په خالي وختونو کې
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرونه
وإنك لتقرأ نثر الهمذاني فتراه غير نثر الجاحظ، وغير نثر ابن المقفع، وغير نثر أبي الفرج صاحب الأغاني. ثم أنت إذا عدلت عن الشعر والأدب إلى الفلسفة والتاريخ رأيت في رسائل الفارابي، وفي كتب ابن خلكان وابن خلدون صورا من النثر متباينة. فعن أي الصور في النثر والشعر يرضى أنصار القديم؟ وأي هذه الصور في نظرهم هي المثل الأعلى للغة وللأدب؟ وهل يرى أحدهم أن يقف في أدبه وكتابته عند ما اشتملت عليه؟
كذلك ما نظن أحدا ممن يسمون أنفسهم أنصار الحديث ينكر على هذا الميراث العربي في اللغة والأدب مجده وعظمته. بل ما نظن أحدا منهم ينظر إلى ثورة التجديد التي يحمل لواءها جبران خليل جبران وأصحابه بعين مطمئنة. ومهما يعجب أحدهم بما تنتجه مدرسة الثورة هذه من بعض الثمرات، ومهما يجد في مثل كتاب الأجنحة المتكسرة من فيض الخيال الشعري، فكل واحد منهم جد حريص على بقاء الصلة بين الحاضر والماضي وثيقة متينة؛ ذلك بأنهم يعلمون أن كل حاضر لا يتصل بالماضي وشيك الزوال.
فيم الخلاف إذا؟ الخلاف في رأي أنصار القديم أن هؤلاء «المحدثين» قد انصرفوا عن العرب وأدبهم إلى الغرب وأدبه، وأنهم لذلك جهلوا من أساليب العرب أفصحها لفظا وأبلغها عبارة، واكتفوا بالقليل الذي درسوا في مكاتبهم وحاولوا إكراه هذا القليل على احتمال ما امتلأت به رءوسهم من العلوم الحديثة، فنزل بهم ما عرفوا من اللغة وأساليب الأدب إلى الاضطراب والركاكة. والخلاف في رأي أنصار الحديث أن هؤلاء «الأقدمين» حبسوا أنفسهم في غيابات الماضي، ووقفوا من الألفاظ ومعانيها والعبارات وتراكيبها موقف العرب، جاهلين أو ناسين أن اللغة مظهر من مظاهر الحياة؛ وأنها لذلك يجب أن تحتمل أداء كل ما يريده الأحياء من صور ومعان على الوجه الذي يريدون أداءه به. فوقف بهم ذلك عن مجاراة الحضارة الحاضرة، وعجزوا عن أداء ما تريده الحياة من صور هذه الحضارة ومعانيها.
ولئن صدق هذا التصوير فالخلاف ليس بين القديم والحديث، والقديم والحديث لا يمكن أن يكون بينهما خلاف، وإن كان أبدا بينهما اختلاف. بل الخلاف بين أدب اللفظ وأدب الفكر. فالذين يسمون أنفسهم أنصار القديم يريدون البقاء في دائرة حضارة العرب يستعيرون تصورهم للأشياء وتصويرهم إياها بالألفاظ، ويعملون على إكراه الحضارة الحالية في قوالب الحضارة العربية. والذين يسمون أنفسهم أنصار الحديث يحاولون الفرار من بيت الحضارة القديمة، ويعملون على أن يخلقوا لما أنشأته الحضارة الحديثة قوالب جديدة من اللفظ قد لا تتفق وما يرضاه فقه اللغة العربية وسرها.
