په عربي کلتور کې تازه
في تحديث الثقافة العربية
ژانرونه
أما وقد رسمنا صورة مركزة لما يسمى بالفكر العربي، ورسمنا معها صورة أخرى موجزة لما نسميه بالعصر؛ فقد بقي علينا أن ننقل أبصارنا بين الصورتين، ولن نلبث إلا لحظة قصيرة حتى تتبدى لنا عوامل التحدي ومصادره؛ فالعصر يتحدى الفكر العربي، يتحداه أن يظل مستمسكا بمنهج الدوران في قديمه، ثم يطمع في قوة حربية، لا أقول: يقهر بها آخرين، بل أقول قوة يصون بها نفسه من قهر الآخرين له ولأرضه، يتحداه أن يظل ثابتا على احتكامه إلى وجدان قلبه في مسائل لا يحلها إلا منطق عقله، ثم يطمع في منافسة الممسكين بزمام العلم الجديد على السيادة فوق هذا الكوكب الأرضي بأي صورة من صورها، يتحداه إذا هو انطوى على نفسه من الناحية الفكرية، وترك رحاب الكون الفسيحة لغيره يجول فيها ويصول بعلومه وصواريخه وغزواته، ثم يتوقع في الوقت نفسه أن يكون عابدا لله حق عبادته، مدركا لقيمة الإنسان وكرامته إدراكا صحيحا، وإذا هو فعل؛ فما أسرع ما يجد نفسه في زمرة الأذيال والأتباع.
لكن عصرنا إذا تحدانا، مستظلا بمظلة العلوم وتقنياتها، وما يتبع ذلك من قوة الصناعة، وقوة السلاح، وثراء المال، وارتفاع مستوى العيش ... إلخ؛ ففي مستطاعنا - بدورنا - أن نتحداه، مستظلين بمظلة الأخلاق وقيمها، لا لأن سادة العصر بغير أخلاق، بل لأنهم اضطروا تحت مظلة العلم والصناعة إلى أن يجعلوا الأولوية في تلك الأخلاق لما هو نافع آخر الأمر بنتائجه هنا في هذه الدنيا، في حين أننا ما زلنا - من الوجهة النظرية على الأقل - نجعل الأولوية في قيم الأخلاق لما هو مؤد بنا آخر الأمر إلى حسن الثواب في الآخرة؛ ففي مستطاعنا أن نتحدى سادة العصر بعلمه وصناعته أن يبينوا لنا كم ينعم الإنسان في ظل العصر بنعمة الطمأنينة! وكم يشقى بالقلق! إنه إذا كان العاملون في ظروف هذا العصر، كثيرا ما يأخذهم الشك في قيمة ما يعملونه، فيسألون ما جدوى أن نمسي لنصبح فيما كنا عليه بالأمس؟! يأخذنا تعب وعناء في ساعات العمل، الذي لا يعرف كل عامل على حدة لما يعمله رأسا ولا ذنبا، فننام الليل لنستريح، ثم يعود الصباح لنعود إلى تعب وعناء، وهكذا تدور بنا العجلة أو العجلات لا ندري من أين تدور، ولا إلى أين ندور، أقول إن العاملين في ظروف العصر إذا ما رأوا أنفسهم يسألون على هذا النحو؛ فالمؤمنون منا حق الإيمان لا يسألون؛ لأن الغاية التي من أجلها يعملون تستحق تعبها وعناءها، ألا وهي رضا الله سبحانه وتعالى، وما يصحب ذلك الرضا من جنة ونعيم.
لكن سؤالا هنا يفرض نفسه علينا، وهو: أهو محتوم للفجوة التي يتباعد بها الفكر العربي وفكر العصر أن تظل قائمة ولا سبيل إلى التئامها؟ الجواب عندي هو بالنفي القاطع؛ فليس هناك ما يمنع صاحب العلم وتقنياته من أن يضيف إلى حياته إيمانا صحيحا باليوم الآخر، ولا ما يمنع صاحب الفكر العربي بعناصره القائمة من أن يضيف إلى حياته كل علوم العصر وما يتبعها من ضوابط المنهج، ومن نتائج تتبدى في أجهزة المعامل وآلات المصانع وتقنيات الحياة العملية، محتفظا في الوقت نفسه بما هو عليه من إيمان، وإنه ليبدو أن سد الفجوة بين الطرفين أقرب إلى أن تقع مهمته علينا نحن، وقلوبنا يعمرها إيمان بدين يحضنا حضا على العلم بأسرار الوجود.
