په خالي وختونو کې
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرونه
الأدب واللغة القديم والحديث (1)
الأدب القومي
دارت مناقشات ذات شأن في مسألة القديم والحديث في اللغة، وكان الجدل حادا بين أنصار كل من المذهبين، وكان مداره على الألفاظ والعبارات التي يجب اعتبارها صالحة في الكتابة. فأما أنصار القديم فكان مذهبهم أن اللغة العربية وما وصلت إليه حين مجد العرب وسلطتهم قد وسعت كل الصور والمعاني والآراء، وأن ما يذهب إليه المجددون في اللغة إنما يقوم على أساس من جهلهم إياها أو انصرافهم عنها، وأنهم لو كلفوا أنفسهم مؤونة الحرص على عبارات القدماء وألفاظهم لما ضاقت بهم عن كل معنى يريدونه لابسا أبهى ثوب وأجمله. أما أنصار الحديث فكان مذهبهم أن اللغة قد وقفت عند عصر بعيد، وأن تطور الحياة وتقدمها قد سبق هذا العصر بما لا تلحقه عبارات القدماء وألفاظهم. فمن الحق أن يأخذ الكتاب من اللغة بجديد يحتمل ما بلغته الحياة من تطور وتقدم.
ولم تقف المناقشات عند حد تقرير المبادئ السالفة والدفاع عنها، ولم تقف عند ألفاظ اللغة وعباراتها، بل تعدت إلى أساليب الكتابة وتغلغلت عند ذلك في بيداء التفاصيل. وبلغت أن جعل المتناقشون أساليبهم الخاصة موضع الأخذ والرد. ولعل أحدا لم ينس ما كان بين الأمير الجليل شكيب بك أرسلان والأستاذ المحترم خليل أفندي السكاكيني من حوار وجدل في هذا الباب، وقد يكون هذا الانتقال من المبادئ إلى التفاصيل طبيعيا. فإن الإنسان لا يعنى غاية العناية بالقديم لأنه القديم ولا بالحديث لأنه الحديث ما لم يمس القديم أو الحديث ذاته.
ومعركة القديم والحديث بين كتاب اللغة العربية في هذا معركة قديمة، والجدل في أي الأساليب أصلح للحياة الحاضرة لا يكاد يهدأ حينا حتى يستعر من جديد. وهذه المعركة وهذا الجدل ليسا مقصورين على كتاب العربية وإن كان لهما بينهم طابع خاص مرجعه اختلاف لغة الكتابة عندهم عن لغة الكلام، ومرجعه أكثر من ذلك اتجاه العناية لطريقة التعبير أكثر من اتجاهها لما يجب أن يشتمله ذلك التعبير من الصور والمعاني.
ونحسب أن قصر البحث عند ما يصح استعماله من الألفاظ والعبارات والحكم على صلاح هذه الألفاظ والعبارات للحياة الحاضرة وعدم صلاحها، يكاد يكون بحثا لغويا ضعيف الصلة بالأدب، ويقوم على شيء غير قليل من التحكم. وهو بعد بحث تافهة نتائجه. فإن الأدب لا يقوم على الألفاظ ولا على العبارات التي يستعملها الكتاب بمقدار ما يقوم على الصور والمعاني التي تلهم بها خيالاتهم وتجود بها قرائحهم . فإذا كانت هذه الصور والمعاني وما ينطوي تحتها من وصف وعاطفة وعلم وإلهام من الروعة بما يملك على القارئ لبه وينسيه نفسه، لم تكن الألفاظ ولا العبارات إلا ثانوية عنده، فلم يحفل منها بقديم ولا بحديث، ثم كان حكمه على الكتاب راجعا إلى ما بعثه إلى نفسه من لذائذ، وإلى مشاعره من اهتزازات، وإلى خياله من صور، وإلى ذهنه من تفكيرات. فإذا هو اطمأن إلى حظه من هذا وحمد الشاعر أو الكاتب على ما جناه منه عاد إلى الثوب الذي لبسته تلك الصور والمعاني، فكان له من جماله وروائه ما يزيد إعجابا بصاحبه، أو كان له من اضطرابه ما يبعث إلى نفسه شيئا من الأسف على أن يفوت هذه المعاني السامية بعض ما يجب لها من بهاء الثوب وجلاله.
