په خالي وختونو کې
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرونه
وهذا التفاوت ليس مرجعه أصل اللغة، وإنما مرجعه طبيعة اللغة، وأنها كائن حي يتطور مع الحياة، ويمور مورها، ويخضع كما تخضع سائر الخلائق لحكم الإنسان القوي الذي يتمثل فيه عصره؛ وهو ليس مقصورا على الألفاظ ولا على العبارات، بل هو يتخطى إلى الأساليب في الشعر والكتابة والخطابة والتأليف العلمي وما سواها. وبحسبك أن ترجع البصر إلى العصور والدول المختلفة التي ترعرعت فيها الحضارة العربية لترى مصداق ما تقول. فليس أسلوب الجاهليين كأسلوب الأمويين، وهؤلاء لبست الأساليب في عصرهم ثوبا خلعته حين انتقلت إلى عهد العباسيين. والفرق أكثر وضوحا بين أساليب العربية في شبه جزيرة العرب وفي الأندلس. فأنت ترى البون كبيرا بين هؤلاء الذين أخذوا بحضارة أهل الغرب وأسلافهم في طرائق التعبير وفي أساليب الكتابة. ولم يكن من ذلك بد؛ لأن لكل حضارة زهرة هي الفن والأدب. فهما يموران مورها ويأخذان ألوانها ومظاهرها. والحضارة أثر من آثار الحياة الإنسانية. فيجب أن يخضع الفن والأدب للحياة الإنسانية وآثارها. ويجب أن يكون لأعلام الحضارة من رجال الأدب حكمهم على أداته؛ وهي اللغة.
أذكر أن جماعة من ذوي الفضل والعلم فكروا أثناء الحرب، ثم ألفوا هيئة «المجمع اللغوي المصري»، وجعلوا غايتهم من تأليفه التواضع على الألفاظ العربية التي تقابل ألفاظا أوروبية لم يتفق لأحد أداؤها أو اختلف الكتاب عليها. ومع سمو الغاية وكفاية أعضاء المجمع، فإن عملهم لم يظهر له أثر حتى اليوم فيما أعلم. ولم يكن هذا المجمع أول هيئة تألفت لهذه الغاية. بل كانت قبلها هيئات أخرى تجمع أعضاء ذوي فضل وعلم. لكن هذه الهيئات لم تكن أحسن من المجمع اللغوي حظا في آثارها. وذلك طبيعي محتوم؛ لأن الألفاظ الأوروبية لم توجد في لغات أهلها عفوا. وإنما جاءت نتيجة حضارة قوية وعمل جاد، ثم تقررت على لسان الكتاب الذين يمثلون عصرهم. فلم يكن لعلماء اللغة بعد ذلك كله إلا أن يعترفوا بها وأن يسجلوها في المعاجم.
ولكي تنتقل هذه الألفاظ إلى العربية لا يكفي البحث عن أصل اشتقاقها، بل لا يكفي تقصي تاريخها ثم وضع أقرب مقابل لها. إنما يجب أن تكون ثمت حضارة مستعدة لقبولها وأدب قومي هو مظهر هذه الحضارة وكتاب يمثلون عصرهم يبعثون فيها الحياة ويخلعون عليها القوة.
هذا الأدب القومي هو الذي يجب لذلك أن يكون مدار البحث. فهل هو كائن في الأمم التي تتكلم العربية في هذا الظرف الحاضر؟ وهل هو مشترك بينها جميعا؟ أم أن لكل منها أدبا قوميا خاصا هو مظهر حضارتها؟
ليس من ينكر على الشرق العربي شعراءه وكتابه وأدباءه، وليس من ينكر أن من بين هؤلاء الشعراء والكتاب فحولا لهم من الصور والمعاني ما يأخذ باللب وينسي الإنسان نفسه، لكنا مع شيء كثير من الأسف مضطرون للاعتراف بأن هؤلاء الشعراء والكتاب لا يمثلون حضارة معينة. بل هم ملتقى حضارات تختلف جد الاختلاف أحيانا وتبلغ حد التناقض أحيانا أخرى؛ لذلك لم يبرز من بينهم الأدب القومي الذي يطبع عصره بطابعه؛ لأنه زهرة هذا العصر والصورة الناطقة بكل ما فيه من كمال وقوة. بل وقف كل واحد منهم منفردا يتحدث إلى الناس بما لا يفيض عن نفسه مما عندهم، ولكن بالصور التي اجتمعت إليه من تلك الحضارات المختلفة المتناقضة أحيانا. فكان بهرهم لسماعه راجعا تارة إلى سحر لفظه وأخرى إلى واسع معارفه. لكنهم لم يصلوا يوما لتقديسه وتخليد آثاره؛ لأن هذه الآثار ليست صورة ما في نفوسهم وليست زهرة حضارتهم.