حرية لم يعرفها الأقدمون
كان مما احتفظت به الذاكرة عن «كليوبطره» ما قاله عنها شيكسبير: قدرتها على أن تبدع من أنوثتها الخصيبة امرأة جديدة في كل يوم. ومن ذلك الثراء الغزير، استطاعت أن تفتن قادة الرومان، وعلى هذا المنوال نفسه، أقول عن «الحرية» أضعاف أضعاف ما قاله شيكسبير عن «كليوبطره»؛ فلهذه الحسناء، التي يطلقون عليها اسم «الحرية» ألف وجه ووجه، لكل وجه منها فتنة خلابة، تهون في سبيلها التضحية بالنفس والنفيس معا، وإنها لمن الخصوبة والغنى ما عظمت به عن أن تكشف أسرارها دفعة واحدة في عصر واحد، فإن لها في كل عصر جديدا تبديه. فلقد عرف أقدم الأقدمين عن الحرية شيئا وغابت عنه أشياء، ولبث الإنسان في كل عصر من عصوره الكبرى - إذا أسعده الحظ - يكشف من معاجمها معنى جديدا يقاتل في سبيله حتى يظفر به، ليفرغ أحفاده لمعنى آخر يجاهدون بدورهم نحو بلوغه؛ فهنالك منذ قديم الزمان كان هناك رق يملك فيه الإنسان إنسانا كما يملك الأرض والأغنام، وكلنا يعلم كم ألح الإسلام على فك الرقاب؛ فأبسط حريات الإنسان أن يكون حرا في جسده، يملكه هو ولا يملكه عنه سواه، وهذه الملكية من الفرد لبدنه، إذا ما تحققت له استلزمت ضربا آخر من الحرية، وأعني حرية الإرادة، بمعنى أن يكون من حق الإنسان أن يختار لنفسه طريقا بين البدائل المتاحة؛ لأنه بغير هذا الحق لا تقع تبعة الفعل على فاعله، وإنني لأذكر كم أخلصت لنفسي ساعات فوق ساعات، محاولا أن أقع على منفذ واحد أنفذ منه إلى أولئك القدماء - وتبعهم كثيرون من المحدثين - الذين يسلبون الإنسان إرادته الحرة؛ ليجعلوا المشيئة لله وحده - سبحانه - وليجعلوا الإنسان مخلوقا مجبرا على فعل ما قد أريد له أن يفعله. ولقد كان هذا الموضوع موضوع الإرادة في الإنسان بين حريتها وجبرها، من أبرز المشكلات التي تعرض لها رجال الفكر الديني في العصر الأول من تاريخ المسلمين، وخصوصا من يسمون بعلماء «الكلام»، و«الكلام» هنا مقصود به كلام الله جل وعلا، وكانت من أشد الجماعات الكلامية غلوا في جبرية الإنسان فرقة «الجهمية» - نسبة إلى رائدها جهم بن صفوان - فإذا سئل هؤلاء، أو من سار على دربهم بعد ذلك: كيف إذن تقع التبعة على مخطئ؟ كان بعض جوابهم هو أن معنى «العدل» الإلهي مختلف عن معناه في حياة البشر، وليس لإنسان أن يسأل بعد ذلك؛ حتى لا يخوض في مجهول، لكن «الجهمية» ومن تابعوها قديما وحديثا، لم تكن - والحمد لله - هي وحدها صاحبة الكلمة، بل كان معها صوت آخر ينقض قولها، وهو صوت جماعة «المعتزلة» الذين عرفوا باتجاههم العقلي في فهم ما يعرض لهم من مشكلات، وقد نادوا بحرية الإنسان في إرادته عندما يختار هذا الفعل دون ذاك، ومن هنا وقعت عليه تبعة فعله وحق عليه الحساب يوم يقام الميزان، وإذا وجدت جماعة المعتزلة مشارا إليها في الكتب أحيانا باسم «القدرية»؛ فاعلم أن المقصود بهذه الكلمة هو أن «قدر» الإنسان في يديه، فهو الذي يختار الفعل بإرادته الحرة، ومن ثم يصبح «للعدل» يوم الحساب معناه الواضح المفهوم. ولا غرابة أن يفاخر المعتزلة خصومهم بقولهم عن أنفسهم: «نحن أهل توحيد وعدل.» والحق أني لا أجد عسرا في التوفيق بين أن تكون المشيئة في كل شيء لله سبحانه وتعالى، وأن تظل للإنسان إرادته الحرة في التنفيذ، وأذكر أني في مناسبة سابقة طرقت هذا الموضوع، وضربت مثلا بمسافر في سيارة، يقول لسائقه: أريد السفر إلى الإسكندرية، ثم يترك السائق بعد ذلك لينفذ تلك المشيئة على أي نحو يراه ملائما، وهو - بالطبع - مسئول عما يختار، ولست أريد لهذه الفرصة المناسبة أن تفلت، دون أن أشير إلى الآية الكريمة التي تقول:
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
وقد كتبت عنها في استفاضة يوما ما؛ لأقول إن أقوى ما يرد على الذهن من معنى للأمانة في هذه الآية هو إشارتها إلى حرية الإنسان إرادة واختيارا؛ فالفرق الواضح بينه وبين السموات والأرض والجبال هو أن هذه جميعا لا إرادة لها، وهي تسير وفق قوانينها التي أريدت لها؛ ولذلك فهي لا تخطئ في سيرها، وبالتالي فهي لا توضع موضع الحساب والجزاء ثوابا وعقابا، وأما الإنسان فقد حمل هذه «الأمانة»؛ أمانة أن تكون له الإرادة الحرة في اختيارها، التي تتعرض للخطأ، ومن هنا يكون الحساب على وزرها. وإذا كانت الآية الكريمة قد وصفت الإنسان في ختامها، بناء على تصديه لحمل «الأمانة» الصعبة؛ بأنه ظلوم جهول، فذلك لهول ما أقدم عليه، وإذا نحن فهمنا كلمة «ظلوم» من جانب إشارتها إلى «الظلام» - والجذر اللغوي واحد في الظلام والظلم - كانت الإشارة هنا إلى أن الإنسان في قبوله لحرية الاختيار، التي قد تخطئ كما قد تصيب، فإنما أقدم على نتائج مظلمة مجهولة لا يستطيع التنبؤ بها قبل وقوعها على سبيل القطع واليقين.
