په خالي وختونو کې
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرونه
ويرجع السبب في ذلك إلى ما قدمنا من عمل المدنيات الحاكمة، التي استبدت بهذه الأمم، وسعيها لطمس حضارتها. فقد كانت حضارة آل عثمان تعمل لتتريك الممالك العربية التي خضعت لحكمها ما استطاعت. وكانت إنكلترا وفرنسا أشد من آل عثمان بالحضارة العربية استبدادا أو أكثر إمعانا في طمس معالمها. وكذلك بقيت هذه الأمم المغلوبة كامنة حضارتها لا تجد متنفسا، ولا تجد من فنان أو شاعر أو كاتب علما لها تنير آثاره أرجاءها، ويجمع في شخصه ما كدسه الماضي من حضارتها.
على أن هذه الأمم العربية المتصلة بصلة الجوار، والتي يبلغ عدد سكانها أكثر من سبعين مليونا لها سبق في الحضارة وقدم راسخة في المدنية. وهي تشترك في كثير من مظاهر حضارتها، ويتميز كل منها بطابع خاص به، مستقل عما سواه، راجع إلى تكوينها الطبيعي وإلى جوها وإلى صور النشاط الموجودة فيها. ولقد تجد بين هذه الأمم من عامة الناس ممتازين يضعون أنواعا من الأدب الخاص بهم، يمتاز بطابع البلاد التي عاشوا فيها ويفيض بحياتها. لكن هذا النوع من الأدب العامي غير مهذب ولا يصلح بحال للبقاء. وأكثر ما يصلح له أن يكون مادة للمؤرخ أو الكاتب الذي يريد أن يقف على تاريخ هذه الأمم وتطورها في هذه العصور التي عاشتها محكومة بالاستبداد، مطموسا على السامي من مظاهر حضارتها. فهل ثمت سبيل لعود أدب قومي سام يميز كلا منها ويميزها جميعا؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن يكون لها في الحاضر وفي المستقبل القريب حضارة خاصة بها، يكون الفن والأدب زهرتها، ويقوم من بين كبرائها من يعتبر المثل الناطق بمعاني هذه الحضارة.
نعتقد أن الأمر ممكن إذا صحت العزيمة عليه، وإذا تضافرت القوى على خلق هذا النشاط القوي يشتمل كل طبقات الأمة، ويدفعها للسعي وللعمل في سبيل ظهور ذاتيتها بارزة ممتازة. في هذه الحال تسرع كل أمة إلى تمثل الحضارات التي ترد عليها فتصبح جزءا من حياتها، ويشعر الناس بها كأنها لهم وليست غريبة عليهم، وكأنها تحت حكمهم وليست متحكمة فيهم. وفي هذه الحال تظهر ذاتية كل أمة بماضيها البعيد المجيد، فيشترك الآباء والأجداد إلى عصور أول التاريخ في تشييد هذه الحضارة. فإذا تم ذلك لم يكن بد من ظهور الفنان القومي والكاتب القومي، ولم يكن بد من أن يكون للشرق العربي عامة، ولكل أمة منه خاصة أدب يميزه عن الأدب القديم، وعن هذا الأدب الحديث المدين بأكبر حظ منه للمدنية الغربية المتحكمة بسلطانها في الشرق وأممه.
ويومئذ يكون الأديب القومي هو المتحكم في اللغة، وهو الذي يملي على المجامع ما يضعه من الألفاظ لتثبتها المعاجم. وهو الذي يقرر الأسلوب الذي يحتذيه كل كاتب من كتاب الدرجة الثانية. ويومئذ يكون البحث في القديم والحديث بحثا قل أن يطرأ أو أن يجد من الحيز ما يجده في هذا الوقت الذي لا يعيش فيه الكتاب بأنفسهم، وإنما يعيشون عالة على القديم أو الحديث، ويومئذ يكون لنا أن نطمئن إلى أن هذا الجمود الذي وقفت عنده اللغة قد زال، وأن الحياة قد بعثت فينا فتية قوية.
لسنا مع هذا ننكر فضل فحول الشعراء والكتاب الذين جاهدوا - ولا يزالون يجاهدون - في سبيل التوفيق بين حضارة لنا كامنة وحضارات أخرى متحكمة مستبدة. فهؤلاء سيكونون في المستقبل حلقة الاتصال التي لا بد منها بين الأدب القومي في عصر من العصور والأدب القومي الذي سبقه. وهؤلاء سيكون حظهم حظ الأبطال الذين ظلوا حاملين العلم في ساعة التقهقر والهزيمة، حتى نجت أوطانهم بفضل ثباتهم وقوتهم. وهؤلاء سيعترف لهم الأديب القومي - الذي نرجو أن يكون قريبا زهرة حضارتنا وحضارة الشرق العربي - بأكبر الفضل وأعظم المجد.
