسي عنده - فنتيجة ثانية، فثالثة، حتى اكتمل له ما أراد، على أنه كلما استدل على نتيجة من تلك النتائج، أضافها سندا يستند إليه في سيره الاستدلالي بعد ذلك مع الإسنادات الأولى التي كان قد افترضها بادئ ذي بدء.
أعيد القول مرة أخرى حتى لا يفلت الخيط من أيدينا، فأقول: إن «العقل» البشري محال عليه أن يتحرك في مهمته الاستدلالية - وتلك هي مهمته الأولى - إلا إذا كان أمامه منذ البداية سند يرتكز عليه، وذلك السند يؤخذ مما قد عرفه الناس من قبل، فإن لم يجد، فرض من عنده فروضا يتحرك منها. أرأيت سباح الماء الماهر؟ إذ يقف على لوح خشبي نصب على ارتفاع معين من حوض الماء، فيقفز على طرف ذلك اللوح قفزات خفيفة، ثم تشتد به قفزة أخيرة يهتز لها اللوح الخشبي، فيرتفع بها جسده؛ ليكون ذلك أول طريقه إلى الهبوط بحسمه إلى الماء، غاطسا فيه أول الأمر ثم سابحا على سطحه بعد ذلك. إذا كنت قد رأيت ذلك في سباح الماء؛ فقد رأيت معه «عقل» الإنسان وهو يتهيأ للتفكير في موضوع ما، فبادئ ذي بدء تكون سنادة مجهزة للقفز عليها قفزا من شأنه أن يعين على الغطس في صميم الموضوع المطروح، حتى إذا ما تمت تلك الحركة الأولى؛ انسابت مراحل الاستدلال بعد ذلك مرحلة مشتقة مما سبقها، إلى مرحلة تجيء بعدها متولدة منها، وهكذا. لكن الإنسان في معظم تاريخه العقلي فيما مضى لم يلبث أن أخذه النسيان بأنه هو هو نفسه الذي اختار لعقله الركائز التي يقفز منها إلى النتائج، وسرعان ما ظن، ثم تحول ظنه إلى اعتقاد، بأن تلك الركائز العقلية، إنما هي حق في ذاتها، بل هي بين سائر الحقائق أيقنها يقينا؛ ومن ثم قيد نفسه بها، لا يجيز لنفسه أن يخرج عنها أو عليها، ونعود إلى هندسة «إقليدس» فهي خير مثل يوضح لنا ذلك.
اختار إقليدس فروضه التي أراد لها أن تكون وسيلة الوثوب إلى النتائج، فاختار عددا من تعريفات حدد بها معاني المصطلحات المهمة التي ينوي استخدامها، كالنقطة والخط، والسطح ... إلخ، ثم اختار عددا آخر من الحقائق الرياضية، المأخوذة أساسا من علم الحساب؛ ليجعلها بمنزلة «البدهيات» في علم الهندسة، وأخيرا اختار مجموعة ثالثة من الحقائق المتصلة بعلم الهندسة ذاته؛ ليعفيها من ضرورة أن يقام برهان على صحتها، ولتكون هي في الوقت نفسه مقياسا تقاس به صحة ما عسى أن يولده من نتائج، وتسمى هذه المجموعة الثالثة «بالمصادرات»؛ إذن فهذه مجموعات ثلاث من فروض وضعها إقليدس لتكون وسيلته إلى القفز، كما رأينا اللوح الخشبي وسيلة لقفز السباح إلى الماء. ولأن إقليدس كان نابغا عملاقا في الفكر الرياضي، عرف كيف يقع على فروض تتيح له الانتقال إلى عدد كبير من نظريات الهندسة، ثم عرف كيف يختار فروضا، إذا انسلت نتائجها جاءت تلك النتائج مطابقة للواقع الفعلي في العالم الحقيقي، فمثلا، إذا كانت إحدى النتائج التي تولدت له من تلك الفروض، تقول: إن المربع المنشأ على وتر مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين (وهي نظرية رقم 9 والمعروفة باسم نظرية فيثاغورث) فليست هذه النتيجة مجرد نتيجة نظرية تولدت عن فروض نظرية، وإنما هي ما نجده مطابقا للواقع المكاني، إذا نحن اقتطعنا مساحة من الأرض - مثلا - وراعينا فيها أن تكون على شكل مثلث قائم الزاوية؛ فعندئذ نجد