مثل هذا الخلاف يرجع إلى قيام طائفتين اختلف تهذيب كل منهما، واختلفت ثقافتهما عن الأخرى، فتعذر عليهما التعاون الواجب لخلق روح قومية للثقافة والأدب. ولن يزال هذا الخلاف ما بقي الاختلاف بين الطائفتين في التهذيب والثقافة وما بقيت الأمة في علمها وأدبها كلا على سواها وعالة على غيرها. فيظل «الأقدمون» بين جدران قصور الماضي المجيد بحضارته وأدبه معجبين بمخلفاته، ناسجين ثمرات أفهامهم وخيالاتهم على منواله، قانعين بالنظر إلى الحاضر وأعماله وآماله من نوافذ هذه القصور، فرحين بما قد يجدونه فيه من مشابهات لما عندهم، مؤمنين بأن ما لديهم خير وأبقى، وبأن ما يرون من سناء ولألاء ليس إلا خلبا من برق وسرابا من آل. فإذا حسن ظنهم بالحاضر قالوا: إنما هو فروع هذا الجذع الذي جمعنا حوله وأوجب علينا أن نزيده قوة وصلابة. ويظل «المحدثون» في فضاء الحاضر الحر الدائم الحركة مأخوذين بما أبدع الغرب فيه من ثراء وغنى في الحكمة والعلم والشعر، ممتلئة نفوسهم بمحبته وإجلاله، متمثلة كل ما فيه من بهاء لا يبلى، وجدة لا يهرمها شتاء حتى يعقبه ربيع أكثر بهاء وجدة. فإذا أداروا رءوسهم إلى قصور «الأقدمين» التي منها درجوا حاولوا أن يتصل ما بين كنوزها وهذه الحضارة الجديدة، فإن تيسرت الصلة الصحيحة فذاك، وإن لم تتيسر فلا ضير أن تكون صلة أقل صحة ما دامت ترضي منهم هوى النفوس، وتكفي عندهم لبوسا للمعاني الجديدة والصور المستحدثة.
والحق أن اللغة العربية على ما خلفتها حضارة العرب كثيرا ما تستعصي على صور هذه الحضارة الحديثة. وليس عليها في ذلك ذنب، وليس في طبيعتها دون الوصول إليه عجز؛ ذلك بأن اللغة أداة إن لم يدم صقلها علاها الصدأ، ثم كان فيها تثاقل عن السير المطمئن إلى حيث يحتاج إليها الذهن الفياض بمعان وصور وجديدة. ولقد يبلغ من صدئها أن يقبرها. وهذه الهيروغليفية واليونانية القديمة واللاتينية والآشورية وما إليها من لغات، حملت أسمى صور الحضارة الإنسانية القديمة، ثم أهملت فصارت قبورا لهاته الصور، ينبش العلماء اليوم لاستخراج ما تحتويه من كنوز ودفائن تضيف إلى سلطان الحاضر وعظمته سلطانا وعظمة. ولا ريب في أن اللغة العربية تنطوي من الكنوز على ما لو اطلعت عليه جميعا لوقفت أمام جلاله وبهائه مبهورا مقدسا. وذلك سر سحرها الأقدمين وأخذها إياهم عن أنفسهم. لكن اللغة العربية كائن حي لا تزال ولن تزال. وكل كائن حي لا يستطيع القيام دون الاشتراك مع سائر الكائنات التي تتصل به اشتراك تعاون وتنافس. وقد هدمت منشآت الحضارة الحديثة ما بين الدول من حدود وما كان يحيط بثمرات الفكر من قيود. فأصبح العالم كله كتلة واحدة ذات حضارة واحدة. وأصبحت عقول السكسون والجرمان واللاتين والعرب والهندوس والصين تتجاوب ثمراتها، وتتنافس آثارها، وتتجاذب في نضال وتضامن. واندفعت الأمم العربية واللغة العربية، حتما مقضيا، تغامر في المضمار، وتعد كاهلها لاحتمال حضارة الإنسانية كلها بكل ما فيها من علم وفن وأدب. ولا مفر لها من أن يبلغ صفو صقالها ما يجعلها في حملها حضارة العالم تعدل كل لغة من لغاته. فإذا أتاح القدر لأهلها أن كان لهم على الحضارة الغلب يوما كانت بين اللغات جميعا زينة وسحرا وبهرا.