الأدب واللغة القديم والحديث (2)
ثارت مسألة القديم والحديث مرة أخرى. وتلك مسألة إذا ثارت لم يكن يسيرا أن تهدأ. فهي عند بعض الكتاب صيحة حرب لا تلبث أن ترتفع حتى يهرع من يسمون أنفسهم أنصار القديم إلى صف القديم ينصرونه، ومن يسمون أنفسهم أنصار الحديث إلى صف الحديث يعززونه. وإذا انتظم الكتاب صفوفا للنضال عن كتابتهم فويل للمحابر والأقلام، وويل للأوراق والصحف. أما القراء فلهم البشرى. إن لهم من ميدان هذه المعركة خير منظر تتراشق فيه الحجج مطمئنة تارة محتدمة طورا، وتتجاوب الأدلة مستقيمة حينا ملتوية أحيانا. وما بالك بقوم يدفعون عن وجودهم ويذودون عن كيانهم. أوليست الكتابة حياة الكاتب. فدفاعه عنها دفاع عن الحياة؟ وإذا كان المزارعون من أهل الريف ينشب أحدهم أظافره في عنق جاره حتى ليقضي عليه إن حاول ليصد الماء عن مزرعته، فإن للكتاب بديلا من أقلامهم عن الأظافر يذودون بها عن حياض حياتهم كما يذود المزارع عن حوض حياته.
ومن العجب في أمر معركة القديم والحديث التي تنشب هذه السنين ما بين آن وآخر في مصر، أنها تنشب بين أقوام يعلنون جميعا أنهم على اللغة العربية وقواعدها حراص، في حين أن قوما آخرين لهم بين كتاب العربية اسم ومقام، ولهم فيها تواليف ورسائل، وغرضهم الظاهر في كتاباتهم العدول بالعربية عن أصولها وقواعدها وأساليبها وألفاظها، يبقون بعيدين عن المعركة ينتظرون ما ينجلي عنه غبارها، آملين أن يكون لهم من ورائها مغنم. وهل رأيت الريحاني أو جبران خليل جبران أو من شايعهما يعيرون اعتراض أنصار القديم أو أنصار الحديث عناية أو التفاتا؟ أم هم كأنما يقولون في سخرهم المطمئن وازدرائهم للمتنازعين: أولئك أقوام تعلقوا بالقشور دون اللباب. فليظلوا في معاركهم حول الألفاظ والتراكيب، فلن يكون لهم من ورائها إلا التناحر. يومئذ يكون لجديدنا نحن، هذا الجديد الممتلئ حياة وقوة، هذا الجديد الثائر على أمة العرب العتيقة المتهدمة، هذا الجديد الطامح إلى حياة الغرب وعلمه وأدبه، بل الطامح للفظه إن أتيح له بلوغه، يومئذ يكون لجديدنا نحن الفوز على حين يبقى هؤلاء في معاركهم التي تنشب لغير غاية، وتنتهي إلى غير نتيجة. وينجلي غيارها عن غير فكرة جديدة، أو أمل في التقدم نحو فكرة جديدة.
هذا من العجب حقا. فأنصار القديم هم الأساتذة: صادق عنبر ، ومصطفى صادق الرافعي، والشيخ علام، ومن نحا في أسلوبهم نحوهم. وأنصار الحديث هم: الدكتور عزمي، والدكتور صبري، وإخوانهما. فإن تسل ما قديم أولئك وما حديث هؤلاء ترى المقالات تواجه المقالات والرسائل تنقض الرسائل. لكنك ترى هذه المقالات والرسائل جميعا مكتوبة بأسلوب عربي مبين. لم يصفع أحدها قواعد النحو والصرف بما تصفعها به رسائل الريحاني وجبران، ولم تكره الألفاظ خلالها حتى لتراك في حيرة قبل أن تصل إلى ما يريده أصحابها منها. ففيم إذن هذه المعارك يحتدم فيها الجدال، وترتفع فيها جلبة الألفاظ وضجيجها حتى لتشبه فرقعة البارود وقعقعة السنان؟
ما القديم وما الحديث؟ مسألة يجب حلها لمعرفة حدود الخلاف بين الفريقين. فهل القديم في اللغة والأدب ما يرجع عهده إلى عصور الجاهلية الأولى؟ أم هو ما اجتمع أيام حضارة العرب إلى حين بدأ التدهور في أدبهم بعد أن تدهورت سيادتهم واستعجمت حضارتهم؟ ما نظن أحدا ممن يسمون أنفسهم أنصار القديم يريد قصر اللغة والأدب في عصرنا الحاضر على ما كانا عليه في الجاهلية الأولى. فهل يقول لنا أحدهم بعد هذا أي لغة وأي أدب عربي يفضل؟ ما نخالهم ينكرون أن لغة امرئ القيس وأدبه ليست لغة أبي نواس وأدبه. وإنك لتقرأ المعلقات وما عاصرها فترى فيها شيئا غير الذي تراه في شعر العباسيين أو في شعر الأندلسيين.
ناپیژندل شوی مخ