ففي هذه القصيدة يشكو الشاعر ألمه ويحن لحبيبته، ويصف مشاهد الطبيعة في مكس الإسكندرية، ولكن الوصف عنده كشاعر حديث أبعد ما يكون عن الوصف الحسي الذي ألفناه في شعرنا العربي القديم؛ إذ أصبح ما يمكن أن نسميه بالوصف الوجداني؛ أي الوصف الذي يمتزج فيه الشاعر بالطبيعة ويتبادل وإياها ألوان وجدانه حتى لكأنه قد حلت به وحل بها، فرياح البحر الهوجاء صدى لاضطراب خواطره، والصخرة الصماء ينتابها موج كموج مكارهه، والبحر خفاق الجوانب ضائق كمدا كصدر الشاعر ساعة الإمساء، وكدرة البرية صاعدة إلى عينيه من الأحشاء، والأفق معتكر قريح الجفن، وهو يرى خواطره بعينيه كدامية السحاب، والدمع يسيل من جفنه مشعشعا بسنى الشعاع الغارب، والشمس في انحدارها الأخير بين السحاب كأنها آخر دمعة للكون تمتزج بدموع الشاعر لترثيه، ومن كل هذا تتكون المرآة التي يرى فيها الشاعر نفسه وترى فيها الطبيعة نفسها، وبذلك يتم التقابل بين الطبيعة والوجدان ويبرز حتى في هذا المجال الطابع الوجداني الذي أصبح - ونرجح أن يظل - الطابع الأساسي للشعر الغنائي كله من حيث مضمونه.
الفكر والتأمل
وإذا كان الشعر الغنائي في العصور القديمة والعصور الوسطى قد عرف ما يسمى بشعر الفكرة وشعر الحكم، وكتب منه الممتع المركز الصافي الجوهر، فإن هذا النوع من الشعر قد تطور في العصور الحديثة من الفكر والفلسفة والحكمة إلى التأمل والاستبطان الذاتي، فلم يعد الشعر الحديث يحفل بالفكرة في ذاتها، ولا بالحكمة في ذاتها، بل يحفل بتأمل الأفكار والحقائق تأملا وجدانيا؛ أي بالتعبير عن وقع هذه الحقائق والأفكار والحكم في النفس البشرية وتأثيره فيها عن طريق التأمل، والنظر في تأثيرها في حياة الإنسان ومصيره وسعادته أو شقائه؛ بحيث يمكن القول إن ما نسميه قديما بشعر الفكرة قد أصبح من الواجب أن يصبح اليوم شعر التأمل الفكري وإلا رميناه بالجفاف والنثرية وفقا لمدى بعده عن الطابع الوجداني الذي نسعى إلى تقريره كطابع حاسم للفن الشعري الذي لا تزال الإنسانية تنتجه حتى اليوم، وهو فن الشعر الغنائي الذي طفا على وجه الزمن ولم يستطع موجه أن يبتلعه كما ابتلع من قبل شعر الملاحم وشعر التمثيليات، وكان السبب الأساسي في الإفلات من طوفان الزمن هو إشباعه لحاجة إنسانية خالدة ما خلد الإنسان، وهي الحاجة إلى التعبير عن الوجدان البشري.
وإذا كان شاعرنا خليل مطران قد كان له أكبر الفضل خلال نهضتنا الشعرية الحديثة في تطوير فن الوصف الشعري من الوصف الحسي إلى الوصف الوجداني مجاراة للتطور الإنساني العام؛ فإن شاعرنا الآخر عبد الرحمن شكري قد كان له أكبر الفضل في تطوير شعر الفكرة إلى شعر التأمل الوجداني والاستبطان الذاتي، فعبد الرحمن شكري قد يلوح شعره عند النظرة السطحية الأولى من شعر الفكرة والتفلسف، ولكننا عند إمعان النظر فيه لا نلبث أن نتبين أنه قد تطور بهذا النوع من الشعر تطورا واسع المدى، بأن أحاله من تفكير فلسفي إلى تأمل وجداني، واستبطان ذاتي، وتعبير عن موقف النفس البشرية من الحقائق التي نعلمها والحقائق التي نجهلها على السواء، حتى ليصح - بل يجب - أن نسمي شعره بشعر «التأمل الوجداني» على نحو ما سمينا فن الوصف عند مطران بأنه هو الآخر فن الوصف الوجداني. ولعلنا نستطيع أن نضع أيدينا على هذه الخاصية الفريدة في شعر عبد الرحمن شكري بالنظر في القصيدة التي يخاطب فيها المجهول في الجزء الخامس من ديوانه ص31 حيث يقول:
يحوطني منك بحر لست أعرفه
ومهمه لست أدري ما أقاصيه
أقضي حياتي بنفس لست أعرفها
وحولي الكون لم تدرك مجاليه
يا ليت لي نظرة للغيب تسعدني
لعل فيه ضياء الحق يبديه
ناپیژندل شوی مخ