وليس يرجع ذلك إلى أن الشرق العربي لا حضارة له، ولكنه يرجع إلى أن حضارته طمست معالمها تحت سلطان الأمم التي تحكمت فيه، والتي عملت متعمدة على أن ينسى ماضيه وعلى أن يخضع لحكم حضارة هؤلاء المتغلبين. وإذا نسي الناس الماضي وخضعوا في الحاضر لسلطان مدنية غريبة عنهم ضعفت قوميتهم، وانحل تضامنهم، وطمس الظلم على الحضارة الخاصة بهم، ثم لم يكن لهم أدب قومي واضح الذاتية يعبر عن هذه الحضارة الدفينة.
والعجب أن العاملين في نهضات الشرق الحديث لم يفكروا في هذا ولم يحاولوا علاجه. وإنك لتدهش حين ترى جامعتنا المصرية تلقى فيها دروس الأدب القديم والحديث للأوروبيين والعرب، ثم لا يلقى فيها درس واحد عن الأدب المصري القديم والحديث، ولا يلقى فيها درس واحد عن التطور الفكري في مصر؛ وكيف تمثل ما ورد عليه من حضارات الشرق والغرب التي وردت عليه، وهل خلع عليها حلة من القومية المصرية بتاريخها القديم، وبطبيعتها المنسقة، وبسمائها الصفو، وبما يمتاز به أهلها من رقة في الخلق وظرف وكياسة، أم أن هذه الحضارة بقيت غير مهضومة حتى مرت وحل محلها غيرها؟
ندهش لذلك حقا. فإن هذه الدراسة تعتبر في كل الأمم المتحضرة أساسا من الأسس القومية التي يجب أن تمتلئ بها نفس أبناء الوطن لتزداد بينهم روابط الولاء لوطنهم. وهؤلاء الأمريكيون على حداثة عهدهم بالحياة المدنية، وعلى أنهم قوم لم يحظ بتاريخهم شيء من هذه القداسة التي تشتمل تاريخ الأمم القديمة كلها قد جعلوا من التعليم القومي وسيلة قوية منتجة لخلق القومية الأمريكية، فصادفوا من النجاح ما جعل الذين نزحوا إلى أمريكا ولم يولدوا فيها أكثر تعلقا بها منهم بأوطانهم التي أنشأتهم. ولقد كانوا أول عهدهم بالفن والأدب عيالا على أوروبا وعلى الأدب الإنكليزي بنوع خاص، ثم لم يلبثوا بفضل هذه النشأة القومية أن ظهر من بينهم أمثال لنجفلو وأمرسن شعراء وكتاب تمثلوا الحياة القومية الأمريكية، وكانوا المشخصين لمجموع هذه الحضارة الجديدة القائمة على أساس من النشاط العملي وحب الحياة.
والأمريكيون يعنون بهذا الجانب القومي وبغرسه في نفوس ناشئتهم برغم حداثة عهدهم به، وتأخرهم عن سواهم من الأمم فيه. وهم بهذه العناية قد خلقوه عندهم خلقا وجعلوا منه للأمريكي موضع فخر. أما نحن في مصر فقد أهملناه على ما رأيت في الجامعة المصرية، وأهملناه في مدارس الحكومة، وأهملناه في الأزهر وسائر المعاهد الدينية، وتعلق جماعة منا بالآداب العربية في غير مصر، وتعلق آخرون بالآداب غير العربية. ثم كانت هذه المعارك بين القديم والحديث، وكان أكابر كتابنا وشعرائنا يفيض إلهامهم أكثر الأمر بشيء غير مصري. فإذا نزع واحد منهم إلى الجانب المصري بدافع الحماسة الوقتية أو لظرف طارئ لم تشعر فيما كتب بما يجب أن يكون. لم تشعر بأن نفسه كلها وأن فؤاده وقلبه وذهنه وعقله، وكل قواه ومشاعره وعواطفه، انتقلت إلى لسانه وإلى قلمه، ففاضت بهذا السيال الروحي الغزير الذي يمثل أمة بحالها في عصر من العصور.
وسائر أمم الشرق ليست أحسن من مصر في هذا الباب حظا. وأنت قل أن تجد من بين كتاب جاراتنا وإخواننا في الشام والعراق وفي تونس والجزائر ومراكش، هذا الكاتب أو الشاعر القومي الذي يقف من أمته ومن عصره موقف هومير في اليونان أو جيته في ألمانيا أو الفرزدق وأبي نواس والمتنبي وأضرابهم في بلاد العرب.
ناپیژندل شوی مخ