ولم تكن الحرية بعد عبودية الرق، وحرية الإرادة في الاختيار بين البدائل المتاحة؛ الجانبين الوحيدين اللذين أدركهما السابقون من جوانب الحرية، بل عرفت من جوانب الحرية ضروب كثيرة على مر التاريخ، وفي الأقطار المختلفة؛ إذ قد يدرك قوم هنا معنى جديدا من معاني الحرية، لا يدركه قوم هناك، فإذا أخذنا أهل الأرض في مجموعهم؛ قلنا إنهم أدركوا ما نسميه اليوم بالحرية السياسية، بمعنى ألا يحكم البلد بلد آخر، وأن يكون داخل البلد الواحد حق لأبنائه الراشدين في أن يختاروا من يتولى زمام أمورهم. وعرفوا حرية الإنسان في الحركة من مكان إلى مكان آخر، وعرفوا حرية الإنسان في العمل الذي يؤديه، وعرفوا حرية الفنان في صياغة مبدعاته، وحرية الأديب - شاعرا وناثرا - في اختيار العبارة التي يعرب بها عما يريد الإعراب عنه، وعرفوا الحرية من الجوع، وعرفوا فوق ذلك كله الحرية من الخوف، وهنا تجمل بنا وقفة قبل أن نمضي في سبيلنا، فقليلون هم الذين تنبهوا على عظمة الحرية حين تكون منصبة على الجوع وعلى الخوف، فقد لا يكون بين الفاتكات بحرية الإنسان ما هو أفتك من أن يجوع وأن يخاف! وفي القرآن الكريم أكثر من موضع واحد قرنت فيه هاتان الوسيلتان: الجوع والخوف، من حيث هما أداتان من أشد ما يكرث الإنسان من كوارث! فإذا لم يكن من فضل لله على الإنسان إلا أنه قد أطعمه من جوع، وآمنه من خوف؛ فمن أجل هاتين النعمتين وجبت عليه عبادة الله.
حريات كثيرة عرفها القدماء والأقدمون، وحريات كثيرة أيضا لم يعرفوها، إحداها هي التي سأقصر بقية حديثي على عرضها؛ فهي ضرب من الحرية لا أظنه قد وضح أمام الأبصار والبصائر، وتبلورت معالمه في صياغة مبينة، إلا منذ منتصف القرن الماضي، ولذلك يمكن القول عن ذلك الضرب الجديد من حرية الإنسان .. ملمحا مهما من ملامح هذا العصر وثقافته. والخلاصة التي أقدمها بين يديك لأعود بعد ذلك فأتناولها بالتحليل والتوضيح؛ هي أنه لما كان محالا على «العقل» أن يبدأ فعله من فراغ، بل لا بد أن تكون هناك ركيزة ما يرتكز عليها لتتحرك فاعليته في العملية الاستدلالية التي هي مهمته التي يتميز بها دون سائر القوى الإدراكية في طبيعة الإنسان، فإن تلك الركيزة إما أن تكون مأخوذة مما كان الناس قد عرفوه من قبل ، فتوضع تلك المعرفة في مستهل الطريق الفكري؛ ليستند إليها «العقل» في انتقاله منها إلى نتيجة تترتب عليها، وإما لا يكون هناك في معارف الناس ما يصلح أن يكون نقطة ابتداء، فيضع «العقل» من عنده فرضا يفرضه؛ ليكون هو الركيزة في الانتقال الاستدلالي إلى النتائج التي تترتب على ذلك الغرض.
إلى هنا تؤخذ على رجل الفكر مؤاخذة في طريق سيره، فإذا كنت - مثلا - على أهبة السفر من القاهرة إلى الإسكندرية بالسيارة، وأردت مسبقا أن أعرف الزمن الذي تقتضيه رحلتي تلك، كانت ركيزتي الأولى في العملية العقلية هي أن أستند إلى ما كان الناس قد عرفوه قبل ذلك عن طول المسافة بين القاهرة والإسكندرية، ثم أضيف إليها ركيزة ثانية مما قد عرفته عن سيارتي، وهي أنها تجري وهي في أمان نحو ثمانين كيلو مترا في الساعة، ومن هذه البداية يبدأ «العقل» سيره، فيقسم طول الطريق على سرعة السيارة، فتجيء النتيجة التي أريدها مسبقا قبل الرحلة، وهي أن وصولي إلى الإسكندرية سيكون - بإذن الله - بعد نحو أربع ساعات.
ناپیژندل شوی مخ