أن مربع طول الوتر مساويا لمجموع مربعي الضلعين الآخرين، بل إن هذه الحقيقة الرياضية عن المكان، هي التي مارسها المصريون القدماء، كلما أرادوا أن يعيدوا تقسيم الأرض الزراعية بعد أن ينحسر عنها فيضان النيل؛ فكانوا يأتون بحبل يعقدونه اثنتي عشرة عقدة، إلى مسافات متساوية، ثم يمدونه على جانب الأرض المراد تحديدها، بحيث تكون ثلاث عقد في جانب، بعدها يميلون بالحبل مسافة أربع عقد، ثم يميلون بالمسافة الباقية وقدرها خمس عقد، حتى يلتقي طرفا الحبل، فيكون الحبل قد كون مثلثا قائم الزاوية، يضمن لصاحب الأرض أن قائمة الزاوية عند الركن تعيد تخطيط الأرض إلى نظامه، فعل ذلك المصري القديم، لكنه لم يعبأ بالأساس الرياضي الكامن فيه، وهو ما أقام عليه البرهان الرياضي النظري فيثاغورث أولا، ثم ورد في هندسة إقليدس حلقة من حلقات بنائه الهندسي.
من أجل هذا التطابق بين فروض إقليدس من جهة، وحقيقة المكان الفعلي من جهة أخرى؛ ظن أن فروضه لم تكن مجرد فروض قابلة للتغيير ، بل هي «حقائق» رياضية، وحقائق طبيعية في الوقت نفسه، إذا ما أردنا التطبيق. وإذا كان ذلك كذلك، إذن فالعقل ملزم بقبولها على أنها «حقائق»، ولبث الأمر قائما على هذا النحو طوال القرون الماضية، حتى كان القرن التاسع عشر عند منتصفه، فتساءل علماء الرياضية: أصحيح هي حقائق أم أنها فروض يمكن أن نستبدل بها سواها؟ فإذا كانت الأولى؛ كانت هندسة إقليدس هي وحدها التي تهندس للمكان، وأما إذا كانت الثانية؛ كان في مستطاع علماء الرياضية أن يقيموا أي عدد شاءوا من الهندسات، بأن يغيروا من تلك الفروض ويفرضوا سواها، وكلما وضعوا مجموعة جديدة من فروض خرجت لهم هندسة جديدة، وفي هذه الحالة تكون صحة أي بناء رياضي كامنة فيه؛ أي إن العمليات الاستدلالية فيه عمليات لا خطأ فيها، وبهذا يكون البناء الرياضي صحيحا، وليست صحته مرهونة بانطباقه على أي واقع كان.
وهنا أشرقت على العقل البشري حقيقة كبرى كانت لها أصداؤها وأبعادها في كل مجال آخر من مجالات الفكر، ألا وهي أن «العقل» حر في الأسناد التي يختارها ليستند إليها في استخراج نتائجه، والفيصل الوحيد الذي يميز بناء فكريا عن بناء آخر؛ هو ما يعود به على حياة الإنسان من قدرة في السيطرة على ظواهر الكون، فيلجمها ويسخرها فيما يدفع المسيرة الحضارية إلى أمام.
لقد لبث «العقل» البشري خلال العصور الماضية، مستسلما لحالة من الطمأنينة والرضا، وكأن لم يكن فوق رأسه سقف من قضبان الحديد، لا يؤذن له بأن ينفذ إلى ما وراءها، وكأنما قد حكم عليه أن يظل حبيس تلك القضبان، فله أن ينشط ما شاءت له قدراته، على شرط ألا يجاوز بنشاطه سقف الحديد، وما ذلك السقف إلا موانع وضعها هو فوق رأسه طواعية واختيارا، ثم نسي أنه هو صانعها وواضعها، فتوهم أنها «حقائق» لا حيلة له فيها ولا مندوحة له عن قبولها، ويقنع بأن يستخرج منها ما يمكن استخراجه من أفكار وأحكام، فمرة تكون تلك القضبان أعرافا وتقاليد ورثها عن أسلافه، ومرة ثانية تكون مجموعة من «مبادئ» سارت عليها حياة السابقين؛ فحسب أنها ثابتة على الدهر مهما تغيرت بالناس ظروف الحياة، ومرة ثالثة تكون مجموعة من النظم الاجتماعية اكتسبت على مر الزمن جلالا يوشك أن يبلغ عند أصحابها مبلغ التقديس.