ولعل هذه المعارك القلمية التي تنشب بين «الأقدمين» و«المحدثين» إحدى الخطى في سبيل هذه الغاية. «فالأقدمون» يريدون أن يمسكوا «بالمحدثين»؛ لكي لا يندفعوا إلى ما يندفع إليه الريحاني وجبران خليل جبران. و«المحدثون» يحاولون أن يخرجوا «الأقدمين» من غيابات الماضي إلى نور الحاضر وحركته.
وذلك نضال غايته الكمينة حرص الطائفتين على التضامن والتعاون في الحياة القومية؛ لتؤدي كل ما أوجبته عليها الحياة لخير الإنسانية جميعا.
لكن هذه المعارك لا تزيد على أنها خطوة ضيقة. ودرك تلك الغاية السامية تعوزه خطى العمالقة وجهود الفحول. هؤلاء العمالقة الفحول هم النوابغ يقف الواحد منهم من قومه موقف الهادي تتعلق به الأنظار، وتنفتح لعبارته الأفئدة والقلوب. يعتصر ذهنه الفرد لب الحضارة جميعا، وينفثها من روحه القوي في أحاديث وقصص أو في قصائد منظومة أو في كتب علم وفن، فيتلقاها عنه قومه وقد لبست ألفاظه ثيابا من المعاني يجب أن تقرها معاجم اللغة راضية أو كارهة؛ ولهذا النابغة يخضع «الأقدمون» و «المحدثون» جميعا. ليكن في عبارته ما فيها على قواعد اللغة من خروج وشذوذ؛ هي لغة الحضارة وروح العصر؛ هي الجواب الكافي لحاجة في النفوس تتطلع لسدها؛ هي الأداء الصحيح لما يجول بخاطر الإنسانية من المعاني. والإنسانية ميراث متجدد يسفر كل صباح عن حظ منه جديد. فاللغة التي تؤدي حاجة الإنسانية وما يجول بخاطرها لا يمكن إلا أن تكون الثمرة الناضجة لهذا الميراث والجماع الكامل لكل ما كدسه الوجود من علم ووهم ومن حس وتصور.
متى يتاح للغة العربية أمثال هؤلاء النوابغ الذين ينشئون الأدب القومي، ويفرغون في قوالبه المصقولة حضارة الإنسانية بكل ما تنطوي عليه؟ ذلك سؤال جوابه للزمن. لكن أهل هذه اللغة بحاجة إلى مجهودات صالحة يقوم بها المئات والألوف من أبنائها في مثابرة وجد لاجتناء ثمرات مجهودات الأمم الأخرى، وبثها في جو البلاد العربية. سيجد هؤلاء المئات والألوف من مجهودهم مشقة وعنتا، وسيقع بعضهم إعياء ويفر آخرون يأسا. لكن الحضارة شجرة من الأشجار الضخمة العظيمة الجذع التي لا تسرع إلى الظهور والنمو، ولكنها تسير في سبيله مقاومة كل صعب متغلبة على كل عقبة، وتبدو أول ظهورها ضئيلة لا يطمئن من لا يعرفها إلى أنها بالغة ما يبلغه أمثالها من ضخامة وعظمة؛ ولذلك يصد عنها ولا يعنى بتعهدها. وهذا هو شأن الكثيرين من أهل الشرق اليوم. أولئك يريدون العاجلة فيهيمون باقتطاف زهر النبات الضعيفة سوقه السريع انقضاء أجله. وهم يكتفون بتفيؤ ظلال جذوع سقطت أوراقها وجفت أغصانها. أما ذوو العلم فلا يثنيهم عن تعهدها عجز ولا طمع. فإذا هي أورقت كان من ثمرها قطاف النابغة الهادي.
ناپیژندل شوی مخ