والفلسفة هي عقل أسمى، هي عقل العقل. (4) أنظمة التجمع والتفرع والدوران العقلية
فيما تقدم من البحث فهم القارئ أن العقل خاضع لسنة التجمع والتفرع وسنة الدوران أيضا؛ فالعقل الفردي هو تجمع حركات ملايين الخليات الدماغية في أسلوب واحد منتج فكرة واحدة قائمة بذاتها، والعقل الاجتماعي هو تجمع حركات عقليات الأفراد في أسلوب واحد منتج رأيا أو عقيدة واحدة.
وفيما الفكرة الواحدة تنتشر تتفرع إلى فكرات مختلفة فيما بينها بعض الاختلاف كثيرا أو قليلا، ومن ذلك نشأ الاختلاف في التصورات والأفكار والآراء حتى في صيغ القول، فمع أن الجماعة تتجمع على نظرية واحدة أو عقيدة واحدة، تراها في ذهن كل واحد منهم ذات شكل خاص يختلف شيئا عن الشكل الذي في ذهن الآخر، وقد تتباين في بعض الأذهان تباينا كليا بحيث إن النظرية الواحدة تنفلق إلى نظريتين أو بضع نظريات فرعية، كعقيدة الاشتراكية مثلا؛ فهي عدة نظريات مفترقة بعضها عن بعض بحسب ميول الفئات أو الأشخاص البارزين، وكذلك الأمر في العقائد السياسية كالديمقراطية مثلا؛ فهي فروع مختلفة باختلاف الهيئات الحكومية وعقائد المتفلسفين فيها.
فترى أن التفرع الفكري مصاحب للمجتمع العقلي على الدوام، تجمع العقول على فكرة عامة وتتباين في وجوه هذه الفكرة.
أما التنظيم الدوراني العقلي فهو ظاهرة انتشار الفكرات؛ فكل فكرة صادرة من مركز ابتكاري هي مركز حركة الانتشار، الفكرة تنتشر من المركز إلى عقول الجماعة، فكأن العقول في تأثرها منها تدور حول هذا المركز؛ فكأنها نظام شمسي قائم بذاته.
ولأن العقل نتيجة تركب معقد؛ تركب حركات خليات دماغية، هي نتيجة تركب جزيئات عديدة متنوعة، وكل جزيء هو مركب ذرات عديدة؛ فمراكز الفكرات عديدة لا تكاد تحصى، والدورانات عديدة بتعدد المراكز، يقاطع بعضها بعضا ويصادم بعضها بعضا. فالعالم العقلي هو بحر متعدد أشكال الأمواج تعددا لا يحصى، بحيث يتعذر عليك أن تتبع دورة حركة فكرية وأن تهتدي إلى مركزها. •••
رأينا أننا كلما صعدنا درجة في سلم ارتقاء العوالم الكونية رأينا التنظيم أكثر تركبا وتعقدا، وأشكال الأنظمة أكثر تعددا؛ ففي العالم المادي لا نرى إلا ست درجات أنظمة «تجمعية - تفرعية»، ذات ست دورانات بسيطة متداخلة، يمكنك أن تميزها بعضها عن بعض وتظفر بمركز كل منها. وفي العالم الحيوي نرى ثلاثة أنظمة متداخلة متمايزة: نظام كل من الذرات الأربع، ثم نظام جزيئاتها، وهذا متفرع إلى ألوف الفروع البروتايينية والكربوهيدراتية والدهنية؛ ثم نظام البروتوبلاسم، وهذا متفرع إلى ألوف الفروع بمقتضى وظائف الأنسجة المؤلفة منها، ولكل من هذه الأنظمة دورانه الخاص الممتاز به.
حتى إذا جئنا إلى النظام العقلي ولا سيما العقلي الاجتماعي لا نعود نظفر بنظام مستقل؛ لأن النظام العقلي يبتدع كل هنيهة نظاما فرعيا جديدا، كل فكرة هي نظام فرعي قائم بنفسه، وبالتالي نستطيع أن نميز دورانا عن آخر. (5) نظام الأدبية
قلنا : إن العقل الاجتماعي هو قمة تاج الأنظمة الكونية. فهل ثمت نظام آخر فوقه أرقى منه؟
نعم هو نظام الأدبية؛ «أدب النفس»، الأخلاق. هذا النظام ترصيع لتاج العقلية، هو التنظيم الأعلى الذي يعصم النظامين العقلي والحيوي من الفوضى ويقيهما من الفساد، هو الذي يجعل التنظيم مطردا ومتجها إلى المثل الأعلى.
ناپیژندل شوی مخ