وها نحن أولاء قد عرضنا عليك فيما أسلفناه كيف وقع علم هو أكثر علوم الإنسان دقة، وأعني علم الرياضيات بمختلف صورها، في أحبولة المحبس تحت سقف الحديد، إذ جرى العرف فيه على أن ثمة حقائق رياضية لا مفر من التسليم بها، لأنها بدهيات تفرض نفسها على العقل فرضا، فلم يجرؤ أحد، بل لم يفكر أحد في إمكان رفضها وإحلال غيرها محلها؛ لأنها في حقيقتها لم تزد على كونها «فروضا» فرضت لتصبح عملية التفكير ممكنة، إلا أنها «فروض» وليست «حقائق» فيمكن لمن فرضها أن يفرض سواها، فإذا قلنا إن حقيقة كبرى، هي أسطع ضوءا من شمس الظهيرة في سماء صافية؛ قد أشرقت على الإنسان في أواسط القرن الماضي، وكان ذلك على أيدي أفراد أفذاذ من علماء الرياضة، وخلاصتها أن «مسلمات» البنى الرياضية ليست أكثر من فروض يمكن أن تستبدل بها فروض سواها، فيخرج الإنسان نظريات في الرياضة غير التي كانت؛ فنحن إذ نقول - مثلا - إن مجموع زوايا المثلث يساوي زاويتين قائمتين؛ فإنما يصح هذا القول على «فرض» بأن السطح الذي رسم عليه المثلث سطح مستو، وأما إذا كان السطح منحنيا، محدبا أو مقعرا، اختلفت مقادير تلك الزوايا، فإذا كان هذا هكذا في العلوم الرياضية ذاتها؛ فما بالك إذا كان الأمر أمر أفكار تولدت للإنسان من عرف وتقاليد أو ما إليها من معايير أورثها السلف للخلف؟! إنه لا بأس في عرف وتقليد يربطان صور الحياة الحاضرة بالحياة الماضية، شريطة ألا يكون ذلك على حساب التقدم العلمي والحضاري؛ إذ ما أكثر ما تكون تلك الموروثات مما يتناقض مع حقائق العلم، أو مع أوضاع حضارية جديدة. ويكفي أن نذكر - مثلا - أن مخالطة ذوي القربى بمريضهم كانت عرفا جاريا بيننا إلى وقت قريب، وربما كانت لا تزال قائمة في بعض الجماعات حتى اليوم .
ولكي نزيد الفكرة وضوحا؛ لا بد أن نذكر بأن موقف العقل العلمي حيال الموضوع المطروح أمامه للبحث، يختلف باختلاف ذلك الموضوع، فهناك طريقان رئيسيان: أولهما أن يكون موضوع البحث متصلا بما هو موجود في عالم الواقع المحسوس، كأن يكون مشكلة خاصة بالزراعة أو بالصناعة، أو بظاهرة الخماسين، أو بظاهرة فيزيائية أو كيميائية، وما يجري هذا المجرى؛ ففي هذه الحالة يندر أن يقع الباحث العلمي في المحظورات التي أشرنا إليها، لأن مرجعه دائما هو الواقع نفسه، فإذا انتهى به البحث إلى نتيجة لا يراها مطابقة لما هو واقع في عالم الحس؛ لم يكن له بد من مراجعتها وتصحيحها. وأما الطريق الثاني في دنيا البحوث العلمية، فهو ذلك الذي لا تكون نقطة البدء فيه مأخوذة من واقع حسي، بل تؤخذ من «تعريفات» يفرضها الباحث نفسه لطائفة من المعاني التي ينوي تناولها في بحثه، ثم يقيم على تلك «التعريفات» قوائم بحثه العلمي، فافرض - مثلا - أن علماء النفس قد أقاموا أبحاثهم عن الشباب المنحرف، على أساس تعريف «للانحراف» بأنه الخروج على ما قد ساد في أغلبية المواطنين، وأن علماء التربية قد أقاموا خطة التعليم كلها على أساس أن تخرج «المواطن الصالح» مع تعريفهم المبدئي «للصلاحية» على