نفس الكاتب وما تفيض به من تفكير وإلهام هي إذن موضع حكمنا. وهي ما دامت قوية تجتمع لها الصفات التي تجعلها ممثلة لعصر خاص أو لبيئة خاصة، فقد حق لآثارها أن تخلد. فإذا كان فيضها وإلهامها كاسيا مع ذلك أسلوبا مثلا في قوته وصفائه ودقته، فهي في خلودها أكثر بريقا وإشعاعا. وسواء أخذ هذا الأسلوب بالقديم أم أخذ بالحديث في اللغة، فلن يضيره ذلك إلا بمقدار ما يدور حوله من نقد أول ظهوره. ثم يكون حظ ذلك النقد من البقاء أو الإهمال بقدر ما يشتمل عليه من معان وصور.
هذه النفوس القوية التي تمثل عصرا خاصا أو بيئة خاصة والتي نخلد آثارها، هي التي يصدر عنها الأدب القومي. فهوميروس وفرجيل وشكسبير وفولتير وجيت خلدوا برغم تطور الحياة وتقدم الحضارة في العالم؛ لأن نفوسهم مثلت أمة خاصة وعصرا خاصا؛ فانطبعت فيها الصفات الخالدة لأممهم، والتي لا يأتي عليها تقدم أو تطور، كما وقفوا أعلاما في التاريخ يهتدي بهديهم أهل عصورهم كما تهتدي به الأجيال من بعدهم. ولو أن هؤلاء الشعراء والكتاب وقف أمرهم عند اختيار اللفظ والتركيب من غير أن تملأ نفوسهم وأذهانهم ومشاعرهم هذا اللفظ والتركيب قوة، لانحدروا كما انحدر المئات والألوف إلى عالم النسيان. وكم كان بين هؤلاء الذين نسيهم الناس من يدل بأسلوبه وبحسن اختياره لفظه وعباراته! وكم منهم من لقي معجبين به يوم كتب. لكن ما كتب هؤلاء كان أجوف كالطبل - عال رنينه خال جوفه - لذلك ما لبث أن تمزق ظاهره وبدا باطنه وأهمله الناس في ازدراء، ثم أسدلوا عليه ثوب النسيان.
وهؤلاء الكتاب الذين يتمثلون عصرهم ويصدر عنهم الأدب القومي، هم سادة الأدب والحاكمون على اللغة. هم الذين يبعثون في الألفاظ حياتها ويحددون كم هذه الحياة وكيفها. لن يستطيع أحد سواهم أن يجعل لكلمة قوة غير قوتها، ولا أن ينبش لفظا من قبور القديم ليعيدوه فتيا جديدا. ولن يستطيع غيرهم أن يختار لفظا ابتذله الناس فيخلع عليه رقة ووقارا. لحكمهم تخضع المعاجم، وبسلطانهم يعترف علماء اللغة، وإن آثروا الجمود والمحافظة، ولن يقدر سواهم للغة ولا لألفاظها ولا لأساليبها على شيء لا يرضونه ولا تناله حمايتهم.
وهذه اللغة العربية يصدق عليها في ذلك ما يصدق على كل اللغات، بل هذه معاجمها الواسعة كلسان العرب إذا أردت أن ترجع فيها إلى لفظ رأيتها في تحديدها معناه تعود بك إلى مواضع وروده في قصائد الشعراء وعبارات الكتاب. وذلك هو الشأن في معاجم اللغات جميعا. ثم أنت تراها تورد للفظ الواحد أوضاعا قد لا يختلف المعنى في بعضها عن بعض، لكنك تحس مع ذلك تمام الإحساس بأنها تتفاوت في مدلولها. وهذا التفاوت لا أساس له إلا أن كاتبا قوميا رأى لها هذا الوضع في عصره، فكان رأيه حكما على أهل زمانه، وساغ استعمال اللفظ على ما أراد.
ناپیژندل شوی مخ