أنها الانتماء للنظم القائمة على أرض الوطن، وأن خبراء الحياة السياسية قد أقاموا هيكل الدولة على أساس مبدأ «الحرية» مع تعريفهم «للحرية» تعريفا يجعلها صفة لمجموع الشعب، لا للفرد الواحد من أبناء ذلك الشعب، وهكذا، إلى أن نجد أنفسنا تحت سقيفة صنعت كلها من معان وقيم ومبادئ، صيغت كلها وفق «تعريفات» رآها من رآها من رجال الفكر والعلم والسياسة، فماذا يكون موقف الناس من تلك المظلة الثقافية التي كتب عليهم أن يعيشوا حياتهم في ظلها؟ إنهم لو حرصوا على أن يظلوا ذاكرين أن تلك المظلة إنما هي من صنعهم، بما قد ارتأوه من «تعريفات» للمعاني والقيم والمبادئ؛ لما دخل ديارهم شر إذ هم في هذه الحالة على استعداد بأن يغيروا تلك السقيفة الثقافية بسواها، إذا ما تغيرت ظروف الحياة بحيث لم تعد السقيفة الأولى صالحة، لكن الذي حدث طوال العصور الماضية، هو أن كان الناس دائما على وهم بأنهم إنما يستظلون بمظلة من «حقائق» لا سبيل لرفضها أو الشك في صحتها؛ فهي هناك فوق رءوسهم، وإذا هم زعموا لأنفسهم حرية فكر أو حرية اعتقاد؛ فإنما يكون ذلك فيما هو تحت السقف، وأما السقف نفسه فباق فوق رءوسهم، أحبوا ذلك أو كرهوا. وكان النموذج العقلي لهذا التركيب متمثلا في بنية العلم، والعلم الرياضي بصفة خاصة، ولعلها مناسبة هنا أن نذكر القارئ بأن الرياضة ومنهجها لبثت أمام العلماء بمختلف تخصصاتهم العلمية مثلا أعلى يقاس عليه أي بحث علمي مهما كان موضوعه؛ لأن الرياضة وحدها هي التي بلغت من الدقة ما يستحيل على الشك في صوابه، فكان على هذه الوجهة من النظر - هي الأخرى - أن تنظر إلى انقلابات القرن الماضي في دنيا العلوم؛ لتتبادلها أيدي التصحيح، فللعلوم الطبيعية منهاج، وللعلوم الرياضية منهاج آخر، ولا يجوز الخلط بينهما، أو أن تؤخذ إحدى المجموعتين نموذجا للأخرى.
إذن فقد جاء القرن الماضي، في نصفه الثاني؛ ليقوم عوجا في البنية الثقافية كلها، وأهم ما يهمنا من ذلك التقويم في حديثنا هذا هو أن فتحت الأعين واسعة لترى الفرق بين ما هو «فروض» فرضها الإنسان استجابة لظروف أحاطت به، في حياته العلمية أو في حياته العملية، وبين ما هو «حقائق» واقعة لا سبيل إلى دحضها أو التنكر لوجودها. فأما ما هو «فروض»؛ فنحن لا نستخدم هذه الكلمة في هذا السياق بالمعنى الديني عندما نتحدث عن الفروض الدينية، بل نستخدم كلمة «الفروض» بمعناها في مناهج البحث العلمي، حين يبدأ الباحث بافتراض فكرة ليختبرها، فإذا وجدها تصدق على التطبيقات العملية في دنيا الوقائع؛ احتفظ بها، وإلا فإنه يغيرها بفكرة أخرى تكون أصلح منها وأصدق.
ونعود إلى سياق حديثنا فنقول: إن ما هو في بنائنا الثقافي من قبيل الفروض فلا ينبغي أن يكون ملزما لنا بأي وجه من الوجوه، إلا بمقدار ما نراه صالحا للتطبيق في حياتنا اليومية الجارية ، فإذا تغيرت ظروفنا بحيث فقدت تلك الفروض شيئا من صلاحيتها؛ فلا جناح علينا في تغييرها، وأما ما هو «حقائق» فثابت حتما بما فيه من قوة الحق وصلابته.
ناپیژندل شوی مخ